"مش روميو وجولييت".. مسرحية عن الحب بين مسيحي ومسلمة
عرض غنائي يحصد الإعجاب والإيرادات على المسرح القومي بالقاهرة.
الخميس 2024/09/05
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أفراد يتحدون القيود الاجتماعية والدينية
لطالما شكلت علاقات الحب بين المسيحي والمسلمة جدلا في المجتمعات العربية ومشاكل بين معتنقي الديانتين، وهذا ما يحاول العرض المسرحي "مش روميو وجولييت" تسليط الضوء عليه، بطرح جريء نجح في تحقيق إيرادات قياسية.
القاهرة- الجرأة حدّ المغامرة، ذلك ما يمكن أن يوصف به العرض المسرحي “مش (ليس) روميو وجولييت” على المسرح القومي في مصر، لكن النجاح كثيرا ما يكون قرين المغامرات الجريئة التي يقرر أصحابها خوضها بجدية وإخلاص ودقة، دون ارتكان إلى أساليب تقليدية ووسائل انتشار جماهيرية، وجاء نجاح المسرحية أمرًا لافتا، رغم قلة الدعاية لها.
في أجواء سعيدة بالنجاح، أعلن عصام السيد مخرج العمل عن تحقيق رقم قياسي على مستوى الإيرادات في المسرح القومي، في الليلة رقم 51، آخر ليالي العرض ضمن الموسم الصيفي، في الثلاثين من أغسطس الماضي، بعد أن رُفعت لافتة “كامل العدد” أكثر من مرة، داعيا الجمهور لمشاهدة المسرحية مجددا ودعوة من يعرفونهم إليها، مع استئناف عرضها ضمن الموسم الشتوي في السادس والعشرين من سبتمبر الجاري.
مسرحية “مش روميو وجولييت”، من إنتاج فرقة المسرح القومي بقيادة الأكاديمي أيمن الشيوى، بطولة الفنانين علي الحجار، ورانيا فريد شوقي، وميدو عادل، وعزت زين، ودنيا النشار، وطه خليفة، وآسر علي، وطارق راغب، والمطربة أميرة أحمد.
معارضة لمسرحية شكسبير
يرجع أول أسباب وصف العمل بالمغامرة إلى القالب الفني الذي اختاره صنّاعه، فالمسرحية غنائية استعراضية، ولا يقتصران على عدد من الأغاني المصحوبة بالرقصات، إنما يقوم الحوار كله على مقاطع شعرية وجمل حوارية مقفاة، صاغها الشاعر أمين حداد، بناء على نص مسرحي وضعه المخرج عصام السيد بمشاركة المؤلف محمد السوري.
ولا يعد الأمر سهلا أو شائعا في مصر، والأهم أنه ليس مضمون النجاح جماهيريا، إذ يبدو كالسير على حبل أو داخل حقل ألغام، فماذا يضمن عدم تسلل الملل إلى جمهور يستمع على مدى ساعتين إلى حوار بالشعر والغناء بين الشخصيات حتى وإن يكن باللهجة العامية؟
السؤال طرحه صناع العمل على أنفسهم، لكنهم قرروا خوض التجربة بإتقان وإخلاص، فجاءت المقاطع الشعرية لأمين حداد سلسة ورشيقة ومعبرة عن الفكرة العميقة التي تناقشها المسرحية، بجمال وبساطة، وخفة ظل أيضا في الكثير من الأحيان، على جناح موسيقى متميزة وضعها أحمد شعتوت تنوعت بجاذبية لتناسب كل موقف وتطور في مسار القصة.
◄ صناع العمل المسرحي يصرون على تقديم رؤيتهم بوضوح وحسم من خلال قصة جديدة، تمثل خطا دراميا موازيا لقصة البطلين لكن بشكل عكسي
يتمثل أحد ملامح الجرأة في ما قد يعكسه اسم العمل للوهلة الأولى من تماس مع المسرحية الخالدة “روميو وجولييت” للكاتب الإنجليزي وليام شكسبير، وما يفرضه ذلك من مقارنات، لكن الدقائق الأولى للمشاهدة تكشف عن رؤية أخرى، يمكن وصف العمل المسرحي معها بأنه معارضة لرائعة شكسبير وليس استلهاما أو تمصيرا لها.
قبل رفع الستار لبدء العرض المسرحي، يسمع الجمهور أصوات مشاحنات واشتباكات كلامية من وراء الستار، ما يُصدّر الأزمة للمشاهد ويجعله شريكا فيها منذ اللحظة الأولى، بل إن البعض قد يعتقد خطأً وجود شجارٍ حقيقي طارئ بين الممثلين في اللحظات الأخيرة قبل بدء العرض. ويجد المشاهد نفسه مدفوعا للفهم، فيرتفع الستار عن اشتباك لفظي وجسدي بين مجموعتين من الطلاب، داخل مدرسة واحدة، تحمل اسم “مدرسة الوحدة”.
سريعا يفهم الجمهور أن الاشتباك يقع بين طلاب مسلمين وآخرين مسيحيين، بعد تداول أنباء عن علاقة حب بين يوسف المدرس المسيحي، ويؤدي دوره الفنان علي الحجار، وزهرة المدرسة المسلمة، وتؤدي دورها الفنانة رانيا فريد شوقي.
ولا حاجة هنا للفت الأنظار إلى مدى جرأة الحكاية في مجتمع مثل المجتمع المصري، مرّ في السابق بأحداث فتنة طائفية بعضها نشب واندلعت نيرانه بسبب علاقات مشابهة أو عكسية، بين مسلم ومسيحية، لا سيما في عقد التسعينات. ولا حاجة أيضا للتأكيد على توفر عنصر الجذب والتشويق منذ الدقائق الأولى للعرض كي يعرف الجمهور الذي يضم أبناء الديانتين بالطبع إلى أين ستذهب الحكاية.
مدرسة الوحدة
تؤكد البطلة وجود المحبة التي تجمعها بالبطل بالإشارة إلى كونه ابن الجيران في حي شبرا الذي نشآ فيه معا، وهو الحي الذي يشهد تجاورا بين مسلمين ومسيحيين في وسط القاهرة بشكل كبير منذ القدم، وسط أجواء من التآلف والتشارك في مختلف المناسبات لدى الجانبين، وهو الحي الذي ينتمي إليه مخرج العمل، فعبّر عن روح شبرا بما لها من خصوصية باستعراض عدد من المقاطع المرئية القديمة التي تظهر على شاشة كبيرة في خلفية خشبة المسرح.
المحبة المؤكدة، وهذا هو المهم، لا تعني قصة حب على غرار حكاية “روميو وجولييت”، فهي ليست حب رجل وامرأة، إنما تقارب وتفاهم وتجربة عيش مشترك. وبالطبع لا يفهم الطلاب أبناء عصر التطرف والكراهية مثل هذه الكلمات، فتتواصل الأزمة، ويعم الانقسام أبناء “مدرسة الوحدة”.
ويسهم في إشعال فتيل النيران مُدرسة مسيحية دافعها الشخصي أنها تحب البطل يوسف وتريد أن تتزوجه، بالإضافة إلى مدرس مسلم تقليدي محافظ، وطالب متشدد، جاء تعبيرا رمزيا عن فصيل “الإخوان” الذي اختار الكراهية وأصرّ عليها وإن قادت إلى إحراق المدرسة.
◄ أداء دنيا النشار راقصة الباليه دور الفتاة المسيحية الرقيقة المُحبة الحائرة جاء بشكل هادئ عميق ومنضبط، بينما أنبأت مطربة الأوبرا أميرة أحمد بشخصية المُدرسة المسيحية عن قدرات تمثيلية واعدة
يقرر مدير المدرسة، ولعب دوره الفنان عزت زين، معالجة انقسام الطلاب عبر جمعهم معا في نشاط مدرسي مشترك، هو تقديم مسرحية “روميو وجولييت” لشكسبير، مع وضع درجات لتقييم أدائهم فيها كأحد الواجبات الدراسية، في إشارة واضحة إلى أن الفن علاج للتطرف.
ينجح العلاج بالفعل ويثمر. اجتمع الطلاب في البداية معا رغما عنهم، اشتركوا في المسرحية وهم كارهون لبعضهم البعض، وعندما تقاربوا تعارفوا أحبوا، لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فالصغار خصوصا قد يختلط عليهم الأمر، وهنا مربط الفرس.
يصر صناع العمل المسرحي على تقديم رؤيتهم بوضوح وحسم من خلال قصة جديدة، تمثل خطا دراميا موازيا لقصة البطلين لكن بشكل عكسي، إذ يقع طالب مسلم وطالبة مسيحية في الحب، خلال قيامهما بأداء شخصيتي “روميو وجولييت”، وأدى دورهما ميدو عادل ودنيا النشار.
وتأتي كلمات يوسف الناصحة بلين، دون لوم أو تقريع، بمقاطع شعر أمين حداد الرقيقة والعميقة في آن، ليوضح للطالبة أن الحب جميل لكنه لا يكون على حساب حزن آخرين، هم الأهل والأقرباء، وإلا سيغدو بيت الحبيبين عندئذ سجنا، يُحاصَر الحب داخله حتى يختنق، فالمحبة ليس بالضرورة أن تكون حب “روميو وجولييت” الذي قام صراع بسببه، وفقد الحبيبان حياتيهما إثره، إنما المحبة شيء أكبر، أعم وأشمل، أو كما دعا الشاعر قائلا “بص للعالم بقلبك.. تلقى كل الدنيا جنبك”.
النظر بالقلب، لا يعني الانفصال عن أرض الواقع، وتحليق الأجساد في سماء الخيال، ما قد يجلب الفتن، ويحرق الجسد والقلب معا، إنما المراد هنا النظر بالفطرة السليمة التي تعترف بالحب، ولا تجلد صاحبه، إنما تضعه في إطاره السليم العاقل.
في ضوء هذه الرؤية الحالمة والواقعية لا نملك إلا التعجب من بعض الأقلام التي اعتبرت فكرة العمل المسرحي بمنزلة “تحذير من الحب بين مختلفي الديانة وكأننا داخل جامع أو كنيسة”، وإن كان أصحاب هذه الرؤية قد أشادوا بالعمل ككل، لكنهم بدوا كأنهم يرغبون في الاختلاف فحسب، أو ينشدون انفصال الفن عن الواقع، غير عابئين بما قد يجره ذلك من فتن.
سيمفونية فنية
تحتاج الأعمال الاستعراضية إلى جهد فائق لضبط الحركة، ومتابعة التفاصيل بدقة، لأنه لا مجال لحلول وسط، ولا مكان لمستوى يكون بين بين، فإما أن تبدو الحركة على خشبة المسرح متناغمة متناسقة أو تعكس صورة فوضوية مضطربة، لكن صناع “مش روميو وجولييت” نجحوا في إظهار صورة مسرحية مبهرة، تجذب عين المشاهد طوال مدة العرض.
وأسهم في ذلك بشكل متكامل استعراضات شيرين حجازي، وديكور محمد الغرباوي، وإضاءة ياسر شعلان، وجرافيك محمد عبدالرازق، وملابس الشخصيات التي صممتها علا جودة ومي كمال، في سيمفونية فنية قادها المخرج عصام السيد، ومعه المخرج المنفذ صفوت حجازي، ومساعدا الإخراج حمدي حسن ومحمود خليل.
لم يدخر المطرب علي الحجار بموهبته الغنائية جهدا لإمتاع المشاهد المستمتع في بعض مقاطع الحوار بأداء غنائي يستجلب الآهات بقوة صوته وجماله النادر، بخلاف الأداء التمثيلي المناسب للدور. أما رانيا فريد شوقي فبدت خلال أدائها الشخصية وحركتها على خشبة المسرح كفراشة تحلق منسجمة مع الأنغام بخفة، ومتمتعة في الوقت نفسه بخفة ظل واضحة.
◄ "مش روميو وجولييت" مغامرة مسرحية على المسرح القومي ومعارضة لرائعة شكسبير وليس استلهاما أو تمصيرا لها
وفي مقابل عمق ورصانة عزت زين في أداء شخصية مدير المدرسة الباحث عن وسيلة حكيمة لوأد الفتنة، جاء انتقال ميدو عادل بسلاسة من شخصية الطالب الحاد الغاضب إلى ذلك الطيب المسالم بعد أن عرفت المحبة طريقها إلى قلبه. كما أجاد طه خليفة رغم وسامة ملامحه في لعب دور الشاب المتطرف الذي لا يمانع في حرق المدرسة بالكامل، دون ميل إلى التقليدية على مستوى الشكل بوضع لحية أو ارتداء زي، فالتطرف الحقيقي يسكن العقل.
وجاء أداء دنيا النشار راقصة الباليه دور الفتاة المسيحية الرقيقة المُحبة الحائرة بشكل هادئ عميق ومنضبط، بينما أنبأت مطربة الأوبرا أميرة أحمد بشخصية المُدرسة المسيحية عن قدرات تمثيلية واعدة، فضلا عن قوة وجاذبية صوتها.
كما أظهر الشباب الذين قاموا بأدوار طلاب المدرسة، فتيانا وفتيات، مواهب تمثيلية واستعراضية كبيرة، جذبت أنظار جمهور المشاهدين، كما جذبتهم إشارات دعم فلسطين عبر جملة حوار لعلي الحجار، عبر فيها عن رفضه شرب زجاجة كوكاكولا لأنه “مقاطع”، فضلا عن ظهور ميدو عادل خلال تحية الجمهور في ختام آخر ليالي العرض في الموسم الصيفي مرتديا الكوفية الفلسطينية.
وإزاء تكامل مختلف عناصر العمل المسرحي “مش روميو وجولييت” فإن السؤال الكبير يطرح نفسه حول أسباب عدم الاستثمار بشكل حقيقي في مثل هذه الأعمال الفنية الجادة والجماهيرية في الوقت نفسه، عبر الإنفاق على الدعاية لها، بل البحث عن رعاة، بما يعود بمكاسب مادية وتنويرية معا، ما يمكن أن يجد صدى وإجابة في ظل تولي الوزير النشط الأكاديمي أحمد هنو حقيبة وزارة الثقافة في مصر، لعل وعسى.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد شعير
كاتب مصري
عرض غنائي يحصد الإعجاب والإيرادات على المسرح القومي بالقاهرة.
الخميس 2024/09/05
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أفراد يتحدون القيود الاجتماعية والدينية
لطالما شكلت علاقات الحب بين المسيحي والمسلمة جدلا في المجتمعات العربية ومشاكل بين معتنقي الديانتين، وهذا ما يحاول العرض المسرحي "مش روميو وجولييت" تسليط الضوء عليه، بطرح جريء نجح في تحقيق إيرادات قياسية.
القاهرة- الجرأة حدّ المغامرة، ذلك ما يمكن أن يوصف به العرض المسرحي “مش (ليس) روميو وجولييت” على المسرح القومي في مصر، لكن النجاح كثيرا ما يكون قرين المغامرات الجريئة التي يقرر أصحابها خوضها بجدية وإخلاص ودقة، دون ارتكان إلى أساليب تقليدية ووسائل انتشار جماهيرية، وجاء نجاح المسرحية أمرًا لافتا، رغم قلة الدعاية لها.
في أجواء سعيدة بالنجاح، أعلن عصام السيد مخرج العمل عن تحقيق رقم قياسي على مستوى الإيرادات في المسرح القومي، في الليلة رقم 51، آخر ليالي العرض ضمن الموسم الصيفي، في الثلاثين من أغسطس الماضي، بعد أن رُفعت لافتة “كامل العدد” أكثر من مرة، داعيا الجمهور لمشاهدة المسرحية مجددا ودعوة من يعرفونهم إليها، مع استئناف عرضها ضمن الموسم الشتوي في السادس والعشرين من سبتمبر الجاري.
مسرحية “مش روميو وجولييت”، من إنتاج فرقة المسرح القومي بقيادة الأكاديمي أيمن الشيوى، بطولة الفنانين علي الحجار، ورانيا فريد شوقي، وميدو عادل، وعزت زين، ودنيا النشار، وطه خليفة، وآسر علي، وطارق راغب، والمطربة أميرة أحمد.
معارضة لمسرحية شكسبير
يرجع أول أسباب وصف العمل بالمغامرة إلى القالب الفني الذي اختاره صنّاعه، فالمسرحية غنائية استعراضية، ولا يقتصران على عدد من الأغاني المصحوبة بالرقصات، إنما يقوم الحوار كله على مقاطع شعرية وجمل حوارية مقفاة، صاغها الشاعر أمين حداد، بناء على نص مسرحي وضعه المخرج عصام السيد بمشاركة المؤلف محمد السوري.
ولا يعد الأمر سهلا أو شائعا في مصر، والأهم أنه ليس مضمون النجاح جماهيريا، إذ يبدو كالسير على حبل أو داخل حقل ألغام، فماذا يضمن عدم تسلل الملل إلى جمهور يستمع على مدى ساعتين إلى حوار بالشعر والغناء بين الشخصيات حتى وإن يكن باللهجة العامية؟
السؤال طرحه صناع العمل على أنفسهم، لكنهم قرروا خوض التجربة بإتقان وإخلاص، فجاءت المقاطع الشعرية لأمين حداد سلسة ورشيقة ومعبرة عن الفكرة العميقة التي تناقشها المسرحية، بجمال وبساطة، وخفة ظل أيضا في الكثير من الأحيان، على جناح موسيقى متميزة وضعها أحمد شعتوت تنوعت بجاذبية لتناسب كل موقف وتطور في مسار القصة.
◄ صناع العمل المسرحي يصرون على تقديم رؤيتهم بوضوح وحسم من خلال قصة جديدة، تمثل خطا دراميا موازيا لقصة البطلين لكن بشكل عكسي
يتمثل أحد ملامح الجرأة في ما قد يعكسه اسم العمل للوهلة الأولى من تماس مع المسرحية الخالدة “روميو وجولييت” للكاتب الإنجليزي وليام شكسبير، وما يفرضه ذلك من مقارنات، لكن الدقائق الأولى للمشاهدة تكشف عن رؤية أخرى، يمكن وصف العمل المسرحي معها بأنه معارضة لرائعة شكسبير وليس استلهاما أو تمصيرا لها.
قبل رفع الستار لبدء العرض المسرحي، يسمع الجمهور أصوات مشاحنات واشتباكات كلامية من وراء الستار، ما يُصدّر الأزمة للمشاهد ويجعله شريكا فيها منذ اللحظة الأولى، بل إن البعض قد يعتقد خطأً وجود شجارٍ حقيقي طارئ بين الممثلين في اللحظات الأخيرة قبل بدء العرض. ويجد المشاهد نفسه مدفوعا للفهم، فيرتفع الستار عن اشتباك لفظي وجسدي بين مجموعتين من الطلاب، داخل مدرسة واحدة، تحمل اسم “مدرسة الوحدة”.
سريعا يفهم الجمهور أن الاشتباك يقع بين طلاب مسلمين وآخرين مسيحيين، بعد تداول أنباء عن علاقة حب بين يوسف المدرس المسيحي، ويؤدي دوره الفنان علي الحجار، وزهرة المدرسة المسلمة، وتؤدي دورها الفنانة رانيا فريد شوقي.
ولا حاجة هنا للفت الأنظار إلى مدى جرأة الحكاية في مجتمع مثل المجتمع المصري، مرّ في السابق بأحداث فتنة طائفية بعضها نشب واندلعت نيرانه بسبب علاقات مشابهة أو عكسية، بين مسلم ومسيحية، لا سيما في عقد التسعينات. ولا حاجة أيضا للتأكيد على توفر عنصر الجذب والتشويق منذ الدقائق الأولى للعرض كي يعرف الجمهور الذي يضم أبناء الديانتين بالطبع إلى أين ستذهب الحكاية.
مدرسة الوحدة
تؤكد البطلة وجود المحبة التي تجمعها بالبطل بالإشارة إلى كونه ابن الجيران في حي شبرا الذي نشآ فيه معا، وهو الحي الذي يشهد تجاورا بين مسلمين ومسيحيين في وسط القاهرة بشكل كبير منذ القدم، وسط أجواء من التآلف والتشارك في مختلف المناسبات لدى الجانبين، وهو الحي الذي ينتمي إليه مخرج العمل، فعبّر عن روح شبرا بما لها من خصوصية باستعراض عدد من المقاطع المرئية القديمة التي تظهر على شاشة كبيرة في خلفية خشبة المسرح.
المحبة المؤكدة، وهذا هو المهم، لا تعني قصة حب على غرار حكاية “روميو وجولييت”، فهي ليست حب رجل وامرأة، إنما تقارب وتفاهم وتجربة عيش مشترك. وبالطبع لا يفهم الطلاب أبناء عصر التطرف والكراهية مثل هذه الكلمات، فتتواصل الأزمة، ويعم الانقسام أبناء “مدرسة الوحدة”.
ويسهم في إشعال فتيل النيران مُدرسة مسيحية دافعها الشخصي أنها تحب البطل يوسف وتريد أن تتزوجه، بالإضافة إلى مدرس مسلم تقليدي محافظ، وطالب متشدد، جاء تعبيرا رمزيا عن فصيل “الإخوان” الذي اختار الكراهية وأصرّ عليها وإن قادت إلى إحراق المدرسة.
◄ أداء دنيا النشار راقصة الباليه دور الفتاة المسيحية الرقيقة المُحبة الحائرة جاء بشكل هادئ عميق ومنضبط، بينما أنبأت مطربة الأوبرا أميرة أحمد بشخصية المُدرسة المسيحية عن قدرات تمثيلية واعدة
يقرر مدير المدرسة، ولعب دوره الفنان عزت زين، معالجة انقسام الطلاب عبر جمعهم معا في نشاط مدرسي مشترك، هو تقديم مسرحية “روميو وجولييت” لشكسبير، مع وضع درجات لتقييم أدائهم فيها كأحد الواجبات الدراسية، في إشارة واضحة إلى أن الفن علاج للتطرف.
ينجح العلاج بالفعل ويثمر. اجتمع الطلاب في البداية معا رغما عنهم، اشتركوا في المسرحية وهم كارهون لبعضهم البعض، وعندما تقاربوا تعارفوا أحبوا، لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فالصغار خصوصا قد يختلط عليهم الأمر، وهنا مربط الفرس.
يصر صناع العمل المسرحي على تقديم رؤيتهم بوضوح وحسم من خلال قصة جديدة، تمثل خطا دراميا موازيا لقصة البطلين لكن بشكل عكسي، إذ يقع طالب مسلم وطالبة مسيحية في الحب، خلال قيامهما بأداء شخصيتي “روميو وجولييت”، وأدى دورهما ميدو عادل ودنيا النشار.
وتأتي كلمات يوسف الناصحة بلين، دون لوم أو تقريع، بمقاطع شعر أمين حداد الرقيقة والعميقة في آن، ليوضح للطالبة أن الحب جميل لكنه لا يكون على حساب حزن آخرين، هم الأهل والأقرباء، وإلا سيغدو بيت الحبيبين عندئذ سجنا، يُحاصَر الحب داخله حتى يختنق، فالمحبة ليس بالضرورة أن تكون حب “روميو وجولييت” الذي قام صراع بسببه، وفقد الحبيبان حياتيهما إثره، إنما المحبة شيء أكبر، أعم وأشمل، أو كما دعا الشاعر قائلا “بص للعالم بقلبك.. تلقى كل الدنيا جنبك”.
النظر بالقلب، لا يعني الانفصال عن أرض الواقع، وتحليق الأجساد في سماء الخيال، ما قد يجلب الفتن، ويحرق الجسد والقلب معا، إنما المراد هنا النظر بالفطرة السليمة التي تعترف بالحب، ولا تجلد صاحبه، إنما تضعه في إطاره السليم العاقل.
في ضوء هذه الرؤية الحالمة والواقعية لا نملك إلا التعجب من بعض الأقلام التي اعتبرت فكرة العمل المسرحي بمنزلة “تحذير من الحب بين مختلفي الديانة وكأننا داخل جامع أو كنيسة”، وإن كان أصحاب هذه الرؤية قد أشادوا بالعمل ككل، لكنهم بدوا كأنهم يرغبون في الاختلاف فحسب، أو ينشدون انفصال الفن عن الواقع، غير عابئين بما قد يجره ذلك من فتن.
سيمفونية فنية
تحتاج الأعمال الاستعراضية إلى جهد فائق لضبط الحركة، ومتابعة التفاصيل بدقة، لأنه لا مجال لحلول وسط، ولا مكان لمستوى يكون بين بين، فإما أن تبدو الحركة على خشبة المسرح متناغمة متناسقة أو تعكس صورة فوضوية مضطربة، لكن صناع “مش روميو وجولييت” نجحوا في إظهار صورة مسرحية مبهرة، تجذب عين المشاهد طوال مدة العرض.
وأسهم في ذلك بشكل متكامل استعراضات شيرين حجازي، وديكور محمد الغرباوي، وإضاءة ياسر شعلان، وجرافيك محمد عبدالرازق، وملابس الشخصيات التي صممتها علا جودة ومي كمال، في سيمفونية فنية قادها المخرج عصام السيد، ومعه المخرج المنفذ صفوت حجازي، ومساعدا الإخراج حمدي حسن ومحمود خليل.
لم يدخر المطرب علي الحجار بموهبته الغنائية جهدا لإمتاع المشاهد المستمتع في بعض مقاطع الحوار بأداء غنائي يستجلب الآهات بقوة صوته وجماله النادر، بخلاف الأداء التمثيلي المناسب للدور. أما رانيا فريد شوقي فبدت خلال أدائها الشخصية وحركتها على خشبة المسرح كفراشة تحلق منسجمة مع الأنغام بخفة، ومتمتعة في الوقت نفسه بخفة ظل واضحة.
◄ "مش روميو وجولييت" مغامرة مسرحية على المسرح القومي ومعارضة لرائعة شكسبير وليس استلهاما أو تمصيرا لها
وفي مقابل عمق ورصانة عزت زين في أداء شخصية مدير المدرسة الباحث عن وسيلة حكيمة لوأد الفتنة، جاء انتقال ميدو عادل بسلاسة من شخصية الطالب الحاد الغاضب إلى ذلك الطيب المسالم بعد أن عرفت المحبة طريقها إلى قلبه. كما أجاد طه خليفة رغم وسامة ملامحه في لعب دور الشاب المتطرف الذي لا يمانع في حرق المدرسة بالكامل، دون ميل إلى التقليدية على مستوى الشكل بوضع لحية أو ارتداء زي، فالتطرف الحقيقي يسكن العقل.
وجاء أداء دنيا النشار راقصة الباليه دور الفتاة المسيحية الرقيقة المُحبة الحائرة بشكل هادئ عميق ومنضبط، بينما أنبأت مطربة الأوبرا أميرة أحمد بشخصية المُدرسة المسيحية عن قدرات تمثيلية واعدة، فضلا عن قوة وجاذبية صوتها.
كما أظهر الشباب الذين قاموا بأدوار طلاب المدرسة، فتيانا وفتيات، مواهب تمثيلية واستعراضية كبيرة، جذبت أنظار جمهور المشاهدين، كما جذبتهم إشارات دعم فلسطين عبر جملة حوار لعلي الحجار، عبر فيها عن رفضه شرب زجاجة كوكاكولا لأنه “مقاطع”، فضلا عن ظهور ميدو عادل خلال تحية الجمهور في ختام آخر ليالي العرض في الموسم الصيفي مرتديا الكوفية الفلسطينية.
وإزاء تكامل مختلف عناصر العمل المسرحي “مش روميو وجولييت” فإن السؤال الكبير يطرح نفسه حول أسباب عدم الاستثمار بشكل حقيقي في مثل هذه الأعمال الفنية الجادة والجماهيرية في الوقت نفسه، عبر الإنفاق على الدعاية لها، بل البحث عن رعاة، بما يعود بمكاسب مادية وتنويرية معا، ما يمكن أن يجد صدى وإجابة في ظل تولي الوزير النشط الأكاديمي أحمد هنو حقيبة وزارة الثقافة في مصر، لعل وعسى.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد شعير
كاتب مصري