الميتا سرد والنزوحُ نحو التجريب في مجموعة «أنشوطة المطر»
رشيد أمديون
0
يعدُّ الإصدار القصصي «أنشوطةُ المطر»، منجزا إبداعيا جديدا فاز في مسابقة «رونق المغرب» للقصة القصيرة 2018، ويُبين تجربة تحاذي التجربة القصصية الحديثة التي تساهم في تطوير القصة القصيرة المغربية، وتنحو منحى التجريب والتحديث والتأصيل، بحثا عن التميز الفني والجمالي، من خلال تمثُّلِ تقنيات سردية جديدة أحدثت تحولا جَذريا في مفهوم الكتابة السردية. حيث صار الشكل مركز العناية والاشتغال، ولم يعد مجرد وعاء لمضمون، أو «مجرد ناسخ يُوهم بنقل الواقع وقول الحقيقة».
ومن هذا المنطلق تهدف هذه الورقة إلى الإشارة إلى «الميتا سرد» داخل قصص «أنشوطة المطر»، باعتبار هذه التقنية مظهرا من مظاهر التجريب والتجديد.
مفهوم الميتا سرد
الميتا سرد أو الميتا قص أو ما وراء السرد، هو نمطٌ فني في الكتابة القصصية والروائية. يعطي الحق للقصة أن تتحدث عن ذاتها وتنشغل بتركيب بنيتها الفنية. وقد عرَّفهُ ويليام غاس بأنه «القص الذي يجذب الانتباه إلى نفسه، كونه صنعة ليطرح أسئلة عن العلاقة بين القص والواقع». والميتا سرد هو وجود إبداعي متخيل، يرصد عوالم الكتابة الحقيقية والافتراضية والتخيُّلية، ويكشف عن العملية الإبداعية داخل القصة، ويؤشر إلى صعوبات الحرفة السردية، من خلال إبراز الانشغالات والهواجس الشعورية واللاشعورية للكتاب والمؤلفين السراد وما يواجههم من مشاكل وعقبات. كما يصف العملية الإبداعية نظرية ونقدا أو كل ما يخص ويتعلق بالكتابة الإبداعية. وقد أشار ديفيد لودج في كتابه «الفن الروائي» إلى أن تقنية الميتا سرد: «هي قصة عن القصة: روايات وقصص تلفت الانتباه إلى وضعها الخيالي وإلى وقائع تأليفها». كما يعدُّ الميتا سرد «كتابة نرجسية.. تقوم على التمركز الذاتي» أي أنه سرد مكتفٍ بذاته.
وقد اهتم به الأدب والنقد الحديث الغربي والعربي.. فصار «من أهم مميزات القصة المغربية الحديثة» التي تبحث عن التميز الفني والجمالي عبر التوسل بأدوات مهمة في تجديد المتخيل وتطويره وتحويره لأنها لا تسعى إلى استنساخ الواقع، بل تعمل على استنطاقه ووضعه موضوع تساؤل، من خلال تقنيات عديدة منها الميتا سرد. والله
تمظهرات الميتا سرد في نصوص «أنشوطة المطر»
استثمر القاص عماد شوقي الميتا سرد، ووظفه في العديد من نصوص قصص «أنشوطة المطر» التي بلغت ثلاثَ عَشرَة قصةً قصيرة. فنلاحظ بداية من القصة الأولى «انحباس»، أنها تميل نحو الانزياح عن معايير السرد الكلاسيكي، لاعتمادها على سارد يرصد شخصية النص، وهو على وعي تام بموقعه ورؤيته السردية في القصة، حيث يقول: «تأسفت للترقية التي تلقيتها أخيرا، كنت ساردا أرى من الخارج ثم ساردا مصاحبا.. وهذه أولُ قصة أسردها من الخلف»، وهذا التعليق المفسِّر، يُبرز دوره الوظيفي كسارد عليم يصرح بوجوده في القصة في قوله: «فكدت أقع من المصباح الذي اختبأت فيه كي أسرد هذه القصة». كما أنه يظهر بصفة المتطفل والمتلصص على الشخصية، يقول: «كادت شهقتي هنا تفضح وجودي، وأنا أتطلع على ما لا يمكن نقله إليك أيها القارئ»، وعليه، يكون هذا السارد حريصا على إقناع القارئ، بأن العمل الذي يقرأه هو قصة متخيلة، محددا ذلك بقوله: «حين وقعت عقد العمل في هذه القصة». كما يؤكد أن وظيفته السردية مهمة، لهذا فهو يفكر أن يطالب بحقوقه من الكاتب، فيقول: «لذلك أفكر جديا في تأسيس نقابة للساردين فنحن من يتعب ثم يحظى الكتاب بالتوقيعات والصور والمعجبات». وهذا التعليق يدل على تمرده على الكاتب، فيتمظهر وجوده في النص كفعلٍ لغوي أو فكرةٍ في الذهن، يقول: «فأنا مجرد فكرة في ذهن النظرية». هذا السارد/الفكرة يتحكم في خط سير القصة، حيث برز ذلك أيضا في قوله: «لم أحمل الشخصية على محمل الحكاية قلت هي قصة عن الاحتباس العاطفي».
وإن هذا الشكل من السرد ينفي الإيهام بالواقعية عكس القصة التقليدية. وهو نفسه ما نجده في قصة «قطار الصدفة»، حيث أن الكاتب ينفي واقعية القصة (أو الإيهام بالواقع) عبر طرح سؤال يستحضرُ ضمنَهُ القارئَ، يقول: «كنت أفكر كيف لمثل هذه القصة أن تنتهي لو كان أبطالها حقيقيين». وغاية هذا السؤال، هو إشراك القارئ في عملية التخييل لصياغة نهاية مناسبة للقصة، تفتح أفاقا دلالية واحتمالية. فالسارد وضع القارئَ في سياق المواجهة مع نص غير تام، تاركا له حرية اختيار النهاية، معتبرا القارئَ أحد المكونات الأساسية في عملية الإبداع الأدبي وصناعة المعنى والتأويل. وهو ما تدعو إليه نظرية القراءة التي تُعنى بالقارئ، خاصة مع الاتجاه الألماني المتمثل في فولفغانغ إيزر، في كتابه «فعل القراءة (نظريةُ جمالية التجاوب)»، حيث يذهب إيزر إلى أن الكاتبَ يجعلُ خيالَ القارئ يشتغلُ مثلما يشتغلُ خيالُه، وليس أمام المؤلف والقارئ، إلا أن يشتركا في لعبة الخيال.. وتبدأ متعة القارئ عندما يُصبح هو نفسُه منتجا، أي عندما يسمح النصُّ له بأن يأخذ ملكاته الخاصة بعين الاعتبار.
أن يشتركا في لعبة الخيال.. وتبدأ متعة القارئ عندما يُصبح هو نفسُه منتجا، أي عندما يسمح النصُّ له بأن يأخذ ملكاته الخاصة بعين الاعتبار.
أما في قصة «أنشوطة المطر» فقد اهتم الكاتب بالبناء الميتا سردي، فاحتل أغلب فضائها السردي. فرصد عوالمَ الكتابة وطقوسَها، ومعاناة اختيار عنوان مناسب على المستوى المعنوي والدلالي، وهمَّ التفكير في بنية القصة المتخيلة أو الميتا سردية، التي لا تنفصل عن الواقع السردي للبطل السارد الذي ابتدأت القصة معه بتشخيص الصراع بين الذات والمحيط. وقد أبرزت هذه اللعبة الميتا سردية أن التفكير في القصة وحَدَثِها، ينطلق من همٍّ ذاتي وهو التفكير في عالم منسجم تتداعى أبعادُه على شكل فضاء نصي (أي ميتا سردي) تقمص فيه دورَ شخصية كاتب في فندق فخم، كي يُعبّر عن طموحات ذاتية وما يرتضيه وما يحلم أن يكون عليه. إذ هي محاولةٌ للتخييل وعدم الالتزام بالواقع أثناء صياغة المتخيل الميتا سردي، غير أنه فشل قائلا: «لقد فشلت مجددا في كتابة قصة.. قبل قليل كان الحَساءُ كوبَ شكولاته، وركبتاي مكتبا، وقلمي الرخيصُ فاخرا، والشمعةُ مدفأة، وكنت أنا كاتبا كبيرا.. والكوخُ غرفةَ فندق..». وهذه البنية الميتا سردية شكَّلت فضاءً يتماثل فيه الوعي الذاتي للسارد، فهو واع بحقيقة مستوى بؤسه الاجتماعي، ومهما ترفَّع عن الواقع باختفائه خلف شخصية الكاتب الميتا سردية (القناع)، فإن فَاعلية المنطقة السَّيكولوجية (أي اللاشعور) أثناء الكتابة، أعادته إلى صياغة واقعه الحقيقي، في قصة «ارتعاش» (الميتا سردية) التي تُحاكي صورة السادر طبق الأصل، فانتفض من داخل النص الميتا سردي قائلا: «أفكر في التخلص من نص «ارتعاش» وكتابة قصة أخرى»، وهذا راجع لكون وعيه يرفض الالتزام بالواقع، على اعتبار أن الكتابة الجديدة تفجيرٌ للخيال والرؤيا.. لهذا قال: «لقد فشلت مجددا في كتابة قصة». وهذا الاعتراف بالفشل لقارئه الافتراضي، يتضمن رغبة في كتابة قصة تُكسر النمط المألوف وتُدهش القارئ، حيث يقول: «هذا ما يريد القارئُ الابتعادَ عن المألوف وصناعةَ الدهشة وخرقَ أفق الانتظار».وفي هذه القصة يجدُ القارئُ نفسَه وسط العلاقة الجدلية بين الواقعي والمتخيل. فالملاحظ أن الواقعي في حياة السارد تداخل مع المتخيل في الميتا سرد، هذا لأن السارد يبحث عن الوحدة والانسجام الذاتي في عالمه الواقعي. فهو يعيش صراعا وجوديا ومعاناة داخلية ناتجة عن نظرته للعالم التي لخصها في قوله: «إن الكون بدأ يفقد انسجامه، أنه ليس بخير». فإذا كان عالمه الداخلي ينشد تحقيق الوحدة والانسجام، فالعالم الخارجي قائم على العبثية والتشتت والتشظي، لهذا ففشله في كتابة قصةٍ تصوغ الواقع عالما متخيلا منسجما غير متشظ، جعله ينظرُ في دفتره ليرسمَ حبلَ أنشوطة يتدلى من غيمة على شكل مشنقة. وهي دلالة رمزية تُحيل على فكرة الانتحار، الدافع إليها هو انكار المعنى داخل واقعه العبثي الذي يواجه تمثلاته الوجودية بالتناقض، سواء في واقعه أو في متخيَّله. إن هذه النزعة العبثية والوجودية التي تتساوق مع الكتابة التجريبية الحديثة، نجدها أيضا في قصة «سيزيف يتقاعد» التي صوَّرت – بإيجاز -الصراع العبثي في حياة رجلِ تعليم، (قبل التعيين إلى ما بعد التقاعد)، حيث ألمَّ به الشعور باللاجدوى. وقد اعتمدت هذه القصة، كذلك، على التداخل الميتا سردي، وذلك بقطع الخط السردي والدخول في نقاش يُمثل طرَفيه الكاتبُ والساردُ، فأخذ شكل تنبيه وتعقيب وتوضيح، نقرأ مثلا: «تنبيه من الكاتب إلى السارد: المرجو من السيد السارد الالتزام بخط السرد الذي تعاقدت معه للسير فيه». ما أضاف هذا النقاشُ، إلى النص توضيحات كسرت البنية المألوفة للقصة، بفضح ذاتها عبر نقاش تفاصيلها البنائية. نقرأ: «تصحيح من الكاتب: لكنك تحكي مقاطع من سيرتي.. وهناك كلام ينبغي أن لا تقرأه زوجتي». إن احتجاج المؤلف/الكاتب على الساردِ عبْر التنبيه والتصحيح، جعل وعيَه الذاتي يتمظهر، وذلك بوصفه الشخصية التي يحكي عنها الساردُ بضمير الغائب، فانكشفت اللعبةُ السردية عبر هذا الخطاب الميتا سردي الذي أبرزَ أحدَ وظائفِه النقدية على لسان السارد، وهي إزعاجُ القارئِ وكسرُ القواعدِ المألوفة للسرد، يقول: «الحكي بضمير الأنا يسعد القراء ويزعج النظريات ليس إلا.. أما أنا فأريد أن أزعج القراءَ وأربك النظريات». وإزعاجُ القارئ وإرباكُ النظريات، هو ما يدعو إليه الاتجاه التجريبي في السرد، عبر الخطاب الميتا سردي وغيرِه من التقنياتِ الحديثة، التي صارت من خصائص القصة التجريبية المغربية.
ومن القصص الأخرى التي يتداخل فيها السردُ مع الميتا سرد، نجد: السر/ الأبله واللّوامة ورجل المرحاض/ سرير اللذاذة / أمرؤ «الـ face» / حافلة الخط رقم 9 / قبلة وفنجان قهوة.فنلاحظ أن جُلَّ القصص تمَّ فيها توظيف الميتا سرد، ما يدل على أن هذه التقنية ساهمت في إغناء وإثراء المتخيل السردي للنصوص، كما رصدت عوالمَها، وأدَّت إلى تكسير الإيهام بالواقعية، وجعلت المتخيَّلَ حقيقة والحقيقةَ متخيَّلا، وأشركت المتلقي والقارئَ في بناء اللعبة السردية، لأهمية دوره في عملية الإبداع، كطرف مشارك ومنتجٍ للمعنى، ومتمٍ للنص الذي لا يُصبح له كيان حقيقي إلا به.
خاتمة
إن قصصَ «أنشوطة المطر» يتميز فيها الميتا سرد، بكونه يتِمُّ من خلال الوعي الذاتي الذي ينطلق منه القاص عماد شوقي في إنتاجه القصصي. فهذا العملُ يُعطينا إنتاجا مزدوجا يُدْمَجُ فيه إبدَاعُ القصة بنقدها، أي انتقالٌ من القصة إلى الميتا قصة، لبناء متخيل سردي يشتغلُ على التناص والأسطورة والرمز والحلم وأسلوب السخرية والتهكم وتقنيةِ الاسترجاع والحوار والمونولوج.. وبهذا فإن «أنشوطة المطر» تسير في مسار القصة التجريبية، التي تتخذُ الكتابة مغامرةً تُحقق من خلالها بحثَها الدائم والمتواصل عن الجديد والمدهش، وعما يُحقق نوعيتها كخطاب أدبي دائم الانفتاح والتحول، يساير تحولات العالم المعاصر الذي تتمظهر فيه رؤى ناتجة عن قلق وجودي ووعي إنساني بالمأزق الأخلاقي والمظالم المتأصلة في النظام الذي يُهيكل المجتمع… فالكاتب يمارس السؤال والشك والبحث (والنقد). فتعكس نصوصه التناقض والانقسام والتعدد والاضطراب، وتستنطق الذاتية المهزومة المغلوبة على أمرها.
رشيد أمديون
0
يعدُّ الإصدار القصصي «أنشوطةُ المطر»، منجزا إبداعيا جديدا فاز في مسابقة «رونق المغرب» للقصة القصيرة 2018، ويُبين تجربة تحاذي التجربة القصصية الحديثة التي تساهم في تطوير القصة القصيرة المغربية، وتنحو منحى التجريب والتحديث والتأصيل، بحثا عن التميز الفني والجمالي، من خلال تمثُّلِ تقنيات سردية جديدة أحدثت تحولا جَذريا في مفهوم الكتابة السردية. حيث صار الشكل مركز العناية والاشتغال، ولم يعد مجرد وعاء لمضمون، أو «مجرد ناسخ يُوهم بنقل الواقع وقول الحقيقة».
ومن هذا المنطلق تهدف هذه الورقة إلى الإشارة إلى «الميتا سرد» داخل قصص «أنشوطة المطر»، باعتبار هذه التقنية مظهرا من مظاهر التجريب والتجديد.
مفهوم الميتا سرد
الميتا سرد أو الميتا قص أو ما وراء السرد، هو نمطٌ فني في الكتابة القصصية والروائية. يعطي الحق للقصة أن تتحدث عن ذاتها وتنشغل بتركيب بنيتها الفنية. وقد عرَّفهُ ويليام غاس بأنه «القص الذي يجذب الانتباه إلى نفسه، كونه صنعة ليطرح أسئلة عن العلاقة بين القص والواقع». والميتا سرد هو وجود إبداعي متخيل، يرصد عوالم الكتابة الحقيقية والافتراضية والتخيُّلية، ويكشف عن العملية الإبداعية داخل القصة، ويؤشر إلى صعوبات الحرفة السردية، من خلال إبراز الانشغالات والهواجس الشعورية واللاشعورية للكتاب والمؤلفين السراد وما يواجههم من مشاكل وعقبات. كما يصف العملية الإبداعية نظرية ونقدا أو كل ما يخص ويتعلق بالكتابة الإبداعية. وقد أشار ديفيد لودج في كتابه «الفن الروائي» إلى أن تقنية الميتا سرد: «هي قصة عن القصة: روايات وقصص تلفت الانتباه إلى وضعها الخيالي وإلى وقائع تأليفها». كما يعدُّ الميتا سرد «كتابة نرجسية.. تقوم على التمركز الذاتي» أي أنه سرد مكتفٍ بذاته.
وقد اهتم به الأدب والنقد الحديث الغربي والعربي.. فصار «من أهم مميزات القصة المغربية الحديثة» التي تبحث عن التميز الفني والجمالي عبر التوسل بأدوات مهمة في تجديد المتخيل وتطويره وتحويره لأنها لا تسعى إلى استنساخ الواقع، بل تعمل على استنطاقه ووضعه موضوع تساؤل، من خلال تقنيات عديدة منها الميتا سرد. والله
تمظهرات الميتا سرد في نصوص «أنشوطة المطر»
استثمر القاص عماد شوقي الميتا سرد، ووظفه في العديد من نصوص قصص «أنشوطة المطر» التي بلغت ثلاثَ عَشرَة قصةً قصيرة. فنلاحظ بداية من القصة الأولى «انحباس»، أنها تميل نحو الانزياح عن معايير السرد الكلاسيكي، لاعتمادها على سارد يرصد شخصية النص، وهو على وعي تام بموقعه ورؤيته السردية في القصة، حيث يقول: «تأسفت للترقية التي تلقيتها أخيرا، كنت ساردا أرى من الخارج ثم ساردا مصاحبا.. وهذه أولُ قصة أسردها من الخلف»، وهذا التعليق المفسِّر، يُبرز دوره الوظيفي كسارد عليم يصرح بوجوده في القصة في قوله: «فكدت أقع من المصباح الذي اختبأت فيه كي أسرد هذه القصة». كما أنه يظهر بصفة المتطفل والمتلصص على الشخصية، يقول: «كادت شهقتي هنا تفضح وجودي، وأنا أتطلع على ما لا يمكن نقله إليك أيها القارئ»، وعليه، يكون هذا السارد حريصا على إقناع القارئ، بأن العمل الذي يقرأه هو قصة متخيلة، محددا ذلك بقوله: «حين وقعت عقد العمل في هذه القصة». كما يؤكد أن وظيفته السردية مهمة، لهذا فهو يفكر أن يطالب بحقوقه من الكاتب، فيقول: «لذلك أفكر جديا في تأسيس نقابة للساردين فنحن من يتعب ثم يحظى الكتاب بالتوقيعات والصور والمعجبات». وهذا التعليق يدل على تمرده على الكاتب، فيتمظهر وجوده في النص كفعلٍ لغوي أو فكرةٍ في الذهن، يقول: «فأنا مجرد فكرة في ذهن النظرية». هذا السارد/الفكرة يتحكم في خط سير القصة، حيث برز ذلك أيضا في قوله: «لم أحمل الشخصية على محمل الحكاية قلت هي قصة عن الاحتباس العاطفي».
وإن هذا الشكل من السرد ينفي الإيهام بالواقعية عكس القصة التقليدية. وهو نفسه ما نجده في قصة «قطار الصدفة»، حيث أن الكاتب ينفي واقعية القصة (أو الإيهام بالواقع) عبر طرح سؤال يستحضرُ ضمنَهُ القارئَ، يقول: «كنت أفكر كيف لمثل هذه القصة أن تنتهي لو كان أبطالها حقيقيين». وغاية هذا السؤال، هو إشراك القارئ في عملية التخييل لصياغة نهاية مناسبة للقصة، تفتح أفاقا دلالية واحتمالية. فالسارد وضع القارئَ في سياق المواجهة مع نص غير تام، تاركا له حرية اختيار النهاية، معتبرا القارئَ أحد المكونات الأساسية في عملية الإبداع الأدبي وصناعة المعنى والتأويل. وهو ما تدعو إليه نظرية القراءة التي تُعنى بالقارئ، خاصة مع الاتجاه الألماني المتمثل في فولفغانغ إيزر، في كتابه «فعل القراءة (نظريةُ جمالية التجاوب)»، حيث يذهب إيزر إلى أن الكاتبَ يجعلُ خيالَ القارئ يشتغلُ مثلما يشتغلُ خيالُه، وليس أمام المؤلف والقارئ، إلا أن يشتركا في لعبة الخيال.. وتبدأ متعة القارئ عندما يُصبح هو نفسُه منتجا، أي عندما يسمح النصُّ له بأن يأخذ ملكاته الخاصة بعين الاعتبار.
أن يشتركا في لعبة الخيال.. وتبدأ متعة القارئ عندما يُصبح هو نفسُه منتجا، أي عندما يسمح النصُّ له بأن يأخذ ملكاته الخاصة بعين الاعتبار.
أما في قصة «أنشوطة المطر» فقد اهتم الكاتب بالبناء الميتا سردي، فاحتل أغلب فضائها السردي. فرصد عوالمَ الكتابة وطقوسَها، ومعاناة اختيار عنوان مناسب على المستوى المعنوي والدلالي، وهمَّ التفكير في بنية القصة المتخيلة أو الميتا سردية، التي لا تنفصل عن الواقع السردي للبطل السارد الذي ابتدأت القصة معه بتشخيص الصراع بين الذات والمحيط. وقد أبرزت هذه اللعبة الميتا سردية أن التفكير في القصة وحَدَثِها، ينطلق من همٍّ ذاتي وهو التفكير في عالم منسجم تتداعى أبعادُه على شكل فضاء نصي (أي ميتا سردي) تقمص فيه دورَ شخصية كاتب في فندق فخم، كي يُعبّر عن طموحات ذاتية وما يرتضيه وما يحلم أن يكون عليه. إذ هي محاولةٌ للتخييل وعدم الالتزام بالواقع أثناء صياغة المتخيل الميتا سردي، غير أنه فشل قائلا: «لقد فشلت مجددا في كتابة قصة.. قبل قليل كان الحَساءُ كوبَ شكولاته، وركبتاي مكتبا، وقلمي الرخيصُ فاخرا، والشمعةُ مدفأة، وكنت أنا كاتبا كبيرا.. والكوخُ غرفةَ فندق..». وهذه البنية الميتا سردية شكَّلت فضاءً يتماثل فيه الوعي الذاتي للسارد، فهو واع بحقيقة مستوى بؤسه الاجتماعي، ومهما ترفَّع عن الواقع باختفائه خلف شخصية الكاتب الميتا سردية (القناع)، فإن فَاعلية المنطقة السَّيكولوجية (أي اللاشعور) أثناء الكتابة، أعادته إلى صياغة واقعه الحقيقي، في قصة «ارتعاش» (الميتا سردية) التي تُحاكي صورة السادر طبق الأصل، فانتفض من داخل النص الميتا سردي قائلا: «أفكر في التخلص من نص «ارتعاش» وكتابة قصة أخرى»، وهذا راجع لكون وعيه يرفض الالتزام بالواقع، على اعتبار أن الكتابة الجديدة تفجيرٌ للخيال والرؤيا.. لهذا قال: «لقد فشلت مجددا في كتابة قصة». وهذا الاعتراف بالفشل لقارئه الافتراضي، يتضمن رغبة في كتابة قصة تُكسر النمط المألوف وتُدهش القارئ، حيث يقول: «هذا ما يريد القارئُ الابتعادَ عن المألوف وصناعةَ الدهشة وخرقَ أفق الانتظار».وفي هذه القصة يجدُ القارئُ نفسَه وسط العلاقة الجدلية بين الواقعي والمتخيل. فالملاحظ أن الواقعي في حياة السارد تداخل مع المتخيل في الميتا سرد، هذا لأن السارد يبحث عن الوحدة والانسجام الذاتي في عالمه الواقعي. فهو يعيش صراعا وجوديا ومعاناة داخلية ناتجة عن نظرته للعالم التي لخصها في قوله: «إن الكون بدأ يفقد انسجامه، أنه ليس بخير». فإذا كان عالمه الداخلي ينشد تحقيق الوحدة والانسجام، فالعالم الخارجي قائم على العبثية والتشتت والتشظي، لهذا ففشله في كتابة قصةٍ تصوغ الواقع عالما متخيلا منسجما غير متشظ، جعله ينظرُ في دفتره ليرسمَ حبلَ أنشوطة يتدلى من غيمة على شكل مشنقة. وهي دلالة رمزية تُحيل على فكرة الانتحار، الدافع إليها هو انكار المعنى داخل واقعه العبثي الذي يواجه تمثلاته الوجودية بالتناقض، سواء في واقعه أو في متخيَّله. إن هذه النزعة العبثية والوجودية التي تتساوق مع الكتابة التجريبية الحديثة، نجدها أيضا في قصة «سيزيف يتقاعد» التي صوَّرت – بإيجاز -الصراع العبثي في حياة رجلِ تعليم، (قبل التعيين إلى ما بعد التقاعد)، حيث ألمَّ به الشعور باللاجدوى. وقد اعتمدت هذه القصة، كذلك، على التداخل الميتا سردي، وذلك بقطع الخط السردي والدخول في نقاش يُمثل طرَفيه الكاتبُ والساردُ، فأخذ شكل تنبيه وتعقيب وتوضيح، نقرأ مثلا: «تنبيه من الكاتب إلى السارد: المرجو من السيد السارد الالتزام بخط السرد الذي تعاقدت معه للسير فيه». ما أضاف هذا النقاشُ، إلى النص توضيحات كسرت البنية المألوفة للقصة، بفضح ذاتها عبر نقاش تفاصيلها البنائية. نقرأ: «تصحيح من الكاتب: لكنك تحكي مقاطع من سيرتي.. وهناك كلام ينبغي أن لا تقرأه زوجتي». إن احتجاج المؤلف/الكاتب على الساردِ عبْر التنبيه والتصحيح، جعل وعيَه الذاتي يتمظهر، وذلك بوصفه الشخصية التي يحكي عنها الساردُ بضمير الغائب، فانكشفت اللعبةُ السردية عبر هذا الخطاب الميتا سردي الذي أبرزَ أحدَ وظائفِه النقدية على لسان السارد، وهي إزعاجُ القارئِ وكسرُ القواعدِ المألوفة للسرد، يقول: «الحكي بضمير الأنا يسعد القراء ويزعج النظريات ليس إلا.. أما أنا فأريد أن أزعج القراءَ وأربك النظريات». وإزعاجُ القارئ وإرباكُ النظريات، هو ما يدعو إليه الاتجاه التجريبي في السرد، عبر الخطاب الميتا سردي وغيرِه من التقنياتِ الحديثة، التي صارت من خصائص القصة التجريبية المغربية.
ومن القصص الأخرى التي يتداخل فيها السردُ مع الميتا سرد، نجد: السر/ الأبله واللّوامة ورجل المرحاض/ سرير اللذاذة / أمرؤ «الـ face» / حافلة الخط رقم 9 / قبلة وفنجان قهوة.فنلاحظ أن جُلَّ القصص تمَّ فيها توظيف الميتا سرد، ما يدل على أن هذه التقنية ساهمت في إغناء وإثراء المتخيل السردي للنصوص، كما رصدت عوالمَها، وأدَّت إلى تكسير الإيهام بالواقعية، وجعلت المتخيَّلَ حقيقة والحقيقةَ متخيَّلا، وأشركت المتلقي والقارئَ في بناء اللعبة السردية، لأهمية دوره في عملية الإبداع، كطرف مشارك ومنتجٍ للمعنى، ومتمٍ للنص الذي لا يُصبح له كيان حقيقي إلا به.
خاتمة
إن قصصَ «أنشوطة المطر» يتميز فيها الميتا سرد، بكونه يتِمُّ من خلال الوعي الذاتي الذي ينطلق منه القاص عماد شوقي في إنتاجه القصصي. فهذا العملُ يُعطينا إنتاجا مزدوجا يُدْمَجُ فيه إبدَاعُ القصة بنقدها، أي انتقالٌ من القصة إلى الميتا قصة، لبناء متخيل سردي يشتغلُ على التناص والأسطورة والرمز والحلم وأسلوب السخرية والتهكم وتقنيةِ الاسترجاع والحوار والمونولوج.. وبهذا فإن «أنشوطة المطر» تسير في مسار القصة التجريبية، التي تتخذُ الكتابة مغامرةً تُحقق من خلالها بحثَها الدائم والمتواصل عن الجديد والمدهش، وعما يُحقق نوعيتها كخطاب أدبي دائم الانفتاح والتحول، يساير تحولات العالم المعاصر الذي تتمظهر فيه رؤى ناتجة عن قلق وجودي ووعي إنساني بالمأزق الأخلاقي والمظالم المتأصلة في النظام الذي يُهيكل المجتمع… فالكاتب يمارس السؤال والشك والبحث (والنقد). فتعكس نصوصه التناقض والانقسام والتعدد والاضطراب، وتستنطق الذاتية المهزومة المغلوبة على أمرها.