الفنان فرناند ليجيه ..
هل بمقدورنا تخيل الجمال في الآلة ؟
جمال العتّابي..
لم يكن الفنان الفرنسي (فرناند ليجيه) رساماً مثيراً للجدل فحسب، بل كان نحاتاً ومخرجاً سينمائياً، ولد عام 1881 وتوفي عام 1955، ابتكر أسلوبه الخاص والمميز في الرسم، من المؤكد أن بابلو بيكاسو لم يكن يمزح حين أطلق على زميله ليجيه لقب ( الرسام الانبوبجي)، لامتلاء رسومه ومختلف أعماله الفنية بأنواع الأنابيب.
بدأ ليجيه بابتداع مخلوقاته المعدنية التي تكاد لا تميزها عن الآلات التي تعمل عليها أو تحيا في خضمها، ولا من المشهد الصناعي الذي يتحرك بين أرجائه، حتى المرأة التي تتزين أمام مرآتها تتخذ طابع الإنسان الآلي.
كان فرناند ليجيه فلاحاً نورماندياً، يشبه الحمّالين، يعشق زنابق الحقل، وسباق السيارات ، وعمال المصانع، والقطارات البخارية، والدراجات السريعة، وكل ماهو مصنوع من الصلب، فقد أباه في سن مبكرة، فأرسله عمّه إلى باريس ليتعلم حرفة جادة، هناك التحق بمدرسة الفنون الجميلة، بدأ بلا ثقافة، ولا زاد ولا نوايا، لكنه بدأ بحسّ فني نادر ، وفضول وحتى إرادة صارمة. تأثر بسيزان، ففنه على حد وصفه : فن يوحي ويحرك.
كان في مقدمة انشغالات الفن الحديث الاهتمام بإعادة تشكيل الوجود في عصر التحولات الصناعية الذي يسوده العلماء والمهندسون والصناع، فلو كان ( ديلوناي) صديق ليجيه متأثراً بسابقيه من الانطباعيين عندما رسم وصمم ( برج ايفيل ) لأغفل إحدى الأحاسيس الحيوية للإنسان الحديث ألا وهو الإحساس بالسرعة. لذلك يعرض لنا ديلوناي برجاً يتحرك، يتراقص، يميل ، يتراجع، عندما نتطلع اليه من زوايا مختلفة .
لقد استلهم فرناند المشاهد التي تحدد أشكالها تدخلات التكنولوجيا، لم يبق عند حد المظهر، بل صور لوحات هي بكل تحررها وآلية اشكالها شواهد ناطقة بالتطورات التي أنتجتها الحضارة الصناعية، لا على الحياة الخارجية حسب بل على العقلية والأحاسيس الإنسانية أيضاً. مبهوراً بكل الابتكارات التي لا تكفّ التكنولوجيا عن إدخالها إلى الحياة اليومية، كان ليجيه أول من عبّر في الرسم عن الآلة والمنتجات الصناعية، مؤمناً بقدرة هذه الأشياء على إثراء عالم الأشكال الجميلة.
ما من رسام حمل الفن على أن يفتح أبوابه مرحباً بمظاهر الحضارة الصناعية أكثر من ليجيه، كذلك بلا تردد، وبكل تفاؤل، ولئن حفلت أعماله الفنية بالأشكال الهندسية والتركيبات الميكانيكية، إلا أنها تضمنت أيضاً أعلى القيم التشكيلية وأكبر قسط من الحقيقة، أثبت ليجيه في تعبيراته الفنية أن التكنولوجيا وإن كانت تمارس نفوذها على الإنسان إلا أنها تذعن لإرادته ورغباته في النهاية.
وإذا كان التعبير التشكيلي قد تغيّر فلأن الحياة المعاصرة قد جعلت ذلك التغيير أمراً ضرورياً، وقد صارت رؤيا الفنان في هذا العصر أكثر كثافة وتعقداً من رؤيا الفنان في العصور السابقة.
لم يكن ليجيه حتى عام 1909 مهتما باللون، بل كان يخشاه ويجاهر بأنه لايزال غير مسيطر عليه كان يريد – على حد قوله - أن يصل إلى إيقاعات لونية لا اندماج بينها، وما لبث أن اكتشف ألواناً خالصة مدرجة في أشكال هندسية، ولم يجد فرناند فكاكاً من تأثيرات سيزان بل وجد نفسه أيضاً يوغل بعيداً عن تنغيمات الانطباعيين اللونية، ماراً بالتجربتين الوحشية والتكعيبية، وخلص إلى صياغة الواقع في أشكال تجريدية، وفصل جائر بين الخط واللون.
إلى جانب الانفعال باللون أضاف ليجيه الانفعال بالسرعة، محاولاً مثل - صديقه ديلوناي - أن يشيّد لوحاته على أساس وطيد من القيم الثابتة والمتحركة معاً، كان ليجيه غير مهتم بزيارة المتاحف، ولا يتمرن بالنقل من أعمال الفنانين الكلاسيكيين، بل كان يفضّل التردد على قاعة تصميم الطائرات، يتأمل المحركات ، والمراوح والهياكل المعدنية والعجلات الضخمة، كانت تستهويه مشاهد الصناعة الحديثة دائماً، فأوحت له برؤى فنية مبتكرة. لهذا كانت كثافة اللوحة الحديثة والتنوع في مضمونها وانفصال أشكالها نتيجة للتطور الذي لحق بالحياة في هذا العصر.
اكتشف ليجيه الجمال في آلة مطبعة، في عتلة متحركة، في المسامير ، في سلّم لولبي، في الأسطوانات والتروس والجرارت والمكائن والروافع وحلقات السلاسل، وفي كل أدوات الصناعة ومنتجاتها، ليس الجمال مقصوراً على الطبيعة، انه موجود في كل مكان، في ترتيب آنية المطبخ مثلاً في آثاث صالة الاستقبال، ان قبول هذه الأفكار امكننا مناقشة فكرة " الآلة الجميلة"، وأن نتخيل "الجمال في الآلة" .
ليجيه لا يحتاج إلى امرأة عارية، أو باقة زهور، أو عازف كمان في تذوق الجمال، لقد كانت العناصر الميكانيكية مصدر الهامه، على خلاف الفنانين الآخرين الذين يشعرون بالقلق وعدم الارتياح من الالة، لقد أثارت نقمتهم، وتمردهم عليها، يكفي ان نشير إلى موقف " الدادائيين" العدائي الناقم من الآلة، كانوا يتوجسون خيفة منها، يرون فيها تهديدا وخطراً على الإنسان وتحطيمه.
أما موقف ليجيه فهو يزلزل ذلك الفصل غير المبرر بين الفن والتكنولوجيا، انه لا يدعو إلى اخضاع الحياة الإنسانية للالة، بل إلى تأمل تلك الحياة من خلال طابعها الجديد، لهذا فان القول بان فنه مجرد فن آلي فيه اجحاف شديد وتجاهل للشحنة الشاعرية التي يتضمنها.
التقى ليجيه بالفنان موندريان عام 1921وكان لهذا اللقاء اثر في لجوء ليجيه الى الزاوية القائمة في اعمال الفنية، وتجنب الخط المنحني، وفد وجد في اعمال موندريان وسيلة ناجعة للتطهر من حساسية الماضي، ونوعاً فعالاً في التحرر الكلي من العالم القديم بكل مضامينه.
كانت لوحة " الرجل ذو الغليون" إيذاناً بولادة لوحة" لاعبو الورق" التي نفذها عام 1917 اعتمد فيها رؤية واقعية آلية للإنسان، وكانت بداية الطريق نحو لغة تشكيلية جديدة.
على ان ليجيه ما لبث أن تطور إلى "الإنسان القوي" ،أجساد النسوة تكتسي بطابع القداسة والجلال، أجساد ربعة صلبة راسخة كالطود، لا تهتز ولا ترتجف، رقابها غليظة مثل أعمدة فولاذية، ورؤوسها كروية تكسوها المهابة والثبات، عيونها مستبدة غامضة، يكاد المرء لايعرف شيئاً من خصوصيات هذه الكائنات ذات الاثداء الخشبية والأعناق الفولاذية والشعر المنساب كصفائح الزنك. وفيما رسم ليجيه بعد ذلك " الغطاسين" و"راكبي الدراجات" و" البنائين" و" نزهة الريف" و"البهلوانات" حيث تتشابك الاذرع والسيقان في كل الاتجاهات، تراجعت مسحة القداسة المرتسمة على الوجوه، لا شك انها تنتمي جيل أكثر قوة وحيوية من جيلنا، لا نلحظ عليها أدنى سمات الوجع والضيق النفسي.
هل بمقدورنا تخيل الجمال في الآلة ؟
جمال العتّابي..
لم يكن الفنان الفرنسي (فرناند ليجيه) رساماً مثيراً للجدل فحسب، بل كان نحاتاً ومخرجاً سينمائياً، ولد عام 1881 وتوفي عام 1955، ابتكر أسلوبه الخاص والمميز في الرسم، من المؤكد أن بابلو بيكاسو لم يكن يمزح حين أطلق على زميله ليجيه لقب ( الرسام الانبوبجي)، لامتلاء رسومه ومختلف أعماله الفنية بأنواع الأنابيب.
بدأ ليجيه بابتداع مخلوقاته المعدنية التي تكاد لا تميزها عن الآلات التي تعمل عليها أو تحيا في خضمها، ولا من المشهد الصناعي الذي يتحرك بين أرجائه، حتى المرأة التي تتزين أمام مرآتها تتخذ طابع الإنسان الآلي.
كان فرناند ليجيه فلاحاً نورماندياً، يشبه الحمّالين، يعشق زنابق الحقل، وسباق السيارات ، وعمال المصانع، والقطارات البخارية، والدراجات السريعة، وكل ماهو مصنوع من الصلب، فقد أباه في سن مبكرة، فأرسله عمّه إلى باريس ليتعلم حرفة جادة، هناك التحق بمدرسة الفنون الجميلة، بدأ بلا ثقافة، ولا زاد ولا نوايا، لكنه بدأ بحسّ فني نادر ، وفضول وحتى إرادة صارمة. تأثر بسيزان، ففنه على حد وصفه : فن يوحي ويحرك.
كان في مقدمة انشغالات الفن الحديث الاهتمام بإعادة تشكيل الوجود في عصر التحولات الصناعية الذي يسوده العلماء والمهندسون والصناع، فلو كان ( ديلوناي) صديق ليجيه متأثراً بسابقيه من الانطباعيين عندما رسم وصمم ( برج ايفيل ) لأغفل إحدى الأحاسيس الحيوية للإنسان الحديث ألا وهو الإحساس بالسرعة. لذلك يعرض لنا ديلوناي برجاً يتحرك، يتراقص، يميل ، يتراجع، عندما نتطلع اليه من زوايا مختلفة .
لقد استلهم فرناند المشاهد التي تحدد أشكالها تدخلات التكنولوجيا، لم يبق عند حد المظهر، بل صور لوحات هي بكل تحررها وآلية اشكالها شواهد ناطقة بالتطورات التي أنتجتها الحضارة الصناعية، لا على الحياة الخارجية حسب بل على العقلية والأحاسيس الإنسانية أيضاً. مبهوراً بكل الابتكارات التي لا تكفّ التكنولوجيا عن إدخالها إلى الحياة اليومية، كان ليجيه أول من عبّر في الرسم عن الآلة والمنتجات الصناعية، مؤمناً بقدرة هذه الأشياء على إثراء عالم الأشكال الجميلة.
ما من رسام حمل الفن على أن يفتح أبوابه مرحباً بمظاهر الحضارة الصناعية أكثر من ليجيه، كذلك بلا تردد، وبكل تفاؤل، ولئن حفلت أعماله الفنية بالأشكال الهندسية والتركيبات الميكانيكية، إلا أنها تضمنت أيضاً أعلى القيم التشكيلية وأكبر قسط من الحقيقة، أثبت ليجيه في تعبيراته الفنية أن التكنولوجيا وإن كانت تمارس نفوذها على الإنسان إلا أنها تذعن لإرادته ورغباته في النهاية.
وإذا كان التعبير التشكيلي قد تغيّر فلأن الحياة المعاصرة قد جعلت ذلك التغيير أمراً ضرورياً، وقد صارت رؤيا الفنان في هذا العصر أكثر كثافة وتعقداً من رؤيا الفنان في العصور السابقة.
لم يكن ليجيه حتى عام 1909 مهتما باللون، بل كان يخشاه ويجاهر بأنه لايزال غير مسيطر عليه كان يريد – على حد قوله - أن يصل إلى إيقاعات لونية لا اندماج بينها، وما لبث أن اكتشف ألواناً خالصة مدرجة في أشكال هندسية، ولم يجد فرناند فكاكاً من تأثيرات سيزان بل وجد نفسه أيضاً يوغل بعيداً عن تنغيمات الانطباعيين اللونية، ماراً بالتجربتين الوحشية والتكعيبية، وخلص إلى صياغة الواقع في أشكال تجريدية، وفصل جائر بين الخط واللون.
إلى جانب الانفعال باللون أضاف ليجيه الانفعال بالسرعة، محاولاً مثل - صديقه ديلوناي - أن يشيّد لوحاته على أساس وطيد من القيم الثابتة والمتحركة معاً، كان ليجيه غير مهتم بزيارة المتاحف، ولا يتمرن بالنقل من أعمال الفنانين الكلاسيكيين، بل كان يفضّل التردد على قاعة تصميم الطائرات، يتأمل المحركات ، والمراوح والهياكل المعدنية والعجلات الضخمة، كانت تستهويه مشاهد الصناعة الحديثة دائماً، فأوحت له برؤى فنية مبتكرة. لهذا كانت كثافة اللوحة الحديثة والتنوع في مضمونها وانفصال أشكالها نتيجة للتطور الذي لحق بالحياة في هذا العصر.
اكتشف ليجيه الجمال في آلة مطبعة، في عتلة متحركة، في المسامير ، في سلّم لولبي، في الأسطوانات والتروس والجرارت والمكائن والروافع وحلقات السلاسل، وفي كل أدوات الصناعة ومنتجاتها، ليس الجمال مقصوراً على الطبيعة، انه موجود في كل مكان، في ترتيب آنية المطبخ مثلاً في آثاث صالة الاستقبال، ان قبول هذه الأفكار امكننا مناقشة فكرة " الآلة الجميلة"، وأن نتخيل "الجمال في الآلة" .
ليجيه لا يحتاج إلى امرأة عارية، أو باقة زهور، أو عازف كمان في تذوق الجمال، لقد كانت العناصر الميكانيكية مصدر الهامه، على خلاف الفنانين الآخرين الذين يشعرون بالقلق وعدم الارتياح من الالة، لقد أثارت نقمتهم، وتمردهم عليها، يكفي ان نشير إلى موقف " الدادائيين" العدائي الناقم من الآلة، كانوا يتوجسون خيفة منها، يرون فيها تهديدا وخطراً على الإنسان وتحطيمه.
أما موقف ليجيه فهو يزلزل ذلك الفصل غير المبرر بين الفن والتكنولوجيا، انه لا يدعو إلى اخضاع الحياة الإنسانية للالة، بل إلى تأمل تلك الحياة من خلال طابعها الجديد، لهذا فان القول بان فنه مجرد فن آلي فيه اجحاف شديد وتجاهل للشحنة الشاعرية التي يتضمنها.
التقى ليجيه بالفنان موندريان عام 1921وكان لهذا اللقاء اثر في لجوء ليجيه الى الزاوية القائمة في اعمال الفنية، وتجنب الخط المنحني، وفد وجد في اعمال موندريان وسيلة ناجعة للتطهر من حساسية الماضي، ونوعاً فعالاً في التحرر الكلي من العالم القديم بكل مضامينه.
كانت لوحة " الرجل ذو الغليون" إيذاناً بولادة لوحة" لاعبو الورق" التي نفذها عام 1917 اعتمد فيها رؤية واقعية آلية للإنسان، وكانت بداية الطريق نحو لغة تشكيلية جديدة.
على ان ليجيه ما لبث أن تطور إلى "الإنسان القوي" ،أجساد النسوة تكتسي بطابع القداسة والجلال، أجساد ربعة صلبة راسخة كالطود، لا تهتز ولا ترتجف، رقابها غليظة مثل أعمدة فولاذية، ورؤوسها كروية تكسوها المهابة والثبات، عيونها مستبدة غامضة، يكاد المرء لايعرف شيئاً من خصوصيات هذه الكائنات ذات الاثداء الخشبية والأعناق الفولاذية والشعر المنساب كصفائح الزنك. وفيما رسم ليجيه بعد ذلك " الغطاسين" و"راكبي الدراجات" و" البنائين" و" نزهة الريف" و"البهلوانات" حيث تتشابك الاذرع والسيقان في كل الاتجاهات، تراجعت مسحة القداسة المرتسمة على الوجوه، لا شك انها تنتمي جيل أكثر قوة وحيوية من جيلنا، لا نلحظ عليها أدنى سمات الوجع والضيق النفسي.