ما لا يقوله النقاد الغربيون: الرواية الأوروبية وريثة القصة العربية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ما لا يقوله النقاد الغربيون: الرواية الأوروبية وريثة القصة العربية

    ما لا يقوله النقاد الغربيون: الرواية الأوروبية وريثة القصة العربية


    "دون كيخوته" تؤكد الفوارق ما بين النص الأصل والنص المؤقلم.
    الأحد 2024/10/06
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    هل "دون كيخوته" حقا لثرفانتس

    رغم التأثير الواضح للأدب العربي القديم في آداب أوروبا الحديثة مثل الرواية، فإن النقاد الغربيين ينكرون ذلك ويعتمون على الكثير من الدلائل التي تثبت كيف تأثر الأدب الغربي بالعربي وأخذ منه ليبني عوالمه. ومن هذه النصوص المأخوذة عن العرب رواية تعتبر مؤسسة في الغرب لجنس الرواية هي "دون كيخوته".

    ثمة قضايا في الأدب لا يكاد يختلف عليها اثنان من ذلك قضية محاكاة الكوميديا الإلهية وحكايات كانتربري ودي كاميرون للمرويات القصصية العربية، ومثل ذلك يقال عن شعراء التروبادور وحقيقة تأثرهم بشعر الموشحات والأزجال الأندلسية. وعلى الرغم من ذلك، فإن الشائع النقدي هو أن الآداب الأوروبية الحديثة نشأت تستلهم الأدبين الإغريقي والروماني. وكأنها لم تتبع تقاليد السرد القديم وتنتهج أساليب القصة العربية في القطع والوصل والتكرار والخيالية والتوالي والتأطير والتضمين وتحبيك الحكي واستعمال تقانات الحلم والاسترجاع والاستبطان والاستباق التي تدعم التعاقب المنطقي للأحداث وتساهم في تحبيك الأحداث والشخصيات.

    ولعل كتاب “دون كيخوته” لميغيل دي ثرفانتس (1547 - 1616) مثال جلي للكيفية التي بها انتقلت تقاليد السرد العربي القديم الى آداب أوروبا. وقد يقال إن هذا الكتاب اتبع تقاليد القص الايطالي (النوفيلا) كحكايات كانتربري لتشوسر لأنها مبنية أيضا على قصة إطارية وداخلها قصة ضمنية. وموضوعها كموضوع “دون كيخوته” وهو الفروسية وما فيه من تراث شعبي وأسطوري، وعد النقاد الغربيون هذا العمل مؤسسا لجنس الرواية، ووصفوا هذا الجنس بالوريث للملحمة الإغريقية، وتناسوا حكايات ألف ليلة وليلة والمقامات وما عرفه الشعر العربي منذ العصر الجاهلي من قصص شعرية.
    دون كيخوته عربية



    ما كان لـ"دون كيخوته" أن تؤسس لقالب واضح الحدود لولا ارتكانها على تقاليد السرد العربي القديم


    لم يثر حفيظة النقاد أمر نشر هذا الكتاب على جزأين متباعدين بينهما عشر سنوات، الأول نشر عام 1605 والثاني نشر عام 1615، كما لم تنل نتاجات ثرفانتس السردية الأخرى اهتماما يماثل اهتمامهم بـ”دون كيخوته” وهي أعمال كثيرة تتوزع بين الشعر والقصة والمسرحية، وأهمها “لا جالاثيا” و”الشهير برناردو”، ومسرحيات كوميدية وقصص مثالية. علما أن ثرفانتس لم يكن ذا شهرة بين مجايليه في شبه الجزيرة الإيبيرية، بل كان لوبي دي بيجا هو الأشهر الذي قال: “لا يوجد بين الشعراء من هو أسوأ من ثرفانتس”. وأغلب مؤرخي أدب تلك المرحلة يضعونه في خانة الشعراء بينما كانوا يقرون لدون خوان مانويل في قصته “الكونت لوكانور” بالتميز في كتابة القصة القصيرة. وعلى الرغم من ذلك فإن في داخل هذا العمل أي “دون كيخوته” ما يثير الشك حول حقيقة عائديته إلى ثرفانتس.

    كثيرة هي الدراسات النقدية المقارنة التي اهتمت بدراسة مؤثرات الأدب العربي في الأدب الأوروبي، كما أن الدراسات الثقافية هي الأخرى عديدة، وهي تبحث عن تأويلات ما هو مغيب في هذه المؤثرات بوجه عام، وما صرح به ثرفانتس نفسه بوجه خاص من أن “دون كيخوته” هو عبارة عن مخطوطة وجدها صدفة وتعود لمؤرخ عربي اسمه حامد بن الإيلي فاشتراها بثمن زهيد، وبعد أن ترجمها له أحد العرب المتنصرين، قام هو بإعادة نقلها ككتاب وضع له استهلالا، أما المتن فظل محكوما بأساليب وتقانات السرد العربي القديم.

    ولم يفتأ ثرفانتس من التدخل في بعض المواضع حين يجد أمرا محيرا أو يستغرب حدثا أو يتصرف في تغيير مفردة ما. هذا على مستوى الجزء الأول من المخطوطة، أما الجزء الثاني فقدّم له ثرفانتس أيضا باستهلال سائرا على ما سار عليه المؤرخ صاحب المخطوطة من أساليب سردية عربية.

    وإذا أخذنا هذا التصريح على نية أنه مجرد لعبة فنية وجزء من تجريب سردي يعطي لثرفانتس الحق في أن يكون مؤلفا أصيلا، فإن بإمكاننا أيضا أن نأخذ التصريح على محمل واقعي تاريخي، فيكون ثرفانتس مجرد كاتب ناقل وليس مؤلفا مبتدعا. ولا مراء في أن الوقوف على صحة واحد من هذين الاحتمالين، سيضعنا أمام مفترق طرق فيها يصح واحد من قولين: الأول إن الرواية الأوربية وريثة الملحمة الإغريقية والثاني إنها وريثة القصة العربية.

    بالطبع ليس لعمل أدبي أن يكون هو تأسيسيا إلا إذا كانت قد سبقته مرحلة من التجريب الفني قد تطول أو تقصر، مهيئة الحاضنة لبزوغ عمل إبداعي. وستكون هذه الإبداعية قاعدة لتجريب فني لاحق قد يصيب فيتطور الأدب. ومعلوم أن الجنس الأدبي لا يولد من فراغ ولا يكون متحققاً للوهلة الأولى من دون سلوك سبل التجريب وعنها يتمخض القالب التجنيسي الذي لا تنازع في مسألة اختلافه عن أجناس أخرى.

    ولقد كان كولن ولسن منتبها لضرورة وجود تجريب قبلي لأي تأسيس أجناسي، مدركا أن هناك ثغرة في تفسير نشأة الرواية الأوروبية، لذا حاول ردمها من خلال البحث عن بدايات جُربت فيها الكتابة السردية فوجد “سلستينا” (La Celestina) رواية نشرت عام 1499 وأعمال سردية أخرى. “ومن بعدها نمت الرواية نموا بطيئا لقرنين ونصف من الزمان كنمو شجرة البلوط ومن ثم أصبحت فجأة شجرة كاملة النمو”. ويعني بالشجرة رواية “دون كيخوته” التي نمت ـ كما يقول ـ عن عمل أو مجموعة أعمال سبقت “دون كيخوته” بقرن أو قرنين، ولا يقول إنها تمخضت عن تجريب له تاريخ طويل فيه استقرت تقاليد القص العربي وصارت مؤثرة بالأدب الاوروبي بشكل كبير.

    إن رغبة الناقد الغربي في التغاضي عن تناول أية فرضية تؤكد وجود تماس ثقافي للسرد العربي القديم مع السرد الأوروبي الحديث، هو ما يثير شكوكنا ويدفعنا نحو البحث المتأني في مسائل تنطوي على حقائق، ومن هذه الحقائق:

    ◄ هناك ثغرة في تفسير نشأة الرواية الأوروبية واعتبارها وريثة الملحمة الإغريقية بينما هي وريثة القصة العربية

    أولا أن مترجمي طليطلة في القرن الخامس عشر كانوا قد لعبوا دورا مهما في نقل التراث والثقافة الإسلامييْن في العصور الوسطى إلى أوروبا.

    ثانيا أن رواية “سلستينا” - وكما يذكر

    ولسن ـ لم يشر في طبعتها الأولى الى اسم مؤلفها ولكن حين أعيد طبعها عام 1502 أضاف إليها مؤلف آخر فصولا جديدة واتفق النقاد فيما بعد على أن المؤلف هو فرناندو روجاس.

    ثالثا رسوخ تقاليد السرد العربي القديم في أذهان الكتّاب في شبه الجزيرة الإيبيرية وخارجها وكانوا آنذاك منكبين على قراءة المترجم من المرويات التراثية العربية، وبعضهم كان يتقن العربية أو يعرف بعضا من تراكيبها ومنهم ثرفانتس الذي وظف في كثير من قصصه أبياتا وأقوالا وأمثالا شعبية عربية فضلا عن الآيات القرآنية، كأمر طبيعي سار عليه أدباء اوروبا بدءا من القرن السادس عشر الميلادي.

    وبناء على هذه الحقائق التاريخية يكون السرد العربي من ناحية الشكل التقاني والمحتوى الموضوعي الناجزين واللذين هما حصيلة تجريب طويل الأمد في “السرد غير الواقعي” قد هيأ للسرد الأوروبي أن يكون بانيا ومطورا، واتضح هذا البناء والتطوير في “دون كيخوته” التي عدها النقاد بعد قرون مؤسسة لجنس الرواية.

    وما كان لـ”دون كيخوته” أن تكون مؤسسة لقالب واضح الأبعاد والحدود لولا ارتكانها على تقاليد السرد العربي القديم التي أعطت هذا القالب إمكانيات تقليده والبناء عليه.
    التجريب والريادة


    لقد سميت الرواية أولا بـRoman مأخوذة من رومانس العامية وتعني “كل أثر خيالي لا يرتكز على قاعدة تاريخية وإلى المادة الأدبية بوصفها معارضة للمادة الشفوية”، وصارت تعرف فيما بعد بـ Novel المأخوذة من مفردة Novella الإيطالية. ومن روائيات وروائيي القرنين السابع عشر والثامن عشر، مسز افرا بيهن (1640 - 1689) كتبت روايتين (العيد الملكي والهجران العادل) وكتبت مدام لافايت (1634 - 1693) رواية أميرة كليف عام 1678 وكتب دانيال ديفو (1660 - 1731) رواية “روبنسون كروزو” عام 1719 وكتب صاموئيل ريشاردسون رواية “باميلا” 1740، ثم رواية “كلاريسا هارلو” عام 1748 وكتب فولتير “كانديد” عام 1759 وكتب جان جاك روسو رواية “جولي أو ايلويز الجديدة” عام 1760 وكتب لورانس ستيرن روايته “حياة وراء ترستامشاندي جنتلمان” عام 1758 وكتب شودرلو دي لاكلو (1741 - 1803) رواية “العلاقات الخطرة” 1782 وكتب غوته رواية “الأم فيرتر” عام 1795 وكتب بنيامين كونستان (1767 - 1830) رواية “أدولف” عام 1807. ومن بعدها عرفت روايات السير والتر سكوت وديكنز وفولتير ودكتور جونسون وجين اوستن وشارلوت برونتيو جوجول وبلزاك وفلوبير وغيرهم.


    هل يمكن بعد ذلك عد ثرفانتس مؤسسا لجنس أدبي جديد؟!


    أما ما ذهب إليه بعض النقاد الغربيين من أن “روبنسون كروزو” هي المؤسسة لجنس الرواية، فإنه لا اختلاف أيضا على مسألة الحاضن الذي هو عربي، فلقد استلهمت هذه الرواية قصة “حي بن يقظان” لابن طفيل الأندلسي، ومن ثم تتأكد أكثر مقولة أن الرواية الأوربية وريثة القصة العربية لاسيما أن “دون كيخوته” مختلفة في واقعيتها عن روايات البيكاريسك “قصص المتشردين والشطار” والباستورالية “قصص الرعاة” التي ظهرت قبلها كرواية “اركاديا” لفيليب سيدني المنشورة عام 1580 وحياة غارغانتوا وبانتاغرويل” لفرانسوا ربليه عام 1553 وغيرها.

    والأمر نفسه ينطبق على من يقول إن الكوميديا الإلهية لدانتي أو حكايات دي كاميرون لبوكاشيو تأسيسية. ذلك أن تأثيرات المرويات التراثية العربية فيهما واضح كما أنهما نشرتا والحضارة العربية الإسلامية لم تندثر بعد. ولا شك في أن تحديد الريادة الروائية، يحتاج تعليلا لها ولقد عللها النقد الغربي بأنها جاءت عن ارتباط كتابة الرواية الوثيق بقضية الإنسانية والارتقاء الحضاري وأن ثرفانتس ما ابتكر الرواية إلا تعبيرا عن الطبيعة الإنسانية. أما علاقة الريادة بعمل كان جزءا ما اكتمل إلا بعد عشر سنوات، فذلك ما يراه هذا النقد أمرا فنيا، فيه ابتكر ثرفانتس طريقة المخطوطة وادخلها كوثيقة في البناء السردي ولكن العلاقة بين الأدب والإنسان من جهة وعلاقة الإنسان بالابتكار والتجريب من جهة أخرى هو أمر لم تدشنه الرواية كجنس جديد، بل هو قديم قدم الإنسان نفسه. ولا يكون أي ابتكار مؤسسا لتقاليد أو تأسيسيا لجنس جديد إلا بعد تاريخ يتعدى الجيل والجيلين وربما الأجيال لا أن يكون عشر سنوات اقتضاها انجاز ‘دون كيخوته‘”.

    إن القول بالريادة من دون وجود تجريب سابق، هو بمثابة قفز على الحقيقة التاريخية. ومن ثم لا تكون ولادة “دون كيخوته” كجنس جديد ولادة اعتباطية، بل هي متحصلة بعد تاريخ طويل من التجريب السردي، فيه توكدت تأثيرات فنون الأدب العربي في الأدب الأوروبي، بسبب الاحتكاك المباشر والطويل الأمد ببين العرب والإفرنج اجتماعيا وثقافيا ولغويا.

    وإلا هل يوجد من ينكر أن السرد والتاريخ فعلان متصلان، الأول هو الأصل والثاني متشكل منه، كأخبار مروية ينقلها إخباري بشكل شفاهي يعتمد فيه على ذاكرته أو كمدونات يكتبها مؤرخ معتمدا غالبا على التحبيك السردي في ربط النتائج بالأسباب. وهو ما يجعل كتابة التاريخ تحبيكية أي مثل كتابة القصة تخضع للتسبيب المنطقي.

    وفي رواية “دون كيخوته” نجد أن الترابط وثيق بين السرد والتاريخ. فكتب ثرفانتس قصة تاريخية هي أطول مما هو معتاد في كتابة القصص الأوروبية، ولعل هذا الطول هو السبب وراء اعتبار “دون كيخوته” عملا مؤسسا لجنس جديد هو الرواية.
    النص المهجّن


    لو افترضنا أن ثرفانتس سارد لمخطوط كتبه مؤرخ عربي عن قصة حياة دون كيخوته، فسيكون ثرفانتس ناقلا عن نص مترجم، أما إذا افترضنا أن المخطوط متخيل فسيكون ثرفانتس ساردا مبتكرا لتاريخ متخيل. وسواء أخذنا بالافتراض الأول أو أخذنا بالثاني، فإن العلاقة بين السرد والتاريخ تظل واحدة من ناحية التعامل المجازي مع الواقع تعاملا احتماليا لا قطعيا، وسنفصل القول في ذينيك الافتراضين كالآتي.

    أولا: إن افتراض ترجمة نص سردي عن نص تاريخي أصلي سابق، يعني أن “دون كيخوته” عبارة عن قصة تاريخية تحولت بالترجمة إلى نص آخر هو رواية مكتوبة بلغة الغالب/ الاسباني. وأيا كانت الدقة في الترجمة ومهما كانت القدرة كبيرة في إتقان الجانبين النحوي والأدبي، فإن الترجمة تظل فعلا إبداعيا هو عبارة عن نص ثان مبتدع عن نص أول، وفيه الناقل محوّر للنص الأصلي ملبسا إياه لباسا جديدا يفصلِّه على وفق مقاسات اللغة المنقول إليها ذلك النص.

    ◄ الفرق كبير بين نص مؤسس أصل ونص مهجن مؤقلم، فالنص المؤقلم هو حصيلة اتباع ما بناه الأول

    ثانيا: إن افتراض المخطوطة قصة متخيلة وأن ثرفانتس اخترعها وعليها بنى قصته، يأتي من باب التهجين القائم على أمرين:

    الأول اتباع المؤلف أسلوب التضمين السردي بين قصتين: قصة إطارية فيها المؤلف يخترع شخصية هي حامد بن الإيلي، وقصة ضمنية تبنى أحداثها وتحبك من لدن الشخصية في القصة الإطارية. وهو أمر اعتاده القص العربي ومن ثم جعل ثرفانتس من حامد بن الإيلي الشخصية الإطارية التي صنعت “دون كيخوته” بطل القصة الضمنية كفارس مثالي جوال/ بدوي انتهى الأمر به كئيبا ومغلوبا فعاد إلى قريته/ موطنه ومات حتف أنفه.

    وليس ثرفانتس الأول في التأثر بأسلوب التضمين فقد سبقه دانتي وبوكاشيو، وما زال التضمين إلى اليوم متبعا في السرد الحداثي مما نجده في بعض قصص بورخس مثلا، لكن ثرفانتس يعد سابقا بين القصاصين الإيبيريين حسب من الذين جايلوه وكانوا مواظبين على استعمال أسلوب التتابع أو التنضيد متأثرين ببنية الحكاية الشعبية التقليدية. وهو ما نجده في “حكايات الكوندة لوكانور” لدون خوان مانويل، حيث كل قصة مستوحاة من حكاية ذات أصل شعبي علما أن ثرفانتس في أعماله التي سبقت “دون كيخوته” مثل “لا جالاثيا” 1585 ومجموعته “قصص مثالية” فكان مثلهم يتبع أسلوب التتابع في التعبير عن موضوعات مثالية كالفروسية والحب الأفلاطوني.

    الأمر الثاني الذي يقوم عليه التهجين هو توظيف المؤلف ثرفانتس تقانة التناص يعني أنه هو الأسد الذي هضم خرافا كثيرة، وأنتج منها هاضما يشبهه ويشبهها معا. وما هذا الهاضم سوى قصة هجينة ذات بناء سردي يخالف السائد في بناء القصص الأوروبي كقصص الرعاة والرومانس والشطار أو البيكاريسك. وليس أمر بناء اللاحق على السابق بالجديد أيضا، وإلا لماذا تبدأ شهرزاد حكاياتها بالقول “بلغني أن/ يحكى أن”، لولا إن لحكاياتها رواة سابقين لكنهم مجهولون. ولا خلاف في أن الحكاية الخرافية بنيت على خرافات التابو والطوطم كما بنيت على الحكاية الخرافية الحكاية الشعبية وعليها بُني القص التاريخي والأدبي والشعبي وهكذا. فالسرد أثر قولي، محكوم بموضوعات فنية تتفاعل فيما بينهما تأثرا وتأثيرا لكن الغلبة دائما تكون للأكثر رسوخا والأسبق تاريخا.

    وبناء على الافتراضين السابقين حول علاقة السرد بالتاريخ في التعامل مع الواقع يكون التهجين أمرا مفروغا منه سواء كفعل ترجمي إبداعي أو كفعل استعاري تناصي. وإذا عددنا ثرفانتس مبدعا اخترع مخطوطة تاريخية متخيلة بطلها أوروبي فانه هجنها بأساليب وتقانات سار في استعمالها على تقاليد السرد العربي القديم، فهل يمكن بعد ذلك عد ثرفانتس مؤسسا لجنس أدبي جديد؟!.

    لعل من نافلة القول إن الفرق كبير بين نص مؤسس (أصل) ونص مهجن (مؤقلم)، فالنص المؤقلم هو حصيلة اتباع ما بناه الأول من قواعد في حين أن النص المؤسس هو تقعيد أصلي لحصيلة ما كان راسخا ومعروفا. فالمرويات الحكائية بأنواعها تعددت وتنوعت، فكان أن جسدت القصة العربية ذلك كله في شكل قواعد صارت بمرور الزمان تقاليد فنية، اتبعها الأدباء في كتابة أنواع سردية مختلفة منها المقامة والمنامة والرحلة وغيرها.




    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    نادية هناوي
    ناقدة وأكاديمية عراقية
يعمل...
X