يتناول الناقد سيرة قصيدة النثر في سياق الثقافة العربية، ويسلط الضوء على المفهوم الشعري الذي تتكئ عليه، وفاعليتها التمردية، وخصائصها التي تبدت في مراحل حضورها المختلفة، ولقائها مع مابعد الحداثة في أوجه عديدة منها استيعابها للفنون وعلوم وآداب مغايرة ومتعددة.
ما بعد الحداثة وقصيدة النثر
رؤية في المنجز الشعري العربي
مصطفى عطية جمعة
باتت قصيدة النثر شكلا أدبيا مستقرًا، في رسوخها منذ أكثر من قرن في المشهد الشعري العالمي، ومنذ ما يزيد عن نصف قرن في المشهد الشعري العربي، متخطية في مسيرتها كثيرا من الاتهامات التي تراوحت ما بين إبعادها عن الشعر كلية وإلحاقها بالنثر كأحد فنونه، متخذين من الإيقاع الشعري مقياسا لها، وما بين رفض وجودها من أساسه، باعتبار أنها تعبر عن فلسفات وجماليات لا تقبلها الذائقة، وافتقادها أسسا وإطارات نظرية يمكن الرجوع إليها عند الحكم على إبداع النص نفسه، وقد توقفت الرؤى المنتقدة عند النماذج الضعيفة لقصيدة النثر في نصوص معبرة عن الحياة اليومية، وفيها بعض التراكيب التي قد تفسد الذوق وتتعرض مع الأخلاق، وتبث أفكار قد تخالف العرف والدارج، مؤكدة على رفضها إقحام هذا الشكل النثري بعالم الشعر الموزون(1)، مع اتهامات بإفساد اللغة والخروج على التراث، والانسياق وراء المستورد والغموض، والبعض رفق به واعتبره شعرا منقوصا، وتراصت جبهة نقدية شعرية ضده، فاختلط النقد الموضوعي والفني بالجانب الذاتي الشخصي، وكأنه محاولة لتثبيت الزمن عند جيل بعينه(2). وسنسعى في هذه الدراسة إلى مناقشة علاقة قصيدة النثر بما بعد الحداثة رؤيويا وجماليا.
قصيدة النثر، المفهوم والطرح
نبتت فكرة قصيدة النثر من مفهوم "الفوضوية والهدم" بدلالتيهما الإيجابية التي تعني: التمرد على الشكل واللغة، فالتمرد على الشكل يتمثل في التحرر من قوانين علم العروض وإيقاعاته وأوزانه المختلفة، أملا في إيجاد إيقاع جديد يستشفه المتلقي من النص وتوهج تراكيبه، وإيحاء مفرداته، والتمرد على اللغة كي تعبر عن عالم غامض يحمله الشاعر بين جنباته، فهو يريد أن يذهب إلى ما وراء اللغة باستخدام اللغة، وتحطيم الأشكال (السابقة) لإيجاد أشكال جديدة(3).
وربما يسيء البعض فهم فكرتي الفوضوية والهدم، ويرى أنهما تحملان ما هو أكبر من الإقصاء، إنه الهدم ذاته، ولكن المتأمل لهذا المعنى يجد أن الهدف ليس التدمير بدلالة المحو والإفناء، وإنما التحرر من إسار التقاليد الشعرية السابقة، والسعي إلى إيجاد رؤى إبداعية جديدة، لن تتحول إلى تقاليد، لأن هناك من سيحطمها ليأتي هو بالمستجد عنها وهكذا دواليك، وعلى حد تعبير سوزان برنار: "إذا كان في نقطة البدء تمرد وفوضى، فإن في نهايتها على الدوام تبلورٌ في قصيدة.. وسيؤول بنا الأمر إلى أشكال شعرية مختلفة للغاية"(4).
وهذا ناتج عن رؤية فلسفية عميقة، تنظر إلى الفن الحديث بوصفه حقيقة أخرى مخالفة كلَّ المخالفة لحقائق الحياة الإنسانية العادية، فالفنان حين يبدع، يضيف إلى الواقع شيئا جديدا، ولا يأخذ منه(5). ومن هنا زادت حرية الفنان في اختياراته لنقاط بدئه، مستفيدا من تحرره من قيود المنطق العقلي القديم، مؤمنا بمنطق يقبل التطور والحركة والتناقض
وما هو عابر، بحثا عن علاقة جديدة بالوجود من حوله(7).
ذلك من البعد الفلسفي والنفسي والوجودي لدى الشاعر، أما من حيث المعيار الفني، فإن سوزان برنار حددته بثلاثة معايير، تبدأ بمعيار ثابت فنيا وهو: "الوحدة العضوية " فقصيدة النثر شأنها شأن أي نص إبداعي آخر، عبارة عن بناء يصدر عن إرادة إبداعية واعية لدى المبدع، وليس مجرد مادة متراكمة أو نص مشابه لنص آخر، إنها كل غير قابل للتجزئة أو الحذف أو التقديم أو التأخير بين مكوناته، ولا بد أن يدرس بناء القصيدة كوحدة واحدة.
المعيار الثاني: المجانية، فهذا الشكل، شكل جديد لا علاقة له بكل أشكال الكتابة المعروفة من نثر وشعر سابقين، ورواية ومسرحية، حتى ولو وظّفَ تقنيات هذه الأشكال، فهو شكل جديد لا غاية له خارج عالمه المغلق، أي، أنه مجاني ولا زماني، غير خاضع لأية أنماط مسبقة، وإن كانت لديه القدرة على احتوائها وإعادة تقديمها ضمن بناء قصيدة النثر ذاتها، برؤية وروح جديدين.
أما المعيار الثالث فهو: الكثافــة، ونعني به ابتعاد هذا الشكل الجديد عن كل خصائص النثر من استطراد وإيضاح وشرح وإطناب، والاستفادة من الخاصية الشعرية في كثافته اللغوية، وإشراقته التعبيرية، متلافية الوعظ الخلقي، والتفصيلات التفسيرية، وكل ما يضر بوحدتها وكثافتها، لأن قوتها الشاعرية تتأتى من تركيب مضيء، يتخذ من الإيجاز مذهبا وأسلوبا(8).
وفي شأن الإيقاع في قصيدة النثر، فإن الهدف منه إيجاد أشكال لا نهائية من الإيقاعات المعتمدة على تباين الحالات الشعورية للمواقف الفردية للمبدع، غير القابلة للتكرار، وتنطلق منه كل قصيدة على حدة، فكل قصيدة تبني إيقاعها المختلف عن غيرها، كأنها بصمة اليد المتفردة، ضمن أفق مفتوح، لا مجال فيه لاتباع قاعدة وزنية منتظمة، أي أن قصيدة النثر تخلو من الوزن المحدد/ العروضي، ولكنها لا تخلو من الإيقاع الذي يميزها عن غيرها من القصائد(9).
ففكرة حصر الإيقاعات خاطئة من أساسها، فلا يمكن حصر الإيقاع في سواكن ومتحركات معدودة، تحسب في معادلات ثابتة، أبدية الطابع، لكنه كالحياة الواسعة بكل ما فيها من صخب وزخم وحركة وألوان وأصوات، فهو حركة حية متكاملة توحّد الشكل والمضمون والمكان والزمن، في أرقى صور التعبير(10).
وفي التعامل النقدي مع قصيدة النثر فإن الناقد يتناول العمل بوصفه وحدة متماسكة الأجزاء، على وعي أن هذه الأجزاء مصبوبا في كلٍ، فيدرسها ويحللها في داخل إطار يجمعها، مقتنعا أن كل عمل فني جيد، إنما هو مطلق كامل في ذاته، وأن التعبير الجمالي المقدم نهائي في تقديمه(11)، لا نهائي في قراءاته وتحليله.
فقراءة النص تعني: رؤية كلية لبنائه، وتحليلا جزئيا لمفرداته وتراكيبه، ودراسة تأويلية لمدلولاته وسياقاته، بحثا عن المنجز الإبداعي الذي يميّز النص، مقارنة بالنصوص الأخرى الموازية.
وهذه القيمة المعيارية للإبداع الشعري، التي تجعله مرهونة بتحقيقه
التجاوز والتخطي، ونزع السقف الإبداعي المقدس الذي يمنح المنتج الشعري هالة تحيط به، وتعطيه سطوة معنوية(12)، تجعلنا نضع نصوصا كنماذج تحتذى ولا ينبغي تخطيها، وهو ما ترفضه قصيدة النثر في رؤيتها للإبداع، بل ما ترفضه حرية الإبداع الحقيقية، التي تهضم السابق، وتسعى إلى تقديم الجديد، بما يشكل ذائقة مختلفة، لا تهمل السابق ولا تحتقره، بل تعيه وتتذوقه، ويصبح جزءا من ذائقتها المتراكمة. فلا مطلقات في الفن، ولا توجد قائمة بالفنون والآداب التي ينبغي على المجتمع أن يقدمها لأفراده بوصفها الأرقى، ولا مجال لتخيل وجود ذائقة واحدة يجتمع عليها أبناء المجتمع الواحد، وتتجلى في فنون مبدعيهم(13). وربما تكون قصيدة النثر المثال الأبرز في تفجير الشكل واللغة، وتقديم أنماط جديدة للذائقة، أملا في لذة جديدة تتولد كلما اكتشف القارئ ما يحفل به النص من إضافة ومغايرة، فيلهث لفهم جمالياتها، وتحليل مدلولاتها. خاصة أن أبرز إنجازاتها في التجربة العربية أنها حسمت ما يسمى الشفهي (الإلقائي) والمكتوب لصالح الأخير، لتنأى بنفسها عن التطريبية والخطابية والمباشرة، وكأنها تستكمل جهود شعرية في قصيدة التفعيلة المركبة، والبعد عن النمطية والرتابة والجمود، وإفساح المجال للتجريبية الشعرية دوما(14).
قصيدة النثر وما بعد الحداثة
قصيدة النثر شكل أدبي، يمكن توظيفه كما شاء المبدع، فهي جزء من الإبداع الشعري الذي يضم عناصر جمال أزلية جوهرية، وعناصر نسبية تتغير مع العصور، ولكن لابد أن تكون قصيدة النثر قصيدة فعلا، وليست مجرد قطعة نثر متقنة إلى حد ما(15)، فعناصر الشعرية من تخييل وتراكيب جديدة وتوهج في الألفاظ وقوة في المشاعر ثابتة، أما المتغير فهو في فكر الشاعر نفسه، الذي يتخذ من قصيدة النثر وعاء لرؤاه وتخيلاته وأفكاره، وهذا نجده في تجربة قصيدة النثر العربية، فمنهم من وظّفها ضمن تيار الرومانسية، مشددا على تعزيز حضور الطبيعة والتخييل في النص، والتحليق في أجواء الروح وتجلياتها، وهناك من تأثر بالتيار السيريالي، مثل جورج حنين المصري الذي كان صديقا لأندريه بريتون وأعلام السيريالية الفرنسية، وجذب إليه صديقه الشاب كامل زهيري الذي كتب قصيدة من الشعر المنثور في سني الأربعينيات من القرن الماضي وتركز السيريالية على نبذ الرقابات التي تعيق الذهن، وإعطاء مكنونات النفس من أحلام ومكبوتات حرية الانطلاق، كما أن هذا الشكل لم يكن بعيدا عن تيار التروتسكية المصرية، خصوصا في بعض توجهاتها الفوضوية(16)، كما عبّرت قصيدة النثر عن أفكار الحزب السوري القومي الاجتماعي، ومؤسسه "أنطون سعادة"، وتجلت إيديولوجيا الحزب على صفحات مجلة شعر، وفي نصوص يوسف الخال وسعيد عقل وأدونيس وخليل حاوي(17)، وبعضهم سعى إلى نفخ الروح في الأساطير السورية القديمة، تماشيا مع رؤية الحزب الإقليمية القومية، وهناك من استنطقها بالطروحات الماركسية، من خلال عرض القضايا الاجتماعية وقضايا البروليتاريا والفلاحين والتجاوب مع الحركات الثورية ذات البعد الماركسي في كوبا وفيتنام(18)، فلما جاء تيار الحداثة خلال سنوات السبعينيات كان بمثابة انقلاب في ثقافتنا المعاصرة، بما فيه من تيار تفجير للغة، ورفض للشاعر الداعية والشاعر المادح وشاعر البلاط والشاعر الشاكي(19) ووجدنا نصوصا تتحدث عن التشكك والتردد ويمعن في الرمزية والأسطورة، يعبر عن وجع العنف
المكبوت، بلغة عالية فخمة(20).
وفي كل هذه المراحل ظلت قصيدة النثر، معبرة عن روح التمرد عما هو سائد، وباتت الشكل الشعري الذي يضم كل ثائر، وربما يعود هذا إلى طبيعة نشأتها المعتمدة على فكرة الرفض للشكلي، والسعي إلى التحرر. كما ترى خالدة سعيد بأن الإبداع يفترض بداية رفض التقليد، وعدم تصور نموج أعلى للشعر، سواء كان في تراثنا أو تراث الآخرين، وتبني لغة البناء في مقابل لغة السلب، ويتمثل الإيجاب في البناء الذي يشكله الشاعر باستيلاده للجديد، فالمبدع يقرأ الواقع الراهن أو الماضي والتراث ويعارض هذا بالحلم وموقعه السلبي من الواقع يتمثل في رؤية المتناقضات مستولدا الجديد(21)، لقد تضمنت قصيدة النثر التعبير عن عالم يموج بالحركة والمراجعات وطرح الأسئلة، وأحد أوجه التمرد في هذا الشكل الشعري نظرته للحقيقة بأنها متحركة وفي دوامة أيضا، حيث توضع المفاهيم كلها موضع الاستفهام على الدوام، ويصبح المدهش رتيبا، فبعدما خلط أينشتاين صنفي المكان والزمان في أعماله، ودخل اللامعقول العلم في نظرية الكم، لم يعد للذهن القدرة على الركون إلى شيء ثابت، في الوقت نفسه الذي يترجم فيه التقدم المادي بتعجيل متواصل للسرعة والتبادلات وتحولات الوجود، وبات الحديث عن تحول مفهوم الحقيقة، بديلا عن أزمة مفهوم الحقيقة، فقد أصبحت الحقيقة أكثر تعقيدا وأقل ثباتا(22) وهي تلتقي مع حركة ما بعد الحداثة Postmodernism، في أوجه عديدة؛ منها: استيعاب قصيدة النثر لكثير من الفنون والعلوم والآداب، ومحاولتها هضمها ضمن رؤيتها للعالم، وهذا ما أكدته ما بعد الحداثة التي رفضت استقلال الفن والعلم والأخلاق والسياسة، كلٌ في مجال منفصل، وسعت إلى إضفاء نزعة جمالية على كل مجالات المعرفة من الفلسفة مرورا بالسياسة وانتهاء بالعلوم(23)، فيمكن فهم ما بعد الحداثة بوصفها تعديا تدريجيا لما هو جمالي على مجالات الفلسفة والأخلاق والعلم، وبوصفها إزاحة تدريجية للاكتشاف والعمق والحقيقة والتواصل والتماسك لصالح التركيب والخيال وسرديات التأمل الذاتي والتشظي الساخر(24)، فأبرز سمات ما بعد الحداثة: اللاحسم، والذاتية، ويندرج تحت الأول (اللاحسم): الابتداع والتعددية والانتقائية والمسخ والتميز وفقدان شديد لليقين المنطقي والوجودي، أما الثاني (الذاتية) فيعني الجانب العقلي، أي: قدرة العقل على الانتشار في العالم أي النظر إلى العالم وقراءته، فتكون له بيئته الخاصة في تلك القراءة، وبذلك يصل اللاحسم إلى التفكيك والهدم، وتصل الذاتية إلى البناء وإعادة التركيب(25).
وبالنظر إلى قصيدة النثر بها نزعة السلب أي الهدم لما هو نسقي شائع، والإيجاب أي البناء لرؤية جديدة، وهذا ما نجده في ما بعد الحداثة، ففيها نزعة تفكيكية للمعرفة، بإعادة قراءتها برؤى وتأويل جديدين، ونزعة أخلاقية تتسم بإعادة البناء، ومنها إنتاج نصوص أدبية تتأمل ذاتها، أي تجعل فعل الكتابة جزءا من موضوع الكتابة نفسه، بجانب تأمل الواقع الراهن(26)، وقصيدة النثر تؤكد على مبدأ التمرد على الوضع الإنساني، وينادي بعض الشعراء بأن يكون التمرد على قوانين اللغة المنطقية وعلى طرق الكلام وبل وطرق التفكير الجاهزة(27)، فهي تنشأ من اتحاد قوتين متناقضتين: قوة فوضوية مدمرة وقوة تنظيمية فنية(28) فهي تتفق مع ما بعد الحداثة في كونها محاولة لإنهاء المعرفية للعلم، والسير نحو نزعة جمالية جديدة في دخول الحقول المعرفية، فالاستراتيجية الأساسية لما بعد الحداثة هي نزعة إضفاء الطابع الجمالي على الأشياء، حيث يتم تقديم العلم كنوع من الخيال، وكأنه أيضا جيش متنقل من الاستعارات(29)، كما تؤكد على النزعة الإنسانية بالتزام إيديولوجي نحو الأقليات والسعي لوحدة عالمية وكون إنساني واحد(30).
إن النقد الأدبي في سياق رؤى ما بعد الحداثة، يبحث سبل تناول النص كموضوع في العالم، والدافع إلى أن يكون حاسما وقاطعا بطريقة مبدعة، وأيضا النظر في النص كتعبير ذاتي لوعي متفرد له مقاصده(31)، هو ما يعني أن النقد ما بعد الحداثي يفسح المجال لقراءة النص وفق منهجية علمية، تعزز من وجود الذات الشاعرة في النص، ورؤيتها للعالم من حولها في ضوء تجربته الخاصة مع الشعر وعلاقته بالعالم من حوله، وكما ترى سوزان برنار بأن الشعر رؤية للعالم وتجربة روحية أكثر مما هو فن ومجموعة طرائق، والتجربة الداخلية للشاعر وموقفه أمام الكون هما اللذان يحددان الشكل الشعري الواجب استخدامه(32)، وفي هذه الحالة فإن الناقد ما بعد الحداثي سيدرس قصيدة النثر على مستوى الشكل المبتكر المقدم فيها بشكل منهجي، في ضوء ما ينضح به النص ويعبر عن ذات الشاعر وتجربته مع الوجود والواقع.
قصيدة النثر في الشعر العربي المعاصر
مرّت قصيدة النثر في منجزها العربي بمراحل عديدة وتحولات مختلفة، وفي كل مرحلة مؤثراتها وأيضا مميزاتها، ربما تكون بداياتها بالتحرر من الإيقاع
الخليلي في فترة مبكرة من القرن التاسع عشر بما أطلق عليه "الشعر المنثور"، في كتابات نقولا فياض، الذي تخلى عن العروض وحافظ على الشعرية بجمالياتها المعتادة، ومع مطلع القرن العشرين، قدّم عدد من كبار الشعراء محاولات في الشعر المنثور، مثل: جبران خليل جبران، خليل مطران، أمين الريحاني، وجورجي زيدان وميخائيل نعيمة، وتوفيق إلياس، وكذلك أحمد شوقي الذي كتب ثلاثة نصوص ضمن كتابه أسواق الذهب. واستمر الحال مع مدرسة أبوللو الشعرية، في بعض كتابات أحمد زكي أبو شادي، وازداد العدد تدريجيا مع كتابات: مي زيادة وحبيب سلامة ورشيد نخلة، إلا أن اكتمل مع كتابات حسين عفيف (1902-1979م)، الذي قدّم مشروعا شعريا متكاملا بدءا من ديوان "مناجاة" (1936م)، مع كتاب نقدي عن رؤيته حول الشعر المنثور والتي تنحصر في أهمية التحرر من الأوزان العروضية، ثم تجربة ديوان " بلوتولاند " للويس عوض في خمسينيات القرن العشرين محتذيا قصيدة "الأرض الخراب" لـ"إليوت"(33).
والملاحظ أن هذه التجارب أبانت عدة أمور، أولها: إنها دالة على وعي مبكر لدى شعراء ما يسمى الكلاسيكية الجديدة والرومانسية ومدرسة المهجر، بأن هناك عوائق أو قيود في الشكل العروضي المتوارث، وأن التحرر يفضي إلى مزيد من الانطلاق في الشعرية وفي آفاق نفسية وروحية وجمالية جديدة.
ثانيها: إنها اقتصرت على التحرر من العروض، وظلت جماليات الشعرية العربية المتوارثة هي المسيطرة على وعي هؤلاء الرواد، فيما يسمى قواعد الشعر، من حيث هو جنس أدبي لا صفة للكلام وهي القواعد التي سيطرت على تفكير القدامى وممارستهم للنصوص وبرزت في بحوثهم ورؤاهم، فيما أتاه من تفصيل لكيفيات القول الشعري وخصائصه وبنيته ولمظاهر الإجادة أو الرداءة فيه حتى أفضت آراؤهم إلى ما اصطلح عليه – عندهم بعمود الشعر(34)، وهو طبيعي، بحكم قرب هؤلاء الشعراء زمنيا من مدرسة الإحياء الشعري الجديدة على يد محمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم وشوقي .. إلخ، وهذا لا يمنع من طرح هؤلاء الرواد رؤى ومضامين جديدة في تجاربهم في الشعر المنثور، مثلت –بلا شك– رصيدا مضافا لمن جاء بعدهم، خاصة أنهم ركزوا في تنظيراتهم حول ذاك الاتجاه على الاعتناء بالخيالي والتكثيف اللغوي واستثارة مخيلة القارئ.
العشرين (حقبة الخمسينيات)، ظهرت مجلة "شعر" في بيروت، حيث كتب توفيق صائغ نماذج مما أطلق عليه الشعر الحر، وكان امتدادا للمدرسة الأنجلو ساكسكونية، سائرا على خطى إليوت، وجاء بعده محمد الماغوط، الذي لم يكن يعرف لغة أجنبية، ولكنه قرأ النصوص المترجمة، وهضمها جيدا، واستطاع بموهبته البارعة أن يبدع نصوصا لقصيدة النثر، متأثرا بما اطلع عليه في المدرسة الفرنسية، وهو ما جنحت به جماعة "شعر" بعد ذلك، حيث كانت جاءت نصوص أنسي الحاج (1957م)، وأدونيس (1958م)، ثم شوقي أو شقرا، ويوسف الخال، وفؤاد رفقة من لبنان وسورية، وإبراهيم شكر الله مصر، مع نشر مقتطفات من كتاب سوزان برنار في مجلة شعر، تدعيما للتوجه الفرنسي، وإن انحاز يوسف الخال إلى النموذج الأمريكي وتابعه توفيق صائغ وجبرا إبراهيم جبرا(35)، وإن خبت الكتابة بقصيدة النثر بعض الوقت، خلال سنوات الستينيات من القرن العشرين، بفعل تشكك كثير من الأدباء في توجهات مجلة "شعر" التي كانت مضادة لتيار القومية العربية، وكون النماذج المصاغة لها مجانية الطابع، قليلة الإبداع، فلم تجذب المزيد من الشعراء، خاصة مع تغييب النص خلف الأسطوري والكوني(36)، فبدا الأمر مضادا لتيار الشعر المواكب لصعود المد الثوري والقومي، وبعد هزيمة 1967م، وخلال سنوات السبيعينيات ظهرت قصائد نثرية مصاحبة لتيار شعر التفعيلة الحداثي، مستفيدة من الظرف التاريخي للأمة، وخفوت الحلم القومي، وإن طغى عليه تهويمات الحدس الصوفي والميتافيزيقا وازدحامه بالرموز الكونية والأسطورية وفكرة الشاعر النبي والعراف حيث الإغراق في الكونية والاغتراب، فتحولت لغة القصيدة إلى لغة فوق مجتمعية كهنوتية لها طقوسها وعلاقاتها التركيبية، متأثرة بتيار الحداثة وفكرة تفجير اللغة أو تدمير الدلالة والبحث عن دلالة جديدة(37).
غير أن قصيدة النثر عادت للانتعاش بقوة مع مطلع سنوات التسعينيات من القرن العشرين، متخذة منحى مختلفا يمثل تمردا واضحا على تيار السبعينيات والثمانينيات الشعري، الذي غيّب الرؤية والدلالة خلف تراكمات البلاغة، واعتمدت قصيدة النثر الجديدة موقفا مضادا للإيديولوجيا، فالشاعر يطرح أسئلة فقط، دون امتلاك الإجابة عنها، أو يعرض مواقف وقضايا ويشتبك مع الواقع دون أن يملك إمكانية لتغييره أو معرفة أسباب تشكله بشكل كامل؛ في حين أن الإيديولوجيا بها يقينية تجعل صاحبها لديه إجابات عن أسئلة متعددة يطرحها الشاعر إبداعيا، وهذا لم يجده شعراء قصيدة النثر الجديدة في الشعر المؤدلج، ففضلوا الرفض التام للأدلجة(38)، مؤكدين عدم امتلاك الشاعر وأيضا الإنسان المعاصر تصورا شاملا عن العالم، رافضين الغنائية بمفهومها التقليدي، والبلاغة المتوارثة، ساعين إلى بناء كلي للنص، وتأسيس بلاغة جديدة، مقتربين من لغة اليومي والمعيش والشارع، وعرض اشتباكات الذات الشاعرة مع ما حولها.
وهكذا مرت قصيدة النثر بتحولات في الأدب العربي الحديث، بدأت بالشعر المنثور، وما يسمى النثر المشعور أو النثر الشعري، وبعض المحولات بقيت نثرا وإن اصطبغ بطابع الشعرية في تخييله ورؤاه، وبعضها اقترب من النثرية في بساطتها
وتقريريتها، وتنافس في هذه التجارب شعراء عديدون، منهم من جاء من رحم القصيدة العمودية، وآخرون من انتقلوا إليها بعد تجربة مع شعر التفعيلة. والبعض القليل بدأ بقصيدة النثر مباشرة بعد تجارب يسيرة في الشعر الموزون، آخذين في الحسبان أن هناك ممن أبدعوا في هذا الشكل ؛ قد تأثروا بشكل مباشر بالنماذج الغربية لقصيدة النثر، وهناك من انطلق من أعماقه، في ضوء صيحات التيار الرومانسي، مستشعرًا قيود الوزن والقافية فأراد مزيدا من التحرر، كي ينطلق إلى الشاعرية في أوّجها دون قيود شكلانية أو نغمية تقليدية، وصولا إلى شكل قصيدة النثر في العقود الأخيرة، التي هي قصيدة قبل كل شيء، فيها " الحصر، والإيجاز، وشدة التأثير والوحدة العضوية"(39)، وفيها من الشعرية والشاعرية والرؤى الفلسفية التي تجعلها مغايرة عن التجارب الشعرية السابقة، ومكملة لمسيرة الشعرية في الأدب العالمي، بما يعنيه هذا من إضافة إبداعية، تنفتح على كل أشكال الفن المختلفة، وتصهرها في بنيتها الجمالية. إن هذا يجعل خريطة كتابة الشعر المنثور أو الحر في الأدب العربي الحديث ذات عمق زمني، وامتداد مكاني.
والراصد الآن لحركة الشعرية العربية المعاصرة، يجد طغيانا لكتابة لقصيدة النثر وتراجعا حادا لشعر التفعيلة، في مصر والمغرب العربي والشام والعراق والخليج العربي، مما يشير إلى صهر حركة الإبداع العربي المعاصر لقصيدة النثر العالمية ضمن بوتقتها، فلم تعد كائنا غريبا أو دخيلا أو لقيطا، في الوقت الذي تطلع فيه شعراء قصيدة النثر إلى عمق التراث العربي، فاستمدوا من متونه إيحاءات غنية، ويكفي استحضار كتابات الحلاج والجاحظ والتوحيدي والمحاسبي وإشراقات الصوفيين مثل ابن عربي والنفري وغيرهم، لمزجها في تجاربهم، لتكوين لغة شعرية جديدة، تتكئ على إبداعات تراثية(40)، مما يرسخ التجربة، ويميزها عربيا وأيضا عالميا.
فإذا تمت دراسة هذه المسيرة، لوجدنا ترسيخا تدريجيا لهذا الشكل الشعري، بما يجعلنا نرد على من يراه لقيطا أو دخيلا، وما يجعلنا نضيفه مطمئنين إلى تراكمات الإبداع الشعري العربي المعاصر، دون أن نعيد إنتاج خطاب التشكيك والإقصاء، الذي لن يجدي نفعا مع الإبداع المشرق والمتوهج لقصيدة النثر العربية.
ولا عجب أن نجد أن ملامح قصيدة النثر العربية تتسق كثيرا مع جماليات مثيلاتها في الغرب، فنرصد في قصيدة النثر العربية: اللغة المشهدية الساعية نحو تحقيق المفارقة المدهشة، وبها كثافة واختزال في اللفظ تقترب من البللورية، وتنحو في بنائها نحو إيقاع مفاجئ يقوم على التوسل بالشيء المتوقع ليفاجئ القارئ باللامتوقع، بجانب ظاهرة التمركز حول الذات الشاعرة، التي لا تحفل بشيء حولها، وتميل إلى التمرد في أقصى مظاهره واختراق التابوهات عبر الجسدانية أو الاحتفاء بالحاجات البيولوجية للجسد، والنزعة الاعترافية الساعية نحو تحقيق الصدمة(41)، ورفض الشكل أو الثبات على شكل ما، أملا في تحويل القصيدة إلى حركة وتوثب، ضد الكبح والثبات الذي نجده في القصيدة التقليدية، وهي حركة تجمع المستوى الدلالي الرافض والمتجاوز والمستوى البنائي والتشكيلي، أملا في تحرير القدرة
الهائلة للشاعر وحصول انصهار بين الطرح والرؤية من جانب والأداة الشعرية من جانب آخر(42)، وهذا يجعلنا نرصد عشرات الأشكال والرؤى المتجلية في إبداع قصيدة النثر العربية، والتي تشكل إضافة حقيقية لمنجزها الجمالي.
وعلينا أن نأخذ في الحسبان أن التعامل مع إنتاج النص الشعري الحداثي بشكل عام يختلف في طريقة إنتاجه عن الشعر القديم الذي كان ينطلق من الخارج أي من مثير خارجي فيه مكونات واقعية وخيالية، يستتبعه نشاط في أعماق الشاعر، يتحقق فيها تفاعل ذهني ونفسي وهو تفاعل غير متوازن تكون الغلبة فيه للمنطقة الداخلية، التي تعيد تشكيل الخارج (المثير الخارجي) ليتوافق معها، وتكون المرحلة الأخيرة في ارتداد المنطقتين السابقتين (الخارج والداخل) إلى الخارج عبر إلقاء النص في تشكيل صياغي له جمالياته وينتظر رأي متلقيه(43). أما شعر الحداثة وما بعدها فإنه يعتمد على " الحالة" وهي عملية نفسية إدراكية في الأساس، يضعف فيها الخارج بشكل كامل، ويعيش الشاعر لحظته ثم يعبر عنها، فالشاعر يخوض في حالته التجربة ثم الثنائية في الموقف بين الخارج والداخل، ومن ثم تعتمل في نفسه الحالة التي لا تعرف ثباتا(44)، فهو في عملية تأمل دائم ومخاض مستمر لإنتاج الشعرية، عبر قراءته للواقع والفنون والأفكار.
وهذا يعني أن الشاعر غير منتظر لمثير خارجي، تجعله ينفعل، ويعيش خضم تجربة نفسية، قبل أن ينثرها على الورق شعرا، وإنما هو في حالة مستمرة من الانفعال، في يقظته ونومه، في سكونه وهياجه، لأنه يقرأ الواقع في جزئياته وتفصيلاته بصفة مستمرة، ومن ثم يصوغ واقعه ومواقفه شعرا.
وقد أضافت قصيدة النثر العربية ملامح ميزت تجربتها جماليا، من مثل: التوجه ذي الملمح السيريالي، حيث اللغة تتحرك في علاقات على صعيد الصور والجمل والتراكيب متصادمة غير مألوفة، ومتدفقة دون حواجز. وقصيدة الاختزال أو كما سميت قصيدة البياض، فالجملة الشعرية تتحاور مع فراغ الصفحة، منفتحة على إيحاءات ودلالات مفتوحة. والقصيدة التي تفلتت من البلاغة التقليدية لترسم بين عناصر القصيدة علاقات غير مأسورة بنمط أو بذاكرة نهائية. والقصيدة القائمة على توليفة عناصر وجمل دون توليف ظاهر، وإنما جمل متوازية بينها مناخ واحد. والقصيدة المقتصدة ذات الإيماءات المشرعة. والقصيدة المطولة التي تستخدم عناصر متعددة لتغذية إيقاعاتها وضبط بنيتها سواء منها ما تدفق أو ما التئم في حركة جامعة. القصيدة القصصية التي تجمع بين السردية والشعرية في بناء حكائي مفتوح(45)، وتخرج من هذه الملامح النماذج السهلة والنمطية والمبسطة والمصطنعة، التي جعلت البعض يرى المشهد من هذه الزاوية المربكة والمزعجة، فيصدر أحكاما سلبية، ولكن نجاح النماذج الجيدة، الفياضة بالشاعرية، كاف لتحقق الوجود(46).
يقال هذا ردا على من اتهم قصيدة النثر بأنها بلا معايير واضحة، وأنها فوضى وعبثية، لا يمكن الحكم عليها وفق منهجية شعرية واضحة، مما يدفع إلى اللا شكل واللا قصيدة واللا نوع، وهذا ناتج عن كون قصيدة النثر شعرا يتحرك في فضاء واسع من الحرية الفردية، بلا حواجز، وأية تنظيرات تواكب منجزها الإبداعي تظل أطرا، تحتاج لمن يتجاوزها(47)، فــ"القصيدة الحية لا تحتاج إلى مقياس، ونجاح القصيدة لا يرتبط بأية نظريات، بل بقدرتها على أخذك وإدهاشك وإقناعك بأنها تحوي إبداعا طازجا"(48).
فأهلا بالتنظيرات والمعايير والأنماط التي يضعها النقاد والباحثون مواكبين بها إبداع قصيدة النثر، ولكن هناك من الشعراء من سيتمرد على هذه التنظيرات، وهناك من النقاد من سيرصد هذا التمرد، ومن تمرد إلى رصد إلى تمرد، تأتي مسيرة الإبداع عامة، وقصيدة النثر خاصة.
* * *
[email protected]
الهوامش
(1) انظر للمزيد في هذا الشأن: مجلة إبداع القاهرة، عدد مارس 1996م، مقالة: د. علي عشري زايد، إن كان هذا شعرا فكلام العرب باطل، ص25، ومقال: كمال نشأت، شعر الحياة اليومية، ص55.
(2) قصيدة النثر العربية، رفعت سلام، بحث بمجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، صيف 1997م، ص309، وقد أشار الباحث إلى أن أحد شعراء التفعيلة ( أحمد عبد المعطي حجازي ) حاول احتضان قصيدة النثر وضمها لشجرة أنساب الشعر العربي التي تنتهي بشوقي. ص312 .
(3) قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، سوزان برنار، ترجمة: د. زهير مجيد مغامس ،سلسلة آفاق الترجمة، منشورات الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط2، ديسمبر 1996م، ص16.
(4) المرجع السابق، ص17.
(5) فلسفة الجمال، أعلامها ومذاهبها، د. أميرة حلمي مطر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، ص219.
(6) المرجع السابق، ص218.
(7) قراءة في التجربة الشعرية، د.أمجد ريان، مجلة الكتابة الأخرى، القاهرة، العدد (2)، فبراير 1994م، ص50.
(8) قصيدة النثر، سوزان برنار، م س، ص18، 19، بإسهاب من الباحث.
(9) قصيدة الشعر الحر/ النثر، د. جابر عصفور، مجلة دبي الثقافية، العدد (45)، فبراير 2009م، ص102.
(10) القصيدة الحرة: معضلاتها الفنية، وشرعيتها التراثية، محيي الدين اللاذقاني، بحث منشور في مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997م، ص43.
(11) علم الجمال والنقد الحديث، د. عبد العزيز حمودة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999م، ص49.
(12) انظر للمزيد: تحطيم الشكل .. خلق الشكل، دراسات في الشعر المصري المعاصر، د.صلاح السروي، سلسلة كتابات نقدية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ص19-21.
(13) علم الجمال والنقد الحديث، م س، ص90.
(14) مقدمة في قصيدة النثر العربية، بول شاوول، بحث بمجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، صيف 1997م، ص159.
(15) علم الجمال والنقد الحديث، م س، ص241.
(16) قصيدة الشعر الحر/ المنثور، م س، ص102، 103، وقصيدة النثر من بودلير إلى يومنا، ص213، حيث تذكر سوزان برنار إلى وجود واضح للسيريالية قصائد النثر الفرنسية.
(17) تواشجات الإيديولوجيا والحداثة: أنطون سعادة وأدونيس، شربل داغر، بحث بمجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، خريف 1997م، ص150.
(18) السابق، ص166، يذكر أن قصيدة النثر كشكل شعري كانت وعاء للتعبير الشعري جنبا إلى جنب مع شعر التفعيلة والشعر العمودي، كما نجد في شعر بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، ومعين بسيسو.
(19) السابق، ص165.
(20) السابق، ص169.
(21) حركية الإبداع، خالدة سعيد، دار العودة، بيروت، 1979م، ص12، 14.
(22) قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا، م س، ص199.
(23) ما بعد الحداثة، باتريشيا ووه، ترجمة: شعبان مكاوي، موسوعة كمبريدج في النقد الأدبي، القرن العشرون: المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية، تحرير: ك. نلوولف، ك.نوريس، ج. أوزبورن، مراجعة وإشرافرضوى عاشور، ص417.
(24) السابق، ص419.
(25) الحداثة وما بعد الحداثة، إعداد وتقديم: بيتر بروكر، ترجمة: د. عبد الوهاب علوب، منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي، ط1، 1995، ص31، ويعود هذا الرأي إلى المفكر الأمريكي المصري الأصل إيهاب حسن.
(26) ما بعد الحداثة، باتريشيا ووه، م س، ص418.
(27) قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا، م س، ص219.
(28) السابق، ص241.
(29) ما بعد الحداثة، باتريشيا ووه، م س، ص434، 435.
(30) الحداثة وما بعد الحداثة، بيتر بروكر، ص32، 33.
(31) السابق، ص435.
(32) قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا، م س، ص245.
(33) قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، عبد العزيز موافي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004م، ص18، 19.
(34) جماليات الألفة: النص ومتقلبه في التراث النقدي، شكري المبخوت، منشورات بيت الحكمة، تونس 1993م، ص79.
(35) قصيدة الشعر الحر/ النثر، م س، ص103.
(36) قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، ص20.
(37) السابق، ص22.
(38) السابق، ص23.
(39) قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا، م س، ص24.
(40) مقدمة في قصيدة النثر العربية، بول شاوول، م س، ص158، وقد أشار " شاوول " إلى أن الخريطة الإبداعية العربية المعاصرة تحصي 99% من الشعراء يكتبون قصيدة النثر، وهذه نسبة قد مبالغ فيها، في ضوء غياب توثيق رسمي ومرجعية لهذه النسبة، أو أن مقصد "شاوول" ينصرف إلى الشعراء الشبان.
(41) تحطيم الشكل .. خلق الشكل، م س، ص168.
(42) السابق، ص158.
(43) مصادر إنتاج الشعرية، د. محمد عبد المطلب، مجلة فصول، صيف 1997م، ص52.
(44) السابق، ص57.
(45) مقدمة في قصيدة النثر العربية، بول شاوول، م س، ص159، 160.
(46) قصيدة النثر بوابة للعبودية أيضا، حوار مع الشاعر المصري فتحي عبد السميع، حاوره السيد العديسي، مجلة الشعر المصرية، العدد 139، خريف 2010 م، ص59.
(47) مقدمة في قصيدة النثر العربية، بول شاوول، م س، ص161.
(48) قصيدة النثر بوابة للعبودية أيضا، مقولة لفتحي عبد السميع، م س، ص60.
ما بعد الحداثة وقصيدة النثر
رؤية في المنجز الشعري العربي
مصطفى عطية جمعة
باتت قصيدة النثر شكلا أدبيا مستقرًا، في رسوخها منذ أكثر من قرن في المشهد الشعري العالمي، ومنذ ما يزيد عن نصف قرن في المشهد الشعري العربي، متخطية في مسيرتها كثيرا من الاتهامات التي تراوحت ما بين إبعادها عن الشعر كلية وإلحاقها بالنثر كأحد فنونه، متخذين من الإيقاع الشعري مقياسا لها، وما بين رفض وجودها من أساسه، باعتبار أنها تعبر عن فلسفات وجماليات لا تقبلها الذائقة، وافتقادها أسسا وإطارات نظرية يمكن الرجوع إليها عند الحكم على إبداع النص نفسه، وقد توقفت الرؤى المنتقدة عند النماذج الضعيفة لقصيدة النثر في نصوص معبرة عن الحياة اليومية، وفيها بعض التراكيب التي قد تفسد الذوق وتتعرض مع الأخلاق، وتبث أفكار قد تخالف العرف والدارج، مؤكدة على رفضها إقحام هذا الشكل النثري بعالم الشعر الموزون(1)، مع اتهامات بإفساد اللغة والخروج على التراث، والانسياق وراء المستورد والغموض، والبعض رفق به واعتبره شعرا منقوصا، وتراصت جبهة نقدية شعرية ضده، فاختلط النقد الموضوعي والفني بالجانب الذاتي الشخصي، وكأنه محاولة لتثبيت الزمن عند جيل بعينه(2). وسنسعى في هذه الدراسة إلى مناقشة علاقة قصيدة النثر بما بعد الحداثة رؤيويا وجماليا.
قصيدة النثر، المفهوم والطرح
نبتت فكرة قصيدة النثر من مفهوم "الفوضوية والهدم" بدلالتيهما الإيجابية التي تعني: التمرد على الشكل واللغة، فالتمرد على الشكل يتمثل في التحرر من قوانين علم العروض وإيقاعاته وأوزانه المختلفة، أملا في إيجاد إيقاع جديد يستشفه المتلقي من النص وتوهج تراكيبه، وإيحاء مفرداته، والتمرد على اللغة كي تعبر عن عالم غامض يحمله الشاعر بين جنباته، فهو يريد أن يذهب إلى ما وراء اللغة باستخدام اللغة، وتحطيم الأشكال (السابقة) لإيجاد أشكال جديدة(3).
وربما يسيء البعض فهم فكرتي الفوضوية والهدم، ويرى أنهما تحملان ما هو أكبر من الإقصاء، إنه الهدم ذاته، ولكن المتأمل لهذا المعنى يجد أن الهدف ليس التدمير بدلالة المحو والإفناء، وإنما التحرر من إسار التقاليد الشعرية السابقة، والسعي إلى إيجاد رؤى إبداعية جديدة، لن تتحول إلى تقاليد، لأن هناك من سيحطمها ليأتي هو بالمستجد عنها وهكذا دواليك، وعلى حد تعبير سوزان برنار: "إذا كان في نقطة البدء تمرد وفوضى، فإن في نهايتها على الدوام تبلورٌ في قصيدة.. وسيؤول بنا الأمر إلى أشكال شعرية مختلفة للغاية"(4).
وهذا ناتج عن رؤية فلسفية عميقة، تنظر إلى الفن الحديث بوصفه حقيقة أخرى مخالفة كلَّ المخالفة لحقائق الحياة الإنسانية العادية، فالفنان حين يبدع، يضيف إلى الواقع شيئا جديدا، ولا يأخذ منه(5). ومن هنا زادت حرية الفنان في اختياراته لنقاط بدئه، مستفيدا من تحرره من قيود المنطق العقلي القديم، مؤمنا بمنطق يقبل التطور والحركة والتناقض
وما هو عابر، بحثا عن علاقة جديدة بالوجود من حوله(7).
ذلك من البعد الفلسفي والنفسي والوجودي لدى الشاعر، أما من حيث المعيار الفني، فإن سوزان برنار حددته بثلاثة معايير، تبدأ بمعيار ثابت فنيا وهو: "الوحدة العضوية " فقصيدة النثر شأنها شأن أي نص إبداعي آخر، عبارة عن بناء يصدر عن إرادة إبداعية واعية لدى المبدع، وليس مجرد مادة متراكمة أو نص مشابه لنص آخر، إنها كل غير قابل للتجزئة أو الحذف أو التقديم أو التأخير بين مكوناته، ولا بد أن يدرس بناء القصيدة كوحدة واحدة.
المعيار الثاني: المجانية، فهذا الشكل، شكل جديد لا علاقة له بكل أشكال الكتابة المعروفة من نثر وشعر سابقين، ورواية ومسرحية، حتى ولو وظّفَ تقنيات هذه الأشكال، فهو شكل جديد لا غاية له خارج عالمه المغلق، أي، أنه مجاني ولا زماني، غير خاضع لأية أنماط مسبقة، وإن كانت لديه القدرة على احتوائها وإعادة تقديمها ضمن بناء قصيدة النثر ذاتها، برؤية وروح جديدين.
أما المعيار الثالث فهو: الكثافــة، ونعني به ابتعاد هذا الشكل الجديد عن كل خصائص النثر من استطراد وإيضاح وشرح وإطناب، والاستفادة من الخاصية الشعرية في كثافته اللغوية، وإشراقته التعبيرية، متلافية الوعظ الخلقي، والتفصيلات التفسيرية، وكل ما يضر بوحدتها وكثافتها، لأن قوتها الشاعرية تتأتى من تركيب مضيء، يتخذ من الإيجاز مذهبا وأسلوبا(8).
وفي شأن الإيقاع في قصيدة النثر، فإن الهدف منه إيجاد أشكال لا نهائية من الإيقاعات المعتمدة على تباين الحالات الشعورية للمواقف الفردية للمبدع، غير القابلة للتكرار، وتنطلق منه كل قصيدة على حدة، فكل قصيدة تبني إيقاعها المختلف عن غيرها، كأنها بصمة اليد المتفردة، ضمن أفق مفتوح، لا مجال فيه لاتباع قاعدة وزنية منتظمة، أي أن قصيدة النثر تخلو من الوزن المحدد/ العروضي، ولكنها لا تخلو من الإيقاع الذي يميزها عن غيرها من القصائد(9).
ففكرة حصر الإيقاعات خاطئة من أساسها، فلا يمكن حصر الإيقاع في سواكن ومتحركات معدودة، تحسب في معادلات ثابتة، أبدية الطابع، لكنه كالحياة الواسعة بكل ما فيها من صخب وزخم وحركة وألوان وأصوات، فهو حركة حية متكاملة توحّد الشكل والمضمون والمكان والزمن، في أرقى صور التعبير(10).
وفي التعامل النقدي مع قصيدة النثر فإن الناقد يتناول العمل بوصفه وحدة متماسكة الأجزاء، على وعي أن هذه الأجزاء مصبوبا في كلٍ، فيدرسها ويحللها في داخل إطار يجمعها، مقتنعا أن كل عمل فني جيد، إنما هو مطلق كامل في ذاته، وأن التعبير الجمالي المقدم نهائي في تقديمه(11)، لا نهائي في قراءاته وتحليله.
فقراءة النص تعني: رؤية كلية لبنائه، وتحليلا جزئيا لمفرداته وتراكيبه، ودراسة تأويلية لمدلولاته وسياقاته، بحثا عن المنجز الإبداعي الذي يميّز النص، مقارنة بالنصوص الأخرى الموازية.
وهذه القيمة المعيارية للإبداع الشعري، التي تجعله مرهونة بتحقيقه
التجاوز والتخطي، ونزع السقف الإبداعي المقدس الذي يمنح المنتج الشعري هالة تحيط به، وتعطيه سطوة معنوية(12)، تجعلنا نضع نصوصا كنماذج تحتذى ولا ينبغي تخطيها، وهو ما ترفضه قصيدة النثر في رؤيتها للإبداع، بل ما ترفضه حرية الإبداع الحقيقية، التي تهضم السابق، وتسعى إلى تقديم الجديد، بما يشكل ذائقة مختلفة، لا تهمل السابق ولا تحتقره، بل تعيه وتتذوقه، ويصبح جزءا من ذائقتها المتراكمة. فلا مطلقات في الفن، ولا توجد قائمة بالفنون والآداب التي ينبغي على المجتمع أن يقدمها لأفراده بوصفها الأرقى، ولا مجال لتخيل وجود ذائقة واحدة يجتمع عليها أبناء المجتمع الواحد، وتتجلى في فنون مبدعيهم(13). وربما تكون قصيدة النثر المثال الأبرز في تفجير الشكل واللغة، وتقديم أنماط جديدة للذائقة، أملا في لذة جديدة تتولد كلما اكتشف القارئ ما يحفل به النص من إضافة ومغايرة، فيلهث لفهم جمالياتها، وتحليل مدلولاتها. خاصة أن أبرز إنجازاتها في التجربة العربية أنها حسمت ما يسمى الشفهي (الإلقائي) والمكتوب لصالح الأخير، لتنأى بنفسها عن التطريبية والخطابية والمباشرة، وكأنها تستكمل جهود شعرية في قصيدة التفعيلة المركبة، والبعد عن النمطية والرتابة والجمود، وإفساح المجال للتجريبية الشعرية دوما(14).
قصيدة النثر وما بعد الحداثة
قصيدة النثر شكل أدبي، يمكن توظيفه كما شاء المبدع، فهي جزء من الإبداع الشعري الذي يضم عناصر جمال أزلية جوهرية، وعناصر نسبية تتغير مع العصور، ولكن لابد أن تكون قصيدة النثر قصيدة فعلا، وليست مجرد قطعة نثر متقنة إلى حد ما(15)، فعناصر الشعرية من تخييل وتراكيب جديدة وتوهج في الألفاظ وقوة في المشاعر ثابتة، أما المتغير فهو في فكر الشاعر نفسه، الذي يتخذ من قصيدة النثر وعاء لرؤاه وتخيلاته وأفكاره، وهذا نجده في تجربة قصيدة النثر العربية، فمنهم من وظّفها ضمن تيار الرومانسية، مشددا على تعزيز حضور الطبيعة والتخييل في النص، والتحليق في أجواء الروح وتجلياتها، وهناك من تأثر بالتيار السيريالي، مثل جورج حنين المصري الذي كان صديقا لأندريه بريتون وأعلام السيريالية الفرنسية، وجذب إليه صديقه الشاب كامل زهيري الذي كتب قصيدة من الشعر المنثور في سني الأربعينيات من القرن الماضي وتركز السيريالية على نبذ الرقابات التي تعيق الذهن، وإعطاء مكنونات النفس من أحلام ومكبوتات حرية الانطلاق، كما أن هذا الشكل لم يكن بعيدا عن تيار التروتسكية المصرية، خصوصا في بعض توجهاتها الفوضوية(16)، كما عبّرت قصيدة النثر عن أفكار الحزب السوري القومي الاجتماعي، ومؤسسه "أنطون سعادة"، وتجلت إيديولوجيا الحزب على صفحات مجلة شعر، وفي نصوص يوسف الخال وسعيد عقل وأدونيس وخليل حاوي(17)، وبعضهم سعى إلى نفخ الروح في الأساطير السورية القديمة، تماشيا مع رؤية الحزب الإقليمية القومية، وهناك من استنطقها بالطروحات الماركسية، من خلال عرض القضايا الاجتماعية وقضايا البروليتاريا والفلاحين والتجاوب مع الحركات الثورية ذات البعد الماركسي في كوبا وفيتنام(18)، فلما جاء تيار الحداثة خلال سنوات السبعينيات كان بمثابة انقلاب في ثقافتنا المعاصرة، بما فيه من تيار تفجير للغة، ورفض للشاعر الداعية والشاعر المادح وشاعر البلاط والشاعر الشاكي(19) ووجدنا نصوصا تتحدث عن التشكك والتردد ويمعن في الرمزية والأسطورة، يعبر عن وجع العنف
المكبوت، بلغة عالية فخمة(20).
وفي كل هذه المراحل ظلت قصيدة النثر، معبرة عن روح التمرد عما هو سائد، وباتت الشكل الشعري الذي يضم كل ثائر، وربما يعود هذا إلى طبيعة نشأتها المعتمدة على فكرة الرفض للشكلي، والسعي إلى التحرر. كما ترى خالدة سعيد بأن الإبداع يفترض بداية رفض التقليد، وعدم تصور نموج أعلى للشعر، سواء كان في تراثنا أو تراث الآخرين، وتبني لغة البناء في مقابل لغة السلب، ويتمثل الإيجاب في البناء الذي يشكله الشاعر باستيلاده للجديد، فالمبدع يقرأ الواقع الراهن أو الماضي والتراث ويعارض هذا بالحلم وموقعه السلبي من الواقع يتمثل في رؤية المتناقضات مستولدا الجديد(21)، لقد تضمنت قصيدة النثر التعبير عن عالم يموج بالحركة والمراجعات وطرح الأسئلة، وأحد أوجه التمرد في هذا الشكل الشعري نظرته للحقيقة بأنها متحركة وفي دوامة أيضا، حيث توضع المفاهيم كلها موضع الاستفهام على الدوام، ويصبح المدهش رتيبا، فبعدما خلط أينشتاين صنفي المكان والزمان في أعماله، ودخل اللامعقول العلم في نظرية الكم، لم يعد للذهن القدرة على الركون إلى شيء ثابت، في الوقت نفسه الذي يترجم فيه التقدم المادي بتعجيل متواصل للسرعة والتبادلات وتحولات الوجود، وبات الحديث عن تحول مفهوم الحقيقة، بديلا عن أزمة مفهوم الحقيقة، فقد أصبحت الحقيقة أكثر تعقيدا وأقل ثباتا(22) وهي تلتقي مع حركة ما بعد الحداثة Postmodernism، في أوجه عديدة؛ منها: استيعاب قصيدة النثر لكثير من الفنون والعلوم والآداب، ومحاولتها هضمها ضمن رؤيتها للعالم، وهذا ما أكدته ما بعد الحداثة التي رفضت استقلال الفن والعلم والأخلاق والسياسة، كلٌ في مجال منفصل، وسعت إلى إضفاء نزعة جمالية على كل مجالات المعرفة من الفلسفة مرورا بالسياسة وانتهاء بالعلوم(23)، فيمكن فهم ما بعد الحداثة بوصفها تعديا تدريجيا لما هو جمالي على مجالات الفلسفة والأخلاق والعلم، وبوصفها إزاحة تدريجية للاكتشاف والعمق والحقيقة والتواصل والتماسك لصالح التركيب والخيال وسرديات التأمل الذاتي والتشظي الساخر(24)، فأبرز سمات ما بعد الحداثة: اللاحسم، والذاتية، ويندرج تحت الأول (اللاحسم): الابتداع والتعددية والانتقائية والمسخ والتميز وفقدان شديد لليقين المنطقي والوجودي، أما الثاني (الذاتية) فيعني الجانب العقلي، أي: قدرة العقل على الانتشار في العالم أي النظر إلى العالم وقراءته، فتكون له بيئته الخاصة في تلك القراءة، وبذلك يصل اللاحسم إلى التفكيك والهدم، وتصل الذاتية إلى البناء وإعادة التركيب(25).
وبالنظر إلى قصيدة النثر بها نزعة السلب أي الهدم لما هو نسقي شائع، والإيجاب أي البناء لرؤية جديدة، وهذا ما نجده في ما بعد الحداثة، ففيها نزعة تفكيكية للمعرفة، بإعادة قراءتها برؤى وتأويل جديدين، ونزعة أخلاقية تتسم بإعادة البناء، ومنها إنتاج نصوص أدبية تتأمل ذاتها، أي تجعل فعل الكتابة جزءا من موضوع الكتابة نفسه، بجانب تأمل الواقع الراهن(26)، وقصيدة النثر تؤكد على مبدأ التمرد على الوضع الإنساني، وينادي بعض الشعراء بأن يكون التمرد على قوانين اللغة المنطقية وعلى طرق الكلام وبل وطرق التفكير الجاهزة(27)، فهي تنشأ من اتحاد قوتين متناقضتين: قوة فوضوية مدمرة وقوة تنظيمية فنية(28) فهي تتفق مع ما بعد الحداثة في كونها محاولة لإنهاء المعرفية للعلم، والسير نحو نزعة جمالية جديدة في دخول الحقول المعرفية، فالاستراتيجية الأساسية لما بعد الحداثة هي نزعة إضفاء الطابع الجمالي على الأشياء، حيث يتم تقديم العلم كنوع من الخيال، وكأنه أيضا جيش متنقل من الاستعارات(29)، كما تؤكد على النزعة الإنسانية بالتزام إيديولوجي نحو الأقليات والسعي لوحدة عالمية وكون إنساني واحد(30).
إن النقد الأدبي في سياق رؤى ما بعد الحداثة، يبحث سبل تناول النص كموضوع في العالم، والدافع إلى أن يكون حاسما وقاطعا بطريقة مبدعة، وأيضا النظر في النص كتعبير ذاتي لوعي متفرد له مقاصده(31)، هو ما يعني أن النقد ما بعد الحداثي يفسح المجال لقراءة النص وفق منهجية علمية، تعزز من وجود الذات الشاعرة في النص، ورؤيتها للعالم من حولها في ضوء تجربته الخاصة مع الشعر وعلاقته بالعالم من حوله، وكما ترى سوزان برنار بأن الشعر رؤية للعالم وتجربة روحية أكثر مما هو فن ومجموعة طرائق، والتجربة الداخلية للشاعر وموقفه أمام الكون هما اللذان يحددان الشكل الشعري الواجب استخدامه(32)، وفي هذه الحالة فإن الناقد ما بعد الحداثي سيدرس قصيدة النثر على مستوى الشكل المبتكر المقدم فيها بشكل منهجي، في ضوء ما ينضح به النص ويعبر عن ذات الشاعر وتجربته مع الوجود والواقع.
قصيدة النثر في الشعر العربي المعاصر
مرّت قصيدة النثر في منجزها العربي بمراحل عديدة وتحولات مختلفة، وفي كل مرحلة مؤثراتها وأيضا مميزاتها، ربما تكون بداياتها بالتحرر من الإيقاع
الخليلي في فترة مبكرة من القرن التاسع عشر بما أطلق عليه "الشعر المنثور"، في كتابات نقولا فياض، الذي تخلى عن العروض وحافظ على الشعرية بجمالياتها المعتادة، ومع مطلع القرن العشرين، قدّم عدد من كبار الشعراء محاولات في الشعر المنثور، مثل: جبران خليل جبران، خليل مطران، أمين الريحاني، وجورجي زيدان وميخائيل نعيمة، وتوفيق إلياس، وكذلك أحمد شوقي الذي كتب ثلاثة نصوص ضمن كتابه أسواق الذهب. واستمر الحال مع مدرسة أبوللو الشعرية، في بعض كتابات أحمد زكي أبو شادي، وازداد العدد تدريجيا مع كتابات: مي زيادة وحبيب سلامة ورشيد نخلة، إلا أن اكتمل مع كتابات حسين عفيف (1902-1979م)، الذي قدّم مشروعا شعريا متكاملا بدءا من ديوان "مناجاة" (1936م)، مع كتاب نقدي عن رؤيته حول الشعر المنثور والتي تنحصر في أهمية التحرر من الأوزان العروضية، ثم تجربة ديوان " بلوتولاند " للويس عوض في خمسينيات القرن العشرين محتذيا قصيدة "الأرض الخراب" لـ"إليوت"(33).
والملاحظ أن هذه التجارب أبانت عدة أمور، أولها: إنها دالة على وعي مبكر لدى شعراء ما يسمى الكلاسيكية الجديدة والرومانسية ومدرسة المهجر، بأن هناك عوائق أو قيود في الشكل العروضي المتوارث، وأن التحرر يفضي إلى مزيد من الانطلاق في الشعرية وفي آفاق نفسية وروحية وجمالية جديدة.
ثانيها: إنها اقتصرت على التحرر من العروض، وظلت جماليات الشعرية العربية المتوارثة هي المسيطرة على وعي هؤلاء الرواد، فيما يسمى قواعد الشعر، من حيث هو جنس أدبي لا صفة للكلام وهي القواعد التي سيطرت على تفكير القدامى وممارستهم للنصوص وبرزت في بحوثهم ورؤاهم، فيما أتاه من تفصيل لكيفيات القول الشعري وخصائصه وبنيته ولمظاهر الإجادة أو الرداءة فيه حتى أفضت آراؤهم إلى ما اصطلح عليه – عندهم بعمود الشعر(34)، وهو طبيعي، بحكم قرب هؤلاء الشعراء زمنيا من مدرسة الإحياء الشعري الجديدة على يد محمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم وشوقي .. إلخ، وهذا لا يمنع من طرح هؤلاء الرواد رؤى ومضامين جديدة في تجاربهم في الشعر المنثور، مثلت –بلا شك– رصيدا مضافا لمن جاء بعدهم، خاصة أنهم ركزوا في تنظيراتهم حول ذاك الاتجاه على الاعتناء بالخيالي والتكثيف اللغوي واستثارة مخيلة القارئ.
العشرين (حقبة الخمسينيات)، ظهرت مجلة "شعر" في بيروت، حيث كتب توفيق صائغ نماذج مما أطلق عليه الشعر الحر، وكان امتدادا للمدرسة الأنجلو ساكسكونية، سائرا على خطى إليوت، وجاء بعده محمد الماغوط، الذي لم يكن يعرف لغة أجنبية، ولكنه قرأ النصوص المترجمة، وهضمها جيدا، واستطاع بموهبته البارعة أن يبدع نصوصا لقصيدة النثر، متأثرا بما اطلع عليه في المدرسة الفرنسية، وهو ما جنحت به جماعة "شعر" بعد ذلك، حيث كانت جاءت نصوص أنسي الحاج (1957م)، وأدونيس (1958م)، ثم شوقي أو شقرا، ويوسف الخال، وفؤاد رفقة من لبنان وسورية، وإبراهيم شكر الله مصر، مع نشر مقتطفات من كتاب سوزان برنار في مجلة شعر، تدعيما للتوجه الفرنسي، وإن انحاز يوسف الخال إلى النموذج الأمريكي وتابعه توفيق صائغ وجبرا إبراهيم جبرا(35)، وإن خبت الكتابة بقصيدة النثر بعض الوقت، خلال سنوات الستينيات من القرن العشرين، بفعل تشكك كثير من الأدباء في توجهات مجلة "شعر" التي كانت مضادة لتيار القومية العربية، وكون النماذج المصاغة لها مجانية الطابع، قليلة الإبداع، فلم تجذب المزيد من الشعراء، خاصة مع تغييب النص خلف الأسطوري والكوني(36)، فبدا الأمر مضادا لتيار الشعر المواكب لصعود المد الثوري والقومي، وبعد هزيمة 1967م، وخلال سنوات السبيعينيات ظهرت قصائد نثرية مصاحبة لتيار شعر التفعيلة الحداثي، مستفيدة من الظرف التاريخي للأمة، وخفوت الحلم القومي، وإن طغى عليه تهويمات الحدس الصوفي والميتافيزيقا وازدحامه بالرموز الكونية والأسطورية وفكرة الشاعر النبي والعراف حيث الإغراق في الكونية والاغتراب، فتحولت لغة القصيدة إلى لغة فوق مجتمعية كهنوتية لها طقوسها وعلاقاتها التركيبية، متأثرة بتيار الحداثة وفكرة تفجير اللغة أو تدمير الدلالة والبحث عن دلالة جديدة(37).
غير أن قصيدة النثر عادت للانتعاش بقوة مع مطلع سنوات التسعينيات من القرن العشرين، متخذة منحى مختلفا يمثل تمردا واضحا على تيار السبعينيات والثمانينيات الشعري، الذي غيّب الرؤية والدلالة خلف تراكمات البلاغة، واعتمدت قصيدة النثر الجديدة موقفا مضادا للإيديولوجيا، فالشاعر يطرح أسئلة فقط، دون امتلاك الإجابة عنها، أو يعرض مواقف وقضايا ويشتبك مع الواقع دون أن يملك إمكانية لتغييره أو معرفة أسباب تشكله بشكل كامل؛ في حين أن الإيديولوجيا بها يقينية تجعل صاحبها لديه إجابات عن أسئلة متعددة يطرحها الشاعر إبداعيا، وهذا لم يجده شعراء قصيدة النثر الجديدة في الشعر المؤدلج، ففضلوا الرفض التام للأدلجة(38)، مؤكدين عدم امتلاك الشاعر وأيضا الإنسان المعاصر تصورا شاملا عن العالم، رافضين الغنائية بمفهومها التقليدي، والبلاغة المتوارثة، ساعين إلى بناء كلي للنص، وتأسيس بلاغة جديدة، مقتربين من لغة اليومي والمعيش والشارع، وعرض اشتباكات الذات الشاعرة مع ما حولها.
وهكذا مرت قصيدة النثر بتحولات في الأدب العربي الحديث، بدأت بالشعر المنثور، وما يسمى النثر المشعور أو النثر الشعري، وبعض المحولات بقيت نثرا وإن اصطبغ بطابع الشعرية في تخييله ورؤاه، وبعضها اقترب من النثرية في بساطتها
وتقريريتها، وتنافس في هذه التجارب شعراء عديدون، منهم من جاء من رحم القصيدة العمودية، وآخرون من انتقلوا إليها بعد تجربة مع شعر التفعيلة. والبعض القليل بدأ بقصيدة النثر مباشرة بعد تجارب يسيرة في الشعر الموزون، آخذين في الحسبان أن هناك ممن أبدعوا في هذا الشكل ؛ قد تأثروا بشكل مباشر بالنماذج الغربية لقصيدة النثر، وهناك من انطلق من أعماقه، في ضوء صيحات التيار الرومانسي، مستشعرًا قيود الوزن والقافية فأراد مزيدا من التحرر، كي ينطلق إلى الشاعرية في أوّجها دون قيود شكلانية أو نغمية تقليدية، وصولا إلى شكل قصيدة النثر في العقود الأخيرة، التي هي قصيدة قبل كل شيء، فيها " الحصر، والإيجاز، وشدة التأثير والوحدة العضوية"(39)، وفيها من الشعرية والشاعرية والرؤى الفلسفية التي تجعلها مغايرة عن التجارب الشعرية السابقة، ومكملة لمسيرة الشعرية في الأدب العالمي، بما يعنيه هذا من إضافة إبداعية، تنفتح على كل أشكال الفن المختلفة، وتصهرها في بنيتها الجمالية. إن هذا يجعل خريطة كتابة الشعر المنثور أو الحر في الأدب العربي الحديث ذات عمق زمني، وامتداد مكاني.
والراصد الآن لحركة الشعرية العربية المعاصرة، يجد طغيانا لكتابة لقصيدة النثر وتراجعا حادا لشعر التفعيلة، في مصر والمغرب العربي والشام والعراق والخليج العربي، مما يشير إلى صهر حركة الإبداع العربي المعاصر لقصيدة النثر العالمية ضمن بوتقتها، فلم تعد كائنا غريبا أو دخيلا أو لقيطا، في الوقت الذي تطلع فيه شعراء قصيدة النثر إلى عمق التراث العربي، فاستمدوا من متونه إيحاءات غنية، ويكفي استحضار كتابات الحلاج والجاحظ والتوحيدي والمحاسبي وإشراقات الصوفيين مثل ابن عربي والنفري وغيرهم، لمزجها في تجاربهم، لتكوين لغة شعرية جديدة، تتكئ على إبداعات تراثية(40)، مما يرسخ التجربة، ويميزها عربيا وأيضا عالميا.
فإذا تمت دراسة هذه المسيرة، لوجدنا ترسيخا تدريجيا لهذا الشكل الشعري، بما يجعلنا نرد على من يراه لقيطا أو دخيلا، وما يجعلنا نضيفه مطمئنين إلى تراكمات الإبداع الشعري العربي المعاصر، دون أن نعيد إنتاج خطاب التشكيك والإقصاء، الذي لن يجدي نفعا مع الإبداع المشرق والمتوهج لقصيدة النثر العربية.
ولا عجب أن نجد أن ملامح قصيدة النثر العربية تتسق كثيرا مع جماليات مثيلاتها في الغرب، فنرصد في قصيدة النثر العربية: اللغة المشهدية الساعية نحو تحقيق المفارقة المدهشة، وبها كثافة واختزال في اللفظ تقترب من البللورية، وتنحو في بنائها نحو إيقاع مفاجئ يقوم على التوسل بالشيء المتوقع ليفاجئ القارئ باللامتوقع، بجانب ظاهرة التمركز حول الذات الشاعرة، التي لا تحفل بشيء حولها، وتميل إلى التمرد في أقصى مظاهره واختراق التابوهات عبر الجسدانية أو الاحتفاء بالحاجات البيولوجية للجسد، والنزعة الاعترافية الساعية نحو تحقيق الصدمة(41)، ورفض الشكل أو الثبات على شكل ما، أملا في تحويل القصيدة إلى حركة وتوثب، ضد الكبح والثبات الذي نجده في القصيدة التقليدية، وهي حركة تجمع المستوى الدلالي الرافض والمتجاوز والمستوى البنائي والتشكيلي، أملا في تحرير القدرة
الهائلة للشاعر وحصول انصهار بين الطرح والرؤية من جانب والأداة الشعرية من جانب آخر(42)، وهذا يجعلنا نرصد عشرات الأشكال والرؤى المتجلية في إبداع قصيدة النثر العربية، والتي تشكل إضافة حقيقية لمنجزها الجمالي.
وعلينا أن نأخذ في الحسبان أن التعامل مع إنتاج النص الشعري الحداثي بشكل عام يختلف في طريقة إنتاجه عن الشعر القديم الذي كان ينطلق من الخارج أي من مثير خارجي فيه مكونات واقعية وخيالية، يستتبعه نشاط في أعماق الشاعر، يتحقق فيها تفاعل ذهني ونفسي وهو تفاعل غير متوازن تكون الغلبة فيه للمنطقة الداخلية، التي تعيد تشكيل الخارج (المثير الخارجي) ليتوافق معها، وتكون المرحلة الأخيرة في ارتداد المنطقتين السابقتين (الخارج والداخل) إلى الخارج عبر إلقاء النص في تشكيل صياغي له جمالياته وينتظر رأي متلقيه(43). أما شعر الحداثة وما بعدها فإنه يعتمد على " الحالة" وهي عملية نفسية إدراكية في الأساس، يضعف فيها الخارج بشكل كامل، ويعيش الشاعر لحظته ثم يعبر عنها، فالشاعر يخوض في حالته التجربة ثم الثنائية في الموقف بين الخارج والداخل، ومن ثم تعتمل في نفسه الحالة التي لا تعرف ثباتا(44)، فهو في عملية تأمل دائم ومخاض مستمر لإنتاج الشعرية، عبر قراءته للواقع والفنون والأفكار.
وهذا يعني أن الشاعر غير منتظر لمثير خارجي، تجعله ينفعل، ويعيش خضم تجربة نفسية، قبل أن ينثرها على الورق شعرا، وإنما هو في حالة مستمرة من الانفعال، في يقظته ونومه، في سكونه وهياجه، لأنه يقرأ الواقع في جزئياته وتفصيلاته بصفة مستمرة، ومن ثم يصوغ واقعه ومواقفه شعرا.
وقد أضافت قصيدة النثر العربية ملامح ميزت تجربتها جماليا، من مثل: التوجه ذي الملمح السيريالي، حيث اللغة تتحرك في علاقات على صعيد الصور والجمل والتراكيب متصادمة غير مألوفة، ومتدفقة دون حواجز. وقصيدة الاختزال أو كما سميت قصيدة البياض، فالجملة الشعرية تتحاور مع فراغ الصفحة، منفتحة على إيحاءات ودلالات مفتوحة. والقصيدة التي تفلتت من البلاغة التقليدية لترسم بين عناصر القصيدة علاقات غير مأسورة بنمط أو بذاكرة نهائية. والقصيدة القائمة على توليفة عناصر وجمل دون توليف ظاهر، وإنما جمل متوازية بينها مناخ واحد. والقصيدة المقتصدة ذات الإيماءات المشرعة. والقصيدة المطولة التي تستخدم عناصر متعددة لتغذية إيقاعاتها وضبط بنيتها سواء منها ما تدفق أو ما التئم في حركة جامعة. القصيدة القصصية التي تجمع بين السردية والشعرية في بناء حكائي مفتوح(45)، وتخرج من هذه الملامح النماذج السهلة والنمطية والمبسطة والمصطنعة، التي جعلت البعض يرى المشهد من هذه الزاوية المربكة والمزعجة، فيصدر أحكاما سلبية، ولكن نجاح النماذج الجيدة، الفياضة بالشاعرية، كاف لتحقق الوجود(46).
يقال هذا ردا على من اتهم قصيدة النثر بأنها بلا معايير واضحة، وأنها فوضى وعبثية، لا يمكن الحكم عليها وفق منهجية شعرية واضحة، مما يدفع إلى اللا شكل واللا قصيدة واللا نوع، وهذا ناتج عن كون قصيدة النثر شعرا يتحرك في فضاء واسع من الحرية الفردية، بلا حواجز، وأية تنظيرات تواكب منجزها الإبداعي تظل أطرا، تحتاج لمن يتجاوزها(47)، فــ"القصيدة الحية لا تحتاج إلى مقياس، ونجاح القصيدة لا يرتبط بأية نظريات، بل بقدرتها على أخذك وإدهاشك وإقناعك بأنها تحوي إبداعا طازجا"(48).
فأهلا بالتنظيرات والمعايير والأنماط التي يضعها النقاد والباحثون مواكبين بها إبداع قصيدة النثر، ولكن هناك من الشعراء من سيتمرد على هذه التنظيرات، وهناك من النقاد من سيرصد هذا التمرد، ومن تمرد إلى رصد إلى تمرد، تأتي مسيرة الإبداع عامة، وقصيدة النثر خاصة.
* * *
[email protected]
الهوامش
(1) انظر للمزيد في هذا الشأن: مجلة إبداع القاهرة، عدد مارس 1996م، مقالة: د. علي عشري زايد، إن كان هذا شعرا فكلام العرب باطل، ص25، ومقال: كمال نشأت، شعر الحياة اليومية، ص55.
(2) قصيدة النثر العربية، رفعت سلام، بحث بمجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، صيف 1997م، ص309، وقد أشار الباحث إلى أن أحد شعراء التفعيلة ( أحمد عبد المعطي حجازي ) حاول احتضان قصيدة النثر وضمها لشجرة أنساب الشعر العربي التي تنتهي بشوقي. ص312 .
(3) قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، سوزان برنار، ترجمة: د. زهير مجيد مغامس ،سلسلة آفاق الترجمة، منشورات الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط2، ديسمبر 1996م، ص16.
(4) المرجع السابق، ص17.
(5) فلسفة الجمال، أعلامها ومذاهبها، د. أميرة حلمي مطر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، ص219.
(6) المرجع السابق، ص218.
(7) قراءة في التجربة الشعرية، د.أمجد ريان، مجلة الكتابة الأخرى، القاهرة، العدد (2)، فبراير 1994م، ص50.
(8) قصيدة النثر، سوزان برنار، م س، ص18، 19، بإسهاب من الباحث.
(9) قصيدة الشعر الحر/ النثر، د. جابر عصفور، مجلة دبي الثقافية، العدد (45)، فبراير 2009م، ص102.
(10) القصيدة الحرة: معضلاتها الفنية، وشرعيتها التراثية، محيي الدين اللاذقاني، بحث منشور في مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997م، ص43.
(11) علم الجمال والنقد الحديث، د. عبد العزيز حمودة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999م، ص49.
(12) انظر للمزيد: تحطيم الشكل .. خلق الشكل، دراسات في الشعر المصري المعاصر، د.صلاح السروي، سلسلة كتابات نقدية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ص19-21.
(13) علم الجمال والنقد الحديث، م س، ص90.
(14) مقدمة في قصيدة النثر العربية، بول شاوول، بحث بمجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، صيف 1997م، ص159.
(15) علم الجمال والنقد الحديث، م س، ص241.
(16) قصيدة الشعر الحر/ المنثور، م س، ص102، 103، وقصيدة النثر من بودلير إلى يومنا، ص213، حيث تذكر سوزان برنار إلى وجود واضح للسيريالية قصائد النثر الفرنسية.
(17) تواشجات الإيديولوجيا والحداثة: أنطون سعادة وأدونيس، شربل داغر، بحث بمجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، خريف 1997م، ص150.
(18) السابق، ص166، يذكر أن قصيدة النثر كشكل شعري كانت وعاء للتعبير الشعري جنبا إلى جنب مع شعر التفعيلة والشعر العمودي، كما نجد في شعر بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، ومعين بسيسو.
(19) السابق، ص165.
(20) السابق، ص169.
(21) حركية الإبداع، خالدة سعيد، دار العودة، بيروت، 1979م، ص12، 14.
(22) قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا، م س، ص199.
(23) ما بعد الحداثة، باتريشيا ووه، ترجمة: شعبان مكاوي، موسوعة كمبريدج في النقد الأدبي، القرن العشرون: المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية، تحرير: ك. نلوولف، ك.نوريس، ج. أوزبورن، مراجعة وإشرافرضوى عاشور، ص417.
(24) السابق، ص419.
(25) الحداثة وما بعد الحداثة، إعداد وتقديم: بيتر بروكر، ترجمة: د. عبد الوهاب علوب، منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي، ط1، 1995، ص31، ويعود هذا الرأي إلى المفكر الأمريكي المصري الأصل إيهاب حسن.
(26) ما بعد الحداثة، باتريشيا ووه، م س، ص418.
(27) قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا، م س، ص219.
(28) السابق، ص241.
(29) ما بعد الحداثة، باتريشيا ووه، م س، ص434، 435.
(30) الحداثة وما بعد الحداثة، بيتر بروكر، ص32، 33.
(31) السابق، ص435.
(32) قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا، م س، ص245.
(33) قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، عبد العزيز موافي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004م، ص18، 19.
(34) جماليات الألفة: النص ومتقلبه في التراث النقدي، شكري المبخوت، منشورات بيت الحكمة، تونس 1993م، ص79.
(35) قصيدة الشعر الحر/ النثر، م س، ص103.
(36) قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، ص20.
(37) السابق، ص22.
(38) السابق، ص23.
(39) قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا، م س، ص24.
(40) مقدمة في قصيدة النثر العربية، بول شاوول، م س، ص158، وقد أشار " شاوول " إلى أن الخريطة الإبداعية العربية المعاصرة تحصي 99% من الشعراء يكتبون قصيدة النثر، وهذه نسبة قد مبالغ فيها، في ضوء غياب توثيق رسمي ومرجعية لهذه النسبة، أو أن مقصد "شاوول" ينصرف إلى الشعراء الشبان.
(41) تحطيم الشكل .. خلق الشكل، م س، ص168.
(42) السابق، ص158.
(43) مصادر إنتاج الشعرية، د. محمد عبد المطلب، مجلة فصول، صيف 1997م، ص52.
(44) السابق، ص57.
(45) مقدمة في قصيدة النثر العربية، بول شاوول، م س، ص159، 160.
(46) قصيدة النثر بوابة للعبودية أيضا، حوار مع الشاعر المصري فتحي عبد السميع، حاوره السيد العديسي، مجلة الشعر المصرية، العدد 139، خريف 2010 م، ص59.
(47) مقدمة في قصيدة النثر العربية، بول شاوول، م س، ص161.
(48) قصيدة النثر بوابة للعبودية أيضا، مقولة لفتحي عبد السميع، م س، ص60.