تأملات في المسألة الدينية (3)
صلة الديني بالسياسي
بين محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن
عمر الموريف - المغرب
يمثل كل من الراحل محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمان رمزين للفكر الفلسفي المعاصر، والذين اهتما فيه معا بمسألة تقويم "التراث العربي الإسلامي" وتناوله من زاوية نظر نقدية بمعناها الإيجابي إلى حد كبير، غير أنه لا يخفى على أحد من المطلعين على فكر الرجلين مدى التبيان الذي قد يصل حد التناقض بين التوجهين، ويظل "العقل" باعتباره نمطا تفكيريا متميزا، ودعامة أساسية للنهوض والرقي والتخلص من براثين الجهل والتخلف أبرز نقاط التباين بين المفكرين، ذلك أن الجابري قدم قراءة إيديولوجية للتراث قسمه إلى ثلاث دوائر وهي حسب الأهمية، البرهان والبيان والعرفان، فكان رد طه عبد الرحمن أن قسم التراث تقسيما ثلاثيا أيضا وهو العقل المجرد والعقل المسدد والعقل المؤيد، فما يدل عليه الجابري بالبرهان يدل عليه طه عبد الرحمن بالعقل المجرد وما يسميه الجابري البيان يسميه طه عبد الرحمن العقل المسدد وما ينعته الجابري بالعرفان، ينعته طه بالعقل المؤيد. مما دفع بالباحث عبد النبي الحري( )، إلى استخلاص أن طه عبد الرحمن سقط في فخ قراءة الجابري الأيديولوجية للتراث عموما، والتراث الرشدي خصوصا، كما يفترض أن المشروع الفكري عند طه، ليس في حقيقة الأمر إلا المشروع الفكري للجابري مقلوبا، فما يقوم الجابري بالإعلاء من شأنه يقوم طه عبد الرحمن بالحط من قيمته، والعكس بالعكس( ).
ومن بين المواضيع التي تناولها المفكرين أيضا مسألة الصلة التي تجمع ين الدين والسياسة، وهو الموضوع الذي أسال حبر العديد من المفكرين والباحثين بمختلف مشاربهم، لكن تناوله من جهة نظر كل من الجابري وطه اتخذ طابعا خاصا، الشيء الذي جعلنا نطرح السؤال التالي: هل الاختلاف والتباين بين التوجهات الفكرية والفلسفية للرجلين قد أرخيا بظلالهما أيضا على القضية الجدلية الرابطة بين الدين والسياسة؟ أم أن الأمر مختلف هذه المرة ويمكننا أن نلمس شيئا من التوافق والتقاطع بين النظرتين والقراءتين؟
إن محاولة وقوفنا على هذا الإشكال الجدير بالبحث والمزيد من التمحيص، جعلنا نختار مؤلفين أساسين لهذين المفكرين، والذين أحسبهما من أبرز ما تناولا فيه مسألة الصلة بين الديني والسياسي، وبالطبع يظل التناول الكلي لفكر كل من الجابري (رحمه الله تعالى) وطه، أي تمحيص كل الإنتاج الفكري لهما، وهو القمين بتكوين صورة شاملة حول الموضوع، غير أن إلقاء نظرة على هذين المؤلفين كفيل بفهم التوجه الأساسي للمفكرين حول هذه القضية، ويتجلى هذين المؤلفين في :
الدين والدولة وتطبيق الشريعة لمحمد عابد الجابري( )؛
روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية لطه عبد الرحمان( ).
ولا ينفك الحديث عن علاقة الدين بالسياسة دون استحضار مصطلح: "العلمانية" وما تمثله من جدل واسع بين رافض ومؤيد، وبين هذا وذاك هناك من يذهب إلى حد تكفير العلمانية باعتبارها تمس بالدين وتعد خطرا محدقا به، ومن يعتبر العلمانية فرصة للقضاء على الدين باعتباره أهم عوائق التنمية والتقدم، لكننا يمكننا أن نقف على توجه وسط قد يقول بفصل الديني عن السياسي لكن لا يستطيع القول بإمكانية الفصل الدين عن المجتمع، بل أن مسألة الديني والسياسي مسألة منسجمة وموحدة لا يمكن الفصل بينهما بتاتا. والملاحظ أن كل من الجابري وطه قد تطرقا إلى "العلمانية" بشكل مخالف لما عهدناه في الكثير من القراءات والتفاسير المتنوعة التي وقفنا عليها، فمن البدائل التي يقترحها الجابري إلى فرضية التوحيد التي قال بها طه، وهذا ما سنعمل قدر الإمكان على التطرق إليه، للوقوف على مدى التباعد أو الاقتراب بين المفكرين في هذه النقطة بالذات متتبعين من زاوية أخرى لخطوات النزاع حول الحقيقة التي بدأنا مسيرتها في هذه المجلة. وعليه سنقسم هذا المقال إلى نقاط ثلاثة نفرد الأولى إلى موقف الجابري، والثانية لرؤية طه، بينما نخصص الثالثة كنقطة ختم نخصها بملاحظاتنا في مخرجات التوجهين:
أولا:الجابري وبدائل العلمانية
1- الموقف من العلمانية
اتخذ الراحل محمد عابد الجابري موقفا فريدا من مسألة العلمانية، ولعل هذا الموقف ما جعل بعضا من منتقديه يرون أنه لم يتملك الشجاعة الكافية لإعلان موقفه الواضح من هذا الموضوع، وعلى حد قول محمد أركون فإنه هو الآخر يقدم بعض الترضيات/ التنازلات تفاديا لأي صدام مع بعض مكونات المجتمع.
ومن وجهة نظرنا المتواضعة، فمحمد عابد الجابري وهو يمارس فعل التفكير، لم يخرج عن إطاره الثقافي والاجتماعي، وحتى تناوله للتراث فقد كانت نظرة داخلية إلى حد كبير جعلته، ربما، في منأى عن الصراع مع أمته، سيما وأن انتاجاته الفكرية أضحت أقرب إلى المراجع الكبرى المعتمدة في الفقه والتفسير وغيرهما. وعموما فموضوع صلة السياسة بالدين عند الجابري يجب ألا يظل قابعا في فهم العقل التراثي الذي ينظر إلى فصل الدين عن الدولة أو فصل الدين عن الدولة من زاوية ثنائية محض وهما إما إنشاء دولة ملحدة غير إسلامية، أو حرمان الإسلام من السلطة( )!. والجابري يرى أن فصل الدين عن السياسة لا يعني إبعاده عن الحياة الاجتماعية، لأن ذلك مستحيل عمليا، لكن يجب عدم توظيف الدين لأغراض سياسية، ذلك أن السياسة تمثل ما هو نسبي ومتغير تحركها المصالح الفئوية والشخصية، أو بمعنى آخر هي "فن لإدارة الاختلاف"، وما هو ما يخالف الدين وجوهره باعتباره المطلق والثابت غايته التوحيد لا التفرقة( ).
هل يعني الجابري إذن العلمانية بمدلولاتها الخاصة المتعارف عليها لدى الكثيرين؟
بداية يؤكد صاحب مشروع نقد العقل العربي أن قضية علاقة الديني بالسياسي يجب أن يؤطر تأطيرا يتوفر على حد أدنى من الفهم والتفهم والتفاهم، اقتناعا منه من أن من أهم عوائق التواصل والتفاهم بين تيارات الفكر العربي المعاصر انغلاق كل منها داخل مرجعيته الخاصة وانشداده المطلق إليها ونفي كل ما عداها، إما عن جهل أو تجاهل، وإما بتصنيفه تصنيفا اديولوجيا بالمعنى الذي تكون الايديولوجيا هي "آراء خصمي"( ).
ولوضع معالم هذا الإطار الضامن للحد الأدنى من التفاهم، بيّن الجابري أسباب نزول العلمانية بالعالم العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وارتباطه بالأقليات التي عاشت تحت ظل الحكم العثماني ومده، ليخلص إلى أن " مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة"( )، بمعنى أنها تعبر عن مضامين غير متطابقة مع حاجات الوطن العربي والإسلامي، وبالتالي فمعنى العلمانية متى انصب على "فصل الدين عن الدولة" فقد كان مرتبطا ارتباطا عضويا بمشكلة حقوق الأقلية الدينية، وبكيفية خاصة حقها في أن لا تكون محكومة بدين الأغلبية، وبالتالي فإنها على هذا الاعتبار كانت تعني بناء الدولة على أساس ديمقراطي عقلاني وليس على أساس الهيمنة الدينية، مؤكدا أن فصل الدين عن الدولة غير مستساغ إطلاقا في مجتمع إسلامي لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة. إن هذا التعارض لا يكون له معنى إلا حيث يتولى الدين هيئة منظمة تدعي لنفسها الحق في ممارسة سلطة روحية على الناس، في مقابل سلطة زمنية تمارسها الهيئة السياسية: الدولة.
2- المأزق... والحل !
إن تفسيرات الجابري لصلة الديني بالسياسي لا تخلو من مأزق معرفي قد تطرحه صعوبة التوفيق، نوعا ما، بين الابتعاد عن توظيف الدين في السياسة، وعدم إمكانية فصل الحياة العامة/ المجتمع عن الدين بشكل قطعي (والسياسة قد ينظر إليها بدورها كجزء من هذه الحياة العامة).
فكيف قدم لنا الحل لهذا الإشكال القائم؟
اتجه الجابري في محاولة له للتوفيق بين هذين النقيضين إلى طرح مرادفات بديلة للعلمانية، باعتبار أن نبتة الأخيرة لا توافقها تربة العالم العربي والإسلامي، في حين أن يستسيغه هذا المجال يجب أن يأتي بحلول للممارسة السياسة الكفيلة بحماية الحقوق والحريات، وإقرار أسس ومبادئ العدل والكرامة، وهكذا نجده يشير إلى مصطلحي: "الديمقراطية" و"العقلانية". يقول مشرح العقل العربي: " في رأيي إنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر القومي العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية، فهما اللذان يعبران تعبيرا مطلقا عن حاجات المجتمع العربي"( ).
كيف ذلك؟
الديمقراطية عند الجابري، في هذا الصدد، تعني حفظ الحقوق: حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، بينما تعني العقلانية الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى وتقلب المزاج( ). غير أن الجابري يوضح أنه "لا الديمقراطية ولا العقلانية، تعنيان بصورة من الصور استبعاد الإسلام، كلا. إن الأخذ بالمعطيات الموضوعية وحدها يقتضي منا القول إنه إذا كان العرب هم مادة الإسلام حقا، فإن الإسلام هو روح العرب، ومن هنا ضرورة اعتبار الإسلام مقوما أساسيا للوجود العربي: الإسلام الروحي بالنسبة للعرب المسلمين، والإسلام الحضاري بالنسبة للعرب جميعا مسلمين وغير مسلمين. وإعادة تأسيس الفكر القومي على مبدأي الديمقراطية والعقلانية، بدل مبدأ العلمانية، وإحلال الإسلام المكانة التي يجب أن يحتلها في النظرية والممارسة، تلك من جملة الأسس التي يجب أن تنطلق منها عملية إعادة بناء الفكر القومي العربي، الفكر الذي يرفع شعار الوحدة العربية والوطن العربي الواحد من المحيط إلى الخليج"( ).
إن ما اهتم به الجابري هنا هو القومية العربية حصرا، فلم يتطرق إلى الأقطار الإسلامية التي لا تعد العربية لغة لها، مما يطرح السؤال حول مصير ونجاعة هذا الطرح الذي يقابل بين الدين والسياسة في هذه المناطق.
ثانيا: طه والحل لائتماني
ما يميز الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمن كمفكر أنه اختار مسارا فلسفيا وفكريا متميزين، والمتتبع لسيرة الرجل سيقف أنه لم يصل إلى هذه المرحلة إلا بعد مسار طويل وشاق، كان سببه الأساس النكسة العربية، والذي من خلاله تعمق في دراسة التراث اليوناني والغربي والإسلامي، وبدل أن يعيد إنتاج المفاهيم والنظريات، استطاع إلى حد كبير، أن يخلق لنفسه لغة فلسفية خاصة، ونمط تفكيري يميل إلى الفلسفة التصوفية بعمقها الإسلامي، وإن كان هذا حسب بعض الباحثين( ) يجر إليه عيب أن القول الذي ينتجه لا يتسم بالعالمية/ الكونية كما يفترض أن يكون عليه القول الفلسفي.
هذا التميز أرخى بظلاله أيضا على مسألة صلة الديني بالسياسي في فكره وفلسفته، فقبل أن يطرح الخيار البديل للعلاقة التي من المفترض أن تجمع بين الدين والسياسة، حاول البرهنة على وجود سمات المشتركة بين الرافض لإدخال الدين في السياسة، والمتمسك بذلك (غير أن هذا المتمسك ليس هو النموذج الذي يطمح إليه طه في تدبير الشأن العام):
1- الدياني والعلماني... ونمط الممارسة اللسياسة !
يرى طه عبد الرحمن أن ما يعيب العلمانية هو أنها تضيق على الوجود الإنساني، إذ تهتم بالعالم المحسوس وحسب، والحال أن الإنسان يعيش في عالمين اثنين على الأقل، أحدهما عالم مرئي يتواجد فيه الإنسان بجسمه وروحه، والثاني غيبي يتواجد فيه بروحه، بل إن العالم الغيبي هو نفسه قد يتعدد، ويصير عوالم بعضها فوق بعض لما للإنسان من قدرة على أن تعرج روحه على قدر اجتهاده على تحصيل العمل( ).
والإيمان بوجود عالمين عند طه، يفترض وجود قواعد ونظم ونواميس تؤطر كلا العالمين، ومن المفترض أن يتمسك كل مقتنع بالعالم الذي يؤمن به بهذه النواميس المؤطرة، لكن صاحب روح الدين يتجه نحو إبراز أن هذه الفرضية منتفية عند الممارسة السياسية، ذلك أن المؤمن بالعالمين (الدياني) يحاول تنزيل قواعد العالم الغيبي على العالم على المرئي، والعكس تماما للعلماني الذي يقوم برفع العالم المرئي، عن طريق ممارساته الواعية أو غير الواعية، إلى مصاف العالم الغيبي.
فالفاعل الديني يقوم، إذن، بممارسة التشهيد في العالم المرئي، أي أنه له القدرة على رؤية العالم الغيبي في العالم المرئي بتنزيل مبادئ الأول في الثاني، وذلك استنادا على مبدأ الفطرة التي تنزل منزلة ذاكرة سابقة مع وجوده المرئي، إذ تتحدد هذه الذاكرة الفطرية بمعاني وأفعال تحدد الغاية من وجوده، وهي التعبد لله وحده، والصلة بين العالمين يمكن الرقي بها إلى كمال التشهيد وذلك عن طريق مبدأ التفاضل الذي بمقتضاه يُطلب أفضل دين ليأتي بتعبده على وفق أحكامه، متحققا بشهود كمال الأولوهية، ثم أيضا بمبدأ التكامل الذي به يطلب في كل مرئي وجه أو توجه تنزل الغيبي فيه، متحققا بشهود عموم الوحدانية( ).
أما الفاعل السياسي فيرفع العالم المرئي إلى مرتبة العالم الغيبي بمحاولته لتنزيل المبادئ المؤطرة لعالم الغيب على العالم المرئي، وذلك من خلال مجموعة من الممارسات (المبادئ على حد تعبيره)، والمتجلية في نسبة الفاعل السياسي الأشياء إلى نفسه وما ينتج عن ذلك من شعور بالملكية والسيادة على ما ينسب إليه (وقد يكون ذلك قدرات، قرارات، منجزات...)، الشيء الذي يحمله على حب التسيد على الغير، هذا التسيد الذي يصل ذروته عن طريق مبدأ السلطان الذي يجعل به من ملكه ملكوتا واسعا، ومن قوته جبروتا قاهرا، ومن شخصه ذاتًا متألهة موحدة ، متوسلا لكل ما لديه من أجهزة لكي يبث في نفوس المحكومين حب الخوف، لكل هذا ينتج مبدأ التنازع مع الغير حول مواقع القوة والقرار( ).
هنا يصل بنا طه عبد الرحمن إلى نتيجة في غاية من الأهمية، هي أن كل من الدياني والعلماني يحاولان معا إدماج العالمين معا عند الرغبة في تنزيل نمطٍ محدد للممارسة السياسية، عالم مرئي (تحكمه السياسة ظاهريا)، وغيبي (يؤطره الدين كليا)، أي أننا في نهاية المطاف سنقف على أن الدين والسياسة أمر واحد لا يمكن الفصل بينهما إطلاقا.
لكن وجب الإشارة إلى أن هذه النتيجة التي وصلنا إليها عن طريق الاختصار الشديد جدا للمحاججة الطويلة والتفصيلية لطه، تتضمن أن الدياني عنده يعني الفرد الذي يقول بالوصل بين الدين والسياسة، مع اختلاف بين الديانيين في وجوه هذا الوصل( )، فالدياينيون، حسب توضيح طه نفسه، ينقسمون إلى قسمين أساسيين( ):
القائلون بالتداخل بين الدين والسياسة: ويشمل "التسييسيون" القائلون بدخول الدين في السياسة، و"التديينيون" القائلون بدخول السياسة في الدين.
القائلون بالتماثل بين الدين والسياسة: ويشمل بدوره "التحكيميون" أي القائلون بتحكيم الدين، و" التفقيهيون" القائلون بتفقيه السياسة.
غير أن ما خلص إليه الكاتب إلى أن الدياني بمختلف تفرعاته قد لا يختلف عن العلماني في مبادئ التسيد والتسلط، أي أن لطه نموذج آخر يطمح إليه يكون بمثابة النموذج المثالي الذي يحق له الأخذ بكل من الدين والسياسة في ممارسة فضلى يحتوى فيها كل طرف الطرف الآخر بما يحقق الغاية من الخلق بصفة عامة.
2- الدعوى الائتمانية..النموذج الطهوي المثالي
الائتماني حسب طه عبد الرحمان هو الفرد القائل ب"الوحدة الأصلية" بين الدين والسياسة( أو على الوجه الدق: بين التعبد والتدبير)، وتختص هذه الوحدة بكونها سبقت إجراءات الفصل والوصل بين هذين الطرفين، بحيث لا يصح الكلام بصددها عن الحدود بين ما هو تعبدي وبين ما هو سياسي( ).
فالفرد الائتماني يعلو كلاًّ من الدياني (الذي يأخذ بثنائية الشرعية التي يضفيها على الدين، والعقلانية على السياسة)، وكذا العلماني (القائل بالعقلانية وحدها)، ويتخذ مبدأ التعبد لله وحده باعتباره الغاية التي خلق الإنسان منذ البداية، وأنه يميز في تعبده هذا بين ظاهر الأعمال وباطنها، جاعلا باطنها حاكما على ظاهرها، ولا يصل إلى هذه المرتبة العليا إلا من خلال مبدأ التزكية العملية التي بها يصيرا متعبدا لله في كل شيء (بما فيها العمل السياسي)، وفي كل وقت وفي كل أين. كما أن العمل التزكوي يخرج الائتماني من حب التسيد على الخلق إلى حب التعبد للحق (خلافا للدياني والعلماني)، مورثا إياه وازعا داخليا.
فالائتمانية بكل هذه المثل العليا التي أحاطها بها طه عبد الرحمن تصلح لأن تكون الوعاء الجامع بين الديني والسياسي من دون إمكانية الوقوع في براثين التصادم والصراع بينهما، لأننا بفضلها، كما فهمنا بكل تواضع، ستمسي السياسة عملا دينيا تعبديا، ويصبح الدين مصدرا مؤطرا للممارسة السياسية، أين أننا في نهاية الأمر يمكننا أن نصف الدين والسياسة في فلسفة طه بكونها وجهان لعملة واحدة.
نقطة ختم: ملاحظات في مخرجات التوجهين:
ما يمكننا أن نسطره بداية أن كلا الرجلين، الراحل محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن، قد انغمسا إلى حد كبير، وإن بدرجة متفاوتة، في تراثنا العربي والإسلامي، فانهالا من خصوصيتنا التي أفرزت لنا تصورات وقراءات يحق لنا أن نفتخر بها، مهما توافقنا أو اختلفنا معها، فليس يسيرا أن تنطلق من البيت الداخلي لإعطاء تصور نقدي وتفسيري، لأنه ليس أيسير من نقل تجارب الغير نقلا حرفيا جافا، غير أن ذلك سيجعله، أكيد، بلا طعم وروح منتميين إلى عالمنا هذا.
فالجابري، على غرار طه أيضا، يسكنه هم سؤال النهضة، هذه النهضة، التي افتقدناها منذ قرون ولت ولا زلنا في دوامتنا المستمرة، والتي يحتل فيها موضوع الدين موقعا فيصليا وحاسما، ولكون الحياة الحديثة تتطلب ممارسة سياسية في ظل بروز الدولة والمؤسسات، فإنها ستظل في علاقة جدلية مع الدين، هذه العلاقة التي تختلف تفسيراتها حسب رؤية كل مفكر أو فيلسوف أو عالم أو ممارس، فالجابري وهو يضع أمامنا بدائل العلمانية من ديمقراطية وعقلانية، حاول بعدها التطرق إلى إشكال تطبيق الشريعة في ظل هذين المبدأين مستعينا بالدعوة إلى إدراك زَيْفيّة الدعوة إلى العلمانية بمدلولها الغربي، وكذا التعامل مع السلفية كتجربة تاريخية أساسا، مع إعمال معقولية الأحكام الشرعية والاجتهاد المواكب لضرورات العصر ومتطلباته. ومع ذلك تظل دعوته هذه حسب العديد من المهتمين والشُرّاح إلى أنها تفتقد الشجاعة في إعلان الموقف الواضح إزاء علاقة الدين بالسياسة. ومن جهة نظرنا القاصرة، فنظرية الجابري حول هذه العلاقة قد تجد لها موطئ قدم مع سماحة الدين الإسلامي وإمكانيته في مواكبة العصر، لأن الدين قائم على الممارسة البشرية وفق التوجيه الرباني، وهنا نقاسمه خلاصته( ) بكون شعار " الإسلام صالح لكل زمان ومكان" أمر مُسَلَّمٌ به، لأن هذا ما يؤمن به كل مسلم، ولن يبقى المسلم مسلما إذا شك لحظة في هذه المسلمة الدينية. ولكن المسألة المطروحة، والتي يجب طرحها دائما، هي مسألة ما إذا كان المسلمون اليوم صالحين لزمانهم، أي قادرين على أن يعيشوا عصرهم، أن يدشنوا سيرة جديدة تكمل سيرة السلف القديمة، وتجعل منها واقعا حيا صالحا لأن تستلهمه الأجيال المقبلة في بناء سيرتها الخاصة. غير أن هذا متوقف لا محالة على التوجه العالم لنمط العقل الفقهي والديني الذي يحكمنا، فبه يمكن أن نسلم أو نرفض مثل هذه المخرجات طبعا.
أما الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمن فقد كان واضحا في توجهه وخياراته، فمسألة الفصل بين السياسي والديني غير قائمة، بل على العكس يمكن القول معه أنهما شيئان متلازمان، على أساس أن الممارسة السياسية ما هي إلا فعل تعبدي غايته تحقيق الهدف من الوجود الإنساني، أي التعبد لله تعالى وحده، ولا غرابة أن يستند هذا الفعل التعبدي على الدين باعتباره المنبع والمنهل الأساسي، أو ربما الوحيد، لصقل شكل هذه الممارسة، والتي تحتاج بطبيعة الحال لنموذج إنساني راقي ومتكامل، دافعه "العقل المؤيد" الذي ينسب الأفعال إلى الحق وحده بوصفه الخالق والرازق، وآلياته المساعدة تزكية النفس التي تقي شرور التسيد والتسلط، وتحقق غاية العمل لمساعدة الخلق وإسعادهم، والأخذ بيدهم لنيل فلاح الدنيا والآخرة.
ويذهب طه عبد الرحمن إلى أن "العقلانية" يجب أن تعرض على "الائتمانية" باعتبارها المعيار الذي يمكن أن تقوم على أساسها، وبذلك يمكن أن نستنبط أنه ردٌّ مباشر على دعوة الجابري، وهذا أمر طبيعي لأن قضية العقلانية/ العقل قضية خلافية بين المفكرين، وهي تنصب ولا شك في قضية جدلية أخرى هي موقع العقل والعقلانية في رحاب الدين، وهو ما سنجعله موضوعا للجزء الرابع من تأملاتنا حول المسألة الدينية، على صفحات هذه المجلة المتميزة "أوراق مبعثرة" بحول الله تعالى.
صلة الديني بالسياسي
بين محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن
عمر الموريف - المغرب
يمثل كل من الراحل محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمان رمزين للفكر الفلسفي المعاصر، والذين اهتما فيه معا بمسألة تقويم "التراث العربي الإسلامي" وتناوله من زاوية نظر نقدية بمعناها الإيجابي إلى حد كبير، غير أنه لا يخفى على أحد من المطلعين على فكر الرجلين مدى التبيان الذي قد يصل حد التناقض بين التوجهين، ويظل "العقل" باعتباره نمطا تفكيريا متميزا، ودعامة أساسية للنهوض والرقي والتخلص من براثين الجهل والتخلف أبرز نقاط التباين بين المفكرين، ذلك أن الجابري قدم قراءة إيديولوجية للتراث قسمه إلى ثلاث دوائر وهي حسب الأهمية، البرهان والبيان والعرفان، فكان رد طه عبد الرحمن أن قسم التراث تقسيما ثلاثيا أيضا وهو العقل المجرد والعقل المسدد والعقل المؤيد، فما يدل عليه الجابري بالبرهان يدل عليه طه عبد الرحمن بالعقل المجرد وما يسميه الجابري البيان يسميه طه عبد الرحمن العقل المسدد وما ينعته الجابري بالعرفان، ينعته طه بالعقل المؤيد. مما دفع بالباحث عبد النبي الحري( )، إلى استخلاص أن طه عبد الرحمن سقط في فخ قراءة الجابري الأيديولوجية للتراث عموما، والتراث الرشدي خصوصا، كما يفترض أن المشروع الفكري عند طه، ليس في حقيقة الأمر إلا المشروع الفكري للجابري مقلوبا، فما يقوم الجابري بالإعلاء من شأنه يقوم طه عبد الرحمن بالحط من قيمته، والعكس بالعكس( ).
ومن بين المواضيع التي تناولها المفكرين أيضا مسألة الصلة التي تجمع ين الدين والسياسة، وهو الموضوع الذي أسال حبر العديد من المفكرين والباحثين بمختلف مشاربهم، لكن تناوله من جهة نظر كل من الجابري وطه اتخذ طابعا خاصا، الشيء الذي جعلنا نطرح السؤال التالي: هل الاختلاف والتباين بين التوجهات الفكرية والفلسفية للرجلين قد أرخيا بظلالهما أيضا على القضية الجدلية الرابطة بين الدين والسياسة؟ أم أن الأمر مختلف هذه المرة ويمكننا أن نلمس شيئا من التوافق والتقاطع بين النظرتين والقراءتين؟
إن محاولة وقوفنا على هذا الإشكال الجدير بالبحث والمزيد من التمحيص، جعلنا نختار مؤلفين أساسين لهذين المفكرين، والذين أحسبهما من أبرز ما تناولا فيه مسألة الصلة بين الديني والسياسي، وبالطبع يظل التناول الكلي لفكر كل من الجابري (رحمه الله تعالى) وطه، أي تمحيص كل الإنتاج الفكري لهما، وهو القمين بتكوين صورة شاملة حول الموضوع، غير أن إلقاء نظرة على هذين المؤلفين كفيل بفهم التوجه الأساسي للمفكرين حول هذه القضية، ويتجلى هذين المؤلفين في :
الدين والدولة وتطبيق الشريعة لمحمد عابد الجابري( )؛
روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية لطه عبد الرحمان( ).
ولا ينفك الحديث عن علاقة الدين بالسياسة دون استحضار مصطلح: "العلمانية" وما تمثله من جدل واسع بين رافض ومؤيد، وبين هذا وذاك هناك من يذهب إلى حد تكفير العلمانية باعتبارها تمس بالدين وتعد خطرا محدقا به، ومن يعتبر العلمانية فرصة للقضاء على الدين باعتباره أهم عوائق التنمية والتقدم، لكننا يمكننا أن نقف على توجه وسط قد يقول بفصل الديني عن السياسي لكن لا يستطيع القول بإمكانية الفصل الدين عن المجتمع، بل أن مسألة الديني والسياسي مسألة منسجمة وموحدة لا يمكن الفصل بينهما بتاتا. والملاحظ أن كل من الجابري وطه قد تطرقا إلى "العلمانية" بشكل مخالف لما عهدناه في الكثير من القراءات والتفاسير المتنوعة التي وقفنا عليها، فمن البدائل التي يقترحها الجابري إلى فرضية التوحيد التي قال بها طه، وهذا ما سنعمل قدر الإمكان على التطرق إليه، للوقوف على مدى التباعد أو الاقتراب بين المفكرين في هذه النقطة بالذات متتبعين من زاوية أخرى لخطوات النزاع حول الحقيقة التي بدأنا مسيرتها في هذه المجلة. وعليه سنقسم هذا المقال إلى نقاط ثلاثة نفرد الأولى إلى موقف الجابري، والثانية لرؤية طه، بينما نخصص الثالثة كنقطة ختم نخصها بملاحظاتنا في مخرجات التوجهين:
أولا:الجابري وبدائل العلمانية
1- الموقف من العلمانية
اتخذ الراحل محمد عابد الجابري موقفا فريدا من مسألة العلمانية، ولعل هذا الموقف ما جعل بعضا من منتقديه يرون أنه لم يتملك الشجاعة الكافية لإعلان موقفه الواضح من هذا الموضوع، وعلى حد قول محمد أركون فإنه هو الآخر يقدم بعض الترضيات/ التنازلات تفاديا لأي صدام مع بعض مكونات المجتمع.
ومن وجهة نظرنا المتواضعة، فمحمد عابد الجابري وهو يمارس فعل التفكير، لم يخرج عن إطاره الثقافي والاجتماعي، وحتى تناوله للتراث فقد كانت نظرة داخلية إلى حد كبير جعلته، ربما، في منأى عن الصراع مع أمته، سيما وأن انتاجاته الفكرية أضحت أقرب إلى المراجع الكبرى المعتمدة في الفقه والتفسير وغيرهما. وعموما فموضوع صلة السياسة بالدين عند الجابري يجب ألا يظل قابعا في فهم العقل التراثي الذي ينظر إلى فصل الدين عن الدولة أو فصل الدين عن الدولة من زاوية ثنائية محض وهما إما إنشاء دولة ملحدة غير إسلامية، أو حرمان الإسلام من السلطة( )!. والجابري يرى أن فصل الدين عن السياسة لا يعني إبعاده عن الحياة الاجتماعية، لأن ذلك مستحيل عمليا، لكن يجب عدم توظيف الدين لأغراض سياسية، ذلك أن السياسة تمثل ما هو نسبي ومتغير تحركها المصالح الفئوية والشخصية، أو بمعنى آخر هي "فن لإدارة الاختلاف"، وما هو ما يخالف الدين وجوهره باعتباره المطلق والثابت غايته التوحيد لا التفرقة( ).
هل يعني الجابري إذن العلمانية بمدلولاتها الخاصة المتعارف عليها لدى الكثيرين؟
بداية يؤكد صاحب مشروع نقد العقل العربي أن قضية علاقة الديني بالسياسي يجب أن يؤطر تأطيرا يتوفر على حد أدنى من الفهم والتفهم والتفاهم، اقتناعا منه من أن من أهم عوائق التواصل والتفاهم بين تيارات الفكر العربي المعاصر انغلاق كل منها داخل مرجعيته الخاصة وانشداده المطلق إليها ونفي كل ما عداها، إما عن جهل أو تجاهل، وإما بتصنيفه تصنيفا اديولوجيا بالمعنى الذي تكون الايديولوجيا هي "آراء خصمي"( ).
ولوضع معالم هذا الإطار الضامن للحد الأدنى من التفاهم، بيّن الجابري أسباب نزول العلمانية بالعالم العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وارتباطه بالأقليات التي عاشت تحت ظل الحكم العثماني ومده، ليخلص إلى أن " مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة"( )، بمعنى أنها تعبر عن مضامين غير متطابقة مع حاجات الوطن العربي والإسلامي، وبالتالي فمعنى العلمانية متى انصب على "فصل الدين عن الدولة" فقد كان مرتبطا ارتباطا عضويا بمشكلة حقوق الأقلية الدينية، وبكيفية خاصة حقها في أن لا تكون محكومة بدين الأغلبية، وبالتالي فإنها على هذا الاعتبار كانت تعني بناء الدولة على أساس ديمقراطي عقلاني وليس على أساس الهيمنة الدينية، مؤكدا أن فصل الدين عن الدولة غير مستساغ إطلاقا في مجتمع إسلامي لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة. إن هذا التعارض لا يكون له معنى إلا حيث يتولى الدين هيئة منظمة تدعي لنفسها الحق في ممارسة سلطة روحية على الناس، في مقابل سلطة زمنية تمارسها الهيئة السياسية: الدولة.
2- المأزق... والحل !
إن تفسيرات الجابري لصلة الديني بالسياسي لا تخلو من مأزق معرفي قد تطرحه صعوبة التوفيق، نوعا ما، بين الابتعاد عن توظيف الدين في السياسة، وعدم إمكانية فصل الحياة العامة/ المجتمع عن الدين بشكل قطعي (والسياسة قد ينظر إليها بدورها كجزء من هذه الحياة العامة).
فكيف قدم لنا الحل لهذا الإشكال القائم؟
اتجه الجابري في محاولة له للتوفيق بين هذين النقيضين إلى طرح مرادفات بديلة للعلمانية، باعتبار أن نبتة الأخيرة لا توافقها تربة العالم العربي والإسلامي، في حين أن يستسيغه هذا المجال يجب أن يأتي بحلول للممارسة السياسة الكفيلة بحماية الحقوق والحريات، وإقرار أسس ومبادئ العدل والكرامة، وهكذا نجده يشير إلى مصطلحي: "الديمقراطية" و"العقلانية". يقول مشرح العقل العربي: " في رأيي إنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر القومي العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية، فهما اللذان يعبران تعبيرا مطلقا عن حاجات المجتمع العربي"( ).
كيف ذلك؟
الديمقراطية عند الجابري، في هذا الصدد، تعني حفظ الحقوق: حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، بينما تعني العقلانية الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى وتقلب المزاج( ). غير أن الجابري يوضح أنه "لا الديمقراطية ولا العقلانية، تعنيان بصورة من الصور استبعاد الإسلام، كلا. إن الأخذ بالمعطيات الموضوعية وحدها يقتضي منا القول إنه إذا كان العرب هم مادة الإسلام حقا، فإن الإسلام هو روح العرب، ومن هنا ضرورة اعتبار الإسلام مقوما أساسيا للوجود العربي: الإسلام الروحي بالنسبة للعرب المسلمين، والإسلام الحضاري بالنسبة للعرب جميعا مسلمين وغير مسلمين. وإعادة تأسيس الفكر القومي على مبدأي الديمقراطية والعقلانية، بدل مبدأ العلمانية، وإحلال الإسلام المكانة التي يجب أن يحتلها في النظرية والممارسة، تلك من جملة الأسس التي يجب أن تنطلق منها عملية إعادة بناء الفكر القومي العربي، الفكر الذي يرفع شعار الوحدة العربية والوطن العربي الواحد من المحيط إلى الخليج"( ).
إن ما اهتم به الجابري هنا هو القومية العربية حصرا، فلم يتطرق إلى الأقطار الإسلامية التي لا تعد العربية لغة لها، مما يطرح السؤال حول مصير ونجاعة هذا الطرح الذي يقابل بين الدين والسياسة في هذه المناطق.
ثانيا: طه والحل لائتماني
ما يميز الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمن كمفكر أنه اختار مسارا فلسفيا وفكريا متميزين، والمتتبع لسيرة الرجل سيقف أنه لم يصل إلى هذه المرحلة إلا بعد مسار طويل وشاق، كان سببه الأساس النكسة العربية، والذي من خلاله تعمق في دراسة التراث اليوناني والغربي والإسلامي، وبدل أن يعيد إنتاج المفاهيم والنظريات، استطاع إلى حد كبير، أن يخلق لنفسه لغة فلسفية خاصة، ونمط تفكيري يميل إلى الفلسفة التصوفية بعمقها الإسلامي، وإن كان هذا حسب بعض الباحثين( ) يجر إليه عيب أن القول الذي ينتجه لا يتسم بالعالمية/ الكونية كما يفترض أن يكون عليه القول الفلسفي.
هذا التميز أرخى بظلاله أيضا على مسألة صلة الديني بالسياسي في فكره وفلسفته، فقبل أن يطرح الخيار البديل للعلاقة التي من المفترض أن تجمع بين الدين والسياسة، حاول البرهنة على وجود سمات المشتركة بين الرافض لإدخال الدين في السياسة، والمتمسك بذلك (غير أن هذا المتمسك ليس هو النموذج الذي يطمح إليه طه في تدبير الشأن العام):
1- الدياني والعلماني... ونمط الممارسة اللسياسة !
يرى طه عبد الرحمن أن ما يعيب العلمانية هو أنها تضيق على الوجود الإنساني، إذ تهتم بالعالم المحسوس وحسب، والحال أن الإنسان يعيش في عالمين اثنين على الأقل، أحدهما عالم مرئي يتواجد فيه الإنسان بجسمه وروحه، والثاني غيبي يتواجد فيه بروحه، بل إن العالم الغيبي هو نفسه قد يتعدد، ويصير عوالم بعضها فوق بعض لما للإنسان من قدرة على أن تعرج روحه على قدر اجتهاده على تحصيل العمل( ).
والإيمان بوجود عالمين عند طه، يفترض وجود قواعد ونظم ونواميس تؤطر كلا العالمين، ومن المفترض أن يتمسك كل مقتنع بالعالم الذي يؤمن به بهذه النواميس المؤطرة، لكن صاحب روح الدين يتجه نحو إبراز أن هذه الفرضية منتفية عند الممارسة السياسية، ذلك أن المؤمن بالعالمين (الدياني) يحاول تنزيل قواعد العالم الغيبي على العالم على المرئي، والعكس تماما للعلماني الذي يقوم برفع العالم المرئي، عن طريق ممارساته الواعية أو غير الواعية، إلى مصاف العالم الغيبي.
فالفاعل الديني يقوم، إذن، بممارسة التشهيد في العالم المرئي، أي أنه له القدرة على رؤية العالم الغيبي في العالم المرئي بتنزيل مبادئ الأول في الثاني، وذلك استنادا على مبدأ الفطرة التي تنزل منزلة ذاكرة سابقة مع وجوده المرئي، إذ تتحدد هذه الذاكرة الفطرية بمعاني وأفعال تحدد الغاية من وجوده، وهي التعبد لله وحده، والصلة بين العالمين يمكن الرقي بها إلى كمال التشهيد وذلك عن طريق مبدأ التفاضل الذي بمقتضاه يُطلب أفضل دين ليأتي بتعبده على وفق أحكامه، متحققا بشهود كمال الأولوهية، ثم أيضا بمبدأ التكامل الذي به يطلب في كل مرئي وجه أو توجه تنزل الغيبي فيه، متحققا بشهود عموم الوحدانية( ).
أما الفاعل السياسي فيرفع العالم المرئي إلى مرتبة العالم الغيبي بمحاولته لتنزيل المبادئ المؤطرة لعالم الغيب على العالم المرئي، وذلك من خلال مجموعة من الممارسات (المبادئ على حد تعبيره)، والمتجلية في نسبة الفاعل السياسي الأشياء إلى نفسه وما ينتج عن ذلك من شعور بالملكية والسيادة على ما ينسب إليه (وقد يكون ذلك قدرات، قرارات، منجزات...)، الشيء الذي يحمله على حب التسيد على الغير، هذا التسيد الذي يصل ذروته عن طريق مبدأ السلطان الذي يجعل به من ملكه ملكوتا واسعا، ومن قوته جبروتا قاهرا، ومن شخصه ذاتًا متألهة موحدة ، متوسلا لكل ما لديه من أجهزة لكي يبث في نفوس المحكومين حب الخوف، لكل هذا ينتج مبدأ التنازع مع الغير حول مواقع القوة والقرار( ).
هنا يصل بنا طه عبد الرحمن إلى نتيجة في غاية من الأهمية، هي أن كل من الدياني والعلماني يحاولان معا إدماج العالمين معا عند الرغبة في تنزيل نمطٍ محدد للممارسة السياسية، عالم مرئي (تحكمه السياسة ظاهريا)، وغيبي (يؤطره الدين كليا)، أي أننا في نهاية المطاف سنقف على أن الدين والسياسة أمر واحد لا يمكن الفصل بينهما إطلاقا.
لكن وجب الإشارة إلى أن هذه النتيجة التي وصلنا إليها عن طريق الاختصار الشديد جدا للمحاججة الطويلة والتفصيلية لطه، تتضمن أن الدياني عنده يعني الفرد الذي يقول بالوصل بين الدين والسياسة، مع اختلاف بين الديانيين في وجوه هذا الوصل( )، فالدياينيون، حسب توضيح طه نفسه، ينقسمون إلى قسمين أساسيين( ):
القائلون بالتداخل بين الدين والسياسة: ويشمل "التسييسيون" القائلون بدخول الدين في السياسة، و"التديينيون" القائلون بدخول السياسة في الدين.
القائلون بالتماثل بين الدين والسياسة: ويشمل بدوره "التحكيميون" أي القائلون بتحكيم الدين، و" التفقيهيون" القائلون بتفقيه السياسة.
غير أن ما خلص إليه الكاتب إلى أن الدياني بمختلف تفرعاته قد لا يختلف عن العلماني في مبادئ التسيد والتسلط، أي أن لطه نموذج آخر يطمح إليه يكون بمثابة النموذج المثالي الذي يحق له الأخذ بكل من الدين والسياسة في ممارسة فضلى يحتوى فيها كل طرف الطرف الآخر بما يحقق الغاية من الخلق بصفة عامة.
2- الدعوى الائتمانية..النموذج الطهوي المثالي
الائتماني حسب طه عبد الرحمان هو الفرد القائل ب"الوحدة الأصلية" بين الدين والسياسة( أو على الوجه الدق: بين التعبد والتدبير)، وتختص هذه الوحدة بكونها سبقت إجراءات الفصل والوصل بين هذين الطرفين، بحيث لا يصح الكلام بصددها عن الحدود بين ما هو تعبدي وبين ما هو سياسي( ).
فالفرد الائتماني يعلو كلاًّ من الدياني (الذي يأخذ بثنائية الشرعية التي يضفيها على الدين، والعقلانية على السياسة)، وكذا العلماني (القائل بالعقلانية وحدها)، ويتخذ مبدأ التعبد لله وحده باعتباره الغاية التي خلق الإنسان منذ البداية، وأنه يميز في تعبده هذا بين ظاهر الأعمال وباطنها، جاعلا باطنها حاكما على ظاهرها، ولا يصل إلى هذه المرتبة العليا إلا من خلال مبدأ التزكية العملية التي بها يصيرا متعبدا لله في كل شيء (بما فيها العمل السياسي)، وفي كل وقت وفي كل أين. كما أن العمل التزكوي يخرج الائتماني من حب التسيد على الخلق إلى حب التعبد للحق (خلافا للدياني والعلماني)، مورثا إياه وازعا داخليا.
فالائتمانية بكل هذه المثل العليا التي أحاطها بها طه عبد الرحمن تصلح لأن تكون الوعاء الجامع بين الديني والسياسي من دون إمكانية الوقوع في براثين التصادم والصراع بينهما، لأننا بفضلها، كما فهمنا بكل تواضع، ستمسي السياسة عملا دينيا تعبديا، ويصبح الدين مصدرا مؤطرا للممارسة السياسية، أين أننا في نهاية الأمر يمكننا أن نصف الدين والسياسة في فلسفة طه بكونها وجهان لعملة واحدة.
نقطة ختم: ملاحظات في مخرجات التوجهين:
ما يمكننا أن نسطره بداية أن كلا الرجلين، الراحل محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن، قد انغمسا إلى حد كبير، وإن بدرجة متفاوتة، في تراثنا العربي والإسلامي، فانهالا من خصوصيتنا التي أفرزت لنا تصورات وقراءات يحق لنا أن نفتخر بها، مهما توافقنا أو اختلفنا معها، فليس يسيرا أن تنطلق من البيت الداخلي لإعطاء تصور نقدي وتفسيري، لأنه ليس أيسير من نقل تجارب الغير نقلا حرفيا جافا، غير أن ذلك سيجعله، أكيد، بلا طعم وروح منتميين إلى عالمنا هذا.
فالجابري، على غرار طه أيضا، يسكنه هم سؤال النهضة، هذه النهضة، التي افتقدناها منذ قرون ولت ولا زلنا في دوامتنا المستمرة، والتي يحتل فيها موضوع الدين موقعا فيصليا وحاسما، ولكون الحياة الحديثة تتطلب ممارسة سياسية في ظل بروز الدولة والمؤسسات، فإنها ستظل في علاقة جدلية مع الدين، هذه العلاقة التي تختلف تفسيراتها حسب رؤية كل مفكر أو فيلسوف أو عالم أو ممارس، فالجابري وهو يضع أمامنا بدائل العلمانية من ديمقراطية وعقلانية، حاول بعدها التطرق إلى إشكال تطبيق الشريعة في ظل هذين المبدأين مستعينا بالدعوة إلى إدراك زَيْفيّة الدعوة إلى العلمانية بمدلولها الغربي، وكذا التعامل مع السلفية كتجربة تاريخية أساسا، مع إعمال معقولية الأحكام الشرعية والاجتهاد المواكب لضرورات العصر ومتطلباته. ومع ذلك تظل دعوته هذه حسب العديد من المهتمين والشُرّاح إلى أنها تفتقد الشجاعة في إعلان الموقف الواضح إزاء علاقة الدين بالسياسة. ومن جهة نظرنا القاصرة، فنظرية الجابري حول هذه العلاقة قد تجد لها موطئ قدم مع سماحة الدين الإسلامي وإمكانيته في مواكبة العصر، لأن الدين قائم على الممارسة البشرية وفق التوجيه الرباني، وهنا نقاسمه خلاصته( ) بكون شعار " الإسلام صالح لكل زمان ومكان" أمر مُسَلَّمٌ به، لأن هذا ما يؤمن به كل مسلم، ولن يبقى المسلم مسلما إذا شك لحظة في هذه المسلمة الدينية. ولكن المسألة المطروحة، والتي يجب طرحها دائما، هي مسألة ما إذا كان المسلمون اليوم صالحين لزمانهم، أي قادرين على أن يعيشوا عصرهم، أن يدشنوا سيرة جديدة تكمل سيرة السلف القديمة، وتجعل منها واقعا حيا صالحا لأن تستلهمه الأجيال المقبلة في بناء سيرتها الخاصة. غير أن هذا متوقف لا محالة على التوجه العالم لنمط العقل الفقهي والديني الذي يحكمنا، فبه يمكن أن نسلم أو نرفض مثل هذه المخرجات طبعا.
أما الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمن فقد كان واضحا في توجهه وخياراته، فمسألة الفصل بين السياسي والديني غير قائمة، بل على العكس يمكن القول معه أنهما شيئان متلازمان، على أساس أن الممارسة السياسية ما هي إلا فعل تعبدي غايته تحقيق الهدف من الوجود الإنساني، أي التعبد لله تعالى وحده، ولا غرابة أن يستند هذا الفعل التعبدي على الدين باعتباره المنبع والمنهل الأساسي، أو ربما الوحيد، لصقل شكل هذه الممارسة، والتي تحتاج بطبيعة الحال لنموذج إنساني راقي ومتكامل، دافعه "العقل المؤيد" الذي ينسب الأفعال إلى الحق وحده بوصفه الخالق والرازق، وآلياته المساعدة تزكية النفس التي تقي شرور التسيد والتسلط، وتحقق غاية العمل لمساعدة الخلق وإسعادهم، والأخذ بيدهم لنيل فلاح الدنيا والآخرة.
ويذهب طه عبد الرحمن إلى أن "العقلانية" يجب أن تعرض على "الائتمانية" باعتبارها المعيار الذي يمكن أن تقوم على أساسها، وبذلك يمكن أن نستنبط أنه ردٌّ مباشر على دعوة الجابري، وهذا أمر طبيعي لأن قضية العقلانية/ العقل قضية خلافية بين المفكرين، وهي تنصب ولا شك في قضية جدلية أخرى هي موقع العقل والعقلانية في رحاب الدين، وهو ما سنجعله موضوعا للجزء الرابع من تأملاتنا حول المسألة الدينية، على صفحات هذه المجلة المتميزة "أوراق مبعثرة" بحول الله تعالى.