جاحظ
Al-Jahiz - Al-Jahiz
الجاحظ
(159 ـ 255هـ/775 ـ 868م)
أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكنانيّ الملقب بالجاحظ، لجحوظ في عينيه. أحد أئمة الكتّاب والمفكرين والعلماء في عصره.
ولد بالبصرة ونشأ فيها في أسرة مغمورة فقيرة، فقد أباه صغيراً فتولت أمه الإشراف عليه وتربيته، واضطرّ منذ صغره إلى ممارسة أعمال يكسب بها رزقه، وقد رئي يبيع الخبز والسّمك في أسواق البصرة. ولكنّ فقره لم يحل دون طلبه العلم، فكان يتردَّد على الكتَّاب لطلب العلم. ونشأ محباً للوقوف على ألوان المعرفة، شغوفاً بمطالعة الكتب. وكانت البصرة في عصره موئل العلماء والمفكرين، ففي هذه البيئة العلمية نشأ الجاحظ، فكان يتردَّد على مساجد البصرة، يأخذ العلم عن العلماء في مختلف آفاق المعرفة، بل إنه كان يبيت في دكاكين الورّاقين لقراءة الكتب، فلا يقع في يده كتاب إلا استوفى قراءته.
كانت حياة الجاحظ نموذجاً فذّاً للعصاميّة والجهد واحتمال الفقر والمصاعب في سبيل تحقيق الأهداف التي كان يسعى إليها. وكان ربما نسي إحضار الطعام لأمه لانشغاله بطلب العلم، فإذا طلب من أمه طعاماً أتته بصحفه فيها كراريس بدلاً من الطعام.
ولم يكتف الجاحظ بما كان يستمدّه من مطالعته في الكتب ومن شيوخه في المساجد، وكان فيهم علماء بالعربية وفلاسفة وأدباء، فكان يتردّد على مرْبَد البصرة فيلقى الأعراب ويشافههم ليتلقف الفصاحة من أفواههم. ومن طريق هذه المصادر كلها نمت معارفه ونضجت ثقافته وفصح لسانه واكتمل زاده العلمي.
أُتيحت للجاحظ فرصة الاتصال بشيخ المعتزلة في عصره، وهو إبراهيم بن سيّار النظَّام (ت231هـ)، إذ كان الجاحظ يتردَّد على بيت أحد مشجّعي العلماء، وهو مويس بن عمران، وكان أمدّ الجاحظ ببعض المال، فالتقى النظَّام في مجلسه. وكان يختلف إلى هذا المجلس متكلمون وفلاسفة، فيتجادلون ويتناظرون. فأعجب الجاحظ بالنظَّام وأفكاره، فمال إلى مذهب الاعتزال الذي كان حينئذ يشق طريقه في زحمة المذاهب الدينية والفكرية، وما لبث الجاحظ أن صار من المعتزلة المرموقين وصار له موقف من مذهب الاعتزال يعبّر عن آرائه.
ولمّا آنس الجاحظ من نفسه المقدرة على العطاء العلمي والفكري أخذ يصنِّف الكتب في مناحي المعرفة المختلفة. وكان في بادئ أمره ربّما نسب الكتاب إلى غيره من العلماء المشهورين ليضمن له الرواج والذيوع ويتجنب طعن الطاعنين.
اتّصل الجاحظ بعدّة من الخلفاء العباسيين في بغداد، ولعل المأمون كان أول من اتصل به، وكان المأمون من مؤيدي فرقة المعتزلة، وكان الجاحظ قد ألف كتاباً في الإمامة -وموضوع الإمامة كان من المباحث التي وقع فيها الاختلاف بين الفرق الدينية- فلما وقف المأمون على هذا الكتاب أُعجب به فاستدعى الجاحظ ليتولى ديوان الرسائل، ولكنه لم يصبر على العمل في الديوان أكثر من ثلاثة أيام، فما لبث أن طلب إعفاءه منه، فأجابه المأمون إلى طلبه.
وفي زمن المعتصم اتّصل الجاحظ بوزيره الأديب محمد بن عبد الملك الزيّات، وانقطع إليه. ولما ولي الواثق أقر ابن الزيّات على عمله، وبغية إرضائه أظهر ابن الزيات الجفاء لأخيه المتوكّل. فلمّا ولي المتوكل قبض على ابن الزيات ووضعه في تنور فيه المسامير، فمازال فيه حتى مات. فلما مات ابن الزيات خشي الجاحظ أن يكون ثاني اثنين إذ هما في التنور، فاستخفى حيناً ثم قبض عليه وجيء به مقيداً إلى القاضي ابن أبي دواد، خصم ابن الزيات، فوبّخه في بادئ الأمر، ثم رضي عنه وقرّبه منه لمنزلته الأدبية وحديثه الممتع.
وفي زمن المتوكل، على الأرجح، أصيب الجاحظ بالفالج، فعاد إلى البصرة ولزم داره، ومالبث أن أصيب بالنقرس أيضاً، فلمّا استدعاه المتوكل لمنادمته اعتذر من عدم القدوم عليه بسبب علته.
ومع هذه الأمراض التي أصيب بها الجاحظ كان لا يكف عن المطالعة وتأليف الكتب، إذ ألَّف كتبه الجيدة وهو في هذه الحالة. وكان يغشاه كبار الأدباء والكتاب والعلماء لعيادته والاستمتاع بحديثه.
كان الجاحظ أسود اللون، قصيراً، دميم الهيئة، ولكن أدبه وفكره وحديثه الممتع غطّى على دمامة خلقه.
استوعب الجاحظ مختلف ألوان المعرفة، وصنف فيها كتباً يجاوز عددها المئة، كان عالماً موسوعياً ومفكراً ناضجاً وأديباً متفوقاً، يتمتع بفكر وقّاد وحافظة عجيبة، فكان خير ممثل لعصره، عصر الإحاطة الموسوعية وامتزاج الثقافات وشيوع الروح العلمية ونقد المذاهب الدينية والفكرية. يتجلى في مؤلفاته عالماً مدققاً وأديباً واقفاً على مذاهب القول ومفكراً ناضجاً ومؤرخاً محققاً، وهو يضفي على كتابته -أيَّاً كان الموضوع الذي يعالجه- من روحه الأدبي وظرفه ودعابته وطلاوة أسلوبه.
ومن المتعذر الحديث عن مؤلفاته الكثيرة، وأشهر مؤلفاته هي: «الحيوان» و«البخلاء» و«البيان والتبين».
كتاب «الحيوان»: يمثِّل المعرفة العلمية والكلامية للجاحظ، وقد ألفه لدواع شتى، منها اتّصال موضوع الحيوان بالخصومات الدينية والكلامية التي كانت محتدمة في العراق، كما أن للكتاب صلة بالخصومة بين العرب والشعوبية. ووقف الجاحظ على كتاب الحيوان لأرسطو وعلى مصادر أخرى، على أنه كان في أحيان كثيرة يردُّ على أرسطو إذا وجد عنده ما يتعارض مع العقل والتجربة. واعتمد الجاحظ كذلك على القرآن الكريم والحديث النبوي والشعر العربي وأخبار العرب وأقوالهم.
لم يتبع الجاحظ في كتابه هذا منهجاً علمياً واضحاً ولا ترتيباً لمباحثه، والمباحث العلمية فيه مختلطة بالمناظرات الكلامية والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار والنوادر، فالكتاب معرض لثقافة الجاحظ الموسوعية. على أن الجاحظ كان، مع ذلك، ينظر في المرويات المتداولة عن الحيوان بعين الشك والمنطق العقلي، فما كان يقبل المرويات والنقول إلا بعد التثبت من صحتها. وهو يحذِّر القارئ من خطر الاعتماد على الحواس وحدها ويدعو دائماً إلى الاحتكام إلى العقل. فيقول في ذلك: «لعمري إن العيون لتخطئ وإن الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلا للذهن وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل». اتخذ الجاحظ الشك طريقاً للوصول إلى الحقائق -وهذا ما ذهب إليه ديكارت فيما بعد-. وكان الجاحظ كثيراً ما يقوم بتجارب على الحيوان أو يعاين ما يرى من حركاته وأفعاله، ليبني معارفه على أسس علمية صحيحة.
كتاب «البخلاء»: يجمع هذا الكتاب أخبار البخلاء المشهورين ونوادر تتصل بالبخل، وكان الدافع إلى تأليفه إرضاء نزعته الفنية وميله إلى جمع نوادر طوائف شتى من الناس، وهو لم يقصد من تأليفه التعريض بمن عُرفوا بالبخل، وكذلك لم يقصد إصلاح المجتمع وتنفير الناس من البخل، فهو ليس مصلحاً اجتماعياً.
والأمر البارز في هذا الكتاب هو استمداد الجاحظ أخبار البخلاء من الواقع، وليس فيه حكايات مخترعة، وهو في هذا المنزع يخالف من ألَّفوا عن البخل الذين صوَّروا البخل في قصص ومسرحيات مستمدة من خيالهم، فجاء حديثهم عن البخلاء بعيداً عن الواقع، شأن موليير في مسرحيته المشهورة «البخيل».
واللافت في هذا الكتاب الأسلوب المعبر الذي سرد فيه الجاحظ أخبار البخلاء، وهو يرسم للبخيل لوحة ناطقة تُبرز فيها مهارته في التصوير وبراعته في التقاط حركات البخلاء وتتبع ملامح وجوههم. ومن صوره الفنية قوله في صفة رجل أكول: «كان إذا أكل ذهب عقله وجحظت عينه وسكر وسدر وانبهر وتربّد وجهه وعصب ولم يسمع ولم يبصر». فالكتاب يمثِّل مقدرة الجاحظ الفنية، وقد قصَّ فيه أخبار البخلاء المشهورين في عصره، كما قصَّ نوادر طوائف معروفة بالبخل منهم المسجديون الذين كانوا يجتمعون في مسجد البصرة فيروي كل منهم ما ابتكره من أساليب الاقتصاد في النفقات، وكذلك أخبار أهل خراسان المشهورين بالبخل وغيرهم.
فكتاب «البخلاء» من الكتب التي يجد قارئها في قراءتها متعة عظيمة. ومن أخبار البخلاء من أهل خراسان قصة المروزي الذي كان يَفدُ على أحد التجار في العراق فيكرمه ويحسن وفادته، فكان الضيف يدعوه إلى زيارته ليكافئه على صنيعه، فلما أُتيحَ للتاجر فرصة القدوم على هذا المروزي تجاهله وأظهر أنه لا يعرفه، مع أنَّ التاجر حاول تعريفه بنفسه بمختلف الوسائل، فلمَّا طال الأمر قال الخراساني كلمته التي ذاعت فيما بعد وهي قوله بالفارسية: «لو خرجت من جلدك لم أعرفك».
كتاب «البيان والتبيين»: يمثِّل هذا الكتاب ثقافة الجاحظ الأدبية، وغايته من تأليفه تزويد القارئ بمعارف ونظرات بيانية، وبنماذج من كلام البلغاء والخطباء لتكون زاداً ثقافياً للقارئ يأخذ بيده في أداء أفكاره، وفي إلقاء الخطب إذا كان ممن يميلون إلى إلقائها، ومن أهدافه الأساسية في كتابه هذا الردُّ على الشُّعوبية الذين أخذوا على العرب استعانتهم بالعصا لدى إلقائهم خطبهم، فتصدّى لهم الجاحظ وجاء بالدليل القاطع على أن صناعة الكلام والخطابة من الأمور التي انفرد بها العرب دون سائر الأمم.
والكتاب يتناول البيان بدلالته الضيقة، فهو لم يقصد إلى الحديث عن فنون البيان كلها، وإنما قصد إلى الحديث عن صناعة الكلام وحدها، أي الخطابة والجدل والمناظرة والمواعظ والأقوال المأثورة. ومع ذلك فإن الجاحظ، شأنه في جميع مؤلفاته، لا يَقْصِرُ حديثه على موضوع واحد؛ بل يجمع أطرافاً شتى من فنون القول، ففي كتابه هذا أشعار وأسجاع ونوادر وأحاديث لزهّاد، بل إنَّ كتابه لا يخلو من بعض الرسائل.
ولم يعن الجاحظ في كتابه هذا بالتبويب والترتيب، وليس للكتاب خطة منسقة، وإنَّما نثر موضوعاته كيفما اتفقت له، فهو ينقل القارئ من خطبة إلى موعظة إلى نادرة إلى منتخبات شعرية، إلى غير ذلك، دون أن يتَّبع نهجاً منسقاً في ترتيب موضوعات الكتاب، ولكنَّ الكتاب في جملته يزوِّد القارئ بمعارف أدبية ونظرات بيانية من شأنها أن تُنَمِّي ثقافته وتوسع آفاقه المعرفية، وهو يعين على اكتساب المهارة الخطابية عن طريق الوقوف على نماذج الخطب المأثورة عن خطباء العرب المفوّهين، وهي الوسيلة المثلى التي كانت متوافرة لدى القدماء للتمرس بفن القول.
طريقته الكتابية: للجاحظ طريقة عرف بها وحاكاه فيها كثير من الأدباء فيما بعد، وأبرز سمات هذه الطريقة الملاءمة بين الموضوع الذي يتناوله وأسلوبه في تناوله. والجاحظ كثير العناية بتخير الألفاظ الملائمة لموضوعه، ومن سمات أسلوبه المميَّزة: الاستطراد والتكرار والترادف والإكثار من الشواهد والنماذج ومزجه الجد بالهزل.
تبوأ الجاحظ منزلة رفيعة في فن الكتابة، وشهد معاصروه بمنزلته الكتابية الرفيعة وبقيمة كتبه، فقال فيه ابن العميد قولته المشهورة: «كتب الجاحظ تُعلِّم العقل أولاً والأدب ثانياً»، وقال فيه ثابت بن قرّة الصابئ: «وما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس: أوَّلهم عمر بن الخطاب، والثاني الحسن البصري، والثالث الجاحظ».
إحسان النص
Al-Jahiz - Al-Jahiz
الجاحظ
(159 ـ 255هـ/775 ـ 868م)
أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكنانيّ الملقب بالجاحظ، لجحوظ في عينيه. أحد أئمة الكتّاب والمفكرين والعلماء في عصره.
ولد بالبصرة ونشأ فيها في أسرة مغمورة فقيرة، فقد أباه صغيراً فتولت أمه الإشراف عليه وتربيته، واضطرّ منذ صغره إلى ممارسة أعمال يكسب بها رزقه، وقد رئي يبيع الخبز والسّمك في أسواق البصرة. ولكنّ فقره لم يحل دون طلبه العلم، فكان يتردَّد على الكتَّاب لطلب العلم. ونشأ محباً للوقوف على ألوان المعرفة، شغوفاً بمطالعة الكتب. وكانت البصرة في عصره موئل العلماء والمفكرين، ففي هذه البيئة العلمية نشأ الجاحظ، فكان يتردَّد على مساجد البصرة، يأخذ العلم عن العلماء في مختلف آفاق المعرفة، بل إنه كان يبيت في دكاكين الورّاقين لقراءة الكتب، فلا يقع في يده كتاب إلا استوفى قراءته.
كانت حياة الجاحظ نموذجاً فذّاً للعصاميّة والجهد واحتمال الفقر والمصاعب في سبيل تحقيق الأهداف التي كان يسعى إليها. وكان ربما نسي إحضار الطعام لأمه لانشغاله بطلب العلم، فإذا طلب من أمه طعاماً أتته بصحفه فيها كراريس بدلاً من الطعام.
ولم يكتف الجاحظ بما كان يستمدّه من مطالعته في الكتب ومن شيوخه في المساجد، وكان فيهم علماء بالعربية وفلاسفة وأدباء، فكان يتردّد على مرْبَد البصرة فيلقى الأعراب ويشافههم ليتلقف الفصاحة من أفواههم. ومن طريق هذه المصادر كلها نمت معارفه ونضجت ثقافته وفصح لسانه واكتمل زاده العلمي.
أُتيحت للجاحظ فرصة الاتصال بشيخ المعتزلة في عصره، وهو إبراهيم بن سيّار النظَّام (ت231هـ)، إذ كان الجاحظ يتردَّد على بيت أحد مشجّعي العلماء، وهو مويس بن عمران، وكان أمدّ الجاحظ ببعض المال، فالتقى النظَّام في مجلسه. وكان يختلف إلى هذا المجلس متكلمون وفلاسفة، فيتجادلون ويتناظرون. فأعجب الجاحظ بالنظَّام وأفكاره، فمال إلى مذهب الاعتزال الذي كان حينئذ يشق طريقه في زحمة المذاهب الدينية والفكرية، وما لبث الجاحظ أن صار من المعتزلة المرموقين وصار له موقف من مذهب الاعتزال يعبّر عن آرائه.
ولمّا آنس الجاحظ من نفسه المقدرة على العطاء العلمي والفكري أخذ يصنِّف الكتب في مناحي المعرفة المختلفة. وكان في بادئ أمره ربّما نسب الكتاب إلى غيره من العلماء المشهورين ليضمن له الرواج والذيوع ويتجنب طعن الطاعنين.
اتّصل الجاحظ بعدّة من الخلفاء العباسيين في بغداد، ولعل المأمون كان أول من اتصل به، وكان المأمون من مؤيدي فرقة المعتزلة، وكان الجاحظ قد ألف كتاباً في الإمامة -وموضوع الإمامة كان من المباحث التي وقع فيها الاختلاف بين الفرق الدينية- فلما وقف المأمون على هذا الكتاب أُعجب به فاستدعى الجاحظ ليتولى ديوان الرسائل، ولكنه لم يصبر على العمل في الديوان أكثر من ثلاثة أيام، فما لبث أن طلب إعفاءه منه، فأجابه المأمون إلى طلبه.
وفي زمن المعتصم اتّصل الجاحظ بوزيره الأديب محمد بن عبد الملك الزيّات، وانقطع إليه. ولما ولي الواثق أقر ابن الزيّات على عمله، وبغية إرضائه أظهر ابن الزيات الجفاء لأخيه المتوكّل. فلمّا ولي المتوكل قبض على ابن الزيات ووضعه في تنور فيه المسامير، فمازال فيه حتى مات. فلما مات ابن الزيات خشي الجاحظ أن يكون ثاني اثنين إذ هما في التنور، فاستخفى حيناً ثم قبض عليه وجيء به مقيداً إلى القاضي ابن أبي دواد، خصم ابن الزيات، فوبّخه في بادئ الأمر، ثم رضي عنه وقرّبه منه لمنزلته الأدبية وحديثه الممتع.
وفي زمن المتوكل، على الأرجح، أصيب الجاحظ بالفالج، فعاد إلى البصرة ولزم داره، ومالبث أن أصيب بالنقرس أيضاً، فلمّا استدعاه المتوكل لمنادمته اعتذر من عدم القدوم عليه بسبب علته.
ومع هذه الأمراض التي أصيب بها الجاحظ كان لا يكف عن المطالعة وتأليف الكتب، إذ ألَّف كتبه الجيدة وهو في هذه الحالة. وكان يغشاه كبار الأدباء والكتاب والعلماء لعيادته والاستمتاع بحديثه.
كان الجاحظ أسود اللون، قصيراً، دميم الهيئة، ولكن أدبه وفكره وحديثه الممتع غطّى على دمامة خلقه.
استوعب الجاحظ مختلف ألوان المعرفة، وصنف فيها كتباً يجاوز عددها المئة، كان عالماً موسوعياً ومفكراً ناضجاً وأديباً متفوقاً، يتمتع بفكر وقّاد وحافظة عجيبة، فكان خير ممثل لعصره، عصر الإحاطة الموسوعية وامتزاج الثقافات وشيوع الروح العلمية ونقد المذاهب الدينية والفكرية. يتجلى في مؤلفاته عالماً مدققاً وأديباً واقفاً على مذاهب القول ومفكراً ناضجاً ومؤرخاً محققاً، وهو يضفي على كتابته -أيَّاً كان الموضوع الذي يعالجه- من روحه الأدبي وظرفه ودعابته وطلاوة أسلوبه.
ومن المتعذر الحديث عن مؤلفاته الكثيرة، وأشهر مؤلفاته هي: «الحيوان» و«البخلاء» و«البيان والتبين».
كتاب «الحيوان»: يمثِّل المعرفة العلمية والكلامية للجاحظ، وقد ألفه لدواع شتى، منها اتّصال موضوع الحيوان بالخصومات الدينية والكلامية التي كانت محتدمة في العراق، كما أن للكتاب صلة بالخصومة بين العرب والشعوبية. ووقف الجاحظ على كتاب الحيوان لأرسطو وعلى مصادر أخرى، على أنه كان في أحيان كثيرة يردُّ على أرسطو إذا وجد عنده ما يتعارض مع العقل والتجربة. واعتمد الجاحظ كذلك على القرآن الكريم والحديث النبوي والشعر العربي وأخبار العرب وأقوالهم.
لم يتبع الجاحظ في كتابه هذا منهجاً علمياً واضحاً ولا ترتيباً لمباحثه، والمباحث العلمية فيه مختلطة بالمناظرات الكلامية والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار والنوادر، فالكتاب معرض لثقافة الجاحظ الموسوعية. على أن الجاحظ كان، مع ذلك، ينظر في المرويات المتداولة عن الحيوان بعين الشك والمنطق العقلي، فما كان يقبل المرويات والنقول إلا بعد التثبت من صحتها. وهو يحذِّر القارئ من خطر الاعتماد على الحواس وحدها ويدعو دائماً إلى الاحتكام إلى العقل. فيقول في ذلك: «لعمري إن العيون لتخطئ وإن الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلا للذهن وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل». اتخذ الجاحظ الشك طريقاً للوصول إلى الحقائق -وهذا ما ذهب إليه ديكارت فيما بعد-. وكان الجاحظ كثيراً ما يقوم بتجارب على الحيوان أو يعاين ما يرى من حركاته وأفعاله، ليبني معارفه على أسس علمية صحيحة.
كتاب «البخلاء»: يجمع هذا الكتاب أخبار البخلاء المشهورين ونوادر تتصل بالبخل، وكان الدافع إلى تأليفه إرضاء نزعته الفنية وميله إلى جمع نوادر طوائف شتى من الناس، وهو لم يقصد من تأليفه التعريض بمن عُرفوا بالبخل، وكذلك لم يقصد إصلاح المجتمع وتنفير الناس من البخل، فهو ليس مصلحاً اجتماعياً.
والأمر البارز في هذا الكتاب هو استمداد الجاحظ أخبار البخلاء من الواقع، وليس فيه حكايات مخترعة، وهو في هذا المنزع يخالف من ألَّفوا عن البخل الذين صوَّروا البخل في قصص ومسرحيات مستمدة من خيالهم، فجاء حديثهم عن البخلاء بعيداً عن الواقع، شأن موليير في مسرحيته المشهورة «البخيل».
واللافت في هذا الكتاب الأسلوب المعبر الذي سرد فيه الجاحظ أخبار البخلاء، وهو يرسم للبخيل لوحة ناطقة تُبرز فيها مهارته في التصوير وبراعته في التقاط حركات البخلاء وتتبع ملامح وجوههم. ومن صوره الفنية قوله في صفة رجل أكول: «كان إذا أكل ذهب عقله وجحظت عينه وسكر وسدر وانبهر وتربّد وجهه وعصب ولم يسمع ولم يبصر». فالكتاب يمثِّل مقدرة الجاحظ الفنية، وقد قصَّ فيه أخبار البخلاء المشهورين في عصره، كما قصَّ نوادر طوائف معروفة بالبخل منهم المسجديون الذين كانوا يجتمعون في مسجد البصرة فيروي كل منهم ما ابتكره من أساليب الاقتصاد في النفقات، وكذلك أخبار أهل خراسان المشهورين بالبخل وغيرهم.
فكتاب «البخلاء» من الكتب التي يجد قارئها في قراءتها متعة عظيمة. ومن أخبار البخلاء من أهل خراسان قصة المروزي الذي كان يَفدُ على أحد التجار في العراق فيكرمه ويحسن وفادته، فكان الضيف يدعوه إلى زيارته ليكافئه على صنيعه، فلما أُتيحَ للتاجر فرصة القدوم على هذا المروزي تجاهله وأظهر أنه لا يعرفه، مع أنَّ التاجر حاول تعريفه بنفسه بمختلف الوسائل، فلمَّا طال الأمر قال الخراساني كلمته التي ذاعت فيما بعد وهي قوله بالفارسية: «لو خرجت من جلدك لم أعرفك».
كتاب «البيان والتبيين»: يمثِّل هذا الكتاب ثقافة الجاحظ الأدبية، وغايته من تأليفه تزويد القارئ بمعارف ونظرات بيانية، وبنماذج من كلام البلغاء والخطباء لتكون زاداً ثقافياً للقارئ يأخذ بيده في أداء أفكاره، وفي إلقاء الخطب إذا كان ممن يميلون إلى إلقائها، ومن أهدافه الأساسية في كتابه هذا الردُّ على الشُّعوبية الذين أخذوا على العرب استعانتهم بالعصا لدى إلقائهم خطبهم، فتصدّى لهم الجاحظ وجاء بالدليل القاطع على أن صناعة الكلام والخطابة من الأمور التي انفرد بها العرب دون سائر الأمم.
والكتاب يتناول البيان بدلالته الضيقة، فهو لم يقصد إلى الحديث عن فنون البيان كلها، وإنما قصد إلى الحديث عن صناعة الكلام وحدها، أي الخطابة والجدل والمناظرة والمواعظ والأقوال المأثورة. ومع ذلك فإن الجاحظ، شأنه في جميع مؤلفاته، لا يَقْصِرُ حديثه على موضوع واحد؛ بل يجمع أطرافاً شتى من فنون القول، ففي كتابه هذا أشعار وأسجاع ونوادر وأحاديث لزهّاد، بل إنَّ كتابه لا يخلو من بعض الرسائل.
ولم يعن الجاحظ في كتابه هذا بالتبويب والترتيب، وليس للكتاب خطة منسقة، وإنَّما نثر موضوعاته كيفما اتفقت له، فهو ينقل القارئ من خطبة إلى موعظة إلى نادرة إلى منتخبات شعرية، إلى غير ذلك، دون أن يتَّبع نهجاً منسقاً في ترتيب موضوعات الكتاب، ولكنَّ الكتاب في جملته يزوِّد القارئ بمعارف أدبية ونظرات بيانية من شأنها أن تُنَمِّي ثقافته وتوسع آفاقه المعرفية، وهو يعين على اكتساب المهارة الخطابية عن طريق الوقوف على نماذج الخطب المأثورة عن خطباء العرب المفوّهين، وهي الوسيلة المثلى التي كانت متوافرة لدى القدماء للتمرس بفن القول.
طريقته الكتابية: للجاحظ طريقة عرف بها وحاكاه فيها كثير من الأدباء فيما بعد، وأبرز سمات هذه الطريقة الملاءمة بين الموضوع الذي يتناوله وأسلوبه في تناوله. والجاحظ كثير العناية بتخير الألفاظ الملائمة لموضوعه، ومن سمات أسلوبه المميَّزة: الاستطراد والتكرار والترادف والإكثار من الشواهد والنماذج ومزجه الجد بالهزل.
تبوأ الجاحظ منزلة رفيعة في فن الكتابة، وشهد معاصروه بمنزلته الكتابية الرفيعة وبقيمة كتبه، فقال فيه ابن العميد قولته المشهورة: «كتب الجاحظ تُعلِّم العقل أولاً والأدب ثانياً»، وقال فيه ثابت بن قرّة الصابئ: «وما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس: أوَّلهم عمر بن الخطاب، والثاني الحسن البصري، والثالث الجاحظ».
إحسان النص