بيت البدر حيث كان بن لعبون يسكن
الشاعر محمد بن لعبون في الكويت
اختلف الباحثون في أمرين يتعلقان بالشعر النبطي هما نشأته وجذروه، وسبب تسميته بهذا الاسم، ولقد كان ابن خلدون (المتوفي سنة 1406م) أول من أشار إلى هذا النوع من الشعر الخارج على اللغة الفصحى وعلى بعض الأوزان الشعرية التي سادت منذ وضعها الخليل بن أحمد، استنباطا من أوزان الشعر القديم. فكان ابن خلدون يرى أن أهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب في أشعارهم، وأهل المشرق يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي ليس غير، وهذا دليل على أن تسمية هذا النوع من الشعر بالشعر النبطي لم تكن موجودة في عهده، وأننا كنا في المشرق بصفة خاصة نسميه: البدوي وليس النبطي، مما يدل على أن هذه التسمية حديثة نسبيا، يضاف إلى ذلك أن هذه التسمية لم تعرف خارج الجزيرة العربية منذ ظهور هذا الشعر فيها، مما يدل على أنها تسمية محلية لا علاقة بها بالأنباط.
وفي مجال آخر ذكر الدكتور عبدالعزيز بن لعبون أن إطلاق هذه التسمية جاء ربما لأن أصول هذا الشعر وفدت إلى نجد من أطراف العراق والشام حيث يطلق على الفلاحين اسم الأنباط لاستنباطهم الماء من الأرض، أو لأن هؤلاء هم أول من أبدع هذا الفن وبذلك نسب إليه.
ويرد على هذا بأن الأنباط قدماء في هذه المنطقة التي أشار إليها، ولم يرو عنهم هذا النوع من الشعر قبل الإسلام أو في عصوره الأولى، أو على الأقل حين استعرب النبيط كما قال أبوالعلاء، بل إن هذه التسمية ربما ظهرت بعد أن انتهى أمر الأنباط واختلطوا مع باقي الشعوب العربية ولم يعد لهم ذكر إلا في كتب التاريخ.
وهناك دلالة أخرى على عدم ارتباط هذه التسمية بالأنباط، وهي عدم وجود شعر معروف لهذا الجيل من الناس، فكيف يكون أبناء الجزيرة العربية متأثرين في شعرهم بل في تسمية هذا الشعر بأناس لم نقرأ لهم شعرا، ولم يصل إلينا من إنتاجهم الأدبي أي شيء، ويضاف إلى ذلك أن هذا الشعر لا يخص منطقة نجد وحدها، فهو موجود في كافة أنحاء الجزيرة سواء أكان في باقي أجزاء المملكة العربية السعودية أم في الدول الأخرى المطلة على الخليج العربي، ويكفي أن نعلم أن أول كتاب طبع من هذا الشعر هو ديوان الشيخ قاسم بن ثاني أمير قطر سنة 1328هـ، ولحقه في سنة 1339م ديوان عبدالله الفرج وكلاهما من خارج منطقة نجد مع تقديرنا لكبار شعراء النبط النجديين الذين برزوا بروزا كبيرا في هذا الميدان، وبرعوا في الشعر النبطي وأصبحوا علامة من علامات هذا النوع من الشعر.
وهنا أود أن أذكر رأيي في هذا التسمية، وهو ما قد سبق أن نشرته في أوائل الستينيات من القرن الماضي في مجلة الجزيرة السعودية التي كان يرأس تحريرها الاستاذ عبدالله بن خميس وهو قولي: »ولكني أظن أن هذه التسمية إنما هي تسمية بيئية محضة أطلقتها اللهجة على هذا النوع من الشعر، إذ اني طالما سمعت بعض الحافظين له يقولون: »فلان ينبط القصيدة نبطا« وعلى هذا فإن هذه التسمية ترجع إلى طريقة إلقاء هذا الشعر.. ولو استمعنا إلى شاعر يلقي قصيدة له لرأيناه يقسم البيت أثناء الإلقاء إلى تفعيلاته المبني عليها في تتابع مستمر ونبر واضح، وكأنه ينبط الكلمات من فمه »أي يقذف بها منه« ولا شك في أن لهذه الكلمة معناها العامي الذي لا يخفى. وهذا الذي قلته منذ ذلك الوقت أجده الآن هو الصواب في ظل الفترة التي نشأ فيها الشعر النبطي، حيث لم يكن يعتمد إلا على الحفظ والإلقاء من الذاكرة في غياب التدوين، وذلك بعد أن استبعدنا فكرة انتقاله من الأنباط، وأن عرب الجزيرة قد قلدوهم فيه، ويؤكد وما قلناه ان اسم هذا الشعر هو الشعر النبطي بسكون الباء، وهو المشهور، وتحريك الباء لم يأت إلا متأخرا، وفي اعتقادي أن أول من حرك هذه الباء الساكنة هو الأستاذ عبدالله الحاتم حين اضطره السجع إلى ذلك في عنوان كتابه: »خيار ما يلتقط من شعر النبط«. ومع الأسف فقد تبعه الناس بعد ذلك مما أعطى فكرة ربط هذا الشعر بالأنباط قوة لا تستحقها.
ويشابه لفظ »النبط« من حيث المبنى ومن حيث ما يقابله من الفصيح، لفظ »النبذ« فقد جاء في شعر القطامي الشاعر الأموي ذكر النبذ بمعنى إلقاء الكلام وإطلاقه:
يقتلننا بحديث ليس يعلمه
من يتقين ولا مكنونه بادي
فهن ينبذن من قول يصبن به
مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
ومن شعراء النبط الشاعر الشهير محمد بن حمد بن لعبون الذي لعب دورا بارزا في نشر الشعر النبطي، وكانت له أعمال شعرية ذات أهمية وهو من مواليد شهر ربيع الثاني لسنة 1205 هـ »توافق سنة 1790م« وقد ذكر والده في تاريخه عن نزوحه إلى الكويت فقال: »ولم يزل هناك إلى أن توفي في بلد الكويت سنة 1247هـ »سنة 1831م« في الطاعون العظيم الذي عم العراق والكويت والزبير«.
أما مكان مولده فهو في ثادق التي انتقل إليها أهله من حرمة حيث أقاموا بها مدة طويلة ومنها انتقل إلى الزبير ومكث فيها فترة من الزمان إلى أن غادرها إلى الكويت في إثر حادثة له مع حاكمها.
وكانت نشأته في بيت علم وأدب، ولوالده الذي كان مشهورا بمعرفته بالأنساب والتاريخ مكتبة غنية بالكتب أفاد منها محمد بن لعبون كثيرا، وقد تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن في ثادق، ويدل شعره على ثقافته واطلاعه الأدبي وتأثره بشعراء الفصحى الأقدمين.
وكان موضوع قبره معروفا في الكويت بل ويعرفه اليوم عدد لا بأس به من أبناء البلاد، وكان من قبل ظاهرا للعيان ولكن عوادي الزمن أزالت أثره، ونذكر ممن يعرف مكانه من القدماء جدي سليمان العبدالله الجراح وهو أصلا من سكان حرمة الموطن الأصلي لأسرة الشاعر.
والمؤكد أنه مدفون بالقرب من منطقة الجسرة التي تقع أمام مجلس الأمة حاليا ولكنه إلى الداخل قليلا، أما ما ذكره الدكتور عبدالعزيز بن لعبون من تحديد الجسرة بأنها تعرف بنقعة الصقر، وأنها اليوم حديقة متحف حمود بن يوسف البدر فكان هذا غير صحيح ولا يحتاج مني إلى توضيح، أما ما قاله بأنه كانت في الكويت ثلاث قباب اثنتان على ما يزعم أنه قبر الخضر في جزيرة فيلكا، وواحدة على قبر ابن لعبون بالكويت، وكان العامة يزورون هذه القباب »وفي بادرة حسنة لتبني قبول الدعوة السلفية التي حمل لواءها الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله والتي أخذت تنتشر في المنطقة، فقد قام الشيخ مبارك الصباح بهدم هذه القباب الثلاث« فإنه بغض النظر عن الإيحاءات التي تضمنها هذا الكلام فهو غير صحيح، فقبر ابن لعبون اندثر كما اندثر غيره، وبخاصة أن الكل يعلم أن المقابر كثرت في سنة الطاعون التي مات فيها الشاعر، وقبره في طرف مقبرة كانت موجودة ثم زالت، وليس غريبا أن يندثر قبره معها، أما قبة الخضر فقد كانت واحدة فقط وبقيت موجودة إلى سنوات قريبة، ثم هدمتها بلدية الكويت في السبعينيات من القرن الماضي، ولم تكن بالمعنى المتعارف عليه للقباب.
وفي عبارة أخرى يقول د.عبدالعزيز بن لعبون: »اذ ليس من المعقول أن يسمح أهل الكويت وحكامها وعلماؤها وأصدقاء ابن لعبون ومعارفه ووجهاء الكويت كالحاج يوسف اليعقوب البدر وعائلته أن يدفن مسلم خارج مقابر المسلمين حتى لو أوصى بذلك«، وقد أخطأ في اسم الرجل الذي ذكره فهو يوسف العبدالمحسن البدر.
وإذا رجعنا إلى ما سبق أن قلناه في هذا الخصوص من أن المنطقة التي دفن فيها كانت جزءا من مقبرة كبيرة، وعرفنا أن وفاته كانت في أيام أزمة كبيرة بسبب الطاعون، وكان عدد الوفيات كبيرا لا يدع مجالا للأهالي كي يفكروا في أي موضع يدفنون موتاهم، وأن هناك مقابر كثيرة في الكويت هي اليوم أسواق ومساكن لأنها اندثرت ونسيت مع مر الزمن، تأكدت لنا طبيعة المكان الذي دفن فيه ابن لعبون.
ولعل مما أثار الجدل حول موضع قبره هو كون هذا القبر قريبا من ساحل البحر، ولكن هذا لا يعني أنه لم يدفن في تلك المقبرة التي زحف عليها البناء وقضى عليها، وكان مناسبا أن يدفن فيها وفي هذا الموضع بالذات لأنه كان يسكن بالقرب منها، ومجلسه الدائم في ديوان البدر دليل على أنه كان قريبا من هذا الديوان، أو أنه كما ذكر البعض كان ساكنا فيه، وبهذا نرى أن ما أثاره الدكتور ابن لعبون حول هذا الموضوع أمر لا داعي له.
لقد تحدث الدكتور عبدالعزيز بن لعبون كثيرا عن مدفن ابن لعبون في الكويت، وكان قد ذكر ما قلناه في بحث سابق له ولكنه عاد في كتابه »أمير شعراء النبط محمد بن لعبون، سيرته ودراسة في شعره« الذي نشر في الكويت ليقول إنه يتحفظ على قوله السابق الذي ذكرناه، ويلغي فكرة القباب الثلاث ولكنه في معرض ذلك يقول: إذ ليس من المعقول أن يسمح أهل الكويت وحكامها وعلماؤها وأصدقاء ابن لعبون ومعارفه ووجهاء الكويت أن يدفن مسلم خارج مقابر المسلمين، ثم يقول: »إن تبني أهل الكويت لمبادئ الدعوة السلفية، وقرب عهدهم بها وقتذاك يجعلهم يعارضون ويحاربون البدع وبناء القباب على القبور وجعلها مزارات«.
وهكذا نراه يعود إلى موضوع الدعوة السلفية ويحاول إشعارنا بتأثر الكويت بها، بل ويجعل الشيخ مبارك الصباح هو الذي يسعى إلى هدم القباب وكأن هذه الدعوة التي يشير إليها لم تظهر إلا في عهد الشيخ مبارك في الوقت الذي كانت القباب فيه قائمة وفق زعمه السابق. وأكرر هنا أنني أغض الطرف عن الإيماءات التي أوردها الدكتور عبدالعزيز وأقول له: ألا تعلم سبب حرب الجهراء التي قامت بعد وفاة الشيخ مبارك الصباح بخمس سنوات فقط؟ أليس من الشروط التي قدمها المهاجمون ورفضها الكويتيون ما يدلك على بعدك عن الحقيقة؟
هل هي أشياء في النفوس تريد أن تثيرها في هذا الوقت؟ أم أنت حسن النية؟ وشيء آخر، كان الشيخ سالم المبارك الصباح قائد الجيش الكويتي وأمير الكويت آنذاك رجلا متدينا له اطلاع في الكتب الإسلامية وكان معه عدد من العلماء منهم الشيخ عبدالعزيز الرشيد الذي روى لنا في كتابه ما حدث بالتفصيل بما في ذلك الشروط المطروحة من قبل المهاجمين.
وللدكتور ابن لعبون موقف آخر عن موقع قبر محمد ابن لعبون فقد ذكر أشياء كثيرة عن الموقع لا أساس لها، والحقيقة التي لم يذكرها هي أنني كنت في ديوانية الأخ عبدالعزيز البابطين وكان معنا الأخ المرحوم عبداللطيف الديين، وقد تساءل أبو سعود عن موقع قبر ابن لعبون فرددت عليه أن هذا الرجل- وأشرت إلى عبداللطيف- هو الوحيد الذي يدلك عليه، فقال الرجل نعم أعرف المكان وفق ما أراني جدي سليمان العبدالله الجراح، وأستطيع الآن أن أخذك إليك، وقد تحمس الأخ عبدالعزيز البابطين للخروج فاندفع الاثنان وبقيت مع أحد الأخوان في انتظارهما ثم عادا بعد فترة، وقد رضي أبو سعود بهذه الرحلة القصيرة ما عدا ذلك يعتبر في عداد الخيال والتخرصات، بل وحتى الأسماء التي ذكرها في هذا المجال مع احترامي لهم جميعا ليست لهم معرفة بالمكان، بل ولا علاقة لهم بسليمان الجراح، والعلاقة كانت بينه وعبداللطيف لأنه جده، لقد كان الموضوع فيه خلط كبير على الدكتور ابن لعبون، إضافة إلى أن موضوع قبر الشاعر لا يحتاج إلى كل هذا الحديث.
ويا أخي د.عبدالعزيز لو أنك اكتفيت بما كتبته أنا لأغناك عن هذا (العك) على رأي إخواننا المصريين، وأنا متأكد من أنك اطلعت عليه بدليل نقلك منه نقلا مبتسرا أوردته وكأنك تقول: هذا لا يهمني.
***
لم يكن تأثير البيئة الكويتية واضحا في شعر ابن لعبون الذي بين أيدينا، وربما كان ذلك لسببين مهمين، أولهما: أنه جاء إلى الكويت كارها، إذ أن خروجه من الزبير إنما حصل على الرغم منه، وجاء إلى الكويت وقلبه معلق هناك، وظل في شعره الذي أنشده بعيدا عن الزبير يردد ذكرى معاهد أنسه وأصحابه وأحبته وبخاصة (مي) التي حرم منها مرتين بل ثلاث مرات، الأولى بزواجها، والثانية بسفره عنها، والثالثة بوفاتها، فظل يشكو هذه الكوارث ويئن لوقعها مما حجب عنه الجو الذي يعيش فيه في الكويت بين أناس أحبوه وقدروا شاعريته وعبقريته.
أما السبب الثاني فإنه لم يمض في الكويت مدة كافية إذ أنه جاءها في الفترة ما بين 1243 - 1245هـ وسرعان ما توفي في الطاعون سنة 1247هـ، وضمن هذه الفترة تحتسب مدة سفره إلى البحرين وبقائه فيها إلى أن عاد إلى الكويت مرة أخرى إلى أن توفي. وبذا نجده غير مستقر بها ولا يعرف مستقبله فيها في ظل تلك الظروف التي ألمت به في الزبير والبحرين فلم يكن مجال التأثر بمقامه في الكويت واضحا إلا من إشارات باهتة في مواضع قليلة من شعره، فمن قصائده التي ذكر فيها شيئا يتعلق بالكويت، تلك القصيدة التي وجهها إلى زميله الشاعر عبدالله بن ربيعة، وقد كانت بينهما مساجلات شعرية كثيرة شبههما البعض من أجلها بجرير والفرزدق شاعري النقائض المشهورين في الأدب العربي، وقد بدأ القصيدة التي أشرنا إليها بقوله:
البارحة سهر وادير التفاكير
في ذم نذل بادي بالعيارة
وقد ذكر فيها الشيخ جابر بن عبدالله الصباح حاكم الكويت في حينه فقال ناصحا ابن ربيعة:
وان طعتني عن ذا السباع المظاهير
عندك أخو مريم تصلفط بداره
أبو صباح ريف ركب معابير
هو زبن مضيوم جلا عن دياره
جابر لنا سدره وحنا عصافير
لا ضيم عصفور لجا في جواره
يستاهل البيضا بروس المقاصير
وأولاده اللي كل منهم نعاره
وله قصيدة طويلة يمدح حكام الكويت ويذكر هجرته عن مكان إقامته قبل أن يصل إلى الكويت:
كل من لي في رباها من حبيب
أو صديق جعله الله للذهاب
بعتهم بيعة حصان فيه عيب
واستجرت بظل من يروى الحراب
وفي الكويت مكث:
عند ابومالك ملاذ اللي مريب
مطلق الكفين مأمون الجناب
وهنا أخذ يمدح هذا الرجل الكريم الذي لجأ إلى جنابه فآواه وحماه ذاكرا سجاياه وكرمه:
ما ينال الجود غيره لو يشيب
مثل ابومالك على سن الشباب
ثم قال:
ماحَدٍ بَولاد سالم من يخيب
ما على جدواه للعاني حجاب
ومن وصفه للمواقع قوله الذي يدل على أنه يصف موقعا كويتيا:
حي المنازل جنوب السيف
ممتدة الطول مصفوفه
أمشي على زبنها واقيف
في حبها الروح مشغوفه
دار الخدم والكرم والضيف
دار المناعير معروفه
ولاشك في أن إقامته في الكويت والبحرين كان لها تأثير على شعره وبخاصة إدخاله بعض المفردات الخاصة بالبيئة البحرية وتبدو بعض الإشارات التي تدلنا على تأثره بتلك البيئة في مثل قوله:
غاب الرقيب وطولن التعاليل
عندي كما صف القماش المجَول
وقوله:
يزيد الفتى المفتون ممشاه بالهوى
ويشُوف ما مثلي لمثله مغاير
كم سار له مركب بريح يسنَّه
يا هُوم وُهُو في غابة الما يخاير
ومن أبياته التي يبدو فيها ببيئة البحر التي عاش الى جوارها في الكويت والبحرين قوله:
ركبوا على سفنهم خَلوه
يجذب بهم قلص ما شوه
وقوله من قصيدة أخرى:
فان طعتني يا لورق لاباس
وإلا فدبر بياهومك
فقد ذكر في هذه الابيات القماش وهو اللؤلؤ، والياهوم وهو الريح الملائم للسفن، والغبة وهي الماء العميق في البحر ويخاير بمعنى يأخذ ذات اليمين وذات الشمال عن طريق تغيير وضع الشراع، والقلص وهو سفينة صغيرة تربط بالسفينة الكبيرة وتفيد في الاستعمالات البسيطة عندما تكون السفينة الكبيرة قريبة من البر.
والماشوه هي السفينة الصغيرة المذكورة، واستعمل كلمة دبر وهي اصطلاح بحري معناه أن تستدبر السفينةالهواء، وهي في هذه الحالة تكون سريعة الإبحار، وكل هذه الاسماء والمصطلحات المتعلقة بالبحر تدل على تأثره بالبيئة البحرية التي عاش الى جوارها، بل ربما كان قد خالط رجال البحر وعايشهم بحيث لصقت في ذهنه عباراتهم التي يستعملونها في حياتهم اليومية.
وبعد؛ فهذا هو الشاعر محمد بن حمد بن لعبون الشاعر الذي شغل الدنيا في وقته، وما يزال يشغل بال الكثيرين من محبي الشعر النبطي الذين يجدون فيه جودة المعنى، وحلاوة السبك، والصدق في التعبير، وهذه الصفات هي التي احتفظت لصاحبنا بهذه المكانة التي ما يزال يتمتع بها على مر الزمن، فهو رمز من رموز الشعر النبطي وظاهرة شعرية لا يستهان بها، ولذا فهو جدير بكل اهتمام وشعره في حاجة الى مزيد من الدراسة، وما تناثر منه في حاجة الى الجمع والتصنيف، ولعل هذا الملتقى الحاشد الذي قصد به احياء ذكرى الشاعر محمد بن لعبون يكون بداية لما نأمل أن ينال شاعرنا من اهتمام.
وأود هنا أن انبه الأخ الدكتور ابن لعبون إلى حقيقة واقعة عندنا وهي أن الكويت لم تعرف القباب إلا عندما تم تجديد بناء مسجد السوق في اليوم العشرين من شهر يوليو لسنة 1953م، كما تم في شهر سبتمبر من السنة ذاتها افتتاح مدرسة الشويخ الثانوية وكان في مدخلها بهو تعلوه قبة وكان الناس لعدم مشاهدتهم للقباب من قبل يحرصون على مشاهدة هاتين القبتين اللتين لم تكونا تحت قبرين أشير بذلك إلى ما ادعاه الدكتور في الكتاب الذي ذكرته فيما سبق.
إلى اليمين اليسرة وإلى اليسار مجلس الأمة
إلى البحر اما مجلس الأمة وفي نهايته اليسرة
دفنت اليسرة ولم تنظم
عند آخر شجرة هنا كان قبر بن لعبون
في هذا الشارع كان قبر بن لعبون والى اليسار متحف الكويت الوطني
بيت البدر حيث كان بن لعبون يسكن
الشاعر محمد بن لعبون في الكويت
اختلف الباحثون في أمرين يتعلقان بالشعر النبطي هما نشأته وجذروه، وسبب تسميته بهذا الاسم، ولقد كان ابن خلدون (المتوفي سنة 1406م) أول من أشار إلى هذا النوع من الشعر الخارج على اللغة الفصحى وعلى بعض الأوزان الشعرية التي سادت منذ وضعها الخليل بن أحمد، استنباطا من أوزان الشعر القديم. فكان ابن خلدون يرى أن أهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب في أشعارهم، وأهل المشرق يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي ليس غير، وهذا دليل على أن تسمية هذا النوع من الشعر بالشعر النبطي لم تكن موجودة في عهده، وأننا كنا في المشرق بصفة خاصة نسميه: البدوي وليس النبطي، مما يدل على أن هذه التسمية حديثة نسبيا، يضاف إلى ذلك أن هذه التسمية لم تعرف خارج الجزيرة العربية منذ ظهور هذا الشعر فيها، مما يدل على أنها تسمية محلية لا علاقة بها بالأنباط.
وفي مجال آخر ذكر الدكتور عبدالعزيز بن لعبون أن إطلاق هذه التسمية جاء ربما لأن أصول هذا الشعر وفدت إلى نجد من أطراف العراق والشام حيث يطلق على الفلاحين اسم الأنباط لاستنباطهم الماء من الأرض، أو لأن هؤلاء هم أول من أبدع هذا الفن وبذلك نسب إليه.
ويرد على هذا بأن الأنباط قدماء في هذه المنطقة التي أشار إليها، ولم يرو عنهم هذا النوع من الشعر قبل الإسلام أو في عصوره الأولى، أو على الأقل حين استعرب النبيط كما قال أبوالعلاء، بل إن هذه التسمية ربما ظهرت بعد أن انتهى أمر الأنباط واختلطوا مع باقي الشعوب العربية ولم يعد لهم ذكر إلا في كتب التاريخ.
وهناك دلالة أخرى على عدم ارتباط هذه التسمية بالأنباط، وهي عدم وجود شعر معروف لهذا الجيل من الناس، فكيف يكون أبناء الجزيرة العربية متأثرين في شعرهم بل في تسمية هذا الشعر بأناس لم نقرأ لهم شعرا، ولم يصل إلينا من إنتاجهم الأدبي أي شيء، ويضاف إلى ذلك أن هذا الشعر لا يخص منطقة نجد وحدها، فهو موجود في كافة أنحاء الجزيرة سواء أكان في باقي أجزاء المملكة العربية السعودية أم في الدول الأخرى المطلة على الخليج العربي، ويكفي أن نعلم أن أول كتاب طبع من هذا الشعر هو ديوان الشيخ قاسم بن ثاني أمير قطر سنة 1328هـ، ولحقه في سنة 1339م ديوان عبدالله الفرج وكلاهما من خارج منطقة نجد مع تقديرنا لكبار شعراء النبط النجديين الذين برزوا بروزا كبيرا في هذا الميدان، وبرعوا في الشعر النبطي وأصبحوا علامة من علامات هذا النوع من الشعر.
وهنا أود أن أذكر رأيي في هذا التسمية، وهو ما قد سبق أن نشرته في أوائل الستينيات من القرن الماضي في مجلة الجزيرة السعودية التي كان يرأس تحريرها الاستاذ عبدالله بن خميس وهو قولي: »ولكني أظن أن هذه التسمية إنما هي تسمية بيئية محضة أطلقتها اللهجة على هذا النوع من الشعر، إذ اني طالما سمعت بعض الحافظين له يقولون: »فلان ينبط القصيدة نبطا« وعلى هذا فإن هذه التسمية ترجع إلى طريقة إلقاء هذا الشعر.. ولو استمعنا إلى شاعر يلقي قصيدة له لرأيناه يقسم البيت أثناء الإلقاء إلى تفعيلاته المبني عليها في تتابع مستمر ونبر واضح، وكأنه ينبط الكلمات من فمه »أي يقذف بها منه« ولا شك في أن لهذه الكلمة معناها العامي الذي لا يخفى. وهذا الذي قلته منذ ذلك الوقت أجده الآن هو الصواب في ظل الفترة التي نشأ فيها الشعر النبطي، حيث لم يكن يعتمد إلا على الحفظ والإلقاء من الذاكرة في غياب التدوين، وذلك بعد أن استبعدنا فكرة انتقاله من الأنباط، وأن عرب الجزيرة قد قلدوهم فيه، ويؤكد وما قلناه ان اسم هذا الشعر هو الشعر النبطي بسكون الباء، وهو المشهور، وتحريك الباء لم يأت إلا متأخرا، وفي اعتقادي أن أول من حرك هذه الباء الساكنة هو الأستاذ عبدالله الحاتم حين اضطره السجع إلى ذلك في عنوان كتابه: »خيار ما يلتقط من شعر النبط«. ومع الأسف فقد تبعه الناس بعد ذلك مما أعطى فكرة ربط هذا الشعر بالأنباط قوة لا تستحقها.
ويشابه لفظ »النبط« من حيث المبنى ومن حيث ما يقابله من الفصيح، لفظ »النبذ« فقد جاء في شعر القطامي الشاعر الأموي ذكر النبذ بمعنى إلقاء الكلام وإطلاقه:
يقتلننا بحديث ليس يعلمه
من يتقين ولا مكنونه بادي
فهن ينبذن من قول يصبن به
مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
ومن شعراء النبط الشاعر الشهير محمد بن حمد بن لعبون الذي لعب دورا بارزا في نشر الشعر النبطي، وكانت له أعمال شعرية ذات أهمية وهو من مواليد شهر ربيع الثاني لسنة 1205 هـ »توافق سنة 1790م« وقد ذكر والده في تاريخه عن نزوحه إلى الكويت فقال: »ولم يزل هناك إلى أن توفي في بلد الكويت سنة 1247هـ »سنة 1831م« في الطاعون العظيم الذي عم العراق والكويت والزبير«.
أما مكان مولده فهو في ثادق التي انتقل إليها أهله من حرمة حيث أقاموا بها مدة طويلة ومنها انتقل إلى الزبير ومكث فيها فترة من الزمان إلى أن غادرها إلى الكويت في إثر حادثة له مع حاكمها.
وكانت نشأته في بيت علم وأدب، ولوالده الذي كان مشهورا بمعرفته بالأنساب والتاريخ مكتبة غنية بالكتب أفاد منها محمد بن لعبون كثيرا، وقد تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن في ثادق، ويدل شعره على ثقافته واطلاعه الأدبي وتأثره بشعراء الفصحى الأقدمين.
وكان موضوع قبره معروفا في الكويت بل ويعرفه اليوم عدد لا بأس به من أبناء البلاد، وكان من قبل ظاهرا للعيان ولكن عوادي الزمن أزالت أثره، ونذكر ممن يعرف مكانه من القدماء جدي سليمان العبدالله الجراح وهو أصلا من سكان حرمة الموطن الأصلي لأسرة الشاعر.
والمؤكد أنه مدفون بالقرب من منطقة الجسرة التي تقع أمام مجلس الأمة حاليا ولكنه إلى الداخل قليلا، أما ما ذكره الدكتور عبدالعزيز بن لعبون من تحديد الجسرة بأنها تعرف بنقعة الصقر، وأنها اليوم حديقة متحف حمود بن يوسف البدر فكان هذا غير صحيح ولا يحتاج مني إلى توضيح، أما ما قاله بأنه كانت في الكويت ثلاث قباب اثنتان على ما يزعم أنه قبر الخضر في جزيرة فيلكا، وواحدة على قبر ابن لعبون بالكويت، وكان العامة يزورون هذه القباب »وفي بادرة حسنة لتبني قبول الدعوة السلفية التي حمل لواءها الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله والتي أخذت تنتشر في المنطقة، فقد قام الشيخ مبارك الصباح بهدم هذه القباب الثلاث« فإنه بغض النظر عن الإيحاءات التي تضمنها هذا الكلام فهو غير صحيح، فقبر ابن لعبون اندثر كما اندثر غيره، وبخاصة أن الكل يعلم أن المقابر كثرت في سنة الطاعون التي مات فيها الشاعر، وقبره في طرف مقبرة كانت موجودة ثم زالت، وليس غريبا أن يندثر قبره معها، أما قبة الخضر فقد كانت واحدة فقط وبقيت موجودة إلى سنوات قريبة، ثم هدمتها بلدية الكويت في السبعينيات من القرن الماضي، ولم تكن بالمعنى المتعارف عليه للقباب.
وفي عبارة أخرى يقول د.عبدالعزيز بن لعبون: »اذ ليس من المعقول أن يسمح أهل الكويت وحكامها وعلماؤها وأصدقاء ابن لعبون ومعارفه ووجهاء الكويت كالحاج يوسف اليعقوب البدر وعائلته أن يدفن مسلم خارج مقابر المسلمين حتى لو أوصى بذلك«، وقد أخطأ في اسم الرجل الذي ذكره فهو يوسف العبدالمحسن البدر.
وإذا رجعنا إلى ما سبق أن قلناه في هذا الخصوص من أن المنطقة التي دفن فيها كانت جزءا من مقبرة كبيرة، وعرفنا أن وفاته كانت في أيام أزمة كبيرة بسبب الطاعون، وكان عدد الوفيات كبيرا لا يدع مجالا للأهالي كي يفكروا في أي موضع يدفنون موتاهم، وأن هناك مقابر كثيرة في الكويت هي اليوم أسواق ومساكن لأنها اندثرت ونسيت مع مر الزمن، تأكدت لنا طبيعة المكان الذي دفن فيه ابن لعبون.
ولعل مما أثار الجدل حول موضع قبره هو كون هذا القبر قريبا من ساحل البحر، ولكن هذا لا يعني أنه لم يدفن في تلك المقبرة التي زحف عليها البناء وقضى عليها، وكان مناسبا أن يدفن فيها وفي هذا الموضع بالذات لأنه كان يسكن بالقرب منها، ومجلسه الدائم في ديوان البدر دليل على أنه كان قريبا من هذا الديوان، أو أنه كما ذكر البعض كان ساكنا فيه، وبهذا نرى أن ما أثاره الدكتور ابن لعبون حول هذا الموضوع أمر لا داعي له.
لقد تحدث الدكتور عبدالعزيز بن لعبون كثيرا عن مدفن ابن لعبون في الكويت، وكان قد ذكر ما قلناه في بحث سابق له ولكنه عاد في كتابه »أمير شعراء النبط محمد بن لعبون، سيرته ودراسة في شعره« الذي نشر في الكويت ليقول إنه يتحفظ على قوله السابق الذي ذكرناه، ويلغي فكرة القباب الثلاث ولكنه في معرض ذلك يقول: إذ ليس من المعقول أن يسمح أهل الكويت وحكامها وعلماؤها وأصدقاء ابن لعبون ومعارفه ووجهاء الكويت أن يدفن مسلم خارج مقابر المسلمين، ثم يقول: »إن تبني أهل الكويت لمبادئ الدعوة السلفية، وقرب عهدهم بها وقتذاك يجعلهم يعارضون ويحاربون البدع وبناء القباب على القبور وجعلها مزارات«.
وهكذا نراه يعود إلى موضوع الدعوة السلفية ويحاول إشعارنا بتأثر الكويت بها، بل ويجعل الشيخ مبارك الصباح هو الذي يسعى إلى هدم القباب وكأن هذه الدعوة التي يشير إليها لم تظهر إلا في عهد الشيخ مبارك في الوقت الذي كانت القباب فيه قائمة وفق زعمه السابق. وأكرر هنا أنني أغض الطرف عن الإيماءات التي أوردها الدكتور عبدالعزيز وأقول له: ألا تعلم سبب حرب الجهراء التي قامت بعد وفاة الشيخ مبارك الصباح بخمس سنوات فقط؟ أليس من الشروط التي قدمها المهاجمون ورفضها الكويتيون ما يدلك على بعدك عن الحقيقة؟
هل هي أشياء في النفوس تريد أن تثيرها في هذا الوقت؟ أم أنت حسن النية؟ وشيء آخر، كان الشيخ سالم المبارك الصباح قائد الجيش الكويتي وأمير الكويت آنذاك رجلا متدينا له اطلاع في الكتب الإسلامية وكان معه عدد من العلماء منهم الشيخ عبدالعزيز الرشيد الذي روى لنا في كتابه ما حدث بالتفصيل بما في ذلك الشروط المطروحة من قبل المهاجمين.
وللدكتور ابن لعبون موقف آخر عن موقع قبر محمد ابن لعبون فقد ذكر أشياء كثيرة عن الموقع لا أساس لها، والحقيقة التي لم يذكرها هي أنني كنت في ديوانية الأخ عبدالعزيز البابطين وكان معنا الأخ المرحوم عبداللطيف الديين، وقد تساءل أبو سعود عن موقع قبر ابن لعبون فرددت عليه أن هذا الرجل- وأشرت إلى عبداللطيف- هو الوحيد الذي يدلك عليه، فقال الرجل نعم أعرف المكان وفق ما أراني جدي سليمان العبدالله الجراح، وأستطيع الآن أن أخذك إليك، وقد تحمس الأخ عبدالعزيز البابطين للخروج فاندفع الاثنان وبقيت مع أحد الأخوان في انتظارهما ثم عادا بعد فترة، وقد رضي أبو سعود بهذه الرحلة القصيرة ما عدا ذلك يعتبر في عداد الخيال والتخرصات، بل وحتى الأسماء التي ذكرها في هذا المجال مع احترامي لهم جميعا ليست لهم معرفة بالمكان، بل ولا علاقة لهم بسليمان الجراح، والعلاقة كانت بينه وعبداللطيف لأنه جده، لقد كان الموضوع فيه خلط كبير على الدكتور ابن لعبون، إضافة إلى أن موضوع قبر الشاعر لا يحتاج إلى كل هذا الحديث.
ويا أخي د.عبدالعزيز لو أنك اكتفيت بما كتبته أنا لأغناك عن هذا (العك) على رأي إخواننا المصريين، وأنا متأكد من أنك اطلعت عليه بدليل نقلك منه نقلا مبتسرا أوردته وكأنك تقول: هذا لا يهمني.
***
لم يكن تأثير البيئة الكويتية واضحا في شعر ابن لعبون الذي بين أيدينا، وربما كان ذلك لسببين مهمين، أولهما: أنه جاء إلى الكويت كارها، إذ أن خروجه من الزبير إنما حصل على الرغم منه، وجاء إلى الكويت وقلبه معلق هناك، وظل في شعره الذي أنشده بعيدا عن الزبير يردد ذكرى معاهد أنسه وأصحابه وأحبته وبخاصة (مي) التي حرم منها مرتين بل ثلاث مرات، الأولى بزواجها، والثانية بسفره عنها، والثالثة بوفاتها، فظل يشكو هذه الكوارث ويئن لوقعها مما حجب عنه الجو الذي يعيش فيه في الكويت بين أناس أحبوه وقدروا شاعريته وعبقريته.
أما السبب الثاني فإنه لم يمض في الكويت مدة كافية إذ أنه جاءها في الفترة ما بين 1243 - 1245هـ وسرعان ما توفي في الطاعون سنة 1247هـ، وضمن هذه الفترة تحتسب مدة سفره إلى البحرين وبقائه فيها إلى أن عاد إلى الكويت مرة أخرى إلى أن توفي. وبذا نجده غير مستقر بها ولا يعرف مستقبله فيها في ظل تلك الظروف التي ألمت به في الزبير والبحرين فلم يكن مجال التأثر بمقامه في الكويت واضحا إلا من إشارات باهتة في مواضع قليلة من شعره، فمن قصائده التي ذكر فيها شيئا يتعلق بالكويت، تلك القصيدة التي وجهها إلى زميله الشاعر عبدالله بن ربيعة، وقد كانت بينهما مساجلات شعرية كثيرة شبههما البعض من أجلها بجرير والفرزدق شاعري النقائض المشهورين في الأدب العربي، وقد بدأ القصيدة التي أشرنا إليها بقوله:
البارحة سهر وادير التفاكير
في ذم نذل بادي بالعيارة
وقد ذكر فيها الشيخ جابر بن عبدالله الصباح حاكم الكويت في حينه فقال ناصحا ابن ربيعة:
وان طعتني عن ذا السباع المظاهير
عندك أخو مريم تصلفط بداره
أبو صباح ريف ركب معابير
هو زبن مضيوم جلا عن دياره
جابر لنا سدره وحنا عصافير
لا ضيم عصفور لجا في جواره
يستاهل البيضا بروس المقاصير
وأولاده اللي كل منهم نعاره
وله قصيدة طويلة يمدح حكام الكويت ويذكر هجرته عن مكان إقامته قبل أن يصل إلى الكويت:
كل من لي في رباها من حبيب
أو صديق جعله الله للذهاب
بعتهم بيعة حصان فيه عيب
واستجرت بظل من يروى الحراب
وفي الكويت مكث:
عند ابومالك ملاذ اللي مريب
مطلق الكفين مأمون الجناب
وهنا أخذ يمدح هذا الرجل الكريم الذي لجأ إلى جنابه فآواه وحماه ذاكرا سجاياه وكرمه:
ما ينال الجود غيره لو يشيب
مثل ابومالك على سن الشباب
ثم قال:
ماحَدٍ بَولاد سالم من يخيب
ما على جدواه للعاني حجاب
ومن وصفه للمواقع قوله الذي يدل على أنه يصف موقعا كويتيا:
حي المنازل جنوب السيف
ممتدة الطول مصفوفه
أمشي على زبنها واقيف
في حبها الروح مشغوفه
دار الخدم والكرم والضيف
دار المناعير معروفه
ولاشك في أن إقامته في الكويت والبحرين كان لها تأثير على شعره وبخاصة إدخاله بعض المفردات الخاصة بالبيئة البحرية وتبدو بعض الإشارات التي تدلنا على تأثره بتلك البيئة في مثل قوله:
غاب الرقيب وطولن التعاليل
عندي كما صف القماش المجَول
وقوله:
يزيد الفتى المفتون ممشاه بالهوى
ويشُوف ما مثلي لمثله مغاير
كم سار له مركب بريح يسنَّه
يا هُوم وُهُو في غابة الما يخاير
ومن أبياته التي يبدو فيها ببيئة البحر التي عاش الى جوارها في الكويت والبحرين قوله:
ركبوا على سفنهم خَلوه
يجذب بهم قلص ما شوه
وقوله من قصيدة أخرى:
فان طعتني يا لورق لاباس
وإلا فدبر بياهومك
فقد ذكر في هذه الابيات القماش وهو اللؤلؤ، والياهوم وهو الريح الملائم للسفن، والغبة وهي الماء العميق في البحر ويخاير بمعنى يأخذ ذات اليمين وذات الشمال عن طريق تغيير وضع الشراع، والقلص وهو سفينة صغيرة تربط بالسفينة الكبيرة وتفيد في الاستعمالات البسيطة عندما تكون السفينة الكبيرة قريبة من البر.
والماشوه هي السفينة الصغيرة المذكورة، واستعمل كلمة دبر وهي اصطلاح بحري معناه أن تستدبر السفينةالهواء، وهي في هذه الحالة تكون سريعة الإبحار، وكل هذه الاسماء والمصطلحات المتعلقة بالبحر تدل على تأثره بالبيئة البحرية التي عاش الى جوارها، بل ربما كان قد خالط رجال البحر وعايشهم بحيث لصقت في ذهنه عباراتهم التي يستعملونها في حياتهم اليومية.
وبعد؛ فهذا هو الشاعر محمد بن حمد بن لعبون الشاعر الذي شغل الدنيا في وقته، وما يزال يشغل بال الكثيرين من محبي الشعر النبطي الذين يجدون فيه جودة المعنى، وحلاوة السبك، والصدق في التعبير، وهذه الصفات هي التي احتفظت لصاحبنا بهذه المكانة التي ما يزال يتمتع بها على مر الزمن، فهو رمز من رموز الشعر النبطي وظاهرة شعرية لا يستهان بها، ولذا فهو جدير بكل اهتمام وشعره في حاجة الى مزيد من الدراسة، وما تناثر منه في حاجة الى الجمع والتصنيف، ولعل هذا الملتقى الحاشد الذي قصد به احياء ذكرى الشاعر محمد بن لعبون يكون بداية لما نأمل أن ينال شاعرنا من اهتمام.
وأود هنا أن انبه الأخ الدكتور ابن لعبون إلى حقيقة واقعة عندنا وهي أن الكويت لم تعرف القباب إلا عندما تم تجديد بناء مسجد السوق في اليوم العشرين من شهر يوليو لسنة 1953م، كما تم في شهر سبتمبر من السنة ذاتها افتتاح مدرسة الشويخ الثانوية وكان في مدخلها بهو تعلوه قبة وكان الناس لعدم مشاهدتهم للقباب من قبل يحرصون على مشاهدة هاتين القبتين اللتين لم تكونا تحت قبرين أشير بذلك إلى ما ادعاه الدكتور في الكتاب الذي ذكرته فيما سبق.
إلى اليمين اليسرة وإلى اليسار مجلس الأمة
إلى البحر اما مجلس الأمة وفي نهايته اليسرة
دفنت اليسرة ولم تنظم
عند آخر شجرة هنا كان قبر بن لعبون
في هذا الشارع كان قبر بن لعبون والى اليسار متحف الكويت الوطني