الحياة رحلة متقطعة ومفاجآت مستقبلية غير محدودة
فيلم "فوق الصوتي": اللاوعي يتحكم في حياة الإنسان ويسيرها كما يشاء.
اختبارات فعالة للوعي
رغم تجاهله للجزء غير الواعي من دماغه، إلا أن هذا الجزء يتحكم كثيرا في حياة الإنسان وشخصيته وحتى أفعاله وردود أفعاله وتقييماته، هذا ما اختار المخرج روب شرويدر الحديث عنه في فيلمه الجديد “فوق الصوتي”.
ليست هنالك حدود في بعض الأحيان لتدفق الصورة السينمائية والانتقالات بين الأزمنة والشخصيات وبين الذكريات والوعي واللاوعي إلا حدود المسار المنطقي المتسلسل للأحداث التي يمكن أن يمر بها الكائن البشري وتندرج في حياته على أنها سلسلة من الخبرات والمواقف والتجارب.
لكن الأمر مختلف تماما في فيلم “فوقي الصوتي” للمخرج روب شرويدر، فهو يمتلك كامل الحرية والأفق الواسع في التنقل بين الأزمنة وبين الوعي واللاوعي وبين الوهم والحقيقة ليلقي بشخصياته وبالمشاهد أيضا في مدار متشعب تصعب السيطرة عليه أو الإمساك ببداياته وصولا إلى نهاياته.
ينطلق الفيلم من حدث واقعي تماما، فها هو غلين (الممثل فينسنت كارثيزر) منطلق بسيارته قادما من حفل عائلي عندما تتسبب مسامير كبيرة في الطريق في ثقب إطارات سيارته فيضطر وسط المطر ومع انتصاف الليل وانتشار الظلام إلى التماس المساعدة من أقرب منزل وبالفعل يستضيفه آرت (الممثل بوب ستيفنسون) وزوجته سيندي (الممثلة تشيلسيا لوبيز) لكي يمضي الليل حتى الصباح ثم يجد حلا لسيارته.
المخرج يعمد بشكل مسرف إلى ما يشبه اختبار وعي وتفسيرات يطرحها على المشاهد ويشركه في تلك الدوامة
ما سوف يلي ذلك من أحداث هو الذي سيزجنا في مدارات متشعبة من التحولات فالضيف الذي يمضي ليلته في غرفة نوم الزوجين يفيق في الصباح على غياب أهل البيت ويكتشف أن المنزل مهجور لكن وبعد مرور زمن لا نعلمه يتصل به آرت ليخبره عن زوجته الحامل.
بالطبع ليست ثمة علاقة بين الحدثين لكن ما سوف يفاقم القصة هو حالة تشبه الاختطاف يتعرض لها غلين وسيندي ويجدان نفسيهما شبه مخدرين وجرى استجوابهما في منشأة غامضة، كما تتم مراقبتهما من خلال الزجاج وتتولى شانون (الممثلة بريدا وول) ما يشبه جلسات العلاج النفسي لغلين من خلال استرجاع اللاوعي والخبرات السابقة، وعلى فرض أن غلين عاجز عن الحركة بسبب إصابته بشلل لسبب مجهول يحمل معه عاملا نفسيا أكثر مما هو عضوي.
ينفتح ذلك الواقع الغامض على سلسلة من الأحداث المشتتة والمتناثرة كنثار اللاوعي والذكريات الغامضة والمخالفة في كثير من الأحيان ما بين ما هو واقعي وما هو ضرب من الخيال ومن ذلك مثلا التحولات في شخصية آرت الذي يبدو أنه يجسد شخصية سمسار وصياد للفرص وأن إصابة سيارة غلين بالعطب كان فعلا مقصودا منه لغرض إيقاع غلين في المصيدة لكن السؤال لماذا غلين تحديدا أم أنها عملية عشوائية فذلك ما لا تجيب عنه أحداث الفيلم تاركة متسعا للمشاهد لكي يستنتج بنفسه ويقوم بالبحث عن الحلقات المفقودة والربط في ما بينها.
وفي وقت يرسم المخرج خطا دراميا أمضينا وقتا في متابعته والذي يربط الأشخاص الثلاثة وهم غلين وسيندي وآرت إلا أنه سوف يخرجنا سريعا من تلك الدائرة الثلاثية إلى علاقة غرامية تربط سيناتور وشخصية سياسية مع فتاة يحرص على إخفائها عن الآخرين في علاقة سرية غامضة لنكتشف دورا ما لذلك السيناتور في أعمال تلك المنشأة السرية التي تجري ما يشبه التجارب على البشر وعلى الذاكرة البشرية وتحولات اللاوعي.
ورغم كل ما سبق، لا يلبث التحول الجذري في الدراما أن يتفجر عندما تكتشف المعالجة شانون أن غلين ليس شخصا مشلولا وأنه إنسان طبيعي تم تخديره وتلقين اللاوعي لديه بما يخدم تجارب مستقبلية وهو ما يجعلها تشعر بوطأة المؤامرة التي وقعت فيها فهي طرف يؤدي عملا فيه الكثير من الغموض الذي يقترب من اختطاف البشر وإجراء التجارب النفسية والسلوكية عليهم لاسيما مع احترافها وقدرتها على التفاعل مع تلك الحالات مع احتفاظها بحس إنساني عميق.
صراع مستمر بين الوعي واللاوعي
يتصاعد ذلك التحول عندما تقوم شانون بتحرير غلين وساندي فيما يشبه المطاردة البوليسية من تلك المنشأة وهو تحول يبث الذعر في إدارات المنشأة الأكثر سرية وخلال ذلك يستخدم المخرج مشاهد الحركة وقطع المونتاج السريع واللون والإضاءة ببراعة لغرض الذهاب بنا بعيدا مع الشخصيات الهاربة ولكن مرة أخرى في مشاهد ليلية تحت الأمطار الغزيرة.
مع كل هذه التحولات تبقى شخصية آرت مثيرة للجدل فهو يظهر في العديد من المشاهد والمواقف التي يتلبس فيها لبوس شخصيات متعددة، لاسيما وأن لاوعي سندي يخبرنا أنه كان أستاذها في الدراسة الثانوية وأحبها وهي دون الثامنة عشرة ثم تزوجها بعد ذلك وعجزت عن التخلص منه بسبب قدرته على السيطرة النفسية عليها وهو ما يزيد من اندفاع غلين باتجاه تحريرها منه ولكن ليجد نفسه في دوامة لا تنتهي.
يعمد المخرج بشكل مسرف إلى ما يشبه اختبار وعي وتفسيرات يطرحها على المشاهد ويشركه في تلك الدوامة وكأنه يقودنا إلى عملية متسلسلة لفك الألغاز وربط الأزمنة وفهم ما يقع للشخصيات من أزمات مصحوبة بتداعيات نفسية وصور مستقبلية من الصعب السيطرة عليها أو جمعها في إطار واحد.
ذلك ما سلط الضوء عليه الناقد السينمائي في مجلة فيرايتي، مشيرا إلى أن هنالك حدودا للمساحة التي يمكن للمخرج وكاتب السيناريو أن يتحركا من خلالها عندما يقودان المشاهد إلى سلسلة شاسعة من الأحداث المبثوثة بشكل مشوش عبر الزمان والمكان.
طاهر علوان
كاتب عراقي مقيم في لندن
فيلم "فوق الصوتي": اللاوعي يتحكم في حياة الإنسان ويسيرها كما يشاء.
اختبارات فعالة للوعي
رغم تجاهله للجزء غير الواعي من دماغه، إلا أن هذا الجزء يتحكم كثيرا في حياة الإنسان وشخصيته وحتى أفعاله وردود أفعاله وتقييماته، هذا ما اختار المخرج روب شرويدر الحديث عنه في فيلمه الجديد “فوق الصوتي”.
ليست هنالك حدود في بعض الأحيان لتدفق الصورة السينمائية والانتقالات بين الأزمنة والشخصيات وبين الذكريات والوعي واللاوعي إلا حدود المسار المنطقي المتسلسل للأحداث التي يمكن أن يمر بها الكائن البشري وتندرج في حياته على أنها سلسلة من الخبرات والمواقف والتجارب.
لكن الأمر مختلف تماما في فيلم “فوقي الصوتي” للمخرج روب شرويدر، فهو يمتلك كامل الحرية والأفق الواسع في التنقل بين الأزمنة وبين الوعي واللاوعي وبين الوهم والحقيقة ليلقي بشخصياته وبالمشاهد أيضا في مدار متشعب تصعب السيطرة عليه أو الإمساك ببداياته وصولا إلى نهاياته.
ينطلق الفيلم من حدث واقعي تماما، فها هو غلين (الممثل فينسنت كارثيزر) منطلق بسيارته قادما من حفل عائلي عندما تتسبب مسامير كبيرة في الطريق في ثقب إطارات سيارته فيضطر وسط المطر ومع انتصاف الليل وانتشار الظلام إلى التماس المساعدة من أقرب منزل وبالفعل يستضيفه آرت (الممثل بوب ستيفنسون) وزوجته سيندي (الممثلة تشيلسيا لوبيز) لكي يمضي الليل حتى الصباح ثم يجد حلا لسيارته.
المخرج يعمد بشكل مسرف إلى ما يشبه اختبار وعي وتفسيرات يطرحها على المشاهد ويشركه في تلك الدوامة
ما سوف يلي ذلك من أحداث هو الذي سيزجنا في مدارات متشعبة من التحولات فالضيف الذي يمضي ليلته في غرفة نوم الزوجين يفيق في الصباح على غياب أهل البيت ويكتشف أن المنزل مهجور لكن وبعد مرور زمن لا نعلمه يتصل به آرت ليخبره عن زوجته الحامل.
بالطبع ليست ثمة علاقة بين الحدثين لكن ما سوف يفاقم القصة هو حالة تشبه الاختطاف يتعرض لها غلين وسيندي ويجدان نفسيهما شبه مخدرين وجرى استجوابهما في منشأة غامضة، كما تتم مراقبتهما من خلال الزجاج وتتولى شانون (الممثلة بريدا وول) ما يشبه جلسات العلاج النفسي لغلين من خلال استرجاع اللاوعي والخبرات السابقة، وعلى فرض أن غلين عاجز عن الحركة بسبب إصابته بشلل لسبب مجهول يحمل معه عاملا نفسيا أكثر مما هو عضوي.
ينفتح ذلك الواقع الغامض على سلسلة من الأحداث المشتتة والمتناثرة كنثار اللاوعي والذكريات الغامضة والمخالفة في كثير من الأحيان ما بين ما هو واقعي وما هو ضرب من الخيال ومن ذلك مثلا التحولات في شخصية آرت الذي يبدو أنه يجسد شخصية سمسار وصياد للفرص وأن إصابة سيارة غلين بالعطب كان فعلا مقصودا منه لغرض إيقاع غلين في المصيدة لكن السؤال لماذا غلين تحديدا أم أنها عملية عشوائية فذلك ما لا تجيب عنه أحداث الفيلم تاركة متسعا للمشاهد لكي يستنتج بنفسه ويقوم بالبحث عن الحلقات المفقودة والربط في ما بينها.
وفي وقت يرسم المخرج خطا دراميا أمضينا وقتا في متابعته والذي يربط الأشخاص الثلاثة وهم غلين وسيندي وآرت إلا أنه سوف يخرجنا سريعا من تلك الدائرة الثلاثية إلى علاقة غرامية تربط سيناتور وشخصية سياسية مع فتاة يحرص على إخفائها عن الآخرين في علاقة سرية غامضة لنكتشف دورا ما لذلك السيناتور في أعمال تلك المنشأة السرية التي تجري ما يشبه التجارب على البشر وعلى الذاكرة البشرية وتحولات اللاوعي.
ورغم كل ما سبق، لا يلبث التحول الجذري في الدراما أن يتفجر عندما تكتشف المعالجة شانون أن غلين ليس شخصا مشلولا وأنه إنسان طبيعي تم تخديره وتلقين اللاوعي لديه بما يخدم تجارب مستقبلية وهو ما يجعلها تشعر بوطأة المؤامرة التي وقعت فيها فهي طرف يؤدي عملا فيه الكثير من الغموض الذي يقترب من اختطاف البشر وإجراء التجارب النفسية والسلوكية عليهم لاسيما مع احترافها وقدرتها على التفاعل مع تلك الحالات مع احتفاظها بحس إنساني عميق.
صراع مستمر بين الوعي واللاوعي
يتصاعد ذلك التحول عندما تقوم شانون بتحرير غلين وساندي فيما يشبه المطاردة البوليسية من تلك المنشأة وهو تحول يبث الذعر في إدارات المنشأة الأكثر سرية وخلال ذلك يستخدم المخرج مشاهد الحركة وقطع المونتاج السريع واللون والإضاءة ببراعة لغرض الذهاب بنا بعيدا مع الشخصيات الهاربة ولكن مرة أخرى في مشاهد ليلية تحت الأمطار الغزيرة.
مع كل هذه التحولات تبقى شخصية آرت مثيرة للجدل فهو يظهر في العديد من المشاهد والمواقف التي يتلبس فيها لبوس شخصيات متعددة، لاسيما وأن لاوعي سندي يخبرنا أنه كان أستاذها في الدراسة الثانوية وأحبها وهي دون الثامنة عشرة ثم تزوجها بعد ذلك وعجزت عن التخلص منه بسبب قدرته على السيطرة النفسية عليها وهو ما يزيد من اندفاع غلين باتجاه تحريرها منه ولكن ليجد نفسه في دوامة لا تنتهي.
يعمد المخرج بشكل مسرف إلى ما يشبه اختبار وعي وتفسيرات يطرحها على المشاهد ويشركه في تلك الدوامة وكأنه يقودنا إلى عملية متسلسلة لفك الألغاز وربط الأزمنة وفهم ما يقع للشخصيات من أزمات مصحوبة بتداعيات نفسية وصور مستقبلية من الصعب السيطرة عليها أو جمعها في إطار واحد.
ذلك ما سلط الضوء عليه الناقد السينمائي في مجلة فيرايتي، مشيرا إلى أن هنالك حدودا للمساحة التي يمكن للمخرج وكاتب السيناريو أن يتحركا من خلالها عندما يقودان المشاهد إلى سلسلة شاسعة من الأحداث المبثوثة بشكل مشوش عبر الزمان والمكان.
طاهر علوان
كاتب عراقي مقيم في لندن