معارض صفحة الفن والنقد التشكيلي
المعرض السابع والخمسون
الفنان د. علاء بشير
بوست رقم 3
اعمال الفنان علاء بشير
ملحمة العوائل الأربعة
يوسف الصائغ
يعرف الذين تابعوا اعمال الفنان علاء بشير خلال العقدين الماضيين أن لوحاته كانت تقدم شخوصا مبهمة الملامح بوجه عام مشدودة الى معاناة وجودها، ومنشغلة بالغاز الموت والحياة وحيدة داخل فضاء مدروس ومؤطر يزيد من خصوصيتها، وخصوصية ما تعانيه
ولقد كان طبيعيا في ظروف الحرب أن تتعمق هذه المعاناة وتزداد حدة وتبرز فيها معضلة الاحساس بالوحدة ازاء مواجهة المصير بالاختيار ... ذاك انه ان كان لا مناص من الموت فالسؤال لم يعد يتعلق بـ لماذا يعيش الانسان .. ولماذا يموت؟ حسب بل (متی .... وكيف يموت؟
ويلفت الانتباه في هذه المرحلة، ان علاء بشير ولاسباب عديدة ضاق بملامح شخوصه المبهمة، واحس انها ما عادت تكفيه، ولا تكفيهم، فغامر احيانا بان يعطي هذه الشخوص ملامحه الخاصة كانما لينوب عنهم في ما يعانون بعد ان كانوا ينوبون عنه معاناته.
لقد تعمقت الحاجة بسبب ثقل المعاناة الى نقل العام الى الخاص، وبدا كان الحرب صارت مشكلة الفنان الشخصية، فهو ماثل فيها الى اقصى ما يستطيع ... فما الذي حدث فجأة، بحيث بات يخيل للذي تتبع اعمال الفنان انه لو راجع كل تلك اللوحات التي سبق وشاهدها، لوجد شخوصها قد غادرتها متمردة على أطرها.
وقوانين ابعادها؟
ويصبح السؤال عند هذا الحد
حسنا .. متى هربت هذه الشخوص من لوحاتها ؟ .. ولماذا؟ وكيف؟ واذا كان كل ذلك حقيقيا .. فاين يمكن البحث عنها، والتعرف عليها، وعلى ما تعانيه من جديد ؟
من الرسم .. الى النحت
اذا قبلنا الاستطراد في هذا المجال، فسيكون بوسعنا عند ذلك الادعاء بان هذه الشخوص في ظل ظروف عامة وشخصية أشد وطأة ضاقت باطرها، وبقانون البعدين الذي وجدت نفسها مسجونة بموجبه، فاختارت ان تتجسد، وتتخذ لنفسها موضعا جديدا وعلاقات اكثر غنى وفاعلية، بما يمكنها من الاستجابة للظرف الذي استدعيت اليه.
وهكذا، صارت الرسوم تماثيل ... وهكذا، عدل الفنان عن الرسم واتجه للنحت ... لان الرسم في ظل وعيه لابداعه، كما يبدو، لم بعد يكفيه، ويكفي ما يعانيه
حسنا ... انما .. لماذا التحت بالذات ؟ ايكون ، لان النحت هنا، اقل تجريداً، وأكثر تجسيدا ؟
ايكون لان النحت حين يضيف بعدا ثالثا للعلموس يعطي حرية أوسع في التعامل وعلاقات اغنى مع الرؤية من خلال تعدد زوايا النظر، وتنوع تاثير الضوء والظل ومستوى النظر والمنظور .. بل وحتى الحركة .... وهي مزايا ذات طبيعة سينمائية يصعب ان يوفرها الرسم المسجون في ذاكرة فوتغرافية؟
ثم .. ايهما الأكثر قدرة على تفريغ الانفعال واستنفاده؟ .. الرسم؟ ام النحت؟ ثمة في هذا المجال ملاحظة تقع في السياق تتعلق بان الشخوص في لوحات علاء بشير كانت تنطوي على صفات نحتية، تتجلى في كتلتها، ووحدانيتها وعلاقتها بالفراغ ... وليس عبثا، ان الفنان انما كان ينطلق عن حس نحتي مباشر، حين قدم نتاجا نحتيا ملفتا للانتباه في احد المعارض مؤخرا ..... وعدا هذا .. فنحن بسبب قناعتنا بجدية ومثابرة علاء بشير، وتعويله على الجانب الفكري في نتاجه، لا نجد ما يشجع على الاعتقاد بان تحوله هذا مجرد تقليعة أو استجابة لنزوة أو مزاج بحيث لا يشكل أكثر من تجربة عابرة لا يلبث أن يهجرها، ويعود إلى الرسم من جديد
ماذا حدث ؟
لا يحتاج المرء إلى كثير من التدقيق ليكتشف ان العدوان الذي واجهه العراق وما تلاه من حصار وما صاحب ذلك من صمود سئلت / اية / مسحة ) ومقاومة وبناء .. يشكل عاملا أساسيا من عوامل التحول الذي شهده نتاج علاء بشير ...
وهو بهذا ينسجم مع نفسه، ومع ابداعه مستجيبا للمنطق القائل بان مبدعا قبل العدوان، لا يمكن ان يظل مبدعا، بعده، أن هو استلسم لاسلوبه القديم، ولعادات ابداعه الماضية، وراح يقدم نتاجه، وكأن شيئا لم يحدث أو كان ما حدث أمر لم يؤثر به ولا علاقة له بمعاناته ... ان نظرة سريعة الى نتاجات علاء بشير النحتية تكشف بسهولة مفردات ما حدث وتقرر له خصوصية لا يخطئها النظر، رغم الممنوع كله ان هذا الانسان لا يفتا يذكرنا بانه ما زال صالحا للحب والحياة.. ومستعد بسبب ذلك للشهادة ويمكن العودة الى تفاصيل ذلك بعدئذ
الفخار (الطين - الماء - النار)
والان ... ان كنا قد حاولنا أن نبين الدوافع الكامنة وراء التحول من الرسم الى النحت الا يكون مفيدا وفق المنطق نفسه أن نتقصى السبب في اختيار الطين المفخور مادة للمنحوتات، وليس سواء كالبرونز مثلا او الممرمر او اي مادة اخرى ؟
لا أحسب ان الفنان اختار الفخار السهولته فالفخار ليس سهلا، وانتاج تماثيل باسلوب الفخار ينطوي على صعوبات كثيرة ... فضلا عن أن التعامل مع الفخار بمستوى التحت ليس شائعا، ولا مألوفا لدى العاملين عندنا في هذا المجال ويزداد الأمر صعوبة بسبب من ان علاء بشير ليس من المتخصصين بهذا النوع من النتاج وهو بدون شك يفتقر الى الخبرة التقنية التي تضمن له جودة النتاج ... والسؤال الان هو اما من معنى اضافي في اختيار مادة الطين ليس كما يستخدمها الآخرون كمرحلة في انجاز تمثال من البرونز وانما باعتبار الطين هو المادة النهائية التي سيتشكل منها النتاج ؟ لنتفحص ما الذي ينطوي عليه الطين من ايحاءات ودلالات ... اليس الطين مادة من مواد الخلق ... الم يخلق الانسان من طين وماء؟ والطين، عدا هذا لدى امتزاجه بالماء مرتبط بمفهوم الارض والتراب والخصب وخصوصية الوطن .. وهو في السياق نفسه مرتبط بمعنى السكن والبيت ومفهوم الاستقرار والبناء والحضارة والطين هنا عراقي، والماء عراقي وسنضيف عنصرا ثالثا هو النار التي تتطلبها تقنيات الفخار - بكل ما يكتنز به مفهوم النار رمزيا، وتراثيا ودينيا من ظلال
ومن أجل تحريك كل هذه الايحاءات في الوجدان لابد من تبني الاحساس بتلك الشخوص الطينية وهي معرضة للنار يطهرها، ويعطيها قوامها وصلابتها النهائية... ولن يكون سهلا عند ذاك تحاشي التفكير بأن هذه التماثيل، ما كانت للتتجوهر الاكما يتجوهر الانسان داخل معاناته... وذاك أمر يتصل بمفهوم الاصالة والصدق وخوض التجربة.. ليس هذا حسب..... فنحن لا مصلحة لنا في أن ننسى حين نشاهد اعمال علاء بشير الفخارية أن هذه النتاجات تستعيد ذاكرة ابداع عراقي قديم انجزه البابليون والسومريون وتنقصى انجازاته مثيرة في ضمائرنا احساسا متجددا بعلاقتنا بالحضارة....
هوية عراقية
وما حصيلة ذلك كله ؟ انها قبل الخوض في اية تفاصيل تأكيد الاحساس بهوية النتاج العراقية؛ فالطين والماء عراقيان.. والفخار ... عراقي، والملامح عراقية، وهذا بمجموعه، يكرس خصوصية تجربة هي بشكل ما العام الذي يخدم الخاص، ويمهد ليضع محاولة الفنان في موضع أعلى من الانتباه... ويغدو عند ذلك ممكنا أن نقبل النار باعتبارها رمز المعاناة التي كان على العراقيين ان يواجهوها ليصونوا وجودهم ويضمنوا هويتهم وبقاءهم....
ملاحظات في المشهد
منذ الوهلة الأولى تقترح اعمال الفنان على المشاهد نوعا من عدم الاستقرار فهي تعده بأكثر من مشاهدة، وأكثر من زاوية نظر، حد ان تغريه احيانا بالطوف حولها، بعينيه على الاقل ... الى أن يستوعب المشهد أو يستوعبه المشهد...
ويخدم حجم الاعمال هذا الهدف رغم طبيعة عدد من الاعمال المنفذة بحس معماري له طابع النصب... اذا يمكن المشاهد من الإحاطة بالموضوع واستيعابه لانه يقع في الغالب دون مستوى النظر فهو حر في تقصي التفاصيل ثم ربطها ببعضها، ومن ثم ربط عمل بسواه وصولا الى تحقيق الاحساس بما يشبه الملحمة. فاذا انتهت المشاهدة، الأولى، جاء الاحساس بالحاجة الى مشاهدة ثانية... وعندي ان ذلك سيتحقق ارتباطا بالنظام الذي سيرصف فيه الفنان اعماله بما يسهل على المشاهد اكتشاف العلاقات....
ملحمة العوائل الأربع
صنف الفنان اعماله في اربع عوائل اساسية واعطى لكل عائلة عنوانا، هي كما يلي:
(۱) صدى الحصار
(۲) امرأة ورجل
(۳) طمانينة وخوف
(٤) انسان وغراب ...
وبقدر ما يبدو هذا التصنيف مهما احسب ان العناوين المختارة لهذه العوائل فقيرة وغير ذات جدوى بل لعلها مربكة للمشاهد ان هو عول عليها كثيرا..... وعوضا عن ذلك.. واعتمادا على منطق العلاقة الداخلية للاعمال المعروضة. يمكن اعتماد النسق التالي:
البدء من عائلة امرأة ورجل)، ثم (انسان وغراب يليها طمانينة وخوف والانتهاء عند صدى الحصار.. وهكذا من اجل ان تتصل اطراف الملحمة ببعضها، وتتبادل تأثيراتها
ه6آ بحيث ما ان ينتهي المشاهد من المفردة الاخيرة في صدى الحصار حتى يجد نفسه مجتذبا للعودة الى البداية من جديد ليقف ذاهلا حين يكتشف ان ما رآه في البداية لدى عائلة امرأة ورجل هو غير ما يراه ثانية، فقد وقع المشهد تحت تأثير النهاية في (صدى الحصار) فتبدلت خواصه واكتسبت ايحاءات مضافة.... ووقع المشاهد نفسه تحت نفوذ الطواف، فهو ماسور في دوامة ذات ايقاع طقي.. لا تصح له بداية ولا نهاية.
واخيراً... من اجل الاسهام في كشف المشاهد ليس عبر النتاج حسب بل عبر عادات الفنان الابداعية سيكون مفيدا ان اشير الى ان الفنان علاء بشير حتى وهو ينجز فنه مولع بان يناقش شروط ابداعه، وأن يقيم جدلا مع ما يعانيه بالمشاكسة والاستفزاز طلبا للمزيد، لهذا فهو ينوع في المشهد الواحد ويعيد صياغته ويصححه، متذوقا مدى استجابة تجربته له، ومدى استجابته لتجربته وهو في سياق ذلك لا يتوزع من أن يغرينا بالفضول فيوحي لنا بانه يخبيء في اعماله اسرارا خاصة علينا، لكي تقترب منها اكتشافها، وهو يدري انه اذ يفعل ذلك، لا يرمي الا لاستدراجنا لاعادة اكتشاف اسرارانا الخاصة نحن وعن طريق هذه الاحبولة، نجد انفسنا ننتمي ربما على غير قصد منا إلى نتاجه.... ولان الفنان طبيب متخصص بالجراحة التجميلية، فموقفه من الجسد الانساني هو غير موقفنا نحن المشاهدين. ولقد تعايش ثماني سنوات وأكثر، خصوصا في زمن الحرب مع اجساد انسانية، انتهكتها القذائف والشظايا مكلفا بوحي من مهنته وضميره بترميم هذه الاجساد واعادتها الى جمالها الانساني... في الوقت الذي كان عليه، باعتباره مبدعا، أن يعيد انتاج معاناته هذه بان ينسحب الى مشغله لينتج على الضد مما كان يفعله في صالة العمليات، وبادوات هي اشبه بأدوات الجراحة ادوات التحت)، لينتج، ومن جديد اجسادا مشوهه لها قوة الوثيقة والشهادة وحرارة الابداع.
المعرض السابع والخمسون
الفنان د. علاء بشير
بوست رقم 3
اعمال الفنان علاء بشير
ملحمة العوائل الأربعة
يوسف الصائغ
يعرف الذين تابعوا اعمال الفنان علاء بشير خلال العقدين الماضيين أن لوحاته كانت تقدم شخوصا مبهمة الملامح بوجه عام مشدودة الى معاناة وجودها، ومنشغلة بالغاز الموت والحياة وحيدة داخل فضاء مدروس ومؤطر يزيد من خصوصيتها، وخصوصية ما تعانيه
ولقد كان طبيعيا في ظروف الحرب أن تتعمق هذه المعاناة وتزداد حدة وتبرز فيها معضلة الاحساس بالوحدة ازاء مواجهة المصير بالاختيار ... ذاك انه ان كان لا مناص من الموت فالسؤال لم يعد يتعلق بـ لماذا يعيش الانسان .. ولماذا يموت؟ حسب بل (متی .... وكيف يموت؟
ويلفت الانتباه في هذه المرحلة، ان علاء بشير ولاسباب عديدة ضاق بملامح شخوصه المبهمة، واحس انها ما عادت تكفيه، ولا تكفيهم، فغامر احيانا بان يعطي هذه الشخوص ملامحه الخاصة كانما لينوب عنهم في ما يعانون بعد ان كانوا ينوبون عنه معاناته.
لقد تعمقت الحاجة بسبب ثقل المعاناة الى نقل العام الى الخاص، وبدا كان الحرب صارت مشكلة الفنان الشخصية، فهو ماثل فيها الى اقصى ما يستطيع ... فما الذي حدث فجأة، بحيث بات يخيل للذي تتبع اعمال الفنان انه لو راجع كل تلك اللوحات التي سبق وشاهدها، لوجد شخوصها قد غادرتها متمردة على أطرها.
وقوانين ابعادها؟
ويصبح السؤال عند هذا الحد
حسنا .. متى هربت هذه الشخوص من لوحاتها ؟ .. ولماذا؟ وكيف؟ واذا كان كل ذلك حقيقيا .. فاين يمكن البحث عنها، والتعرف عليها، وعلى ما تعانيه من جديد ؟
من الرسم .. الى النحت
اذا قبلنا الاستطراد في هذا المجال، فسيكون بوسعنا عند ذلك الادعاء بان هذه الشخوص في ظل ظروف عامة وشخصية أشد وطأة ضاقت باطرها، وبقانون البعدين الذي وجدت نفسها مسجونة بموجبه، فاختارت ان تتجسد، وتتخذ لنفسها موضعا جديدا وعلاقات اكثر غنى وفاعلية، بما يمكنها من الاستجابة للظرف الذي استدعيت اليه.
وهكذا، صارت الرسوم تماثيل ... وهكذا، عدل الفنان عن الرسم واتجه للنحت ... لان الرسم في ظل وعيه لابداعه، كما يبدو، لم بعد يكفيه، ويكفي ما يعانيه
حسنا ... انما .. لماذا التحت بالذات ؟ ايكون ، لان النحت هنا، اقل تجريداً، وأكثر تجسيدا ؟
ايكون لان النحت حين يضيف بعدا ثالثا للعلموس يعطي حرية أوسع في التعامل وعلاقات اغنى مع الرؤية من خلال تعدد زوايا النظر، وتنوع تاثير الضوء والظل ومستوى النظر والمنظور .. بل وحتى الحركة .... وهي مزايا ذات طبيعة سينمائية يصعب ان يوفرها الرسم المسجون في ذاكرة فوتغرافية؟
ثم .. ايهما الأكثر قدرة على تفريغ الانفعال واستنفاده؟ .. الرسم؟ ام النحت؟ ثمة في هذا المجال ملاحظة تقع في السياق تتعلق بان الشخوص في لوحات علاء بشير كانت تنطوي على صفات نحتية، تتجلى في كتلتها، ووحدانيتها وعلاقتها بالفراغ ... وليس عبثا، ان الفنان انما كان ينطلق عن حس نحتي مباشر، حين قدم نتاجا نحتيا ملفتا للانتباه في احد المعارض مؤخرا ..... وعدا هذا .. فنحن بسبب قناعتنا بجدية ومثابرة علاء بشير، وتعويله على الجانب الفكري في نتاجه، لا نجد ما يشجع على الاعتقاد بان تحوله هذا مجرد تقليعة أو استجابة لنزوة أو مزاج بحيث لا يشكل أكثر من تجربة عابرة لا يلبث أن يهجرها، ويعود إلى الرسم من جديد
ماذا حدث ؟
لا يحتاج المرء إلى كثير من التدقيق ليكتشف ان العدوان الذي واجهه العراق وما تلاه من حصار وما صاحب ذلك من صمود سئلت / اية / مسحة ) ومقاومة وبناء .. يشكل عاملا أساسيا من عوامل التحول الذي شهده نتاج علاء بشير ...
وهو بهذا ينسجم مع نفسه، ومع ابداعه مستجيبا للمنطق القائل بان مبدعا قبل العدوان، لا يمكن ان يظل مبدعا، بعده، أن هو استلسم لاسلوبه القديم، ولعادات ابداعه الماضية، وراح يقدم نتاجه، وكأن شيئا لم يحدث أو كان ما حدث أمر لم يؤثر به ولا علاقة له بمعاناته ... ان نظرة سريعة الى نتاجات علاء بشير النحتية تكشف بسهولة مفردات ما حدث وتقرر له خصوصية لا يخطئها النظر، رغم الممنوع كله ان هذا الانسان لا يفتا يذكرنا بانه ما زال صالحا للحب والحياة.. ومستعد بسبب ذلك للشهادة ويمكن العودة الى تفاصيل ذلك بعدئذ
الفخار (الطين - الماء - النار)
والان ... ان كنا قد حاولنا أن نبين الدوافع الكامنة وراء التحول من الرسم الى النحت الا يكون مفيدا وفق المنطق نفسه أن نتقصى السبب في اختيار الطين المفخور مادة للمنحوتات، وليس سواء كالبرونز مثلا او الممرمر او اي مادة اخرى ؟
لا أحسب ان الفنان اختار الفخار السهولته فالفخار ليس سهلا، وانتاج تماثيل باسلوب الفخار ينطوي على صعوبات كثيرة ... فضلا عن أن التعامل مع الفخار بمستوى التحت ليس شائعا، ولا مألوفا لدى العاملين عندنا في هذا المجال ويزداد الأمر صعوبة بسبب من ان علاء بشير ليس من المتخصصين بهذا النوع من النتاج وهو بدون شك يفتقر الى الخبرة التقنية التي تضمن له جودة النتاج ... والسؤال الان هو اما من معنى اضافي في اختيار مادة الطين ليس كما يستخدمها الآخرون كمرحلة في انجاز تمثال من البرونز وانما باعتبار الطين هو المادة النهائية التي سيتشكل منها النتاج ؟ لنتفحص ما الذي ينطوي عليه الطين من ايحاءات ودلالات ... اليس الطين مادة من مواد الخلق ... الم يخلق الانسان من طين وماء؟ والطين، عدا هذا لدى امتزاجه بالماء مرتبط بمفهوم الارض والتراب والخصب وخصوصية الوطن .. وهو في السياق نفسه مرتبط بمعنى السكن والبيت ومفهوم الاستقرار والبناء والحضارة والطين هنا عراقي، والماء عراقي وسنضيف عنصرا ثالثا هو النار التي تتطلبها تقنيات الفخار - بكل ما يكتنز به مفهوم النار رمزيا، وتراثيا ودينيا من ظلال
ومن أجل تحريك كل هذه الايحاءات في الوجدان لابد من تبني الاحساس بتلك الشخوص الطينية وهي معرضة للنار يطهرها، ويعطيها قوامها وصلابتها النهائية... ولن يكون سهلا عند ذاك تحاشي التفكير بأن هذه التماثيل، ما كانت للتتجوهر الاكما يتجوهر الانسان داخل معاناته... وذاك أمر يتصل بمفهوم الاصالة والصدق وخوض التجربة.. ليس هذا حسب..... فنحن لا مصلحة لنا في أن ننسى حين نشاهد اعمال علاء بشير الفخارية أن هذه النتاجات تستعيد ذاكرة ابداع عراقي قديم انجزه البابليون والسومريون وتنقصى انجازاته مثيرة في ضمائرنا احساسا متجددا بعلاقتنا بالحضارة....
هوية عراقية
وما حصيلة ذلك كله ؟ انها قبل الخوض في اية تفاصيل تأكيد الاحساس بهوية النتاج العراقية؛ فالطين والماء عراقيان.. والفخار ... عراقي، والملامح عراقية، وهذا بمجموعه، يكرس خصوصية تجربة هي بشكل ما العام الذي يخدم الخاص، ويمهد ليضع محاولة الفنان في موضع أعلى من الانتباه... ويغدو عند ذلك ممكنا أن نقبل النار باعتبارها رمز المعاناة التي كان على العراقيين ان يواجهوها ليصونوا وجودهم ويضمنوا هويتهم وبقاءهم....
ملاحظات في المشهد
منذ الوهلة الأولى تقترح اعمال الفنان على المشاهد نوعا من عدم الاستقرار فهي تعده بأكثر من مشاهدة، وأكثر من زاوية نظر، حد ان تغريه احيانا بالطوف حولها، بعينيه على الاقل ... الى أن يستوعب المشهد أو يستوعبه المشهد...
ويخدم حجم الاعمال هذا الهدف رغم طبيعة عدد من الاعمال المنفذة بحس معماري له طابع النصب... اذا يمكن المشاهد من الإحاطة بالموضوع واستيعابه لانه يقع في الغالب دون مستوى النظر فهو حر في تقصي التفاصيل ثم ربطها ببعضها، ومن ثم ربط عمل بسواه وصولا الى تحقيق الاحساس بما يشبه الملحمة. فاذا انتهت المشاهدة، الأولى، جاء الاحساس بالحاجة الى مشاهدة ثانية... وعندي ان ذلك سيتحقق ارتباطا بالنظام الذي سيرصف فيه الفنان اعماله بما يسهل على المشاهد اكتشاف العلاقات....
ملحمة العوائل الأربع
صنف الفنان اعماله في اربع عوائل اساسية واعطى لكل عائلة عنوانا، هي كما يلي:
(۱) صدى الحصار
(۲) امرأة ورجل
(۳) طمانينة وخوف
(٤) انسان وغراب ...
وبقدر ما يبدو هذا التصنيف مهما احسب ان العناوين المختارة لهذه العوائل فقيرة وغير ذات جدوى بل لعلها مربكة للمشاهد ان هو عول عليها كثيرا..... وعوضا عن ذلك.. واعتمادا على منطق العلاقة الداخلية للاعمال المعروضة. يمكن اعتماد النسق التالي:
البدء من عائلة امرأة ورجل)، ثم (انسان وغراب يليها طمانينة وخوف والانتهاء عند صدى الحصار.. وهكذا من اجل ان تتصل اطراف الملحمة ببعضها، وتتبادل تأثيراتها
ه6آ بحيث ما ان ينتهي المشاهد من المفردة الاخيرة في صدى الحصار حتى يجد نفسه مجتذبا للعودة الى البداية من جديد ليقف ذاهلا حين يكتشف ان ما رآه في البداية لدى عائلة امرأة ورجل هو غير ما يراه ثانية، فقد وقع المشهد تحت تأثير النهاية في (صدى الحصار) فتبدلت خواصه واكتسبت ايحاءات مضافة.... ووقع المشاهد نفسه تحت نفوذ الطواف، فهو ماسور في دوامة ذات ايقاع طقي.. لا تصح له بداية ولا نهاية.
واخيراً... من اجل الاسهام في كشف المشاهد ليس عبر النتاج حسب بل عبر عادات الفنان الابداعية سيكون مفيدا ان اشير الى ان الفنان علاء بشير حتى وهو ينجز فنه مولع بان يناقش شروط ابداعه، وأن يقيم جدلا مع ما يعانيه بالمشاكسة والاستفزاز طلبا للمزيد، لهذا فهو ينوع في المشهد الواحد ويعيد صياغته ويصححه، متذوقا مدى استجابة تجربته له، ومدى استجابته لتجربته وهو في سياق ذلك لا يتوزع من أن يغرينا بالفضول فيوحي لنا بانه يخبيء في اعماله اسرارا خاصة علينا، لكي تقترب منها اكتشافها، وهو يدري انه اذ يفعل ذلك، لا يرمي الا لاستدراجنا لاعادة اكتشاف اسرارانا الخاصة نحن وعن طريق هذه الاحبولة، نجد انفسنا ننتمي ربما على غير قصد منا إلى نتاجه.... ولان الفنان طبيب متخصص بالجراحة التجميلية، فموقفه من الجسد الانساني هو غير موقفنا نحن المشاهدين. ولقد تعايش ثماني سنوات وأكثر، خصوصا في زمن الحرب مع اجساد انسانية، انتهكتها القذائف والشظايا مكلفا بوحي من مهنته وضميره بترميم هذه الاجساد واعادتها الى جمالها الانساني... في الوقت الذي كان عليه، باعتباره مبدعا، أن يعيد انتاج معاناته هذه بان ينسحب الى مشغله لينتج على الضد مما كان يفعله في صالة العمليات، وبادوات هي اشبه بأدوات الجراحة ادوات التحت)، لينتج، ومن جديد اجسادا مشوهه لها قوة الوثيقة والشهادة وحرارة الابداع.