«لعنة الصّفر»: رواية نفسية ذات دلالة رمزية
حنين نصّار
موسى إبراهيم أبو رياش
كشفت رواية «لعنة الصفر» عن نواياها وثيمتها الرئيسية، بتحذير تصدرها يقول: «إذا لم تكن عزيزي القارئ من هواة قراءة الروايات النفسية، ذات الإلهاب والإثارة، فإنّي أحذرك من قراءتها».
وهي من الروايات النادرة أردنيا، التي تناولت في مجملها الأمراض النفسية وأعراضها ومخاطرها، وهناك رواية أخرى موضوعها مرض الاكتئاب وهي «الياسمينة السوداء» لإيمان الفقير، ويوجد العديد من الروايات التي جاءت فيها الأمراض النفسية بشكل جزئي أو عرضي، ومنها «دفاتر الوراق» لجلال برجس، و«ثنائي القطب» لهند الشتيوي، و«الهامش» و«بازار الفريسة» لخالد سامح. وربما تُعزى قلّة تناول الأمراض النفسية في الرواية الأردنية؛ لصعوبة تناول هذا الموضوع دون دراية تامة بالأمراض وأعراضها وآثارها، وعدم التورط في كتابتها ما لم يكن الكاتب مُلمّاً بما يكتب عنه من جوانبه كافة؛ فالدّقة العلمية ضرورية في موضوعات كهذه، وإلا ستكون الرواية وبالا وخسرانا على كاتبها، وسقطة لا تغتفر.
الحكاية
تتناول رواية «لعنة الصّفر» للأردنية حنين كمال نصّار، موضوع الأمراض والعقد النفسية، من خلال الشخصية الرئيسية «عمر» هذا الفتى ذو الستة عشر عاما، الذي يتمتع بذكاء كبير، وقدرة على الخداع، ولعب دور الضحية بامتياز، واستطاع أن يستدر تعاطف البعض، ويقنعهم بأنّه ضحية إخوته الذين أبعدوه عن البيت، وسجنوه في مصحة نفسية، كما أنّه وقع تحت يدي طبيب وعاملين لا يرحمون، وتكشَّف في النهاية أنّه جلاد سفاح وليس ضحية على الإطلاق، وأنّه المحرك الرئيسي للأحداث والمتحكم فيها، والمتلاعب بالجميع.
وقد أجادت الكاتبة في سردها الممتع ولغتها الجميلة وحبكتها المتقنة في التلاعب بالقارئ، الذي تعاطف مع «عمر» ثم انقلب عليه في الصفحات الأخيرة، بعد أن ظهرت حقيقته البشعة، وأنّه ما زال يمارس دوره الإجرامي دون توقف، خاصة أنّه لم يكن محل شك أو شبهة، وهذا يدل على ثقافة الكاتبة واطلاعها الواسع على الأمراض النفسية وخطورتها أحيانا، وقدرة المريض النفسي على التبرير، وإقناع من حوله أنّه عاقل وضحية، وليس مريضا كما يظن من ألقى به إلى المصحة النفسية، أو بين أيدي الأطباء النفسيين، وهناك حقيقة علمية مؤكدة أنّ المريض النفسي لا يعلم أنّه مريض نفسي، ولذا لا يتقبل العلاج، وإذا قبل أنّه مريض، فقد خطا أول خطوة على طريق العلاج والشفاء، و«عمر» في الرواية كان يرى نفسه أعقل من الجميع.
وبرز الصراع جليا في الرواية، خاصة الداخلي لكل من عمر وأخويه عامر وفؤاد، وقد تمحور صراع عمر حول سجنه في المصحة، وتخلي إخوته عنه وظلمه، وتركه فريسة للأطباء والممرضين، وانعكس هذا الصراع إلى تمرد واشتباك مع العاملين في المصحة، ومن ثم الهروب. بينما صراع فؤاد وعامر كان تأنيب ضمير حول صوابية قرارهما بإدخال عمر المصحة، وقلقهما الداخلي، وتخليهما عن أمانة والديهما، خاصة أنّ عمر هو الأصغر والأكثر دلالا واستئثارا بالحماية والخوف عليه.
وعانت الممرضة «إيلاف» من صراع داخلي كبير جراء تعاطفها مع عمر، وتغليب مشاعرها على واجبها، وتأثرها بحديث عمر، مع أنّها تعلم بحكم دراستها وخبرتها، أنّ المريض النفسي قد يلعب أدوارا متقنة في فن الخداع والمراوغة والتظاهر، وتسبب تعاطفها مع عمر إلى صراع مع خطيبها، الذي نبهها إلى خطورة ما فعلت، وأثر تهريبها لعمر من المصحة على كثير من العاملين والناس الذين ساعدوها، دون أن يعرفوا حقيقة الأمر، وقد توقعهم في مشكلات وتحقيقات لا ذنب لهم فيها.
العنوان
حول العنوان «لعنة الصّفر» يقول الروائي مخلد بركات: «أغلب الشخصيات نجد ظلال الصّفرية في حياتها، صفرية سلوكية ومعرفية، صفرية وجودية، خواء روحي، انتقام، فجوات في البنية العميقة في منطقة «الهو» السّحيقة، قلق، ذكريات شبحية لعينة، وهي تعاني منها، سواء كانت داخل مصحة/مستشفى (روح) للأمراض النفسية أو خارجه».
و«لعنة الصّفر» تطارد الكثيرين في الحياة؛ فالبعض يعيش حياته صفرا، لا تأثير ولا قيمة ولا أهمية ولا وزن له، وكأنّه لم يعش ابتداءً، والبعض يفعل ويعمل ويحاول، لكنَّ محصلة حياته صفر، والأصعب أن تكون حياة المرء مجموع أصفار «مهمشا، منبوذا، ومكروها من نفسك قبل غيرك! وما أصعب أن تكون مجرد نقطة بائسة، بلا شكل يوضحها، أو دور يميزها!». ومع أنّ الصّفر له قيمته رقميا، ويتوسط الأرقام السالبة والموجبة، إلا أنّه لا قيمة له منفردا على خلاف الأرقام الأخرى «لكل عدد دور وفضل في هذه الحياة إلا الصّفر، رمز الفراغ واللاشيء، رمز اللاوجود واللامعدود، رمز الفجوة والثّقب، بل رمز الشّؤم والنّحس، ولا غرابة إن كان يُطلق على الصّفر لفظ « العلامة الماصَّة»؛ فأي عدد يُضرب به ينتج صفرا، وكأنَّ الصّفر امتص ذلك العدد» وهذا تشبيه للصفر بالثقب الأسود، الذي يبتلع كل شيء، ويلغي وجوده نهائيا كأن لم يكن، وهنا تكمن خطورة «لعنة الصّفر» إنّها لعنة متعدية ومنعكسة، تشكل خطورة على الغير، وتحاول أن تُلغي وجودهم انتقاما لإلغاء وجودها وتهميشها وتصفيرها في الحياة. والشعور بالصفرية قاتل، يحوّل الحياة إلى جحيم ومرار لا يزول، ومن هنا كان إحساس عمر بأنّه يعامل كصفر، لا رأي له ولا قرار ولا وجود، وهذا الشعور رسّخ في داخلة رغبة عنيفة بالانتقام، لكن كان الانتقام البشع من كل من جعل له قيمة ومنحه العطف والحب والتفهم والدعم والمساندة، بينما لم يفعل شيئا لمن أساء إليه، واكتفى بالتهديد والوعيد والرغبة بالانتقام دون ترجمة عملية، وهذه مفارقة لا تحدث إلا لمريض نفسي سادر في ظلام النفس، وأسير شيطانها
الدلالة الرمزية
يمكن أن تُقرأ الرواية بدلالتها الرمزية؛ فالإنسان العربي المقموع التائه المهمش، المواطن ذو القيمة الصّفرية، الذي لا اعتبار له في وطنه ولا تأثير ولا فاعلية ولا يؤبه بوجوده، وبسبب التشوهات التي طالت عقله وتفكيره ومشاعره، وأدت إلى انحراف بوصلته، وضرب كل شبكته العصبية والعقلية، يُعادي وينتقم ممن أحسن إليه، وأسدى له معروفا، واحتضنه برفق، ويراهم أعداء يجب محاربتهم، ويصدق فيهم المثل «اتق شر من أحسنت إليه» و«جزاء المعروف لط كفوف» بينما يداهن ويطيع ويخضع ويستجدي من يلقمه العلقم، ويسيء معاملته، ويدعس على رأسه، ويسلبه كرامته، سواء على الصّعيد الاجتماعي الذي حوله، أو المجتمعي الكبير، وكذلك على صعيد الدول والمجتمعات الأخرى، فنحن في الحقيقة -كشعوب عربية مشوهة مستلبة – نصفق لمن اغتصب حقوقنا، ويتحكم في رقابنا، ونقلب ظهر المجن للشعوب المستضعفة مثلنا، ونشهر في وجهها السلاح عند اللزوم لهفوات وأخطاء بسيطة مقارنة بما يرتكبه الأعداء الحقيقيون بحقنا.
وبعد؛ فإنّ «لعنة الصّفر» لحنين كمال نصّار، الصادرة في عمّان عن دار الخليج في 294 صفحة، وتتضمن 31 فصلا، رواية تشكل مغامرة جريئة في عالم الأمراض النفسية، استطاعت الاستحواذ على القارئ، الذي ختمها بالصدمة غير المتوقعة، لما تكشّف له من حقائق لم تخطر له على بال. تقول الكاتبة «إنّ الرواية تحمل رسالة في مضمونها، وهي التوازن في العلاقات الاجتماعية، وعدم الانسياق لمشاعرنا كثيرا، لأنّها في معظم الأحيان تكون سببا في هدم العلاقات بين أفراد المجتمع». ويُسجل للرواية توظيف الجانب الروحي الندي من خلال شخصية الأستاذ «نزيه خير» الذي انعكس على تعاملاته وعلاقاته وحياته، وهذا الجانب يندر في الرواية الأردنية، وقلّما يُلتفت إليه ويوظف بشكل إيجابي. ولا شك في أنّ الرواية تثير شهية القارئ للاطلاع على عالم الأمراض النفسية، وكذلك الروايات العالمية والعربية التي تناولتها، خاصة أنّه عالم غامض ومثير، مليء بالغرابة والمفارقات والصدمات، ومن هذه الروايات: «الجريمة والعقاب» لفيدور دوستويفسكي، و«دكتور جيكل ومستر هايد» لروبرت لويس ستيفنسون، و«العصفورية» لغازي القصيبي، و«الفيل الأزرق» لأحمد مراد، و«العطر.. قصة قاتل» لباتريك زوسكيند، و«الخوف» لستيفان زفايغ، وغيرها كثير.
ولا بُدَّ في النهاية من الإشارة، إلى أنَّ «لعنة الصّفر» هي الرواية الأولى لحنين نصّار، وهي تجربة تستحق التقدير، وتبشر بصوت روائي جديد ومميز في الرواية النفسية، إن فكرت بالاستمرار في هذا المشروع المحفوف بالمخاطر والمحاذير، لكن عليها أن لا تنساق كثيرا للوصف والتنظير؛ لأنّهما في العمل الروائي يكسران انسيابية السرد وحركة الأحداث، ويفرملان متعة القارئ.
كاتب أردني