تمام
Abu Tammam - Abu Tammam
أَبو تَمّام
(نحو 176ـ 231هـ/ نحو 792 ـ 846م)
أبو تَمّامٍ حَبِيْبُ بنُ أَوْسٍ الطّائيّ، مِنْ أَساطِيْن الأَدَبِ وأُمرائِه، وعَلَمٌ في الشِّعْر أَغَرُّ أَبْلَجُ، حَفّاظَةٌ له، ذوّاقَةٌ في تَخَيُّرِ أَشْعار العرب وانْتِخابِها، آيَةٌ في تَصَيُّدِ الجِياد الحِسان مِنْها، ومَأْثَرَةٌ جَلِيْلةٌ مِنْ مَآثِرِ طَيِّئ، الّتي يَتَحَدَّرُ مِنْ أَصْلابِها، علا شانِئيْه بالشِّعْرِ والأَدَب، فغَمَزُوْهُ في الحَسَبِ والنَّسَبِ، وزاد على ذلك غُلاتُهم فجَعلوه رُوْمِيَّ الأَرُومَةِ والمَحْتِد، نَصْرانِيَّ المِلَّةِ، وسَمَّوا أَباه «تدوس» أو «تيودوس»، وقد أَعانَهم حَبِيْبٌ على نَفْسِهِ برِقَّةِ دِيْنِه وتَخَفُّفِهِ فيه، عِلاوةً على سَدِّهِ أَبوابَ الرِّزْقِ عليهم حَياتَه، واحْتِسائِهِ الصَّهْباء، وإِتْيانِه اللَّهْوَ في الجَهْر والخَفاء، ومَيْلِه إلى ظاهرِ الطَّرَبِ واللَّعِب، حتّى شَكَّ فيه مُحِبُّوْه، وخَالَطَ أَفْئِدَتَهم رَيْبٌ لم تَنْقَشِعْ عنها سَحائِبُه.
وُلِدَ في قرية جاسِم، مِنْ أَعْمال حَوْرانَ بسوريَة، وشَبَّ بها، ليس تَمِيْزُهُ مِنْ أَتْرابِه خِلالٌ ظاهرةٌ إِلاّ أنّه «كان أَسْمَرَ طُوالاً فيه حُبْسَةٌ وتَمْتَمَةٌ يسيرةٌ، حُلْوَ الكَلامِ فَصِيْحاً، كَأَنّ لَفْظَهُ لَفْظُ الأَعْراب»، وهو مع ذلك قَبِيْحُ الإِنْشادِ للشِّعْر، غَيْرُ مُحْسِنٍ فيه، ممّا أَحْوَجَه ـ بعد أنْ صَعِد نَجْمُه ـ إلى اتِّخاذِ غُلامٍ له، حَسَنِ الإِنْشاد للشِّعر، كان يُفَرِّقُ ما جَمَّعَ حَبِيْبٌ مِنْ قَوافيه، على ذَوِي الحُظْوَة والجَاه، المُصْغِيَةِ أَفْئِدَتُهم إليه، حتّى قَطَعَتْ صِلاتُهُم لِسانَه، ومَلأَتْ هِباتُهُم وعَطاياهم فاه.
أَمّا بعد أَنْ خَرَجَ إلى النّاس ببِضاعَتِهِ، وعَظِيماتِ سَجاياه، فقد آمَنَ الخَلْقُ بمَواهِبَ فَذّةٍ رُزِقَها، وخِصالٍ عاليةٍ وُهِبَها، أَنْبَهَتْه بينهم نَباهَةً لَم يَخْمُل بعدها ذِكْرُه أَو يَسْقُطْ صِيْتُه، مِنْها: غَزارَةُ عِلْمِهِ، وسَعَةُ معرفتِه، وحُسْنُ اختياراته ومُنْتَخَباته، مع حِدَّةِ ذكاءٍ، وحُضُورِ بَدِيْهةٍ، وسُرْعَةِ جَوابٍ، حتّى إنّه كان يُبادرُ المُتَكَلِّمَ بالجواب قبل انْقِضاء كلامِه، كأَنَّما اطَّلَعَ على سِرِّه، فعَلِمَ ما سيقول؛ مِنْ ذلك أَنَّه مَدَحَ الأَميرَ أَحْمدَ بنَ المُعْتَصِم بقصيدتِه السِّيْنِيَّةِ، الّتي يقول فيها:
أَبْلَيْتَ هذا المَجْدَ أَبْعَدَ غايَةٍ
فِيْهِ، وأَكْرَمَ شِيْمَةٍ ونِحاسِ
إِقْدامَ عَمْرٍو، في سَماحَةِ حاتِمٍ
في حِلْمِ أَحْنَفَ، في ذَكاءِ إِياسِ
وكان أبو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بنُ الصباح الكِنْدِيّ الفيلسوفُ حاضرًا؛ فقال ـ مُخاطبًا أبا تَمّام ـ: «الأَميرُ فوقَ مَنْ وَصَفْتَ». فأَطْرَقَ أبو تَمّام هُنَيْهَةً، ثمّ ارْتَجَل قائلاً:
لا تُنْكِرُوا ضَرْبِيْ لَهُ مَنْ دُوْنَهُ
مَثَلاً شَرُوداً في النَّدَى والبَاسِ
فاللهُ قَدْ ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُوْرِهِ
مَثَلاً مِنَ المِشْكاةِ والنِّبْراسِ
ولمّا تَلَقَّفوا القصيدةَ مِنْ يَدِه لم يُصِيْبوا فيها هذين البيتين، فعَجِبوا من سرعة فِطْنَتِه، واتِّقادِ قَرِيْحَتِه، وقولِه الشِّعر على السَّجِيّة، كأَنّما يُمْسِكُ بيَدَيْهِ أَزِمَّةَ القَوافي أَجْمَعِينَ.
أوّل ما نَشَرَ فضائلَ أبي تَمّام المَطْوِيَّة في صدره، طَيَّ السِّجِل، سُبابٌ وتَهارشٌ نَهَضَا بينه وبين الشَّاعرِ المِصْريّ يُوسُفَ السَّرّاجِ، إِبَّانَ رحلته إلى مِصْر، شَهَراهُ وأَشْخصا ذِكْرَهُ عند الأُمَراءِ والوُلاة في كلّ صُقْعٍ، ثمّ عَلِق قلبُه التَّسْفارَ والتَّطْواف فأَنْضى مَطِيّتَه فيهما، فوَفَدَ على المَأْمون بالعراق مادِحًا، ثمّ اسْتَقْدَمَه المُعْتَصِمُ بعده إجلالاً لقَدْرِه، وإِعظامًا لشأْنه، وقَدِم خُراسان فمَدَح بها عبدَ الله بنَ طاهر بن الحُسين، ووَصَل إلى إِرْمِيْنِيَة فمَدَح خالدَ بنَ يزيد، فما زال هذا دَأْبُهُ، يُشَرِّقُ تارةً ويُغَرِّبُ أُخْرى، ولِسانُ حالِه يقول:
بالشّامِ أَهْلِيْ، وبَغْدادُ الهَوَى، وأَنَا
بِالرَّقْمَتَيْنِ، وبِالفُسْطاطِ إِخْوانِي
وكان في حَلِّهِ وتَرْحالِه يجودُ بقوافٍ عَظُمَتْ صُدورُها بحُبٍّ جَمٍّ للعُرُوبَةِ وأَعْلامِها، وناءتْ أَعْجازُها بمَعانٍ إسلاميَّة جليلةٍ، أظْهرُها وأَعْلاها ـ وكلّها ظاهرٌ عالٍ ـ ما جاء في كلمته البائِيَّة في فَتْحِ عَمُّورِيَّة.
انْمازَ شعرُ أبي تَمّام من غيره بغَلَبَة المعاني المُخْتَرعة عليه، وظهورِ نَفَسِ التّجديد فيه، فضلاً عن بُرُوزِ الصَّنْعة غيرِ المُتَكَلَّفَة، والتَّفَنُّنِ في تطويعها دون مَشَقَّةٍ أَو إِنْعام نَظَر؛ أَعانَ حَبِيْبًا على ذلك حِسٌّ مُرْهَفٌ، ونَفْسٌ شاعرةٌ تَوّاقَةٌ إلى اخْتِراع المعاني، تَتَعَشَّق الجديدَ وتَهْفُو إليه؛ قال البُحْتُري عن سَعْي مُعَلِّمِه إلى توليد المعاني: «أبو تَمّام أَغْوَصُ على المعاني، وأنا أَقْوَمُ بعمود الشِّعر». وقال ابن الرُّوميّ: «أبو تمّام يطلب المعنى ولا يُبالي باللّفظ». ومن المعاني المُبْتكرة الّتي لم يُسْبَق إليها حَبِيْبٌ، بل وَرَدَها صَفْواً لا كَدَر فيه، ثمَ ألْبَسها حُلىً قَشِيْبةً زاهِيَةً، تَسُرّ النّاظرين، قوله:
وإِذا أَرادَ اللهُ نَشْرَ فضِيْلَةٍ
طُوِيَتْ أَتاحَ لَهَا لِسانَ حَسُوْدِ
لَوْلا اشْتِعالُ النَّارِ فِيْمَا جَاوَرَتْ
مَا كانَ يُعْرَفُ طِيْبُ عَرْفِ العُوْدِ
وقوله:
لا تُنْكِرِيْ عَطَلَ الكَرِيْمِ مِنَ الغِنَى
فَالسَّيْلُ حَرْبٌ للمَكانِ العَالِي
وقوله:
يا أَيُّها المَلِكُ النَّائي بِرُؤْيَتِهِ
وجُوْدُهُ لِمَراعِي جُوْدِهِ كُثُبُ
لَيْسَ الحِجَابُ بِمُقْصٍ عَنْكَ لِي أَمَلاً
إِنَّ السَّماءَ تُرَجَّى حِيْنَ تُحْتَجَبُ
وآثارُ الصَّنْعَةِ في شعر أبي تمّام ظاهرةٌ ظُهورًا لافِتًا، تُرَى في بَدْو القصائد، وتَرِدُ في تَضاعِيفِها، فمِنْ أَظْهَرِ ما يَفْجَؤُ النّاظرَ في شعره خُرُوجُهُ على إِلْف العرب، مِنَ الابْتِداء بالوقوف على الأطلال والدِّمَن، ومُخاطَبَة صُواها، والبُكاء على رَحِيل ظَعائِنِها، إِذ كان يَهْجُم على المعنى المَنْشود فيُمُسكه بَتلابِيْبِه مِنْ دون أَنْ يَتَحَوَّجَ إلى تُكَأَةٍ لُغَوِيّة يَسْتَنِد إليها، أو شَفاعةٍ مَنْ إِلْفِ الشّعراء قبله يَلُوْذُ بها، فهذه كلمته في فَتْح عمُّورِيَّة بدأها بقوله:
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْباءً مِنَ الكُتُبِ
في حَدِّهِ الحَدُّ بَيْنَ الجِدَّ واللَّعِبِ
وقَصَد فيها ما يُوائِمُ المُقام مِنْ دون أنْ تُلْهِيَهِ المُقَدّمة، أو تَصرفَه عن غرضه، فأصابه، وذهب يَنْشُدُ الجناس (بين الحَدَّين) والطّباق (بين الجِدّ واللَّعِب) فاقْتادهما، وعَزَّزهما بقوله:
بِيْضُ الصَّفَائِحِ لا سُودُ الصَّحائِفِ في
مُتُوْنِهِنَّ جَلاءُ الشَّكِ والرِّيَبِ
ومِنْ أَمْلَح ما وَرَد في كلامه مِنَ التَّدْبِيْج، قوله في رثاء مُحمّد بن حَمِيْد الطُّوسِيّ:
تَرَدَّى ثِيابَ المَوْتِ حُمْراً فَما دَجا
لَهَا اللَّيْلُ إِلاَّ وهْيَ مِنْ سُنْدُسٍ خُضْرُ
فجَمَعَ بين الحُمْرة الّتي عنى بها القَتْل، والخُضْرَةِ الّتي عَنى بها ثِياب الشّهداء؛ أي إِنّه لم يَنْقضِ يومُه حتّى أُبْدِلَ بثيابِه المُلَطّخَةِ بالدّمِ ثيابَ أهل الجنّة. وهذا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ تَصَرُّف حَبِيْبٍ في ثقافته، وسَعة اطّلاعه، غَيرَ أنّه إذا اعْتاصَ عليه معنًى مِنَ المعاني، أو حار في تَطْوِيعه، فإنّه يلُوذُ بالكلام غَيْرِ المفهوم، ويَحْتَمِي بالغُمُوضِ وعُسْرِ التَّأويلِ، فإِذا سأله سائلٌ: لِمَ لا تَقول ما يُفْهَم؟ أجابه بقوله: وأنْتَ، لماذا لا تَفْهم ما يُقال؟!
تَصَدَّرَ أبو تَمّام مَجالسَ الشِّعْرِ، فلم يُصِبْ شاعرٌ مِنْ شعراء عصره فُسْحَةً فيها إلاّ بقَدْرِ ما يُصِيْبُ مِنْ رِضاهُ عنه، ولاسيّما مجالسِ الفَخْرِ والحَماسَة والأَمادِيْح ـ فإِنْ ذَهِل حَبِيْبٌ أَو تَغافَل عمَّنْ زاحَمَه، فليس في غيرِ الغَزَلِ والتَّشْبِيْب لَهُ نَصِيْب ـ واحْتَلَّ المَحَلّ الأَوّل بين شعراء عصره وأُدبائه، أهَّلَته لذلك قَرِيْحَتُه المُتَّقِدَة، وغَزارَة محفوظاته؛ إِذْ نَخَلَ أشعار العرب في الجاهليّة والإسلام، واسْتَظْهَرَ نُخالَتَها، فحفظ منها أربعةَ عشرَ أَلْف أُرْجُوزَةٍ مِنْ أراجِيْزِهم غيرَ القصائد والمَقاطِيْع، وتَلَقَّف أساليبَ التّجديد ـ فوق ما رُزِق منها وأَصاب ـ مِنْ ديوانَي المُفْلِقَين المَطْبُوعَيْن، أبي نُواسٍ ومسلم بن الوليد، وكان مُدِيْمًا للنَّظر فيهما، وحين سأله بعضُهم في ذلك، قال: هما اللاَّتُ والعُزَّى.
وازَنَ النّقاد بين شعر حَبِيْبٍ وأشعارِ طَبَقَتِه، فذهب فريقٌ من الفُرَقاء إلى تفضيله على سائر الشّعراء، فهذا الصّوليّ يقول: «مَنْ تَبَحّرَ شعرَ أبي تمّام وَجَدَ كلَّ محسنٍ بعده لائذًا به». وقال المُبَرِّد: «ما يَهْضِمُ شعرَ هذا الرّجل إلاّ أحدُ رجلين: إمّا جاهلٌ بعِلْمِ الشّعر ومعرفة الكلام، وإمّا عالمٌ لم يَتَبَحَّرْ شعرَه، ولم يسمعه». وذهب آخرون، فيهم دِعبل الخُزاعِيّ، إلى غَمْطِ أبي تمّام مكانته، وازْدِراءِ عبقريّتِه، وكان دِعْبِلٌ، إذا سُئِلَ عنه، قال: «ثلثُ شعره سَرِقَة، وثلثه غَثٌّ، وثلثه صالح». أمّا ابن الأعرابي فقد أَنَكَرَ على حَبِيْب قَوافِيْه جَمْعاء، فقال:«إن كان هذا شعراً فما قالته العرب باطلٌ».
وفي المُوازَنة بين أبي تمّام والبُحْتُري والمُتَنَبّي نُصِيْبُ آراءً مُتباينةً يَنْظِمها قولُ الشَّرِيْف الرّضيّ: «أمّا أبو تمّام فخطيبُ مِنْبَر، وأمّا البُحْتُرِي فواصِفُ جُؤْذُر، وأمّا المُتَنَبِّي فقائدُ عَسْكر».
قضى أبو تمّام وهو والٍ على بريد المَوْصِل، حيث ولاّه عليه مَمْدُوحُهُ الحَسَنُ بنُ وَهْب ـ وكان وَجِيْهًا مُقَدّمًا، وكاتِبًا شاعرًا ـ ودُفِن بها، فرثاه الشّعراء والكتّاب والوزراء، وأعاد له الحَسَنُ بن وَهْب مَدائِحَه مَراثيَ، فقال مِنْ كلمةٍ له:
سَقَى بِالمَوصِلِ القَبْرَ الغَرِيْبَا
سَحائِبُ يَنْتَحِبْنَ لَهُ نَحِيْبَا
فَإِنَّ تُرابَ ذاكَ القَبْرِ يَحْوِيْ
حَبِيْبًا كان يُدْعَى حَبِيْبَا
خَلّف أبو تمّام ابنًا له شاعراً، هو تمّام الّذي يُكْنَى به، أَوْرَثَه ظُرْفَه كلَّه، وبعضَ شعره، فكانوا يستضْعفون شعره، ويسْتَمْلِحون حديثَه إذا تَكَلَّم، ويقولون: «يا بُعْدَ ما بينَه وبين أبيه، إِنْ لم يكنْ معه شِعْرُ أبيه، فمعه ظُرْفُه».
ترك أبو تَمّام تَصانِيْفَ جليلةً أَثْرَتِ المكتبة العربيّة وأَغْنَتها، أَجَلُّها مُنْتخباته، الّتي بدا فيها أَشْعرَ منه في شعره ـ على قوّة شعره وجَزالتِه، وعُلُوِّ صَنْعَته ـ فمِنْ رائقِ ما انْتَخَبَ: «ديوانُ الحَماسَة»، الّذي كَسَرَه على عشرةِ أبوابٍ: الحَماسة، والمَراثِي، والأَدَب، والنّسِيْب، والهجاء، والأَضْياف والمَدِيْح، ثمّ ذَيَّله بالصّفات وما اختاره منه، والسَّيْر والنُّعاس، والمُلَح، ومَذَمَّة النِّساء، غَيرَ أَنّه حَبا باب الحَماسةَ ما يُربي على ثُلُثِ مُخْتاراتِهِ مِنْ أَشْعارِ العرب، ثمّ بالَغَ في حِبـائِهِ فصَدَّرَ به كتابَه وجعله عُنْوانًا له، تَغْليْبًا له على سائر أغراض الشّعر. و«كتاب الوَحْشِيَّات» ـ الحَماسة الصُّغْرَى ـ وهو مَقاطِيْعُ لا تُعْرف، أَغلبُها للمُقِلِّيْن مِنَ الشّعراء أو المَغْمورين منهم، وهو دون صِنْوِه الحَماسة في حُسْنِ الاختيار وجَوْدَة الانْتِقاء. و«مختار أشعار القبائل»، وقف عليه البَغدادي صاحب الخزانة، ثمّ حُجِب فيما حُجِبَ من نفائسَ وقلائد، وهو أَصْغَرُ من ديوان الحماسة. و»نقائض جرير والأَخْطل»، وليس له البَتَّة؛ قال المَيْمَني عن نِسْبَته: «إنّ بعض المُتأَخّرين في زَمَنِ الأَتْراك لمّا رأى عنوانه غُفْلاً عن ذِكْر المُؤلِّف، زاد بخطِّه الفارسي تأليف الإمام الشّاعر الأديب الماهِر أبي تمّام»، وهو اختلاقٌ منه قبيح». ثمّ رَجّح ـ وَفْقًا لِمَا جاء في فهرست النّديم ـ أن يكون للأصْمعيّ، فضلاً عن ورود كنيته أبي سعيد غير ما مَرَّة في مَتْنِه. و«ديوان شعره» وكلُّ تَصانِيْفِهِ السّالفة مطبوعٌ.
مُقْبِل التَّامّ عامر الأَحْمَدِي
Abu Tammam - Abu Tammam
أَبو تَمّام
(نحو 176ـ 231هـ/ نحو 792 ـ 846م)
أبو تَمّامٍ حَبِيْبُ بنُ أَوْسٍ الطّائيّ، مِنْ أَساطِيْن الأَدَبِ وأُمرائِه، وعَلَمٌ في الشِّعْر أَغَرُّ أَبْلَجُ، حَفّاظَةٌ له، ذوّاقَةٌ في تَخَيُّرِ أَشْعار العرب وانْتِخابِها، آيَةٌ في تَصَيُّدِ الجِياد الحِسان مِنْها، ومَأْثَرَةٌ جَلِيْلةٌ مِنْ مَآثِرِ طَيِّئ، الّتي يَتَحَدَّرُ مِنْ أَصْلابِها، علا شانِئيْه بالشِّعْرِ والأَدَب، فغَمَزُوْهُ في الحَسَبِ والنَّسَبِ، وزاد على ذلك غُلاتُهم فجَعلوه رُوْمِيَّ الأَرُومَةِ والمَحْتِد، نَصْرانِيَّ المِلَّةِ، وسَمَّوا أَباه «تدوس» أو «تيودوس»، وقد أَعانَهم حَبِيْبٌ على نَفْسِهِ برِقَّةِ دِيْنِه وتَخَفُّفِهِ فيه، عِلاوةً على سَدِّهِ أَبوابَ الرِّزْقِ عليهم حَياتَه، واحْتِسائِهِ الصَّهْباء، وإِتْيانِه اللَّهْوَ في الجَهْر والخَفاء، ومَيْلِه إلى ظاهرِ الطَّرَبِ واللَّعِب، حتّى شَكَّ فيه مُحِبُّوْه، وخَالَطَ أَفْئِدَتَهم رَيْبٌ لم تَنْقَشِعْ عنها سَحائِبُه.
وُلِدَ في قرية جاسِم، مِنْ أَعْمال حَوْرانَ بسوريَة، وشَبَّ بها، ليس تَمِيْزُهُ مِنْ أَتْرابِه خِلالٌ ظاهرةٌ إِلاّ أنّه «كان أَسْمَرَ طُوالاً فيه حُبْسَةٌ وتَمْتَمَةٌ يسيرةٌ، حُلْوَ الكَلامِ فَصِيْحاً، كَأَنّ لَفْظَهُ لَفْظُ الأَعْراب»، وهو مع ذلك قَبِيْحُ الإِنْشادِ للشِّعْر، غَيْرُ مُحْسِنٍ فيه، ممّا أَحْوَجَه ـ بعد أنْ صَعِد نَجْمُه ـ إلى اتِّخاذِ غُلامٍ له، حَسَنِ الإِنْشاد للشِّعر، كان يُفَرِّقُ ما جَمَّعَ حَبِيْبٌ مِنْ قَوافيه، على ذَوِي الحُظْوَة والجَاه، المُصْغِيَةِ أَفْئِدَتُهم إليه، حتّى قَطَعَتْ صِلاتُهُم لِسانَه، ومَلأَتْ هِباتُهُم وعَطاياهم فاه.
أَمّا بعد أَنْ خَرَجَ إلى النّاس ببِضاعَتِهِ، وعَظِيماتِ سَجاياه، فقد آمَنَ الخَلْقُ بمَواهِبَ فَذّةٍ رُزِقَها، وخِصالٍ عاليةٍ وُهِبَها، أَنْبَهَتْه بينهم نَباهَةً لَم يَخْمُل بعدها ذِكْرُه أَو يَسْقُطْ صِيْتُه، مِنْها: غَزارَةُ عِلْمِهِ، وسَعَةُ معرفتِه، وحُسْنُ اختياراته ومُنْتَخَباته، مع حِدَّةِ ذكاءٍ، وحُضُورِ بَدِيْهةٍ، وسُرْعَةِ جَوابٍ، حتّى إنّه كان يُبادرُ المُتَكَلِّمَ بالجواب قبل انْقِضاء كلامِه، كأَنَّما اطَّلَعَ على سِرِّه، فعَلِمَ ما سيقول؛ مِنْ ذلك أَنَّه مَدَحَ الأَميرَ أَحْمدَ بنَ المُعْتَصِم بقصيدتِه السِّيْنِيَّةِ، الّتي يقول فيها:
أَبْلَيْتَ هذا المَجْدَ أَبْعَدَ غايَةٍ
فِيْهِ، وأَكْرَمَ شِيْمَةٍ ونِحاسِ
إِقْدامَ عَمْرٍو، في سَماحَةِ حاتِمٍ
في حِلْمِ أَحْنَفَ، في ذَكاءِ إِياسِ
وكان أبو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بنُ الصباح الكِنْدِيّ الفيلسوفُ حاضرًا؛ فقال ـ مُخاطبًا أبا تَمّام ـ: «الأَميرُ فوقَ مَنْ وَصَفْتَ». فأَطْرَقَ أبو تَمّام هُنَيْهَةً، ثمّ ارْتَجَل قائلاً:
لا تُنْكِرُوا ضَرْبِيْ لَهُ مَنْ دُوْنَهُ
مَثَلاً شَرُوداً في النَّدَى والبَاسِ
فاللهُ قَدْ ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُوْرِهِ
مَثَلاً مِنَ المِشْكاةِ والنِّبْراسِ
ولمّا تَلَقَّفوا القصيدةَ مِنْ يَدِه لم يُصِيْبوا فيها هذين البيتين، فعَجِبوا من سرعة فِطْنَتِه، واتِّقادِ قَرِيْحَتِه، وقولِه الشِّعر على السَّجِيّة، كأَنّما يُمْسِكُ بيَدَيْهِ أَزِمَّةَ القَوافي أَجْمَعِينَ.
أوّل ما نَشَرَ فضائلَ أبي تَمّام المَطْوِيَّة في صدره، طَيَّ السِّجِل، سُبابٌ وتَهارشٌ نَهَضَا بينه وبين الشَّاعرِ المِصْريّ يُوسُفَ السَّرّاجِ، إِبَّانَ رحلته إلى مِصْر، شَهَراهُ وأَشْخصا ذِكْرَهُ عند الأُمَراءِ والوُلاة في كلّ صُقْعٍ، ثمّ عَلِق قلبُه التَّسْفارَ والتَّطْواف فأَنْضى مَطِيّتَه فيهما، فوَفَدَ على المَأْمون بالعراق مادِحًا، ثمّ اسْتَقْدَمَه المُعْتَصِمُ بعده إجلالاً لقَدْرِه، وإِعظامًا لشأْنه، وقَدِم خُراسان فمَدَح بها عبدَ الله بنَ طاهر بن الحُسين، ووَصَل إلى إِرْمِيْنِيَة فمَدَح خالدَ بنَ يزيد، فما زال هذا دَأْبُهُ، يُشَرِّقُ تارةً ويُغَرِّبُ أُخْرى، ولِسانُ حالِه يقول:
بالشّامِ أَهْلِيْ، وبَغْدادُ الهَوَى، وأَنَا
بِالرَّقْمَتَيْنِ، وبِالفُسْطاطِ إِخْوانِي
وكان في حَلِّهِ وتَرْحالِه يجودُ بقوافٍ عَظُمَتْ صُدورُها بحُبٍّ جَمٍّ للعُرُوبَةِ وأَعْلامِها، وناءتْ أَعْجازُها بمَعانٍ إسلاميَّة جليلةٍ، أظْهرُها وأَعْلاها ـ وكلّها ظاهرٌ عالٍ ـ ما جاء في كلمته البائِيَّة في فَتْحِ عَمُّورِيَّة.
انْمازَ شعرُ أبي تَمّام من غيره بغَلَبَة المعاني المُخْتَرعة عليه، وظهورِ نَفَسِ التّجديد فيه، فضلاً عن بُرُوزِ الصَّنْعة غيرِ المُتَكَلَّفَة، والتَّفَنُّنِ في تطويعها دون مَشَقَّةٍ أَو إِنْعام نَظَر؛ أَعانَ حَبِيْبًا على ذلك حِسٌّ مُرْهَفٌ، ونَفْسٌ شاعرةٌ تَوّاقَةٌ إلى اخْتِراع المعاني، تَتَعَشَّق الجديدَ وتَهْفُو إليه؛ قال البُحْتُري عن سَعْي مُعَلِّمِه إلى توليد المعاني: «أبو تَمّام أَغْوَصُ على المعاني، وأنا أَقْوَمُ بعمود الشِّعر». وقال ابن الرُّوميّ: «أبو تمّام يطلب المعنى ولا يُبالي باللّفظ». ومن المعاني المُبْتكرة الّتي لم يُسْبَق إليها حَبِيْبٌ، بل وَرَدَها صَفْواً لا كَدَر فيه، ثمَ ألْبَسها حُلىً قَشِيْبةً زاهِيَةً، تَسُرّ النّاظرين، قوله:
وإِذا أَرادَ اللهُ نَشْرَ فضِيْلَةٍ
طُوِيَتْ أَتاحَ لَهَا لِسانَ حَسُوْدِ
لَوْلا اشْتِعالُ النَّارِ فِيْمَا جَاوَرَتْ
مَا كانَ يُعْرَفُ طِيْبُ عَرْفِ العُوْدِ
وقوله:
لا تُنْكِرِيْ عَطَلَ الكَرِيْمِ مِنَ الغِنَى
فَالسَّيْلُ حَرْبٌ للمَكانِ العَالِي
وقوله:
يا أَيُّها المَلِكُ النَّائي بِرُؤْيَتِهِ
وجُوْدُهُ لِمَراعِي جُوْدِهِ كُثُبُ
لَيْسَ الحِجَابُ بِمُقْصٍ عَنْكَ لِي أَمَلاً
إِنَّ السَّماءَ تُرَجَّى حِيْنَ تُحْتَجَبُ
وآثارُ الصَّنْعَةِ في شعر أبي تمّام ظاهرةٌ ظُهورًا لافِتًا، تُرَى في بَدْو القصائد، وتَرِدُ في تَضاعِيفِها، فمِنْ أَظْهَرِ ما يَفْجَؤُ النّاظرَ في شعره خُرُوجُهُ على إِلْف العرب، مِنَ الابْتِداء بالوقوف على الأطلال والدِّمَن، ومُخاطَبَة صُواها، والبُكاء على رَحِيل ظَعائِنِها، إِذ كان يَهْجُم على المعنى المَنْشود فيُمُسكه بَتلابِيْبِه مِنْ دون أَنْ يَتَحَوَّجَ إلى تُكَأَةٍ لُغَوِيّة يَسْتَنِد إليها، أو شَفاعةٍ مَنْ إِلْفِ الشّعراء قبله يَلُوْذُ بها، فهذه كلمته في فَتْح عمُّورِيَّة بدأها بقوله:
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْباءً مِنَ الكُتُبِ
في حَدِّهِ الحَدُّ بَيْنَ الجِدَّ واللَّعِبِ
وقَصَد فيها ما يُوائِمُ المُقام مِنْ دون أنْ تُلْهِيَهِ المُقَدّمة، أو تَصرفَه عن غرضه، فأصابه، وذهب يَنْشُدُ الجناس (بين الحَدَّين) والطّباق (بين الجِدّ واللَّعِب) فاقْتادهما، وعَزَّزهما بقوله:
بِيْضُ الصَّفَائِحِ لا سُودُ الصَّحائِفِ في
مُتُوْنِهِنَّ جَلاءُ الشَّكِ والرِّيَبِ
ومِنْ أَمْلَح ما وَرَد في كلامه مِنَ التَّدْبِيْج، قوله في رثاء مُحمّد بن حَمِيْد الطُّوسِيّ:
تَرَدَّى ثِيابَ المَوْتِ حُمْراً فَما دَجا
لَهَا اللَّيْلُ إِلاَّ وهْيَ مِنْ سُنْدُسٍ خُضْرُ
فجَمَعَ بين الحُمْرة الّتي عنى بها القَتْل، والخُضْرَةِ الّتي عَنى بها ثِياب الشّهداء؛ أي إِنّه لم يَنْقضِ يومُه حتّى أُبْدِلَ بثيابِه المُلَطّخَةِ بالدّمِ ثيابَ أهل الجنّة. وهذا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ تَصَرُّف حَبِيْبٍ في ثقافته، وسَعة اطّلاعه، غَيرَ أنّه إذا اعْتاصَ عليه معنًى مِنَ المعاني، أو حار في تَطْوِيعه، فإنّه يلُوذُ بالكلام غَيْرِ المفهوم، ويَحْتَمِي بالغُمُوضِ وعُسْرِ التَّأويلِ، فإِذا سأله سائلٌ: لِمَ لا تَقول ما يُفْهَم؟ أجابه بقوله: وأنْتَ، لماذا لا تَفْهم ما يُقال؟!
تَصَدَّرَ أبو تَمّام مَجالسَ الشِّعْرِ، فلم يُصِبْ شاعرٌ مِنْ شعراء عصره فُسْحَةً فيها إلاّ بقَدْرِ ما يُصِيْبُ مِنْ رِضاهُ عنه، ولاسيّما مجالسِ الفَخْرِ والحَماسَة والأَمادِيْح ـ فإِنْ ذَهِل حَبِيْبٌ أَو تَغافَل عمَّنْ زاحَمَه، فليس في غيرِ الغَزَلِ والتَّشْبِيْب لَهُ نَصِيْب ـ واحْتَلَّ المَحَلّ الأَوّل بين شعراء عصره وأُدبائه، أهَّلَته لذلك قَرِيْحَتُه المُتَّقِدَة، وغَزارَة محفوظاته؛ إِذْ نَخَلَ أشعار العرب في الجاهليّة والإسلام، واسْتَظْهَرَ نُخالَتَها، فحفظ منها أربعةَ عشرَ أَلْف أُرْجُوزَةٍ مِنْ أراجِيْزِهم غيرَ القصائد والمَقاطِيْع، وتَلَقَّف أساليبَ التّجديد ـ فوق ما رُزِق منها وأَصاب ـ مِنْ ديوانَي المُفْلِقَين المَطْبُوعَيْن، أبي نُواسٍ ومسلم بن الوليد، وكان مُدِيْمًا للنَّظر فيهما، وحين سأله بعضُهم في ذلك، قال: هما اللاَّتُ والعُزَّى.
وازَنَ النّقاد بين شعر حَبِيْبٍ وأشعارِ طَبَقَتِه، فذهب فريقٌ من الفُرَقاء إلى تفضيله على سائر الشّعراء، فهذا الصّوليّ يقول: «مَنْ تَبَحّرَ شعرَ أبي تمّام وَجَدَ كلَّ محسنٍ بعده لائذًا به». وقال المُبَرِّد: «ما يَهْضِمُ شعرَ هذا الرّجل إلاّ أحدُ رجلين: إمّا جاهلٌ بعِلْمِ الشّعر ومعرفة الكلام، وإمّا عالمٌ لم يَتَبَحَّرْ شعرَه، ولم يسمعه». وذهب آخرون، فيهم دِعبل الخُزاعِيّ، إلى غَمْطِ أبي تمّام مكانته، وازْدِراءِ عبقريّتِه، وكان دِعْبِلٌ، إذا سُئِلَ عنه، قال: «ثلثُ شعره سَرِقَة، وثلثه غَثٌّ، وثلثه صالح». أمّا ابن الأعرابي فقد أَنَكَرَ على حَبِيْب قَوافِيْه جَمْعاء، فقال:«إن كان هذا شعراً فما قالته العرب باطلٌ».
وفي المُوازَنة بين أبي تمّام والبُحْتُري والمُتَنَبّي نُصِيْبُ آراءً مُتباينةً يَنْظِمها قولُ الشَّرِيْف الرّضيّ: «أمّا أبو تمّام فخطيبُ مِنْبَر، وأمّا البُحْتُرِي فواصِفُ جُؤْذُر، وأمّا المُتَنَبِّي فقائدُ عَسْكر».
قضى أبو تمّام وهو والٍ على بريد المَوْصِل، حيث ولاّه عليه مَمْدُوحُهُ الحَسَنُ بنُ وَهْب ـ وكان وَجِيْهًا مُقَدّمًا، وكاتِبًا شاعرًا ـ ودُفِن بها، فرثاه الشّعراء والكتّاب والوزراء، وأعاد له الحَسَنُ بن وَهْب مَدائِحَه مَراثيَ، فقال مِنْ كلمةٍ له:
سَقَى بِالمَوصِلِ القَبْرَ الغَرِيْبَا
سَحائِبُ يَنْتَحِبْنَ لَهُ نَحِيْبَا
فَإِنَّ تُرابَ ذاكَ القَبْرِ يَحْوِيْ
حَبِيْبًا كان يُدْعَى حَبِيْبَا
خَلّف أبو تمّام ابنًا له شاعراً، هو تمّام الّذي يُكْنَى به، أَوْرَثَه ظُرْفَه كلَّه، وبعضَ شعره، فكانوا يستضْعفون شعره، ويسْتَمْلِحون حديثَه إذا تَكَلَّم، ويقولون: «يا بُعْدَ ما بينَه وبين أبيه، إِنْ لم يكنْ معه شِعْرُ أبيه، فمعه ظُرْفُه».
ترك أبو تَمّام تَصانِيْفَ جليلةً أَثْرَتِ المكتبة العربيّة وأَغْنَتها، أَجَلُّها مُنْتخباته، الّتي بدا فيها أَشْعرَ منه في شعره ـ على قوّة شعره وجَزالتِه، وعُلُوِّ صَنْعَته ـ فمِنْ رائقِ ما انْتَخَبَ: «ديوانُ الحَماسَة»، الّذي كَسَرَه على عشرةِ أبوابٍ: الحَماسة، والمَراثِي، والأَدَب، والنّسِيْب، والهجاء، والأَضْياف والمَدِيْح، ثمّ ذَيَّله بالصّفات وما اختاره منه، والسَّيْر والنُّعاس، والمُلَح، ومَذَمَّة النِّساء، غَيرَ أَنّه حَبا باب الحَماسةَ ما يُربي على ثُلُثِ مُخْتاراتِهِ مِنْ أَشْعارِ العرب، ثمّ بالَغَ في حِبـائِهِ فصَدَّرَ به كتابَه وجعله عُنْوانًا له، تَغْليْبًا له على سائر أغراض الشّعر. و«كتاب الوَحْشِيَّات» ـ الحَماسة الصُّغْرَى ـ وهو مَقاطِيْعُ لا تُعْرف، أَغلبُها للمُقِلِّيْن مِنَ الشّعراء أو المَغْمورين منهم، وهو دون صِنْوِه الحَماسة في حُسْنِ الاختيار وجَوْدَة الانْتِقاء. و«مختار أشعار القبائل»، وقف عليه البَغدادي صاحب الخزانة، ثمّ حُجِب فيما حُجِبَ من نفائسَ وقلائد، وهو أَصْغَرُ من ديوان الحماسة. و»نقائض جرير والأَخْطل»، وليس له البَتَّة؛ قال المَيْمَني عن نِسْبَته: «إنّ بعض المُتأَخّرين في زَمَنِ الأَتْراك لمّا رأى عنوانه غُفْلاً عن ذِكْر المُؤلِّف، زاد بخطِّه الفارسي تأليف الإمام الشّاعر الأديب الماهِر أبي تمّام»، وهو اختلاقٌ منه قبيح». ثمّ رَجّح ـ وَفْقًا لِمَا جاء في فهرست النّديم ـ أن يكون للأصْمعيّ، فضلاً عن ورود كنيته أبي سعيد غير ما مَرَّة في مَتْنِه. و«ديوان شعره» وكلُّ تَصانِيْفِهِ السّالفة مطبوعٌ.
مُقْبِل التَّامّ عامر الأَحْمَدِي