وجوه النحات سمير منصور تستنطق مشاعر اللبنانيين
الطين يحكي بصوت أهل الجنوب ويبوح بأسرارهم.
الجمعة 2024/09/06
قدرة مبهرة في التعبير عن المشاعر
كانت الصدفة فرصة لاكتشاف الفنان سمير منصور ثروات بلاده من الطين، ومنذ ذلك الحين قرر أن يعيد خلق مشاعر اللبنانيين عبر الطين، حيث يصنع منه وجوها تحاكي أصحابها، بلمساتهم الخاصة، التي تمنح كل وجه ميزته.
بيروت - بشيء من أديم الأرض يترجم اللبناني سمير منصور إبداعه، بتشكيل مشاعر الناس وهموهم في بلدة الهبارية الحدودية التي تتعرض لقصف إسرائيلي يومي جراء المواجهات مع حزب الله منذ أكتوبر الماضي.
منصور (50 عاما) الذي نشأ في البلدة (جنوب لبنان) التي عانت طويلا من تداعيات الحرب، يواجه الواقع المرير باستخدام الطين وسيلة للتعبير عن مشاعر وأحاسيس الناس ممن يعيشون تحت وطأة الحرب.
يقضي الفنان اللبناني الذي يعيش في منزل متواضع، ساعات طويلة في جمع الطين من الأرض المحيطة، ليحوله إلى وجوه تعبر عن واقع الحال في البلدة.
لكل وجه قصة
مواهب منصور متعددة تبدأ بالكتابة والمسرح والقصص الصغيرة لتنتهي بإنجاز عشرات المنحوتات بأنواع مختلفة من الطين
يقول الرجل إن كل وجه من الوجوه التي يشكلها بالطين يحكي قصة، بعضها يعكس الحزن واليأس، بينما تظهر وجوه أخرى تحديا وإصرارا على الاستمرار. ويوضح أن “هذه المنحوتات ليست مجرد أعمال فنية، بل هي وسيلة لنقل رسالة عن الحياة وسط الحرب، عن الخوف والأمل المختلطين في نفوس الناس”.
مواهب منصور متعددة، تبدأ بالكتابة والمسرح والقصص الصغيرة، لتنتهي بإنجاز عشرات المنحوتات بأنواع مختلفة من الطين الموجود في مناطق محددة جنوب لبنان.
أثناء وضعه اللمسات الأخيرة على أحد منحوتاته، يقول منصور إنه لم يخطر على باله أن يكون نحاتا، لكن الصدفة وحدها دفعته إلى المسيرة الفنية التي عشقها وباتت في مقدمة اهتماماته.
يوضح أنه بدأ حياته في كتابة الدواوين الشعرية والمسرحيات والقصص القصيرة، وأنه اكتشف نفسه بالنحت عندما كانت زوجته تعمل شيئا ما بالطين فأخذ قطعة منها وبدأ يشكلها ويعجنها.
وفي تصريحات سابقة له، أوضح الفنان، وقال: “أحبت زوجتي كارولين ماضي وهي فنانة تشكيلية ومطربة أردنية المولد، اقتناء الفخاريات كحاجة منزلية، فقصدنا معامل صناعة الفخار في العديد من المناطق اطلعنا خلالها على خفايا ومكنونات هذه الحرفة المتجهة نحو الاندثار. وقد أعجبتنا واستهوتنا مادة الطين المستخرجة من أرض بلدنا لبنان والمستخدمة في الصناعات الفخارية بشكل عام، لنتخذ عندها قرارا باستخدامها في عالمنا الجديد وهو فن النحت”.
أبدى منصور تعجبه من مرور كل هذا الوقت من عمره دون أن يكتشف الموهبة والهواية المدفونة داخله.
ويلفت إلى أن “عالم الطين متشعب ويفوق الخيال لأن أنواعه عديدة، عندما تعمل به يكون طيع بين يديك والشيء الذي لم تستطيع تغييره بالواقع يمكنك تغييره بيدك عندما تنحت أي منحوتة”. ويبيّن منصور أن “فن النحت عالم فسيح ومتعدد الأوجه، لكن النحت بالطين استهواني، خاصة وأن الحصول على هذه المادة متوفر في جنوب لبنان وبكلفة بسيطة”.
ويقول إنه يعمل على جمع الطين بمختلف ألوانه وأنواعه من الحقول المحيطة ببلدتي راشيا الفخار والهبارية، ومن حفريات ورش البناء في جنوب لبنان. ويتعاون الفنان وزوجته لجمع الطين، موضحا “تركيزنا يبقى على النوع المميز بصلابته ولونه وقدرته على مقاومة الصدمات”.
لكل وجه منحوتة
كل وجه من الوجوه التي يشكلها الفنان بالطين يحكي قصة، بعضها يعكس الحزن واليأس بينما تظهر وجوه أخرى تحديا
يعرب النحات منصور عن حرصه على تنظيف الطين من الشوائب بغسله بالماء ونقعه لأيام في أحواض خاصة ومن ثم تخميره، بالإضافة إلى وضعه داخل أكياس من النايلون لحفظه لفترة أطول قبل استعماله. ويتابع: “نعمل على عجن الطين باليدين لتخليصه من فقاعات الهواء تجنبا لتشقق المنحوتة أو كسرها. يجب أن يكون الطين لزجا نظيفا ويتمتع بالمرونة وسرعة الجفاف والصلابة”.
ويقول الفنان إن “لكل وجه حكاية وكل حكاية فيها عبرة، عندما ننحت الوجوه تكون ترجمة لسلوكيات معينة تترك آثارها بعيوننا ونفسيتنا عندما تلتقي بأي شخص في البلدة”.
ويضيف وهو يمسك أحد المنحوتات: “هذا الوجه لسيدة مسنة موجودة بالقرية، تستطيع أن تراها من زوايا مختلفة تراها بوجه الأم أو الجارة أو امرأة مسنة لديها خبرة في الحياة ولديها حكمة”. ويتابع: “تستطيع أن ترى بوجهها المنحوت في آن واحد وجه مبتسم وآخر حزين، ولكن ترى في خدودها المجعدة عاطفة”.
ويردف وهو يمسك بمنحوتة لوجه إنسان يشبه جذع شجرة صنوبر، أنه مستوحى من مكان احتراق غابة الصنوبر في بلدة الهبارية بسبب القصف الفسفوري الإسرائيلي منذ شهر تقريبا. ويستطرد: “هذا الجذع يتألم وعنده عتب ولوم، وكأنه يسأل هذا الوجه لماذا أنا أحترق وبأي ذنب أحرق”.
كما نحت منصور وجها يجسد المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل في بلدة الهبارية حيث استهدفت مركزا للإسعاف الصحي، في منحوتة تجسد رأس أحد المسعفين وتعابيره الحزينة لأنه ضحى بنفسه من أجل العمل الإنساني.
وفي 27 مارس الماضي، قتل الجيش الإسرائيلي 7 مسعفين لبنانيين وجرح آخرين في غارة استهدفت مركزا للجمعية الطبية الإسلامية في الهبارية، وفق وكالة أنباء لبنان الرسمية.
وفي تصريحات لوكالة الأنباء اللبنانية، قالت زوجة الفنانة وشريكته في الإبداع، وقالت: “نحرص على وضع صورة الشخص الذي يطلب منحوتة أمامنا لنتمكن من الوصول ومتابعة أدق التفاصيل، دون تجاوز أي تجعيدة أو ميزة أو علامة فارقة”، مشيرة إلى أن انجاز المنحوتة يتطلب ما بين ساعتين إلى 10ساعات.
وتابعت: “نعرض منحوتاتنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي وقد أنجزنا منحوتات للكثير من شخصيات الريف اللبناني والبعض من قادة ورجال سياسة وعلماء وأدباء مشهورين”.
وشددت على رفضها المساومة على أسعار المنحوتات، “لأن الفن يجب أن يكون بعيدا كل البعد عن الكسب المالي كي لا يخسر قيمته وإبداعه. وفي الكثير من الحالات تكون التحف مجانية في حين نترك لصاحب المنحوتة تقدير البدل المادي والذي يتراوح بين الـ 500 والـ1000 دولار”.