نجيب محفوظ: حارس الذاكرة الكوزموبوليتية للقاهرة
3 - سبتمبر - 2024م
وينشي اويانغ | ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف
تقترب هذه الدراسة التي نقدم ترجمتها عن الأصل الإنجليزي إلى الاقتراب من بعض المحطات والفواصل الدالة في السيرة الشخصية والابداعية للكاتب المصري الراحل نجيب الذي رحل عن عالمنا قبل ثمانية عشر عاما . ويسعى المستعرب الصيني وينشي اويانغ من خلال قراءة عميقة لاعمال مبدع الثلاثية الروائية والقصصية الى رصد اختياراتها وتحولاتها التعبيرية والجمالية علاوة على ارتباطها اللصيق بمدينة القاهرة. ويشدد المستعرب في هذا المعرض على التزام مبدع الثلاثية بالتعبير الروائي عن التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي شهدتها القاهرة بشكل خاص. بعمل الكاتب أستاذا للآداب العربية والادب المقارن في جامعة لندن. الدراسة منشورة في اصلها الإنجليزي في المجلد الثامن من الموسوعة الأدبية.
النص:
يعتبر نجيب محفوظ 1911-2006 الى حدود اللحظة الكاتب العربي الوحيد الذي حاز على جائزة نوبل للآداب. وقد زاد من شهرته عزوفه الا في القليل النادر عن مغادرة القاهرة. وقد رفض أيضا حضور حفل تسلم الجائزة. بدا كما لو انه حجز نفسه جسديا وشعوريا داخل القاهرة التي رأى فيها النور داخل اسرة مسلمة من الطبقة المتوسطة وامضى فيها كل حياته. شكل حي الجمالية الذي احتضن ميلاده وحي العباسية الموجود في ضواحي القاهرة والذي انتقلت اليه اسرته عام 1924 القلب النابض لكل اعماله الروائية. بيد ان هذا الولع المطلق بالقاهرة لا يمكنه ان يلغي الرؤية الكوسموبوليتية المتضمنة في كتاباته. ننوه في الان نفسه بان هذه المدينة التي اثرت بقوة على تفكيره و مساره الأدبي تتميز بكوسموبوليتها القوية. لم يكن محفوظ في حاجة الى السفر لكي يلتقي بالعالم؛ اذ تحقق له ذلك من خلال التربية والترجمة وفرص العمل والعلاقات الثقافية.
تلقى تعليمه في الكتاب والمدرسة الابتدائية والثانوية قبل ان يختمها بجامعة القاهرة التي كانت تعرف باسم جامعة فؤاد والتي أسست عام 1934. شرع في تحضير إجازة في الفلسفة قبل ان يتركها بعد سنتين ليتفرغ للكتابة الأدبية. كان تكوينه الذي كان مزيجا من التعليم التقليدي الإسلامي والتربية الحديثة قد أهله لكي يكون ضليعا في اللغة والاداب العربية القديمة ومكنته في الان نفسه من قراءة الاعمال الأدبية المعاصرة المترجمة الى اللغة العربية او أحيانا في لغتها الأصلية؛ اذ يجدر بنا التنويه الى قدرته على القراءة بيسر باللغة الانجليزية. أتاحت له وظيفته في وزارة الثقافة ان يحتفظ بعلاقات وطيدة بأكثر اشكال التعبير اثارة؛ اعني السينما. وقد كان مدير هيئة الرقابة على السينما قبل انسحابه عام 1972. ولم يحل ذلك بينه وبين ان يسهم في كتابة سيناريوهات بعض الأفلام. وقد جرى اقتباس ازيد من ثلاثين فيلما من رواياته وان كان رافضا من حيث المبدأ لنقل أي من اعماله الى السينما.
التحق بمعية جماعة من ابرز الكتاب المصريين بيومية الأهرام. وقد حرص منذ ذلك الحين على نشر رواياته مسلسلة قبل إصدارها في شكلٍ كتاب. وقد انضم عام 1943 الى جماعة من المثقفين اختار لهم الفنان المصري احمد مظهر أسم الحرافيش. كان من بينهم مصطفى محمود واحمد بهاء الدين وصلاح جاهين ومحمد عفيفي. كان محفوظ صديقا لتوفيق الحكيم ويحيى حقي وعباس محمود العقاد وطه حسين ومصطفى عبد الرازق وحسين فوزي وسلامة موسى، وكان يعتبر اغلبهم أساتذة له. كان هؤلاء مهندسي الثقافة المصرية الحديثة، وكانوا بأستثناء العقاد قد سافروا الى اوربا وجلبوا معهم بعضا من الكوسموبوليتية الى هذه المدينة. ومن خلال العلاقات التي نسجها معهم في كازينو قصر النيل او مقهى ريش واصداراته التي تتابعت، تمكن محفوظ شانه في ذلك شان مثقفي وكتاب جيله الذي استشرف نضجه بين ثورتي 1919 بزعامة سعد زغلول و 1952 بقيادة جمال عبد الناصر من التعرف على العالم والغرب بشكل خاص وان يسائل بشكل خاص الوساطة التي اضطلع بها الغرب في سيرورة تحديث مصر.
تهيمن هذه القاهرة الكوزموبوليتية وهي عالم متأسس على تداخل وتتنازع الثقافات والأذواق والحساسيات الأدبية والايديولوجيات السياسية على ريبرتوار الكتابة التخييلية لنجيب محفوظ والذي يشتمل على ست وثلاثين رواية وأربعة عشر مجموعة قصصية والعشرات من سيناريوهات الأفلام والمسرحيات. يمكن النظر الى شخوص رواياته في سياق او اطار صراع الرغبات والأهواء المتخلقة بمعزل عن القوى السياسية والاجتماعية والخاضعة بدورها لتاثير التقاء التراث والحداثة والدين والعلم والشرق والغرب. يشدد نجيب محفوظ في سياق حواره مع مجلة باريس على مفهوم وقيمة الحرية: التحرر من الاستعمار والحكم المطلق للملك والتحرر الفطري الإنساني في سياق المجتمع والأسرة. وكانت الرواية بوصفها شكلا تعبيريا مفتوحا الأنسب بالنسبة له لمساءلة الطرائق التي تمارس بها السلطة الدينية والاستبداد السياسي والطغيان الابوي تأثيرها على نفسية ومصير الفرد. ويستوي في هذا الخصوص ان يكون مالكا للسلطة او مفتقرا لها. بدا ذلك جليا في ثلاثيته التاريخية التي تاثر في سياقها بكتابات والتر سكوت: عبث الأقدار ورادوييس وكفاح طيبة. لم ينس محفوظ على الرغم من اطراحه لمشروع الرواية التاريخية الموضوع الاثير الى قلبه. وقد بذل منذ روايته الواقعية الأولى « خان الخليلي» وانتهاء بسيرته الذاتية الموسومة «أصداء السيرة الذاتية» جهدا مضنيا في الكتابة عن الافراد والجماعات في سياق سعيها الى الحرية بكل تمثيلاتها وفي سياق عالم يتحول بشكل جذري وتشكل القاهرة تجسيدا له.
تعتبر ثلاثية القاهرة 1956-1957 التي حققت الشهرة لنجيب محفوظ ملحمة سردية مثيرة ورائعة من 1500 صفحة لعائلة مصرية. وقد اختار كتابتها بصيغة واقعية. وهي تروي حياة السيد احمد عبد الجواد الذي كان احد تجار الطبقة الوسطى والذي كان يقيم في القاهرة العتيقة والذي يجد نفسه وجها لوجه مع قوى التحديث والثورة في الفترة ما بين 1919 و 1952: تسلط رواية بين القصرين الضوء على شخصية فهمي الذي يقف ضد رغبات والده ويشارك في الأنشطة السياسية التي أدت الى ثورة 1919. وبموت في غمرة الصراع بين الشرطة والمتظاهرين. وتحول «قصر الشوق» الانتباه الى الابن الأكبر ياسين والابن الأصغر كمال وتروي حكاية جيل سياسي والاغتراب الاجتماعي المترتب عن التقلبات التي تشهدها حياتهما العاطفية. وتنشغل رواية السكرية برصد الأيديولوجيات السياسية كما يجسدها احفاد احمد عبد الجواد من ابنه ياسين وابنتيه خديجة وعائشة. وفي سياق هذه الجدارية التاريخية للقاهرة يهيمن ويتعملق وجه احمد عبد الجواد في البداية ثم يتقزم ويتضاءل في النهاية. ويكون بورتريه الطاغية عند محفوظ ليس حكرا فقط على الأب وانما ينطبق على التقاليد من اديان وخرافات ومعتقدات شعبية تضطلع بمهمة تجميل وتأبيد سلطة الطاغية.
تتعارض مراقبة احمد عبد الجواد لاي فعل او سلوك او قرار يصدر عن افراد عائلته مع المجون والانحلال اللذان يصدران عنه. وتكون المحصلة فرض الاستبداد المطلق والسلطة الطاغية الى جانب النفاق. وتعتبر هذه الموضوعة كثيرة الورود في روايات محفوظ. وما كان يفتنه حسب ما شرحه ادوارد سعيد في دراسته» نجيب محفوظ وقسوة الذاكرة» يتمثل في المطلق وهو بالنسبة للمسلم الله او القوة الأخيرة يتحول بالضرورة الى تجسد مادي لا رجعة فيه.وسوف تتجسد السلطة الراسخة لاحمد عبد الجواد الذي سوف يتضاءل ويتقلص جسده في نهاية الثلاثية من جديد في شخصية الجبلاوي في الرواية المثيرة أولاد حارتنا التي نشرت مسلسلة في يومية الاهرام من سبتمبر الى ديسمبر عام 1909 قبل ان تصدرها دار الاداب البيروتية عام 1967 بعد تعذر او حظر نشرها في مصر