ثلاثية غنام غنام.. تذويب الاغتراب بالذاكرة والوعي مسرح بلا أقنعة يسعى إلى حماية الهوية الفلسطينية. الأحد 2024/08/04 حارس الهوية والذاكرة الفلسطينية ليس من السهل أن تتم مقاربة قضية مثل القضية الفلسطينية بكل تراجيدياتها وآلامها وأحلامها في عمل مسرحي، لكن الفنان الفلسطيني غنام غنام كانت له مقاربة مختلفة لواقع فلسطين وآمال الفلسطينيين وما يعيشونه من حالات اغتراب واحتلال وتدمير وتشريد، إذ يحفر المسرحي عميقا في اليوميات والأحلام ليقدم خطابا يحمي الذاكرة والهوية. يمثل الكاتب والمخرج والممثل المسرحي غنام غنام الشاهد على العصر، أو ذاكرة الوطن التي تتمثل في استيعاب القضية الفلسطينية والإيمان بها والعمل على توثيقها مسرحيا، منطلقا من خبرته المسرحية العريضة. كتب غنام ثلاثيته “فاطمة الهواري لا تصالح” و”سأموت في المنفى” و”بأم عيني” ببناء درامي متماسك، ليفتح مجالات كثيرة أمام الوعي الجمعي واستيعاب مسألة الذاكرة التي هي بمثابة الوعاء الوطني للقضية الفلسطينية لتكريس مفهوم الوطن كما يراه أصحاب القضية سواء بالداخل أو بالخارج. إن مسرح غنام غنام الذي يتمثل في فرقة مسرحية متكاملة يضرب اللاوعي والزيف والمسكوت عنه ومحاولات طمس الهوية بمسرح واع مكتمل الأركان. الاغتراب والهوية اللغة في مسرح غنام بسيطة وهي عبارة عن مزيج بين الفصحى والعامية، تناسب المكان والحدث، وتكرس للواقعية عرّف هيجل مصطلح الاغتراب بأنه انفصال الإنسان عن ذاته وعن مجتمعه وفقدان وجوده وتقيد حريته في تقرير مصيره، فالاغتراب عنده هو “حالة اللا قدرة التي يعاني منها الإنسان عندما يفقد سيطرته على حريته وممتلكاته فتوظَّف لصالح غيره بدلا من أن يديرها لصالحه الخاص”، ولذا يفقد الفرد القدرة على تقرير مصيره والتأثير في مجرى الأحداث التاريخية بما فيه آلامه، كما نجد بول سارتر الفيلسوف الوجودي يرى أن الحرية هي أساس وجود الإنسان وقد استعمل مصطلح الاغتراب في عدد من مؤلفاته حيث يقول في مؤلفه الوجود والعدم ونقد الفكر الديالكتيكي “أما الإنسان فيغترب عن نفسه ليس فقط في مواجهة العدم بل أيضا في علاقته مع الآخر، إنه في هذه الحالة قد يختبر نفسه من خلال نظرة الآخر إليه، كموضوع أو كشيء”. فسر سارتر الاغتراب من خلال تعرف الفرد على ذاته ووعيه بوجوده كموضوع بالنسبة للآخر. إن غنام غنام بصفته “الشاهد على العصر” يستطيع تحقيق هويته في وسط اجتماعي يتحقق فيه التفاعل بين ذاته وغيرها من الذوات، وهو يدرك هويته من خلال المسؤولية التي يستشعرها تجاه بني وطنه المنكوبين، لذا يسعى لتنمية هذه الهوية بالإبداع والمعرفة والخبرة من خلال نشاط اجتماعي مسرحي. لا يشعر الكاتب أو الفنان المسرحي غنام بفقدان الهوية لأنه يكرس لها في نصوصه الثلاثة سواء بالحوار أو الفكرة أو في الأداء أمام الجمهور ويضع في حسبانه أنه طوال سنوات إبداعه يكون الحارس القائم على تلك الهوية والذاكرة الفلسطينية بكل أوجهها. rr تتمثل مظاهر الاغتراب في ثلاثية غنام غنام في ثلاثة محاور: اغتراب الشخصيات في مسرحية “فاطمة الهواري لا تصالح” أو في المونودراما “سأموت في المنفى” أو في “بأم عيني” عن العالم بسبب الاحتلال، وهو اغتراب ميتافيزيقي أو اغتراب أساسي ملازم لوعيه بوجوده وتناهيه، ثم الاغتراب عن بقية الشخصيات التي ينتمي إليها بما لها من ماض وقيم وتقاليد سواء بالقيود المفروضة عليه أو حالات النزوح والإبعاد القسري، وأخيرا الاغتراب عن الذات وهو أخطر هذه الأشكال الثلاثة، إذ الشخصيات الموجودة بالداخل أو المغتربة تشعر كل منها باغترابها عن ذاتها بسبب البعد المكاني والزمني. تجلى اغتراب فاطمة الهواري والراوي في المسرحيتين التاليتين متسقا مع المحاور الثلاثة للاغتراب فمنذ بداية المسرحيات الثلاث يشعرون باغترابهم عن العالم حينما أدركوا التغير الذي طرأ على وطنهم، والذي جاء بشكل ميتافيزيقي متمثلا في عنصر الزمن وماهيته ومدى تأثيره عليهم، وأيضا اغترابهم الخاص بوعيهم بوجودهم وبعدهم عن ذويهم وكذلك أعدائهم المحتل الجاثم على أرضهم. إن قضية تحرير الوعي وحماية الهوية هي الفكرة الأساسية في مسرحية “فاطمة الهواري لا تصالح”، أبرز غنام غنام سجالا بين المحتل وصاحب الأرض منذ 1948 وحتى 2002، هي شخصيات حقيقية يعرفها تماما، أو شخصيات اعتبارية كما أكد في “ملاحظات المؤلف” مستمرة إذ كلما يشيخ بعضها تخرج من صلبها شخصيات فتية تكمل المسيرة، أي أن الفكرة لا تموت بموت المؤمنين بها بل هي مستمرة عبر الأجيال، بينما الزمن مفتوح منذ النكبة وحتى لحظة العرض، أي أن النضال مستمر طالما كان هناك صاحب أرض وقضية ومغتصب ومحتل. فاطمة الهواري أو عروس الجليل وهي في الخامسة والستين من عمرها تمثل كل الفلسطينيات اللواتي فقدن ذويهن، كما تمثل الفلسطينية التي تعيش الاغتراب داخل الوطن وصمودها حتى يأتيها آبي ناتان الإسرائيلي الذي يطلب منها أن تسامحه لأنه قتل زوجها رمزي حينما تطوع في صفوف العصابات التي جاءت إلى فلسطين قبل النكبة، جاء رافعا راية السلام والتعايش مطالبا بقبول الآخر، لكنها ترفض ببسالة أن تغض الطرف عن اغتيال حبيبها واغتصاب وطنها في آن واحد، جاء ناتان ومعه قناة سي.أن.أن ليري العالم بأسره اعتذاره لفاطمة الهواري عن جريمته التي ارتكبها في الماضي. ذاكرة لا تبهت ثلاثية “فاطمة الهواري لا تصالح” و”سأموت في المنفى” و”بأم عيني” يجمع بينها الاغتراب ومحاولة تفكيكه يبدأ استدعاء الماضي حينما كانت العروس تستعد للزفاف وهي ابنة الثامنة عشرة وآبي ناتان في الواحدة والعشرين في سلاح الجو الإسرائيلي، يتم استدعاء الحقبة السوداء في تاريخ الوطن حينما بدأ بوعد بلفور مرورا بدخول القوات العربية في الحرب وحتى خروجها ونضال الفلسطينيين أمام المحتل وصولا إلى مقتل رمزي عريس فاطمة. يمثل كل من فاطمة وآبي الجانبين؛ صاحب الأرض والمغتصب، فكل منهما يسرد طموحاته وأمانيه، يتكلم آبي عن القدرات العسكرية لإسرائيل وهجومها وقتل الكثيرين بينما تتكلم فاطمة عن الصمود والبسالة أمام المحتل. نجد أن الجانب الفلسطيني يتمسك بأشعار المقاومة محمود درويش ومروان مخول وسميح القاسم والصمود والغناء والرقص. حينما ينتهي استدعاء الماضي تطلب فاطمة من آبي ناتان أن يعيد إليها من استشهدوا (خطيبها وأبوها وأمها..إلخ) وحينما يعجز تقوم بطرده فيشعر حينئذ بعجزه، لكن بعد رفضها أي بعد مرور سبع سنوات تجد نفسها مضطرة إلى الذهاب إلى منزل آبي ناتان للحصول على توقيعه بأنه السبب في عجزها، حتى تحصل على التأمين الوطني لترفع قضية وتحصل على المعونة الطبية والصحية وتعويضا مناسبا، لكن تجد نفسها في حيرة من أمرها وخصوصا حينما يأتي طيف رمزي محذرا من ذهابها إلى آبي ناتان وتتعلل بأنها أسعار الأدوية ارتفعت، وتتخيل أن آبي ناتان سوف يرفض التوقيع لأنها طردته حينما ذهب إليها. حينما تذهب فاطمة الهواري إليه تجده عاجزا لا يقوى على الحركة أو الكلام وحوله كل الجهات الأمنية التي سوف تمنعه من النطق إن حاول الاعتراف بما فعله، وحينما أشار إلى ىأنه يمكن أن يبصم رفض المحيطون به. خرجت فاطمة الهواري وهي تعلم يقينا أن الآخر سواء آبي ناتان أو المحيطين به هم المحتلون، وأنها هي ضمير كل فلسطيني يبحث عن وطنه وهو موجود فيه، تتجه صوب البحر عند يافا مع أقربائها، تردد المجموعة خلفها “فاخرجوا من أرضنا/ من برنا، من بحرنا/ من قمحنا، من ملحنا، من جرحنا/ من كل شيء/ واخرجوا من مفردات الذاكرة”. e تنتهي المسرحية وحكاية فاطمة الهواري التي رحلت في عام 2012 لكن قصة الشعب الفلسطيني لم تنته بعد، وتؤكد المجموعة أن فاطمة الهواري لا تصالح. يناقش غنام غنام في مونودراما “سأموت في المنفى” مسألة الذاكرة وصك الملكية في المنافي؛ القضية الفلسطينية بزاوية فلسطيني يعيش في المنفى، الغربة والمنافي، يرى القضية من الخارج برغم أنه يحملها في دفاتره وفي ذاكرته وفي مسرحه، يضع بصمته الوراثية على الجمر الملتهب، مستعينا بأيديولوجية الوطن الثابتة وميراثه الاجتماعي الذي كان مشاركا فيه بشكل أو بآخر في النضال ضد المحتل الصهيوني. يتجلى الاغتراب في مونودراما “سأموت في المنفى” إذ تتعاظم المشاعر المتلاحقة في مخيلة البطل رغبة في العودة إلى الوطن كما يتمنى، بمعنى أن يكون الوطن محررا. “سأموت في المنفى” حكاية مواطن مُبعد، يحمل ذاكرة الوطن أينما خطت قدماه، تتمثل في صور وحكايات عن الشهداء وأشعار الشعراء الفلسطينيين وتراب الوطن والمطارات، يرى أمامه المسافرين وهم يتمنون العودة إلى أوطانهم ورغبتهم في احتضان ذويهم؛ المصري الذي يهاتف أخاه كي يحضر معه كل أحبائه إلى المطار ليشم فيهم رائحة الوطن، والصينية التي تهاتف خطيبها بأن ينتظرها في المطار كي يذهبا سويا لزيارة قبر الجد والجدة، فتجتاح البطل شجون وأمنيات بأن يسمع بأذنيه إعلان “قيام طائرة الخطوط الجوية الفلسطينية إلى مطار الشهيد علي طه في اللد (بن جوريون)”. تلك الذاكرة التي تصمد في مواجهة مسألة الآلة الإعلامية التي تقف في صف المحتل لا يمكن أن تبهت أو تتمزق لأنها قائمة في الذات والوعي والمسرح الذي يتسلح به غنام غنام. يؤكد لويس كارتون في كتاب “The power of one” (قوة الشخص الواحد) أنّ المسرحية ذات الشخصيات المتعددة ترتدي فيها كل شخصية قناعا ما مختلفا يتغير وفق الأحداث في المسرحية والزمن. لكن في المونودراما فإن الشخصية واحدة بلا قناع مما يُمكِّن المتلقي من النظر بعمق في دواخل الذات الإنسانية. استطاع غنام أن يبرز لنا خصائص الشخصية الواحدة التي تمتلك الوعي الكامل لعرض قضية العصر وكل العصور؛ حكايات المطارات التي يسردها لكي يؤكد أن الفلسطيني المغترب يعاني في المنفى، لكنه يكشف دواخل كل شخصية بعمق. اللجوء إلى الأردن فيبدأ بحكاية فهمي (الأخ) الذي أمضى عمره مناضلا لكنه مات في الأردن بعيدا عن تراب فلسطين. المسرحي لا يشعر بفقدان الهوية لأنه يكرس لها في نصوصه الثلاثة سواء بالحوار أو الفكرة أو في الأداء أمام الجمهور “يا الله! فلسطين بمدنها وقراها توزعت على شواهد القبور، هؤلاء الذين لم يتمكنوا من العودة إليها، ليصلوا على أعتابها، أو ليدفنوا في ترابها، حملوها معهم على شواهد قبورهم”. حكاية صابر (الأب) الذي أصبح وحيدا بعد أن اغتصب الأقرباء أرضه قبل أن يغتصبها المحتلون فاضطر إلى أن يعمل فلاحا في المنفى. حكاية غنام (الشخصية المونودرامية) يتخيل يوم وفاته وحال أبنائه الذين يأتون والذين لا يستطيعون حضور جنازته والأصدقاء وأحوالهم عند القبر وحاله بعد الدفن. يمثل المنفى بدل فاقد عن الوطن الذي سلبه المحتل، وفي المنفى يتجلى الشعور بالاغتراب. “يعني أنا عشت عمري الذي لم يكن عمري الذي كان لي في البلاد فسرقوه معها إنه عمر بدل فاقد، بدل فاقد، صباي الذي صرتُه بدل فاقد عن صباي الذي كان لي إنه صبى مستعار، ترابي الأخير، كله بدل فاقد”. كما يقول “السؤال الذي يؤرقني وأريد له جوابا، حين أموت أنا الآن، فمن الذي يموت، غنام بدل الفاقد، أم غنام الأصلي؟ هي أزمة الهوية”. الحفاظ على الوعي Thumbnail نجد، في مسرحية “بأم عيني” السؤال والجواب وهي ترتيبها الثالثة في الملحمة، أن البطل اغترب عن وطنه لكنه لم ينفصم عن ذاته التي تجّسد الوطن الكامن فيها، برغم أنه بعيد عنها لكنها حاضرة في وعيه الفردي والجمعي بالنسبة لكل المبعدين. الاندماج ضعف ونقمة ونكتشف أنه طبقًا للنظرية النفسية لستوكلز عن الاغتراب النفسي، والتي توضح أن الاغتراب النفسي يتضمن بعض الأعراض مثل العزلة. لكن البطل لم يشعر بالعزلة نظرا إلى أن القضية، برغم مرور أكثر من سبعين عاما إلا أنها لا تزال طافية فوق سطح الأحداث إذ يساهم كل المغتربين في إيقاظها على الدوام، وحينما عاد إلى الوطن لم يكن شخصًا آخر بمعتقدات وأفكار جديدة، يحملها من ثقافة غريبة عنه ووعي مختلف، لقد عاد إلى الوطن وكأنه كان يعيش فيه طوال عمره ولم يغادره قط، متمسكًا بإيمانه ووعيه لرؤية الوطن بعينيه وللانصهار في شوارعه وحواريه وشعبه. “رَأيْته بِنَفسي رُؤْية لاَ مجَال للشَّكّ فيها”، هكذا أراد أن يقول، رأى الوطن والتحم به، عايش يومياته وإن كانت قصيرة، اشتبك بأحلام الفلسطينيين وامتزجت فلسطين بأحلامه بل انصهرت تمامًا. أين الاحتلال؟ سؤال طالما وجهه لنفسه وللمحيطين به، إذ كان يتجول في كل مكان دون أن يشعر بجنود المحتل، ربما كان ينتظر إجابة من العالم. ي حطَّم غنام رؤية بيتر بروك التي تقول إن المسرحية المونودرامية تُفقد المسرح جزءًا من وهجه الخاص، لأنه يعتمد أساسًا على ممثل واحد يقوم بأداء عرض مسرحي كامل، وبذلك تغيب سمة التفاعل التي يقوم عليها أي حدث درامي حقيقي على خشبة المسرح بين ممثل وممثل آخر في ثنائية التعامل بين فعل ورد فعل، لكن غنام أضفى حضورا طاغيا ووهجا بالغا على المسرح. حصل على التفاعل سواء بشكل حقيقي أو من خلال المسرحية، جاء النص متفاعلًا مع الواقع، لا تعرف أيهما يكون نسخا للآخر. تنامى الحدث من خلال تلاحق الصور. البناء الدرامي في مونودراما “بأم عيني 1948” يعتمد في الأساس على الاستعارة الدرامية التي تقوم بدور تفسيري في الدراما، وهو دور يتجاوز التشبيه أو التناقض الشكلي فقط بين شيئين أو عنصرين لتوحي بمعان رمزية. كما يعتمد على الحوارات الافتراضية بين البطل المونودرامي من ناحية والأصوات التي تمثل المحيطين به والتي كان يعول عليها نمو الحدث الدرامي من خلال الحبكة الرئيسية وهي رغبة البطل في دخول فلسطين بشكل سري. إن البطل في مونودراما “بأم عيني 1948” شديد الالتحام بالمحيط الاجتماعي القائم على الاغتراب ومحاولة تفتيته من ناحية وتحديث مفاهيم الهوية والذات من ناحية أخرى. “الله يمسيكم بالخير ويمسي الخير فيكم، لأنه الأيام بتحلى بالإنسان والإنسان بيحلى بالإيام، وأحلى البني أدمين هم الناس وأحلى الناس هم البني آدمين، ومساء الخبير ع البني آدمين“. ترتكز الأحداث في “بأم عيني” على الميراث الثقافي سواء المؤمنين بالقضية من خارج المجتمع الفلسطيني أو كل الطوائف الفلسطينية المبعدة، فضلا عن الإرث التاريخي الذي يثبت أن المقاومة قديمة ومتأصلة في المجتمع الفلسطيني بل ومتجددة، بالإضافة إلى الأشعار التي تضفي على المقاومة بعدًا أكثر أهمية. الذاكرة التي تتمثل في سرد الحكايات والحفاظ على مقابر الشهداء، ثورة البراق، والعلاقات المتينة هي بمثابة الحفاظ على ذاكرة الوعي الجمعي، تمثل المسرحية وثيقة الذاكرة التي سوف يأتي يوم تكون فيه هي نفسها ميثاق العودة. “لوشربوا البحر، أو هدوا السور/ لو سرقوا الهوا، أو خنقوا النور/ ما ببيعا لعكا، بالدنيا كِلَا/ ما ببدل حارتي ولو بقصور”. إن ثلاثية غنام غنام “فاطمة الهواري لا تصالح” و”سأموت في المنفى” و”بأم عيني” يجمع بينها خط رئيسي وهو الاغتراب ومحاولة تذويبه بالذاكرة والوعي من ناحية، والوقوف ضد محاولات طمس الهوية من ناحية أخرى، جاءت اللغة بسيطة، وهي عبارة عن مزيج بين الفصحى والعامية، تناسب المكان والحدث، وتكرس للواقعية، وتحمل في طياتها دلالات متعددة كما تناسب الشخصيات في فاطمة الهواري أو المونودرامية والأصوات التي تمثل الشخصيات المحيطة بها في المسرحيتين التاليتين. كان للغة العامل في نمو الحدث المسرحي، إذ تمثل الضلع الأساسي في تطوره لأنها حققت هدفها في رسم الشخصيات وحشدتها لإضفاء حالة من الواقعية على الحدث المسرحي. تلك اللغة التي على الرغم من بساطتها تمثل السهل الممتنع. صاغ غنام الحوار بطريقة جعلته ينسجم مع الموقف وتكثيف العبارة. تعتبر الثلاثية عملا فارقا في مشروع غنام غنام المسرحي وجاءت لتؤكد أن مسرحه شديد الالتحام بقضاياه. عبدالسلام إبراهيم روائي ومترجم مصري