ما هو علم البلاغة Rhetoric

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ما هو علم البلاغة Rhetoric

    بلاغه (علم)

    Rhetoric - Rhétorique

    البلاغة (علم ـ)
    البلاغة وتطور دلالتها

    شاع استعمال كلمة البلاغة في كتب الأدب، وكانت في البدء هي والفصاحة صنوين، تستعملان معاً، أو تستعمل إحداهما مرادفة للأخرى. والبلاغة في اللغة تنبئ عن الوصول والانتهاء، جاء في «لسان العرب» لابن منظور، (مادة بلغ): «بَلَغَ الشيء يَبْلُغُ بُلوغاً وبَلاغاً: وصل وانتهى، وأبلغه هو إبلاغاً وبلَّغَه تبليغاً. والبلاغة الفصاحة، والبَلْغُ والبِلْغُ: البليغ من الرِّجال، ورجل بليغٌ وبَلْغٌ وبِلْغ: حسن الكلام فصيحُه، يبلغ بعبارة لسانه كُنْهَ ما في قلبه، والجمع بلغاء، وبَلُغَ بلاغةً: أي صار بليغاً».
    ففي اللغة والاصطلاح تعني البلاغة الانتهاء والوصول إلى الغاية، وهي كذلك الفصاحة. ولو تلمسنا هذه الكلمة في تراثنا النقدي والبلاغي لرأيناها شائعة معروفة: فقد جاءت لفظة (بليغ) في قوله تعالى {وقُلْ لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} (النساء: 63) وفسرها الراغب الأصفهاني حسين بن محمد (ت 502هـ) على وجهين، «أحدهما: أن يكون بذاته بليغاً وذلك بأن يجمع ثلاثة أوصاف: صواباً في موضوع لغته، وطبقاً للمعنى، وصدقاً في نفسه، والثاني: أن يكون بليغاً باعتبار القائل والمقول له، وهو أن يقصد القائل أمراً فيرده على وجه حقيق أن يقبله المقول له، ويصح حمل الآية على المعنيين». أما الزمخشري فلمح الأثر النفسي في تفسيرها وأشار إلى تأثيرها رمزاً في قوله «قل لهم قولاً بليغاً مؤثراً في قلوبهم يغتمون به اغتماماً ويستشعرون منه الخوف استشعاراً».
    ومن الصعب الإحاطة بتطور مفهوم البلاغة في عصر صدر الإسلام إلى أن كان العصر الأموي إذ يسأل معاوية صحاراً العبدي: «ما هذه البلاغة التي فيكم؟ قال: شيءٌ تجيشُ به صدورُنا فتقذفُه على ألسنتنا، وقال له معاوية: ما تعدّون البلاغة فيكم؟ قال: الإيجاز، قال: وما الإيجاز؟ قال صحار: أن نجيب فلا نبطئ، ونقول فلا نخطئ». وأورد الجاحظ تعريفات عدة للبلاغة عند العرب وغيرهم، فذكـر تعريف عمرو بـن عبيد والعتابي كلثوم بن عمر (ت 220هـ) دون أن يكون في هذه التعريفات حد فاصل بين البلاغة والفصاحة. وقد ذكر المبرِّد محمد بن يزيد (ت 285هـ) تعريفاً للبلاغة قائلاً: «إن حق البلاغة إحاطةُ القول بالمعنى، واختيار الكلام، وحسن النظم حتى تكون الكلمة مقاربة أختها، ومعاضدة شكلها، وأن يقرب بها البعيد، ويحذف منها الفضول».
    وذهب العسكري أبو هلال الحسن بن عبد الله (ت395هـ) إلى أن البلاغة سميت بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه، والبلاغة من صفة الكلام لا من صفة المتكلم. وحاول ابن سنان الخفاجي (ت466هـ) أن يحدد البلاغة ويرسم معالمها غير أنه لم يأت بالتعريف الجامع المانع، فهو لم يعرف البلاغة، وإنما فرّق بينها وبين الفصاحة. كذلك لم يفرّق عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) بين المصطلحين؛ لأن الفصاحة والبلاغة والبراعة والبيان أمور مترادفة. وهذا يعني أن الحدود الدقيقة لم تكن قد اتضحت بعد، وأن هذه المصطلحات لم تستقل وتأخذ معناها الخاص. وقد نحا الفخر الرازي (ت606هـ) منحى عبد القاهر في فهم كل من الفصاحة والبلاغة، فالبلاغة عنده: بلوغ الرجل بعبارته كُنْه ما في قلبه مع الاحتراز عن الإيجاز المخلّ والإطالة المملة. والبلاغة عند ضياء الدين بن الأثير (ت637هـ) شاملةٌ للألفاظ والمعاني، وهي أخصُّ من الفصاحة، فكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغاً. والبلاغة تكون في التركيب، إذ لا توصف اللفظة المفردة بالبلاغة.
    وحينما قسم السكاكي (ت626هـ) البلاغة ووضّح معالمها في كتابه «مفتاح العلوم» عرّفها تعريفاً دقيقاً، فقال: «هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد التشبيه والمجاز والكناية على وجهها». فهو بهذا التعريف يدخل مباحث ما يعرف بعلم المعاني وعلم البيان، ويخرج مباحث البديع لأنه في نظره وجوه يؤتى بها لتحسين الكلام، وهي ليست من مرجعي البلاغة. أما الخطيب القزويني (ت739هـ) وهو آخر من وقف عند البلاغة من المتأخرين، فيفرق بين بلاغة الكلام وبلاغة المتكلم، وعن الأولى يقول: «وأما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، ومقتضى الحال مختلف، ومقامات الكلام متفاوتة: فمقام التنكير يباين مقام التعريف.. وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام، وتطبيق الكلام على مقتضى الحال هو الذي يسميه عبد القاهر النظم[ر] أما بلاغة المتكلم فهي ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ». وقسم القزويني البلاغة إلى ثلاثة أقسام مستنداً إلى السكاكي. فكان ما يحترز به عن الخطأ علم المعاني، وما يحترز به عن التعقيد المعنوي علم البيان، وما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية مقتضى الحال وفصاحة علم البديع، وظل هذا التعريف شائعاً، وذلك التقسيم سائداً، وأصبح مصطلح البلاغة يضم الفصاحة وعلم المعاني وعلم البيان وعلم البديع، حتى بداية عصر النهضة العربية الحديثة، فظهرت محاولات التجديد في الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية، كما سيأتي. وهكذا يبدو من تعريفات القدماء أن البلاغة هي حسن البيان، وقوة التأثير، وهي بمعنى آخر: تأدية المعنى واضحاً بعبارة فصيحة مشرقة لها في النفس أثر خلاّب مع ملاءمة كل كلام للسياق الذي يرد فيه، والأشخاص الذين يُخاطَبون. فإذا ما أصاب الكلام معناه بوضوح وسلامة مع خلوّه من التكلف والفضول، ومراعاته مقتضى الحال، فهو البليغ. وهذا يعني أن البلاغة شاملة للفظ والمعنى. ويظل مصطلح البلاغة مرادفاً البيان أي الظهور والوضوح حتى بدء عصر التأليف المتخصص في البلاغة والنقد الأدبي في القرن الرابع الهجري.
    وليس من شك في أن تطور دلالة مصطلح البلاغة إلى أن استقر في البحث البلاغي المتأخر، كما سبق إنما هو نتيجة طبيعية ومنطقية لمراحل مرّ بها، بدأ منذ بواكير النقد والملاحظات البلاغية غير المعللة في العصر الجاهلي، إذ فُطر الشعراء على الأداء البليغ، أو هدتهم إليه سلائقهم، وألفته ألسنتهم وآذانهم، وكانت أحكامهم خالية من التعليل، ولها مظاهر عدة. أما في العصر الإسلامي فكان القرآن حجّة بلاغية ترك أثراً قوياً في نفوس العرب آنذاك، بسمو بيانه، وروعة أسلوبه، وحاروا في تعليل أثره في نفوسهم، وهم أهل اللغة وأرباب البلاغة، وقد تحداهم القرآن الكريم أن يأتوا بسورة من مثله أو أقل من ذلك، فعجزوا عن مجاراته، لأنه كتاب الله المعجز، نزل على نبيّه الأمينe فظهرت فيما بعد دراسات تخصصت في بحث قضايا إعجاز القرآن وبلاغته ونظمه، كما سيجيء بعد قليل.
    البلاغة في كتب الأدب والنقد واللغة
    ظهرت دراسات ومصنفات كثيرة تناولت مبحث البلاغة في معرض الحديث عن الأدب واللغة، من أهمها كتاب سيبويه (ت180هـ) ومعاني القرآن للفرّاء (ت207هـ) ومجاز القرآن لأبي عبيدة (ت211هـ) وفحولة الشعراء للأصمعي (ت216هـ) والبيان والتبيين، والحيوان للجاحظ (ت255هـ) والشعر والشعراء وأدب الكاتب لابن قتيبة (ت276هـ) والكامل ورسالة البلاغة للمبرد، ولم تكن كتب هذه المرحلة مخصَّصة للبحث البلاغي، ولا متعمقة في تأصيله، وإنما هي مرحلة تمهيد للتأليف الذي بدأ في أواخر القرن الثالث حين وضع ابن المعتز العباسي (ت296هـ) كتابه «البديع» ويقصد بالمصطلح «الجديد» أو «الجميل» أو «المخترع» ذاهباً إلى أن البديع ليس من اختراع الشعراء المحدثين في العصر العباسي، وإنما هو قديم موجود في الشعر الجاهلي والإسلامي وفي القرآن والحديث الشريف، فكان هذا الكتاب القيّم أول مؤلف في البلاغة جمع فنونها، وحلل بعض جماليات التشكيل البلاغي في الشعر. ثم تتالت الدراسات النقدية «كعيار الشعر» لابن طباطبا (ت322هـ) و«نقد الشعر» لقدامة بن جعفر (ت337هـ) و«الموازنة بين الطائيين» للآمدي (ت371هـ) و«الوساطة بين المتنبي وخصومه» للقاضي الجرجاني (ت392هـ) وكتاب «الصناعتين» للعسكري، و«سر الفصاحة» لابن سنان الخفاجي، و«العمدة» لابن رشيق القيرواني (ت456هـ).
    أما عصر النضج وازدهار الدراسات فيتمثل بمؤلفات عبد القاهر الجرجاني دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، والكشّاف للزمخشري (ت538هـ)، فقد وضع عبد القاهر أصول نظرية النظم، فكانت نظرية أدبية متكاملة، نتج منها منهج لغوي تحليلي وذلك في كتابه دلائل الإعجاز، وفيه اتجه نحو التقنين وتحديد المعالم الذوقية ووضع مباحث علم المعاني. أما في أسرار البلاغة فكان له نظرة متكاملة تقريباً في علم البيان. وكانت علوم البلاغة واضحة تمام الوضوح في ذهن الزمخشري، فمضى يطبقها على آي الذكر الحكيم مهتماً بعلمي المعاني والبيان خاصة لتشابكهما في دلالات الألفاظ والتراكيب، وفي أسرار الإعجاز القرآني ولطائفه الدقيقة، كما يقول شوقي ضيف في كتابه «البلاغة تطور وتاريخ».
    دراسات إعجاز القرآن وأثرها في البلاغة العربية
    كانت آيات القرآن الكريم الشاهد البلاغي الرفيع، كما كان ما فيها من روعة وجمال وتأثير مدعاة إلى التأليف في غريبه ومعانيه وأسراره ومجازه وإعجازه، وكان لمسألة الإعجاز أثر كبير في تطور الدراسات البلاغية والنقدية، وخاصة على أيدي أعلام علم الكلام من المعتزلة وغيرهم، أولئك الذين كانوا أول من بحث الإعجاز، فتسلحوا بمناهج عقلية، وعُرفوا بقوة البيان، وحسن الرأي، ونفاذ البصيرة وقوة الحجّة.
    وضع ابن قتيبة الدينوري كتابه «تأويل مشكل القرآن» ممثلاً لرأي أهل السنة، رداً على تيارات المتكلمين وآرائهم في تفسير الإعجاز، فالقرآن في نظره معجز بنظمه وسمو تأليفه عن سائر كلام العرب ونظومهم، أما جوانب الإعجاز فتتعلق بأمور هي: النظم بمعني سبك الألفاظ وضم بعضها إلى بعض في تأليف دقيق بينها وبين المعاني، والنظم الموسيقي ويشمل الإيقاع الداخلي في الآيات، وما جمعه من صفات تفوق كل أثر بياني للعرب، وبما جمع من المعاني وضروب العلم، وما جمع من دلائل الألوهية ومظاهرها، ولما له من أثر نفسي يثير الوجدان عن طريق الشعور، ويهز القلوب.
    وقد شهد القرنان الرابع والخامس الهجريان مرحلة خصبة وغنية في تأريخ الدراسات البلاغية للقرآن الكريم ففيهما نضجت نظريات العلماء في طبيعة الإعجاز، وتحددت اتجاهاتهم ومنازعهم في الكشف عن أسراره. في هذه المرحلة تظهر جهود كل من الرماني علي بن عيسى (ت386هـ) والخطّابي حمد بن محمد (ت388هـ) والباقلاني محمد بن الطيب (ت403هـ) والقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني (ت415هـ) وعبد القاهر الجرجاني.
    تقسيم البلاغة إلى علومها الثلاثة
    سلفت الإشارة إلى أن مفهوم المصطلح البلاغي لم يترسخ إلا منذ عهد السكاكي، إذ قسم البلاغة إلى علومها الثلاثة، وحددت مجالاتها ومباحثها، بعد أن كان البديع أو البيان أو الفصاحة كلها مترادفات تعني أمراً واحداً. وقد بدأ الاهتمام بهذه المسائل منذ صدر الإسلام مروراً بتأثير البحث في أسلوب القرآن، إلى عصر التأليف العام ثم المتخصص، حين صارت البلاغة عند الخطيب القزويني ومن تبعه من البلاغيين محصورة في علوم المعاني والبيان، والبديع الذي كان وجوهاً لتحسين الكلام وتذويقه، وقسمت محسناته إلى معنوية ولفظية. ثم أطلق عليها علم البديع، هذه العلوم هي باختصار:
    علم المعاني: عرّفه السكاكي في (المفتاح) بقوله: «هو تتبّع خواص تراكيب الكلام في الإفادة، وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره» وهوالعلم الذي يتناول أحوال الجملة من حيث: الإسناد الخبري والإنشاء، وأسلوب القصر، والفصل والوصل، والإيجاز والإطناب والمساواة، وأحوال أجزاء الجملة: أي المسند والمسند إليه، ومتعلقات الفصل كالتعريف والتنكير، والحذف والذكر، والتقديم والتأخير، والإظهار والإضمار.. وغير ذلك مما اصطلح عليه مباحث علم المعاني،وكيف تأتي مطابقة لمقتضى الحال، أي إنه يبحث في بناء الجملة: صوغها، اختيار أجزائها، علاقة الجمل المتتابعة بعضها ببعض، اختيار نوع الكلام الملائم لمقتضى حال المخاطب: خبراً أو إنشاء أو إيجازاً أو إطناباً أو مساواة.. فإذا كان النحوي يدرس هذه الأحوال من حيث الجواز والوجوب والامتناع، أي من حيث الحكم وإمكان الاستعمال، فإن البلاغي يدرس الأسرار الكامنة وراء هذه الأحوال، أي يهتم بمعنى المعنى كما سماه عبد القاهر، أي أن ينقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر. وهذا أحدى مزايا النمط العالي من الكلام.
    علم البيان: عرفه الخطيب القزويني بأنه: «علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه». وكان قوله: «بطرق مختلفة» مدعاة للكلام في الدلالات، والحديث عن شروط دلالة الالتزام.. وقد قسم القزويني البيان كما فعل السكاكي.
    وهكذا أضحت موضوعات علم البيان تتناول التشبيه: طبيعته، أركانه، أنواعه، أقسامه، أغراضه. والحقيقة والمجاز المفرد والمركب، والاستعارة وعلاقاتها بالمجاز، والفرق بين التشبيه والاستعارة، وأقسام الاستعارة، وخصائصها، ومزاياها البلاغية، ووظائفها الجمالية، والكناية وأقسامها وعلاقاتها والفرق بين الكناية والتعريض، واجتماع التعريض المجاز والرمز والإشارة، وبلاغة الكناية وسر جمالها.
    علم البديع: تفاوتت دلالة المصطلح عند البلاغيين والنقاد كقدامة والعسكري والقاضي الجرجاني والباقلاني وعبد القاهر. فالبديع عندهم من فنون البلاغة المختلفة كالاستعارة والتمثيل والتجنيس والحشو، بل كان مرادفاً للبيان والفصاحة والبلاغة ـ كما أسلفنا ـ إلى أن جاء السكاكي فلم يهتم به كثيراً، وسمّاه وجوه تحسين الكلام ولم يدخله في البلاغة. ثم جاء بدر الدين بن مالك (ت686هـ) فلخص القسم الثالث من مفتاح العلوم في كتابه «المصباح» وأطلق البديع على القسم الثالث من البلاغة وعرّفه بأنه «معرفة توابع الفصاحة» وقال عن المحسنات إنها مما يكسو الكلام حلّة التزيين، ويرقيه أعلى درجات التحسين، ويتفرع منها وجوه كثيرة يُصار إليها في باب تحسين الكلام. وقسمها إلى لفظية أو معنوية مختصة بالإفهام والتبيين، أو مختصة بالتزيين والتحسين. وهذا تقسيم جديد لم يؤلف عند السكاكي أو غيره من البلاغيين وتابعه الخطيب القزويني ففصل البديع عن علمي البلاغة ونظر إليه بوصفه علم تحسين وتزيين، وعرّفه بأنه «علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته»، وجعل هذه المحسنات نوعين:
    محسنات لفظية: يكون التحسين فيها راجعاً إلى اللفظ أولاً ويتبعه تحسين المعنى ثانياً أو بالعَرض فتشمل: السجع ولزوم ما لا يلزم والجناس ورد الأعجاز على الصدور، وبراعة الاستهلال والسرقات الشعرية وغيرها كالموازنة والتشريع والقلب.
    محسنات معنوية: وهي التي يكون التحسين فيها راجعاً إلى المعنى أولاً وبالذات، ويتبعه تحسين اللفظ ثانياً وبالعرض وتشمل: الطباق والمقابلة ومراعاة النظير وائتلاف اللفظ مع المعنى، والإبداع والمبالغة والاستطراد والمذهب الكلامي والمشاكلة وتجاهل العارف وتأكيد المدح بما يشبه الذم وعكسه، واللف والنشر وصحة الأقسام والجمع والتفريق والتقسيم والاستقصاء والتوجيه، والتورية والاستخدام، والمزاوجة وحسن التعليل، والتجريد والاستدراج، والإدماج والهزل الذي يراد به الجد والاطراد.
    ومنذ القرن السابع للهجرة بالغ جماعة في جمع ألوان البديع، وسلكوا في جمعها مسالك التكلف والتلاعب بالألفاظ، ووجهوا همهم إلى رصّ ألوانه ضاربين صفحاً عما ينبغي أن يُراعى في الشعر من مقتضيات الذوق والفن وخصوصية الإبداع، والمواءمة بين النغم والتجربة الشعرية، وسموا تلك القصائد بالبديعيات، وعرّفوها بأنها: قصائد اشتمل كل بيت منها على لون أو أكثر من ألوان البديع تمثيلاً فقط، أو مضموماً إليه التزام التورية باسمه. فهي منظومات في البديع تشبه ألفية ابن مالك في النحو أو الشاطبية في القراءات. وأشهر من ألّف في البديعيات بحسب التسلسل التاريخي الأربلي الشاعر المصري الصوفي (ت670هـ) وصفي الدين الحلي (ت750هـ) وابن جابر الأندلسي (معاصر الحلي) وعز الدين الموصلي (ت789هـ) وابن حجة الحموي (ت837هـ) واستمرت بعدئذ فكانت بديعية عائشة الباعونية الدمشقية (ت922هـ) وابن معصوم الحسيني المدني (ت1117هـ) وعبد الغني النابلسي (ت1143هـ) ومحمود صفوت الساعاتي المصري (ت1298هـ) وغيرهم.
    البلاغة في الدراسات المعاصرة
    جرى في العصر الحديث جدال ونقاش حول البلاغة العربية: أصالتها، ومصطلحها، وتأثرها بالفلسفة والمنطق، والمثاقفة ومناهج دراستها وتدريسها.
    ـ وكان كتاب «الأسلوب» لأحمد الشايب أول محاولة إيجابية في سبيل بعث البلاغة العربية الأصيلة والبحث عن مجالاتها، وما يمكن أن تتسع له وما لا ينبغي أن تجاوزه. وقد كان هذا الكتاب وكتابه الآخر «أصول النقد الأدبي» الذي أصدره سنة (1940م) بيانين عن ضرورة النهوض لتحويل درس البلاغة إلى نقد أدبي، واستطاع الشايب أن يثير عدة قضايا جمالية عن الذوق والجمال والإحساس الجمالي (الاستاطيقي).
    إن البلاغة ليست أمراً مستقلاً عن اللغة، بل هي الأمر الذي يساعد اللغة على أداء وظيفتها، أعني الإعراب عما في النفس. وإن البلاغة قد اختلطت بالنقد من حيث الموضوع أولاً. فالنص الأدبي شركة بينهما، لكنهما يختلفان من حيث المعالجة: فالبلاغة لا تُعنى بالصلة بين العمل الفني وصاحبه، ولا بالقيم العقلية والعاطفية في النص، فهي تُعنى بالأسلوب وخصائصه وما فيه من صور بلاغية، إنها تصور للناشئة قواعد الأدب التعبيرية حتى يحسنوا إنشاءهم الأدبي، فتصف وتعلم، على حين يحلل النقد الظواهر الواضحة والمستترة في العمل، ويتعرض لصلة بصاحبه، ويحكم على قيمته ومنزلته، ويحاول أن يقدر درجته الفنية تقديراً موضوعياً دقيقاً. وإذا كان النقد أقرب إلى الفن منه إلى العلم البحت، فإن البلاغة أقرب ما تكون منها إلى العلم، لأنها تستند إلى قواعد وقوانين، إلى جانب أن النقد من أهم العوامل في إيجاد البلاغة، فالملاحظات النقدية والأحكام المختلفة على الأدب أفادت البلاغيين فأحالوها قوانين وقواعد كانت خصبة ذوقية نصّية حتى القرن الخامس ثم تحولت إلى جافة عقيمة فيما بعد.
    وإذا كان النقد يضع لنا المقاييس العامة المستندة إلى نتائج العلوم الإنسانية إضافة إلى عنصري الذوق والجمال، فإن البلاغة ترشدنا إلى الوسائل التي تجعل كلامنا نافعاً مؤثراً مؤصلاً على قواعد عامة مستقاة من النصوص لأنها تعنى بالأسلوب وترسم خطة الأداء، في حين يتناول النقد المعاني والأساليب، أي عناصر العمل الفني متحدة. فالبلاغة والنقد ممتزجان، وقد كان لنشأتها في ظل دراسات الإعجاز أثر كبير في إضفاء النزعة الدينية على مباحثها. إن البلاغة هي البحث الأسلوبي في النقد إنها تعلِّم صناعة الأدب والأداء الرفيع، وتسهم في تكوين الذوق الأدبي، وتبصّر بالصفات التي تكسب النص سموّاً ورفعة، أو تورثه الضعف والتخلف، إذ تشكل الجانب الموضوعي في عملية النقد حين تلفت نظر الناقد إلى أدوات الأديب ووسائله.
    بناء على ذلك كله، أليست البلاغة هي الدرس الذي يعلّم الأحسن والأكمل من الكلام، حين تفهم كما فهمها المتقدمون، فتتسع دائرة بحثها لكل ما تشمله طبيعة الفن القولي وعمل الفنان الصانع والناقد؟
    أحمد دهمان
    مراجع للاستزادة:
    ـ شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ (القاهرة 1965).
    ـ بسيوني عبد الفتاح، علم البديع (القاهرة 1987).
    ـ بسيوني عبد الفتاح، علم المعاني (القاهرة 1987).
    ـ بسيوني عبد الفتاح، علم البيان (القاهرة 1987).

يعمل...
X