لوحة للرسام الإنطباعي كلود مونيه (خدمة المعرض)
- فرنسا تحتفل بالذكرى 150 لولادة الانطباعية التي مهدت للحداثة التشكيلية
انطوان جوكي
الأربعاء 13 مارس 2024م
ملخص
باشرت الأاوساط الفنية في فرنسا الإحتفال بالذكرى ال150 لانطلاق المدرسة الانطباعية التي أحدثت ثورة في تاريخ الفنون التشكيلية في أوروبا والعالم. وبدأت المعارض تقدم تاريخ هذه الحركة وأعمال روادها الكبار.
150 عاماً مرّت على ولادة الانطباعية، وما زالت فتنة الثورة الجمالية التي أحدثتها هذه الحركة الفنية المجيدة فاعلة، كما تشهد على ذلك المعارض الفردية والجماعية الغزيرة التي تُنظَّم سنوياً في أكبر متاحف العالم لوجوهها الكبرى، والجمهور الغفير الذي يحضر إليها في كل مرة لتذوّق ثمارها. حركة قطيعة وُلِدت في باريس، في أعقاب حرب مدمّرة، تمكّنت الانطباعية في غضون بضعة عقود، وعلى رغم عدم فهمها في بداياتها، من فرض تقنية رسم مبتكَرة، ورؤية فنية جديدة، وكذلك فهمٍ جديد لمكانة الفن في زمنها. وإضافة إلى تشكيلها، بالنسبة إلى العالم أجمع، صورة نموذجية لفن الحياة الفرنسي، وتجسيداً لطبيعة حساسة ومرتعشة، فهي تبقى المرجع الكاشِف الرئيس لما قامت عليه الحداثة.
كل هذه الأسباب تجعل من الاحتفاء بذكرى تأسيس هذه الحركة الـ 150 واجباً، وفي الوقت نفسه، تحدياً برهانات عديدة. احتفاء سينطلق قريباً في فرنسا، وبخلاف ما حصل في مئوية الانطباعية، عام 1974، أي تقاطُر أجمل لوحات هذه الحركة من مختلف المدن الفرنسية إلى العاصمة، بغية عرضها في المعرض الضخم الذي نظّمه آنذاك "القصر الكبير"؛ سنشاهد، بموازاة معرض "1874، ابتكار الانطباعية" الذي ينظّمه "متحف أورسيه" في باريس، ويقدّم فيه رؤية متجددة لما كانت عليه السنوات الأولى للانطباعية، حركةً معاكسة تقوم على بعثرة عدد كبير من اللوحات الانطباعية المتواجدة فيه، على كامل الأراضي الفرنسية، تماماً مثل حركة التناثر العظيمة التي تطلقها الزهور خلال فصل الربيع.
لوحة "القارئة" لرينوار (خدمة المعرض)
في معرض "1874، ابتكار الانطباعية"، سيقترح "متحف أورسيه"، الذي يضم أكبر مجموعة من اللوحات الانطباعية في العالم، عودة مثيرة إلى ذلك المعرض الذي أقامه الرسامون الانطباعيون بشكل مستقل في 15 أبريل 1874، داخل الاستوديو السابق للمصوّر نادار، وغيّر مسار تاريخ الفن بشكلٍ حاسم. عودة من خلال استحضار اللوحات الانطباعية التي عُرضت فيه، وتعود إلى مونيه ورونوار وموريزو وسيسلي وبيسارو الذين ابتكروا هذه الجمالية المجدِّدة بلمساتهم الحيوية وألوانهم النيّرة، وإلى رسامين انطباعيين آخرين لفّهم النسيان، وإلى العملاقين دوغا وسيزان اللذين شاركا في هذا المعرض، لكنهما بقيا على مسافة من الجمالية الجديدة. أعمال متنوّعة، وأحياناً متباينة في أسلوبها، لكنها تتناغم من منطلق تقاسم أصحابها تلك الرغبة التي لا سابق لها في إحداث قطيعة مع الفن الأكاديمي وأساليبه.
بالتالي، لا يشكّل 15 أبريل (نيسان) 1874 فقط تاريخ انبثاق الانطباعية، بل أيضاً نقطة انطلاق الطلائع الفنية. لكن ما الذي حصل بالضبط آنذاك ومهّد لهذا الانبثاق؟ وما المعنى الذي يمكن أن نمنحه اليوم لمعرضٍ بات أسطورياً؟ ماذا نعرف عن حدث لا نحتفظ منه بأي صورة، وكان الفنانون الانطباعيون المشاركون فيه أقلية في الواقع؟ بناءً على أبحاث جديدة، يتفحّص المعرض الوشيك الظروف التي دفعت هؤلاء الفنانين الثلاثين إلى الاجتماع لعرض فنهم باستقلالية تامة، بدءاً بمناخ حقبتهم الذي كان مناخ قلقٍ وإحباط ناتجين من هزيمة فرنسا أمام ألمانيا عام 1870، ومن حرب أهلية دموية. مناخ شكّل أرضية خصبة كي يعيد مونيه ورونوار ورفاقهما التفكير في فنهم ويستكشفون اتجاهات جديدة.
لوحة للرسام ألفرد سيسلي (خدمة المعرض)
في جوار معرض "1874، ابتكار الانطباعية"، يقترح أيضاً القائمون على "متحف أورسيه" لقاءً مثيراً مع هؤلاء الفنانين، هو عبارة عن اختبار غامر يغوص الزائر فيه داخل واقع افتراضي بفضل خوذة إلكترونية تعود به في الزمن إلى يوم افتتاح معرضهم، وتسمح له بالتجول أولاً برفقتهم على طول جادة "كابوسين"، ثم بالدخول معهم إلى الاستوديو السابق للمصوّر نادار حيث علّقوا أعمالهم وبيان استقلالهم الفني، وبالإصغاء إلى سخرية المنتقدين للوحاتهم، إلى تعليقات المرتابين من التجديد الذي تحمله، وإلى هتاف أولئك الذين استشفّوا فيها ثورة جريئة.
ومن "متحف أورسيه"، سيغادر في الوقت نفسه عدد كبير من روائع مجموعته، وتحديداً 178 لوحة، إلى 34 متحفاً تتواجد في مختلف أنحاء فرنسا. لوحات انطباعية، ولكن أيضاً لوحات استبقت هذه الجمالية ومهّدت لانبثاقها، وأخرى تنتمي إلى مختلف أساليب "ما بعد الانطباعية" (التنقيطية، النورانية...). أعمال تعكس ثراء هذه الحركة، من بداياتها مع دوبينيي ومانيه، إلى أقصى امتداداتها، مع فان غوخ وبونار.
لوحة للرسام مانيه (خدمة المعرض)
وبفضل هذه البعثرة، ستتمكن بيرت موريزو، في "شرفة" مانيه، من إلقاء نظرتها الفتاكة على ضفاف نهر لا غارون في مدينة بوردو، وستطلّ "ليمونة" هذا الرسام على حديقة البرتقال في فيلا ميديشي، وتزور "كاتدرائية رووان" لمونيه جارتها في مدينة لو هافر، ويطير "طائر العقعق" بلوحته إلى بلدة كليرمون ــ فيران، وترفرف أعلامه في "شارع مونتورغوي" داخل بلدة دواي، وتمدّ لوحته "غداء على العشب" حصيرتها في مدينة بوزانسون، وتغادر اثنتان من "زنابق الماء" الغالية على قلبه ضفاف نهر السين للرسو، واحدة على ضفاف نهر أور، والأخرى في مياه كورسيكا. وبينما ستقلب "قارئة" رونوار صفحات كتابها في مدينة ألبي، ستضجّ مدينة نانت بحفلة كايبوت الدائرة "على متن السفينة"، وتنير نجوم لوحة فان غوخ الشهيرة، "ليلة منجّمة"، سماء مدينة آرل، حيث رسمها.
اقرأ المزيد
الرسام موديلياني أبدع لوحات كثيرة بتشجيع من تاجره
الرسام بيار سولاج استخرج النور من قلب الليل الدامس
باختصار، من مدينة توركوان، شمالاً، إلى جزيرة لا ريونيون في المحيط الهادئ، جنوباً، ومن مدينة ليموج غرباً إلى بلدة أورنان شرقاً، سيعي جمهور هذه التظاهرة الضخمة والفريدة من نوعها أن فرنسا لم تُسمَّ "بلد الأنوار" بسبب فلاسفتها الإنسانويين فقط، بل أيضاً بسبب رساميها الانطباعيين الذين أشعلوا هذه الأنوار داخل لوحاتهم. أنوار شروق الشمس وغروبها، أنوار مختلف ساعات النهار والليل، وفصول الطبيعة، التي استسلمت لعبقريتهم في التقاط بريقها وانعكاساتها؛ وأيضاً الأنوار التي سلّطوها على واقع حقبتهم، على الموضات والأخلاق الجديدة، وعلى كدّ العمّال ولهو البورجوازيين في عاصمة أعادت ابتكار نفسها، وفي سائر المدن والبلدات والقرى الفرنسية التي كانت تشهد تحوّلات عميقة.
تعقّب هؤلاء الرسامون، بمساندهم النقّالة وأصباغهم ورِيَشِهم، الموضوعات الجديدة، من القطارات المدخّنة إلى عاملات الكيّ المنهكات، وأعادوا النظر في مواضيع قديمة بلمستهم الحيوية الجديدة، ورسموا العري من دون اللجوء إلى حجّة الأسطورة، وصوّروا مشاهد لا تعود بمراجعها إلى التاريخ القديم، بل تشهد على التاريخ الذي كان يُكتَب في زمنهم. أنوار عرفت كيف تمسك بتحولات الأيام وطفرات القرون، وبلغ إشعاعها حداً جعلها تتنبّأ وتفتح الطريق لكل الحداثات القادمة، من التعبيرية إلى التجريدية.