فلسفة ما بعد الحداثة في قصيدة النثر الرؤى والجماليات والمفارقات
د. مصطفى عطية جمعة
أستاذ الأدب العربي والنقد - الجامعة الإسلامية مينيسوتا
إن التراكم الإبداعي لقصيدة النثر عبر عقود عديدة، جعل هذا الشكل الشعري مستقرًا، له متلقوه ومتذوقوه الواعون لجمالياته ورؤاه. ومن المهم الإشارة إلى أن ظهور شكل شعري جديد لا ينفي الأشكال الشعرية السابقة عليه مثل القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وغيرهما، فالساحة الإبداعية تتسع لسائر الأشكال الإبداعية، ولمبدعيها المخلصين له، فكما أن لقصيدة النثر متذوقيها، فإن باقي الأشكال الشعرية لا يزال لها متلقوها وهم كثر، وهذا ما نريد تأكيده، فقبولنا للجديد والمستحدث من الأشكال الشعرية؛ لا يجعلنا ننظر إلى سوابقها على أنها مراحل وانتهت، ومن يفعل ذلك؛ فإنه يضع الشعر والشاعرية ضمن فكرة "الموضة" التي إن ظهرت، فإنها تقضي على ما سواها. فكما أن قصيدة النثر عبرت عن حاجات نفسية وجمالية وإيديولوجية لدى مبدعيها، فإن سائر الأشكال والتجارب الشعرية الأخرى، لها منجزاتها الجمالية، وجمهورها، ما يجعل العلاقة بين الجديد والقديم – شعريًا – أشبه علاقة تثاقف وتحاور جمالي، وليس منافسة بين جديد وقديم. فظهور شكل إبداعي مستجد، يفجر الكثير من الأسئلة ويحرّك المخيلة الإبداعية، خاصة إذا كان رواده مبدعين أصلاء، وليسوا أدعياء، لديهم من الرؤية والوعي ما يجعلهم ثابتين في خياراتهم الفنية.
فقصيدة النثر شكل أدبي؛ يمكن توظيفه كما شاء المبدع، فهي جزء من الإبداع الشعري الذي يضم عناصر جمال أزلية جوهرية، وعناصر نسبية تتغير مع العصور، ولكن لابد أن تكون قصيدة النثر قصيدة فعلاً، وليست مجرد قطعة نثر متقنة إلى حد ما (1)، فعناصر الشعرية من تخييل وتراكيب جديدة وتوهج في الألفاظ وقوة في المشاعر ثابتة، أما المتغير فهو في فكر الشاعر نفسه، الذي يتخذ من قصيدة النثر وعاء لرؤاه وتخيلاته وأفكاره، وهذا نجده في تجربة قصيدة النثر العربية، فمنهم من وظّفها ضمن تيار الرومانسية، مشددًا على تعزيز حضور الطبيعة والتخييل في النص، والتحليق في أجواء الروح وتجلياتها، وهناك من تأثر بالتيار السيريالي، مثل "جورج حنين" المصري الذي كان صديقًا لـ"أندريه بريتون" وأعلام السيريالية الفرنسية، وجذب إليه صديقه الشاب "كامل زهيري" الذي كتب قصيدة من الشعر المنثور في سني الأربعينيات من القرن الماضي وتركز السيريالية على نبذ الرقابات التي تعيق الذهن، وإعطاء مكنونات النفس من أحلام ومكبوتات حرية الانطلاق، كما أن هذا الشكل لم يكن بعيدًا عن تيار التروتسكية المصرية، خصوصًا في بعض توجهاتها الفوضوية (2)، كما عبّرت قصيدة النثر عن أفكار الحزب السوري القومي الاجتماعي، ومؤسسه "أنطون سعادة"، وتجلت إيديولوجيا الحزب على صفحات مجلة شعر، وفي نصوص يوسف الخال وسعيد عقل وأدونيس وخليل حاوي(3)، وبعضهم سعى إلى نفخ الروح في الأساطير السورية القديمة، تماشيًا مع رؤية الحزب الإقليمية القومية، وهناك من استنطقها بالطروحات الماركسية، من خلال عرض القضايا الاجتماعية وقضايا البروليتاريا والفلاحين والتجاوب مع الحركات الثورية ذات البعد الماركسي في كوبا وفيتنام(4)، فلما جاء تيار الحداثة خلال سنوات السبعينيات كان بمثابة انقلاب في ثقافتنا المعاصرة، بما فيه من تيار تفجير للغة، ورفض للشاعر الداعية والشاعر المادح وشاعر البلاط والشاعر الشاكي (5) ووجدنا نصوصا تتحدث عن التشكك والتردد ويمعن في الرمزية والأسطورة، يعبر عن وجع العنف المكبوت، بلغة عالية فخمة (6).
وفي كل هذه المراحل ظلت قصيدة النثر، معبرة عن روح التمرد عما هو سائد، وباتت الشكل الشعري الذي يضم كل ثائر، وربما يعود هذا إلى طبيعة نشأتها المعتمدة على فكرة الرفض للشكلي، والسعي إلى التحرر. كما ترى "خالدة سعيد" بأن الإبداع يفترض بداية رفض التقليد، وعدم تصور نموج أعلى للشعر، سواء كان في تراثنا أو تراث الآخرين، وتبني لغة البناء في مقابل لغة السلب، ويتمثل الإيجاب في البناء الذي يشكله الشاعر باستيلاده للجديد، فالمبدع يقرأ الواقع الراهن أو الماضي والتراث ويعارض هذا بالحلم وموقعه السلبي من الواقع يتمثل في رؤية المتناقضات مستولدًا الجديد (7)، لقد تضمنت قصيدة النثر التعبير عن عالم يموج بالحركة والمراجعات وطرح الأسئلة، وأحد أوجه التمرد في هذا الشكل الشعري نظرته للحقيقة بأنها متحركة وفي دوامة أيضًا، حيث توضع المفاهيم كلها موضع الاستفهام على الدوام، ويصبح المدهش رتيبًا، فبعدما خلط "أينشتاين" صنفي المكان والزمان في أعماله، ودخل اللامعقول العلم في نظرية الكم، لم يعد للذهن القدرة على الركون إلى شيء ثابت، في الوقت نفسه الذي يترجم فيه التقدم المادي بتعجيل متواصل للسرعة والتبادلات وتحولات الوجود، وبات الحديث عن تحول مفهوم الحقيقة، بديلاً عن أزمة مفهوم الحقيقة، فقد أصبحت الحقيقة أكثر تعقيدًا وأقل ثباتًا(8) وهي تلتقي مع حركة ما بعد الحداثة Postmodernism، في أوجه عديدة؛ منها: استيعاب قصيدة النثر لكثير من الفنون والعلوم والآداب، ومحاولتها هضمها ضمن رؤيتها للعالم، وهذا ما أكدته ما بعد الحداثة التي رفضت استقلال الفن والعلم والأخلاق والسياسة، كلٌ في مجال منفصل، وسعت إلى إضفاء نزعة جمالية على كل مجالات المعرفة من الفلسفة مرورًا بالسياسة وانتهاء بالعلوم(9)، فيمكن فهم ما بعد الحداثة بوصفها تعديًا تدريجيًا لما هو جمالي على مجالات الفلسفة والأخلاق والعلم، وبوصفها إزاحة تدريجية للاكتشاف والعمق والحقيقة والتواصل والتماسك لصالح التركيب والخيال وسرديات التأمل الذاتي والتشظي الساخر(10)، فأبرز سمات ما بعد الحداثة: اللاحسم، والذاتية، ويندرج تحت الأول (اللاحسم): الابتداع والتعددية والانتقائية والمسخ والتميز وفقدان شديد لليقين المنطقي والوجودي، أما الثاني (الذاتية) فيعني الجانب العقلي، أي: قدرة العقل على الانتشار في العالم أي النظر إلى العالم وقراءته، فتكون له بيئته الخاصة في تلك القراءة، وبذلك يصل اللاحسم إلى التفكيك والهدم، وتصل الذاتية إلى البناء وإعادة التركيب(11).
وبالنظر إلى قصيدة النثر بها نزعة السلب أي الهدم لما هو نسقي شائع، والإيجاب أي البناء لرؤية جديدة، وهذا ما نجده في ما بعد الحداثة، ففيها نزعة تفكيكية للمعرفة، بإعادة قراءتها برؤى وتأويل جديدين، ونزعة أخلاقية تتسم بإعادة البناء، ومنها إنتاج نصوص أدبية تتأمل ذاتها، أي تجعل فعل الكتابة جزءًا من موضوع الكتابة نفسه، بجانب تأمل الواقع الراهن(12)، وقصيدة النثر تؤكد على مبدأ التمرد على الوضع الإنساني، وينادي بعض الشعراء بأن يكون التمرد على قوانين اللغة المنطقية وعلى طرق الكلام وبل وطرق التفكير الجاهزة(13)، فهي تنشأ من اتحاد قوتين متناقضتين : قوة فوضوية مدمرة وقوة تنظيمية فنية(14) فهي تتفق مع ما بعد الحداثة في كونها محاولة لإنهاء الهيمنة المعرفية للعلم، والسير نحو نزعة جمالية جديدة في دخول الحقول المعرفية، فالاستراتيجية الأساسية لما بعد الحداثة هي نزعة إضفاء الطابع الجمالي على الأشياء، حيث يتم تقديم العلم كنوع من الخيال، وكأنه أيضا جيش متنقل من الاستعارات (15)،كما تؤكد على النزعة الإنسانية بالتزام إيديولوجي نحو الأقليات والسعي لوحدة عالمية وكون إنساني واحد(16).
إن النقد الأدبي في سياق رؤى ما بعد الحداثة، يبحث سبل تناول النص كموضوع في العالم، والدافع إلى أن يكون حاسمًا وقاطعًا بطريقة مبدعة، وأيضًا النظر في النص كتعبير ذاتي لوعي متفرد له مقاصده(17)، هو ما يعني أن النقد ما بعد الحداثي يفسح المجال لقراءة النص وفق منهجية علمية، تعزز من وجود الذات الشاعرة في النص، ورؤيتها للعالم من حولها في ضوء تجربته الخاصة مع الشعر وعلاقته بالعالم من حوله، وكما ترى سوزان برنار بأن الشعر رؤية للعالم وتجربة روحية أكثر مما هو فن ومجموعة طرائق، والتجربة الداخلية للشاعر وموقفه أمام الكون هما اللذان يحددان الشكل الشعري الواجب استخدامه(18)، وفي هذه الحالة فإن الناقد ما بعد الحداثي سيدرس قصيدة النثر على مستوى الشكل المبتكر المقدم فيها بشكل منهجي، في ضوء ما ينضح به النص ويعبر عن ذات الشاعر وتجربته مع الوجود والواقع.
الهوامش:
1 - علم الجمال والنقد الحديث، د. عبد العزيز حمودة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999م، ص241.
2 - قصيدة الشعر الحر/ النثر، د. جابر عصفور، مجلة دبي الثقافية، العدد (45)، فبراير 2009م، ص102، 103، وأيضًا: قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، سوزان برنار، ترجمة: د. زهير مجيد مغامس، سلسلة آفاق الترجمة، منشورات الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط2، ديسمبر 1996م، ص213، حيث تذكر سوزان برنار إلى وجود واضح للسيريالية قصائد النثر الفرنسية.
3 - تواشجات الإيديولوجيا والحداثة: أنطون سعادة وأدونيس، شربل داغر، بحث بمجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، خريف 1997م، ص150.
4 - السابق، ص166، يذكر أن قصيدة النثر كشكل شعري كانت وعاء للتعبير الشعري جنبًا إلى جنب مع شعر التفعيلة والشعر العمودي، كما نجد في شعر بدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي، وبلند الحيدري، ومعين بسيسو.
5 - السابق، ص165.
6 - السابق، ص169.
7 - حركية الإبداع، خالدة سعيد، دار العودة، بيروت، 1979م، ص12، 14.
8 - قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا، م س، ص199.
9 - ما بعد الحداثة، باتريشيا ووه، ترجمة: شعبان مكاوي، موسوعة كمبريدج في النقد الأدبي، القرن العشرون: المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية، تحرير: ك. نلوولف، ك.نوريس، ج. أوزبورن، مراجعة وإشراف: رضوى عاشور، ص417.
10 - السابق، ص419.
11 - الحداثة وما بعد الحداثة، إعداد وتقديم: بيتر بروكر، ترجمة: د. عبد الوهاب علوب، منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي، ط1، 1995، ص31، ويعود هذا الرأي إلى المفكر الأمريكي المصري الأصل إيهاب حسن.
12 - ما بعد الحداثة، باتريشيا ووه، م س، ص418.
13 - قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا، م س، ص219.
14 - السابق، ص241.
15 - ما بعد الحداثة، باتريشيا ووه، م س، ص434، 435.
16 - الحداثة وما بعد الحداثة، بيتر بروكر، ص32، 33.
17 - السابق، ص435.