الصورة الحزينة
تؤكد مقالات متفرقة، أن دخول التصوير الفوتوغرافي إلى العراق يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر على يد البعثات التبشيرية المسيحية التي قدمت الى مدينة الموصل، ومنها انتقل إلى مدن العراق الأخرى. منذ ذلك التاريخ لا وجود لمؤسسة معنية بالأرشيف الصوري، لا كتب تبحث عن تاريخ فن التصوير الفوتوغرافي، لا معاهد تدرس هذا الفن. ظل التصوير حرفة يزاولها البعض في محال التصوير. لكنه أيضاً كان ولعاً وموهبة فردية لدى البعض الآخر من الذين سوف يعملون لاحقاً في الصحافة أو في مجال العمل الطباعي. ثمة أسماء من رواد هذا الفن يحتفظ بها الخطاب البصري، منهم: أرشاك، حاج أمري سليم، مراد الداغستاني، حازم باك، ناظم رمزي. الفن الفوتوغرافي من علامتنا التعبيرية، الأشد تواضعاً للاهتمام، في نظامنا الثقافي.
انطوت الذاكرة الجمعية على تفسير اعتبر التصوير الفوتوغرافي حرفة خاصة، وظيفية تماماً، موصولة بعادات الحضور الاجتماعي والشخصي. إنتاجه شديد الألفة تماماً، وواقعي، بل يكاد يشبه الوجود اليومي. يتأتى أثره الحقيقي من طبيعته التلقائية التي تجعله الفن الوحيد الذي لا يخطئ البتة. من خلاله يجعل كل ماضٍ رؤيةٌ قابلة للامتلاك بأقل جهد ممكن. دال على قراءة هانئة تستدعي النظرات الحنونة. كل صورة هي لحظة لم تغب، بل باقية تذكّر بزمن جميل سابق. إن المصور الفوتوغرافي هو الكائن الوحيد المخوّل تسجيل هذه المناسبات.
لم يشاهد البغداديون المصوّرين يجوبون الشوارع. كان وجودهم غالباً في الساحات العامة وفي أماكن التسلية واللهو. أنيسون وودودون وباعثون على البهجة، حينما يطلبون من الاخر تصويره. ذوو مهنة كثيرة الطرافة. في الثمانينات كانوا قد بدأوا بالاختفاء بأسباب استدعائهم إلى جبهات القتال، أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، كانت هناك أيضا علامات مثبتة أمام العديد من المؤسسات الرسمية تمنع التصوير منعاً باتاً. لقد رحلوا ليصوروا المعارك التي كانت تبث أفلامها بشكل يومي عبر التلفزيون، لتتحول الصورة وقتئذ وثيقة عن القتال والموت. في ذلك التاريخ لم يعد الكثير مكترثاً باعتبارها شاهدة على حضور هانئ. كانت تعلَّق على جدران الغرف المنزلية كي تشير الى غياب أقارب فُقدوا في ساحات الحرب. تلك المضامين الجديدة للصورة كانت باعثة على هواجس لا تخلو من الأسى. انه الزمن الذي بدأت فيه الصور الحزينة بالظهور.
ثلاثة عقود مرّت، والأرشيف الصوري شحيح في علاقته مع مدينة بغداد. افتقد الطموح بانفتاحه على المدينة وتدوينها بصريا في مشهد بانورامي. لم توثق الصورة الكثير من التحولات التي طاولتها. لا أثر توثيقياً يعتدّ به. لم تكن الصورة تطيل النظر إلى المدينة كي تحاكي مآلها أو تشاركها حياتها. كان للحساسية السياسية الشمولية هيمنتها على هذا الفن. لكن ما الذي فعله المصوّرون؟ بادلوا مهمة واقعية بخيار ذاتي، اتخذ من اللحظة الحاسمة ثيمة لصور بلقطات مختارة عن قرب. الصورة شكلت لهم مشروعاً خاصاً. تُظهر رجالا ونساء منهمكين في أعمالهم وحياتهم اليومية، وجوه أشخاص، أزقة قديمة، واجهات مبان، أماكن خالية. هي مشاهد حياتية تكتنفها مهارات العلاقة بين الضوء والظل وتكريس دلالات جمالية من خلالها. انه إنتاج مصوّري صحافة، تدرّبوا على مؤازرة الخبر والمعلومة بأثر مطبوع. هكذا باتوا يعينون المشهد بوصفه واقعةلم تخلُ من حكايات تعبيرية خاصة تغري بتأملها.
الصور : الفوتوغرافي هاتف فرحان
من كتابي " السريع، العابر، المتشظي" يصدر قريباً في ط 2
تؤكد مقالات متفرقة، أن دخول التصوير الفوتوغرافي إلى العراق يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر على يد البعثات التبشيرية المسيحية التي قدمت الى مدينة الموصل، ومنها انتقل إلى مدن العراق الأخرى. منذ ذلك التاريخ لا وجود لمؤسسة معنية بالأرشيف الصوري، لا كتب تبحث عن تاريخ فن التصوير الفوتوغرافي، لا معاهد تدرس هذا الفن. ظل التصوير حرفة يزاولها البعض في محال التصوير. لكنه أيضاً كان ولعاً وموهبة فردية لدى البعض الآخر من الذين سوف يعملون لاحقاً في الصحافة أو في مجال العمل الطباعي. ثمة أسماء من رواد هذا الفن يحتفظ بها الخطاب البصري، منهم: أرشاك، حاج أمري سليم، مراد الداغستاني، حازم باك، ناظم رمزي. الفن الفوتوغرافي من علامتنا التعبيرية، الأشد تواضعاً للاهتمام، في نظامنا الثقافي.
انطوت الذاكرة الجمعية على تفسير اعتبر التصوير الفوتوغرافي حرفة خاصة، وظيفية تماماً، موصولة بعادات الحضور الاجتماعي والشخصي. إنتاجه شديد الألفة تماماً، وواقعي، بل يكاد يشبه الوجود اليومي. يتأتى أثره الحقيقي من طبيعته التلقائية التي تجعله الفن الوحيد الذي لا يخطئ البتة. من خلاله يجعل كل ماضٍ رؤيةٌ قابلة للامتلاك بأقل جهد ممكن. دال على قراءة هانئة تستدعي النظرات الحنونة. كل صورة هي لحظة لم تغب، بل باقية تذكّر بزمن جميل سابق. إن المصور الفوتوغرافي هو الكائن الوحيد المخوّل تسجيل هذه المناسبات.
لم يشاهد البغداديون المصوّرين يجوبون الشوارع. كان وجودهم غالباً في الساحات العامة وفي أماكن التسلية واللهو. أنيسون وودودون وباعثون على البهجة، حينما يطلبون من الاخر تصويره. ذوو مهنة كثيرة الطرافة. في الثمانينات كانوا قد بدأوا بالاختفاء بأسباب استدعائهم إلى جبهات القتال، أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، كانت هناك أيضا علامات مثبتة أمام العديد من المؤسسات الرسمية تمنع التصوير منعاً باتاً. لقد رحلوا ليصوروا المعارك التي كانت تبث أفلامها بشكل يومي عبر التلفزيون، لتتحول الصورة وقتئذ وثيقة عن القتال والموت. في ذلك التاريخ لم يعد الكثير مكترثاً باعتبارها شاهدة على حضور هانئ. كانت تعلَّق على جدران الغرف المنزلية كي تشير الى غياب أقارب فُقدوا في ساحات الحرب. تلك المضامين الجديدة للصورة كانت باعثة على هواجس لا تخلو من الأسى. انه الزمن الذي بدأت فيه الصور الحزينة بالظهور.
ثلاثة عقود مرّت، والأرشيف الصوري شحيح في علاقته مع مدينة بغداد. افتقد الطموح بانفتاحه على المدينة وتدوينها بصريا في مشهد بانورامي. لم توثق الصورة الكثير من التحولات التي طاولتها. لا أثر توثيقياً يعتدّ به. لم تكن الصورة تطيل النظر إلى المدينة كي تحاكي مآلها أو تشاركها حياتها. كان للحساسية السياسية الشمولية هيمنتها على هذا الفن. لكن ما الذي فعله المصوّرون؟ بادلوا مهمة واقعية بخيار ذاتي، اتخذ من اللحظة الحاسمة ثيمة لصور بلقطات مختارة عن قرب. الصورة شكلت لهم مشروعاً خاصاً. تُظهر رجالا ونساء منهمكين في أعمالهم وحياتهم اليومية، وجوه أشخاص، أزقة قديمة، واجهات مبان، أماكن خالية. هي مشاهد حياتية تكتنفها مهارات العلاقة بين الضوء والظل وتكريس دلالات جمالية من خلالها. انه إنتاج مصوّري صحافة، تدرّبوا على مؤازرة الخبر والمعلومة بأثر مطبوع. هكذا باتوا يعينون المشهد بوصفه واقعةلم تخلُ من حكايات تعبيرية خاصة تغري بتأملها.
الصور : الفوتوغرافي هاتف فرحان
من كتابي " السريع، العابر، المتشظي" يصدر قريباً في ط 2