"رداء النسيان".. نظرة مركبة لمفهومي الحقيقة والحب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "رداء النسيان".. نظرة مركبة لمفهومي الحقيقة والحب

    "رداء النسيان".. نظرة مركبة لمفهومي الحقيقة والحب


    إدريس الروخ يكتب سردا قصصيا تتداخل فيه مشاعر الشوق والألم والوحدة.
    السبت 2024/08/24

    الروخ فنان مغربي مخضرم

    بعد أن خبر الكتابة المسرحية والنقدية والصحفية اتجه المغربي إدريس الروخ إلى عالم الأدب بروايته الأولى “رداء النسيان”، التي يقف فيها على مفهومين مهمين في الحياة هما الحقيقة والحب، عبر شخصيات ورموز ودلالات وعلاقات إنسانية متشعبة، تتراوح بين العديد من التناقضات مسلطا الضوء على قدرتها على تحدي عامل الزمن.

    الرباط- يقدم الكاتب إدريس الروخ في روايته “رداء النسيان” قطعة أدبية شعرية تتناول موضوع الحب بأسلوب فلسفي وتأملي، مستخدمًا لغة غنية بالاستعارات والصور البلاغية، حيث يبدأ بوصف الليل والتجول في ظلامه بلا خوف، معبرًا عن رحلة في أزقة الحياة تتجول فيها قلوب منكسرة، إذ يعتبر الحب قوة تحمل الإنسان على الاستمرار رغم التعب والمسافات الطويلة.

    يعبر الكاتب من خلال الوصف عن مشاعر الحب العميقة والشوق الذي يجعل اللقاءات متقطعة في فضاء الحياة الشاسع، كقوة تدفع الإنسان للركض بلا توقف، تروي ظمأ العاشق وتمنحه الصمود لمواصلة الرحلة، فيكتشف العزيمة التي فقدها بسبب الإحباط وفشل التجارب السابقة، ويعبر عن رؤية فلسفية مفادها أن الحب يساعد على الصمود والارتقاء، متخذًا صورة مثالية للتعالي على الصعاب ومواجهة الحياة بإصرار.

    يمتد النص ليشمل تأملات حول الزمن والتاريخ، مستعينًا برموز مثل الديناصورات التي كانت تعيش في رغد قبل أن يدمرها الزمن، ما يعكس هشاشة القوة أمام تغيرات الزمن وتقلباته.

    ويشير الكاتب إلى المتاحف التي تعرض هياكل الديناصورات كرمز للزمن الذي يفقد الأشياء عظمتها ويحيلها إلى شواهد صامتة وتناقضات للحب، حيث تصوره شخصية سليمان الأحمدي كفعل موت بطيء، ويجب على العاشق أن يعيش بإحساس من يقاوم ليجد مرفأ يريح فيه جسده قبل أن تهاجمه الأمواج مرة أخرى.



    كما يشير إلى أن الحب يجلب معه المد والجزر والارتطام بالصخور، وأن الموت هنا هو نهاية لعذاب الليالي والأيام والشهور والسنوات التي نحتتها عوامل الطبيعة وأذابت قدرة الإنسان على المواجهة.

    يستدعي الكاتب قصة الآلهة عشتار وزوجها ديموزي ليعبر عن لعنة الحب التي تجعل الإنسان يفقد السيطرة على نفسه، مشبها العاشق بطائر المالك الحزين الذي يفقد كل شيء، إذ يصف حالة العاشق البائس الذي يغني آلامه في قصائد لم يكتبها بقلمه بل بقلبه، ويستمع إلى أغاني أم كلثوم ويعزف ألحانا لم تبدعها أنامل أعظم الموسيقيين، وينتقل إلى وصف حالة من العزلة والاكتفاء الذاتي، حيث يعيش الشخص بعيدًا عن الصخب والزلازل والأعاصير، مكتفيًا بوجبة فطور وابتسامة الصباح، متجنبا أسئلة الحبيب واهتماماته، ويركز بدلا من ذلك على فنه وموسيقاه، غارقًا في طقوسه الحميمة بين لوحاته، ما يعبر عن حالة من السلام الداخلي والاكتفاء الذاتي.

    ويعبر إدريس الروخ عن رحلة فنية وتأملية يعيشها الشخص وحيدًا ولكنه سعيد، يجد في فنه وموسيقاه ما يغنيه عن العلاقات البشرية التقليدية من خلال لحظات الإبداع والتأمل أمام اللوحة، حيث يطلق العنان لمخيلته ويرسم بألوانه، ممزوجًا بالسيجارة وفنجان القهوة، معبرًا عن حالة من الوحدة الإبداعية والسعادة الداخلية.

    يتسم النص بلغة وأسلوب شعريين مليئين بالاستعارات والصور البلاغية، حيث يستخدم الوصف المكثف والجمل الطويلة ليعبر عن تأملات داخلية عميقة ومشاعر الحب والألم، إذ يذكر عناصر طبيعية مثل الليل، والبحر، والعظام، والرياح، والديناصورات، التي تعبر عن حالة من الصراع الداخلي والبحث عن الذات، كما يضفي استخدام الشخصيات الأسطورية مثل عشتار وديموزي طابعًا ميثولوجيًا يعمق التأملات التاريخية والفلسفية في النص.

    تتنوع المشاعر والعواطف في النص بين الحب والشوق والألم والفقدان، مع إحساس قوي بالوحدة والتأمل في الذات والعلاقات الإنسانية، ويستخدم الحب كاستعارة للموت البطيء، ما يعكس وجهة نظر فلسفية ترى الحب كحالة من التضحية والألم، ويعبر عن فكرة مفادها أن الحب قد يكون تجربة مدمرة لكنها ضرورية لفهم الذات والحياة، كما يعبر عن العلاقة المعقدة بين الذات والآخر، مشيرًا إلى أن الحب يمكن أن يكون وسيلة لفهم الآخر والاقتراب منه، ولكنه قد يؤدي أيضًا إلى فقدان السيطرة على الذات.

    ويتناول الكاتب مفهوم الحقيقة من خلال منظور معقد يعكس طبيعتها متعددة الأبعاد والتناقضات، حيث يظهر من خلال النصوص أن الحقيقة ليست واحدة أو مطلقة، بل تتخذ أوجهًا متعددة تتباين وفقًا للرؤى والأفراد، إذ أن عبارة “للحقيقة أوجه متعددة” تؤكد أن الحقيقة ليست ثابتة، بل تتغير بناءً على الزوايا والرؤى المختلفة التي يملكها الأفراد، مما يشير إلى أن ما يعتبر حقيقة بالنسبة لشخص ما قد يختلف عن ما يعتبره آخرون.

    ويسرد الروخ التحديات التي تواجه الباحث عن الحقيقة، موضحًا أن هذه العملية قد تكون محفوفة بالصعوبات والتناقضات من خلال الجملة التي تقول: “قد تقودك إلى الحياة كما قد تؤدي بك إلى الموت، قد تدمر فيك الإنسان..”. تعبر هذه العبارة عن أن السعي وراء الحقيقة ليس مضمونًا دائمًا، فقد يؤدي إلى نتائج متباينة؛ فقد تكون الحقيقة مصدرًا للطمأنينة أو قد تنقلب إلى تدمير الذات، وهذه التناقضات تجعل من البحث عن الحقيقة مهمة شاقة ومعقدة، مما يضفي على الرواية عمقًا إضافيًا في تناولها لهذا المفهوم.

    تستثمر الرواية في تصوير التأثير النفسي العميق للحقيقة على الفرد، حيث تسلط الضوء على كيفية تأثير الحقيقة على الروح البشرية بطرق متعددة، وعبر استخدام ثنائيات متعارضة مثل “قد تدمر فيك الإنسان” و”قد تبعث ملائكة الرحمن ينشرون بداخلك السلام”، ويعكس الكاتب أن الحقيقة يمكن أن تكون قاسية ومدمرة في بعض الأحيان، بينما قد تكون مصدرًا للسلام والسكينة في أحيان أخرى. وهذا التباين يعكس الطبيعة المعقدة للإنسان وكيف أن الحقائق التي نكتشفها قد تؤثر فينا بطرق متنوعة.
    الكاتب يعبر من خلال الوصف عن مشاعر الحب العميقة والشوق الذي يجعل اللقاءات متقطعة في فضاء الحياة الشاسع، كقوة تدفع الإنسان للركض بلا توقف

    وتشير النصوص الأدبية إلى مقولة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه حول نسبية الحقيقة، فوفقًا لنيتشه، الحقيقة ليست مطلقة بل تعتمد على التفسيرات الفردية والسياقات الثقافية والاجتماعية المختلفة، حيث أن الرواية تعكس هذا المفهوم عبر توضيح أن الحقيقة يمكن أن تكون متناقضة في تأثيراتها ونتائجها على الشخص، وهذا الاستحضار للفلسفة النيتشوية يضيف عمقًا فكريًا للرواية، ويعزز فهمنا لمفهوم الحقيقة كمسألة نسبية تتغير بتغير الظروف والسياقات.

    وتقدم رواية “رداء النسيان” نظرة مركبة لمفهوم الحقيقة، مما يعكس التناقضات والتحديات المرتبطة بالبحث عنها. الرواية تدعو القارئ للتفكير بعمق وفهم كيفية تأثير الحقيقة على النفس البشرية والتعامل معها بمرونة ووعي. وتتضمن رسالة مفادها أن البحث عن الحقيقة يتطلب تأملا دقيقًا وتفكيرًا عقلانيًا للتعامل مع نتائجها المتنوعة، مما يجعلها قراءة ثرية ومعقدة في فهم طبيعة الحقيقة وأثرها، كما تضيف التناقضات بين الحب والوحدة، الحياة والموت، والفرح والألم عمقًا للسرد القصصي، ما يجعل القسوة تعبر عن التعقيد الذي يميز التجربة الإنسانية التي ترتدي رداء النسيان.


    عبدالرحيم الشافعي
    كاتب مغربي
يعمل...
X