زاهر الغافري شاعر عاش حياته بمتعة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • زاهر الغافري شاعر عاش حياته بمتعة

    زاهر الغافري شاعر عاش حياته بمتعة


    الرحيل الأخير لعاشق السفر.
    الاثنين 2024/09/30
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    متعة الحياة ومتعة الشعر هما الشيء نفسه عند الشاعر

    كما لو أنه كان يجد الكثير من المزاح حين يحدثك عن الموت. الشاعر العماني زاهر الغافري الذي غيبه الموت قبل أيام لم يكن يغفل لحظة واحدة عن فرصة تمكنه من الاحتفاء بالحياة في الوقت الذي يمر فيه مسرعا على ما قاله طبيبه محذرا.

    لا يسمح لك بأن تنصحه، لأنه يهرب بك في اتجاه زمنه الغاص بالاحتفالات الغامضة. ولكنك لابد أن تدرك بعد قليل من الوقت أن فرحه بالحياة لم تكن لتطاله خشيته من الموت. في أحيان كثيرة يود أن يقول لك “لقد تركت الموت ورائي” لكي يخفف من قلقك.

    يقول في واحدة من قصائده “هل كان ينبغي أن تمضي/ كل تلك السنوات/ كي أكتشف أنني صيحة عائدة من الموت/ من عزلة أخف من ريشة طائر”. وهو مثل صيحة عاش حياته مسرعا. مدفوعا بعصف خفي في اتجاه مدن لم يرها، لا لشيء إلا ليضعها تحت لسانه ويتذوق طعمها شعريا.


    ◙ شاعر عاش حياته بعمق ولذة استثنائية يحسد عليها وكانت تلك الحياة غاصة بالمعاني التي هي من ذهب الشعر


    أشك في أن الغافري كان يدير شؤون حياته وهو الذي أرادها خفيفة لكي يسابق بها قصيدة كانت قد فلتت كلماتها بعد أن رشقته بضوئها. لم يقف حائرا بين متعتين، متعة الحياة ومتعة الشعر، فهما بالنسبة إليه الشيء نفسه. ألم ينهكه ذلك السباق؟ يحتاج الشعر إلى شيء من الحزن وهو ما كان زاهر بارعا في إخفائه وهو يستعرض لذائذ العيش والذهاب بها إلى أقصى مناطقها.

    “كأن الريح تحته” عاش زاهر الغافري حياته مسافرا منذ أن كان فتيا. برع في الاهتداء إلى عناصر الرقة والحيوية والتدفق والاستمتاع والخيال والشغب في المدن التي عاش فيها طويلا وتمكن منه جمالها غير أن علاقته ببغداد التي هي أولى المدن التي احتضنته وعاش فيها عشر سنوات كانت أشبه بالقاعدة التي تأسست عليها بنيته الروحية. فيها اكتشف الشعر وتمكنت منه فكرة الحداثة وفتح عينيه على دروب التجريب من أجل الوصول بالشعر إلى مناطق يتحرر فيها الشاعر من عبء قراءاته.

    غالبا ما كان يتحدث عن بغداد باعتبارها فضاء شعريا، امتزجت فيه الرؤى المتمردة بالإيقاعات الصاخبة. غير مرة حدثني عن بغداد مدفوعا بحماسة استثنائية لم تخفف منها بغداديتي التي أعرف أنني لو دافعت عنها لكان قد أخبرني أنه بغدادي أكثر مني. ذلك هو زاهر الذي أعرفه وقد تمكنت منه شياطين الشعر.

    بالنسبة إليه فإن شارع الرشيد وسركون بولص هما الشيء نفسه. كما أنه قد يرى أن سينما الفردوس تقع بين دفتي كتاب بدر شاكر السياب “أنشودة المطر”. لقد التبست عليه بغداد مثلما لم تلتبس عليه مدن أخرى عاش فيها طويلا. باريس، مونبلييه، طنجة، الرباط ونيويورك ولندن ومالمو بالسويد. كل تلك المدن هي مدن أما بغداد فهي قصيدة. كان العالم بالنسبة إليه منظومة شعرية. في حالة من هذا النوع لا بد أن نتخيل أن حياته كانت صعبة. في كل الأحوال لم يكن الغافري كائنا واقعيا بالرغم مما كان يبديه من اهتمام بأناقة سلوكه وملبسه وخفة روحه.

    يقول زاهر الغافري “هناك في هدأة الليل أسمع مرثية عن نفسي/ صوتا يرثي كل آلامي على حافة/ تصاعد منها أنفاس القدر”، ولكن أين يقع ذلك الهناك؟

    ◙ الشعر يحتاج إلى شيء من الحزن وهو ما كان زاهر الغافري بارعا في إخفائه وهو يستعرض لذائذ العيش

    ولد زاهر الغافري عام 1956 في الجزيرة الخضراء بزنجبار، ثم انتقلت عائلته إلى قرية سرور بعمان. في الثالثة عشرة من عمره رحل إلى بغداد ومنها إلى باريس وبعدها إلى الرباط حيث درس الفلسفة بجامعة محمد الخامس. كان يسافر كثيرا لا يملك تفسيرا لذلك سوى شغفه بالسفر.

    صدر له أكثر من 12 كتابا شعريا، غير أنه لم يوثق رحلاته كما فعل ابن قريته الشاعر سيف الرحبي الذي ألف كتبا كثيرة عن رحلاته بين أصقاع الأرض. وهي كتب مدهشة من حيث المزج بين الخيال الشعري والوصف الواقعي. اكتفى الغافري بالشعر. لم يكن وقته يتسع إلا لشيئين، الحياة والشعر.

    يقول “ميت في السرير/ لكنني أرى، لهذا سأترك لكم الشعر/ يكفيني أن أرى تلويحة اليد من أعلى السحابة”. كانت الحياة المباشرة هي هدفه ولقد عاش كما يحب، وكان الشعر هو سبب تلك الحياة ولقد كتب ما حلم به يوم كان فتى صغيرا في بغداد يتلفت بإعجاب بين شعراء كانوا بالنسبة إليه كواكب بعيدة وصاروا في ما بعد أصدقاءه.

    لقد عاش زاهر الغافري حياته بعمق ولذة استثنائية يُحسد عليها وكانت تلك الحياة غاصة بالمعاني التي هي من ذهب الشعر. يقول “أنا الكائن/ ذو الأخطاء الكثيرة/ لم أعرف اللعبة قط/ على الأرجح تنقصني المهارة لأدخل في قلب العالم/ تحت راية الصيارفة”.



    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    فاروق يوسف
    كاتب عراقي

يعمل...
X