الشرق الأوسط منطقة مشتعلة مليئة بقصص إنسانية مؤلمة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الشرق الأوسط منطقة مشتعلة مليئة بقصص إنسانية مؤلمة

    الشرق الأوسط منطقة مشتعلة مليئة بقصص إنسانية مؤلمة


    ميسلون فاخر لـ"العرب": كأن الرجل حُلت مشاكله وبقيت حرية المرأة تؤرقه.
    السبت 2024/08/24

    لا يوجد كوكب بديل ينقذنا من تهور البشرية

    يجد الكاتب العربي اليوم نفسه وجها لوجه أمام واقع معقد وصعب تتشابك فيه المعطيات والتواريخ لتصنع مشاهد من المعاناة والتخلف يبدو إصلاحها أمرا مصيريا اليوم. وربما لا يصلح الكتّاب الواقع لكن بإمكانهم إصلاح الوعي بالواقع، وخلق حركة تنوير مهما بلغ بطء تأثيرها، وهذا ما تؤمن به الكاتبة العراقة ميسلون فاخر التي كان لـ”العرب” معهاهذا الحوار.

    الأدب خير تعبير عن الوجع. وجع الكاتب والشعب والوطن. والعراق بات موطن الألم، وربما لم يعان في الدنيا بلدٌ مثلما عانى هذا البلد. فالوجع ممتد، والألم لا يزال يستوطن في أرض التاريخ والحضارة.

    الأديبة العراقية ميسلون فاخر، هاجرت إلى السويد منذ 33 عاما، بعد قصف بغداد عام 1991، لكنها لم تهجر يوما بلاد الرافدين. استحضرت في كل سطر من رواياتها روائح أرضها، وذكرياتها، وعبق دجلة، وصرخات المعذبين، ونواح الثكالى، وابتسامات الأمل رغم كل شيء في عيون الصغار. ووصلت روايتها الأخيرة “زهرة” الصادرة عن دار سطور للنشر في العراق إلى القائمة الطويلة لجائزة غسان كنفاني عام 2024.
    الواقع العربي



    تكشف ميسلون فاخر في حوارها مع “العرب” عن سعادتها الخاصة للغاية بوصول روايتها إلى القائمة الطويلة لهذه الجائزة بالتحديد، واقتران اسمها بشكل أو بآخر بالأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، مؤكدة أن رمزية الجائزة لها وقع كبير في داخلها، وتعني لها مضمونا مهمّا يمثل الخيط الرابط بين شعوبنا العربية، خاصة أنها جاءت في وقت نتجرع فيه جميعا مرارة ووجع فشلنا تجاه ما يحدث في غزة.

    تتذكر الروائية العبارة المدوية الأخيرة في ختام رواية “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، وهي “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟”، وظلت تردد لفترة من الزمن “وما زلنا ندق جدران الخزان”، فالعبارة اختصرت كل معاناة المواطن العربي المحتجز في خزانات متشابهة، بأشكال مختلفة، ولكن بذات المتانة والقسوة.

    في رواية “صلصال امرأتين”، اختارت ميسلون فاخر أن يكون البطل الثاني في الرواية شخصية فلسطينية ساهمت في إدارة الأحداث بشكل مؤثر، لأنها تعي تماما ما يربط شعوب هذه المنطقة من وشائج محبة كبيرة دمّرتها الظروف الصعبة للشعوب، واللهاث وراء القوت اليومي، بهدف توفير أمكنة آمنة لأحلامنا الهشة.

    تقول الأديبة العراقية “نحن لا نشتري التاريخ، نحن معروضون للبيع شعوبا ومقدرات، لكن هناك من هم مستعدون للموت من أجله، وهذا ما يحدث في غزة، فما يجري هناك خارج سياق الأحداث اليومية التي اعتدناها منذ فترة طويلة، فقد تعودنا أن كل معاركنا خاسرة بلا جدوى، لكن ما يفعله الدم الفلسطيني رسالة كبيرة تحرج إنسانيتنا التي رحلت في نزهة، لا نعلم متى تعود ومتى نجد أنفسنا صادقين في ما نقول”.



    وصل الأمر بفاخر إلى الشعور بالذنب لبقائنا على قيد الحياة، إذ ترى أننا تحولنا إلى شعوب لا تجيد سوى الطعام والنوم، وما نفعله مع الفلسطينيين شيء مخجل، في حين تخرج شعوب أوروبا التي تساند حكوماتها إسرائيل في احتجاجات شبه يومية في الشوارع، وتتقاتل مع الشرطة، ويتم اعتقالهم ويضحون بدراساتهم ومستقبلهم، أما نحن فمذعورون على ما بأيدينا من مكتسبات، ونخاف من ظلالنا.

    لا تشتبك فاخر في رواياتها مع الأحداث السياسية بشكل مباشر، لكن كل صفحة من كتاباتها غارقة في السياسة، من زاوية تأثيرها في حياة الإنسان، منذ زمن الدكتاتورية في العراق إلى زمن الاحتلال والغزو.

    وحول حلم الإصلاح والديمقراطية في منطقتنا العربية، تقول الأديبة العراقية لـ”العرب”: “لا بد أن نتخلص من رومانسية عقولنا في مبررات الحفاظ على شحنة الأمل في إصلاح الحال، لأن التكاشف مع ذواتنا هو صمّام الأمان للتخلص من هذا الإرث المرهق، وأن نبحث عن سبل معقولة للتعرف على طرق أقل هتكا لإنسانيتنا، وبما أنني شخص يعيش في واقع لا يملك من أدوات تغييره ولو قيد أنملة فإنني سأقول ما يمكنني قوله حتى لو لم يسمعه أحد سواي”.

    وترى أن موجة قاتلة من الذل والانتهاك من دكتاتوريات وعسكر واحتلال قد أغرقت روح المواطن، وتركته جسدا ملقى على قارعة الطريق، ينشد الستر والصحة كما يقول هو، يجترّ التفاهات ويحترم الحماقات، ويخاف من سلطة المال، ويستحي من الفقر، لأن الرجال أصحاب الزي العسكري جمدوا أدمغتنا بهيلمانات وقسوة صولجاناتهم البائسة، وحولونا إلى قطيع.

    وتتابع “بعد هؤلاء؛ جاء الرتل الآخر من الخيبة، وهو الأخطر، ويمثل أفراده موجة الجهل والتخريب والتحكم في مقدراتنا، بما في ذلك نسبة إرثنا من هبات الطبيعة، وتغيير قوانين ناضل من أجلها النساء والرجال لحفظ مدنية المجتمع، فهؤلاء وجودهم ليس فقط خطرا على الشعوب وركب الحضارة، إنما حتى على التطور الطبيعي للبشرية، لأن شراهتهم في التعاطي مع المكتسبات تلتهم كل ما يمكن حتى لو لم يعودوا في حاجة إليه”.

    توجه الأعمال الروائية لفاخر اهتماما خاصا إلى قضية الهوية، وحالة المهاجرة العراقية في الغرب، التي تعاني الانقسام “بين مكان وُجدتُ فيه ولم أنتمِ إليه، وآخر يحمل كل رهانات انتمائي ولكنني غير موجودة فيه”، كما جاء على لسان بطلة روايتها “الكلب الأسود”.

    وتعزو السبب في ما صرنا عليه من حال إلى تقاعسنا في إدارة أمورنا، وتسليمها إلى أيدي أشخاص يدّعون القداسة، داعية إلى التخلص من حالة الحداد النفسي والاهتداء إلى لحظة مفصلية تنويرية بأن نرفض كل ما هو جاهز رفضا جماعيا، وهذا لا يتأتى إلا في حالة واحدة، هي أن يتعلم الأطفال والشباب في بلداننا، لكن حكوماتنا تكافح ليصل التعليم إلى أدنى مستوياته، وجعله مكروها، في ثقافة كانت تعتبر التعليم شيئا مقدسا.

    فما يتوجب علينا فعله، في رأيها، أن ندير عوالمنا الصغيرة للتحول إلى موائل وعي وفهم للواقع، وإيجاد طريقة لخلق نواة تغيير، مهما تكن المهمة بطيئة وعسيرة، لكنها الطريق الأمثل للنجاة، والحفاظ على قدر معين من الخلق والثقافة والتحدي لمجابهة هذا الكمّ الشاسع من فضاءات التخلف والتجهيل.

    صدر للكاتبة العراقية روايات “رائحة الكافور” 2018، و”صلصال امرأتين” في 2019، و”الكلب الأسود” في 2021، و”زهرة” عام 2023، ولاقت أعمالها اهتماما نقديا، وتنظر إلى كتابة الرواية باعتبارها تأملا صامتا لأعماق ذواتنا، ورحلة محفوفة بالمخاطر إلى أشد مناطق الوعي وجعا، فيصل الكاتب من خلالها إلى عبثية مشاحنات الذاكرة.

    وتقول لـ”العرب” إن بقعتنا الجغرافية منطقة مشتعلة، مليئة بقصص إنسانية مؤلمة، تعمل تلفزيونات العالم على متابعة أحداثها اليومية مثل قندس الماء الذي لا يتوقف عن الحركة، فهنا لا تتوقف الحروب أو التنكيل أو الاحتلال أو النهب أو الامتهان، والمواطن البائس في هذه البقعة لم يجد وجعا لم يجرّبه، فأصبح ذا خبرة عريضة بالموت والأزمات، لذا ليس غريبا على أبنائها أن ينفجروا بسرد رواياتهم، التي تمثل عدسات تتكلم وتكتب، وتعيش محمولة في قلوب الناس.
    إطلاق شهب الرفض



    السؤال عن جدوى الكتابة، يطرح نفسه على الكاتب في لحظات الإحباط المرير والشعور بالعجز عن التغيير، لكن الأديبة العراقية ميسلون فاخر لا تنظر إلى الأمر بهذه الصورة، إنما تعتبر الكتابة والقراءة لمن يعشقهما عوالم مدهشة من الغواية والتجريب، تأخذ صاحبها إلى مدى بعيد، أو أمدية بعيدة، تمنحه أدوات فذة لفهم واقعه وتفسير حقيقة ما يدور حوله في عالم متصارع، وقدرة استثنائية على تكثيف صور الجمال المختارة في مخيلته بشكل انتقائي، وهو المحاط بنشرات أخبار الموت والدمار والبنى التحتية المعطلة بفعل فاعل، والفساد المستشري في نخاع الدول.

    والكتابة في نظرها تمنح سعادة الاعتزال عن عوالم الضجيج بفيوض من الإبداع، والكُتاب بوسعهم الإصغاء لصوت الحيوانات في الغابات وخرير الأنهار وأصوات الأطفال حتى لو كانوا في عزلة مكاتبهم.

    لكن الأهم من ذلك، في رأي الأديبة العراقية، هو أن نمضي باعتبارنا فئة واعية متنورة بلا خوف للعب دور تحريضي محفز لإطلاق شهب الرفض، والانتفاض على البلادة الفكرية والاجتماعية، والذهاب معا على سبيل المثال إلى نصرة المرأة في عصر يتبارى على عبوديتها جيش من الأميين الذين يتعاملون معها بعنصرية، كأنها شخص دخيل قادم من كوكب آخر، يتم التعامل معه بريبة.

    ◄ الكاتبة لا تشتبك في رواياتها مع الأحداث السياسية بشكل مباشر، لكن جل كتاباتها غارقة في السياسة

    وتتابع قائلة “كأن الرجل في بلداننا حُلّت كل مشاكله، وبقيت المرأة هي التي تؤرقه في تطورها وإطلاق حريتها في العمل والحياة، وأحقيتها في حضانة أطفالها، ويندرج تحت ذلك ما يحدث في العراق من تدخل غير واع في قوانين الدولة ومحاولة الانقضاض على حقوق النساء وتجريدهن من إنسانيتهن تحت مسميات مزيفة ورجعية”.

    تمارس فاخر عملها كمنتجة للأفلام الوثائقية منذ عام 2004، بخلاف كتابة الأدب، وترى أن عملها سلاح يمكنها من مقاتلة عالم غارق في سياسات متوارية خلف أقنعة كاذبة تعتبر العدل ضربا من الجنون، ورغم هشاشة هذا السلاح يبدي المجرمون والطغاة ذعرهم من قدرته على اختراق حصونهم، كما حصل مع أفلام وثائقية كشفت فظائع جاهد في إخفائها الجناة.

    كما يفيدها عملها في الإنتاج الوثائقي في كتابة الأدب، عبر شحذ أفكارها بانفعالات عميقة، وكمّ كبير من المعلومات، والقدرة على اختزال صور الواقع وتكثيفها، بما يتيح كشف الحقيقة وتفتيت هذا العالم الكونكريتي المسلح وشروطه الصعبة.

    وتؤكد الأديبة العراقية في حديثها لـ”العرب”، “ليس لدينا برنامج تصحيحي للعالم، ولا يوجد كوكب بديل ينقذنا من تهور البشرية، ووحده القلق الإنساني هو الذي يبقي الأنقياء على قيد الحياة”.


    محمد شعير
    كاتب مصري
يعمل...
X