Emad Saodi مثقفو حلب
مما قرأت واعجبني
يمشي ببطئ متكئا على عكازه ، يتجه نحو نحو الباب يبذل جهدا وهو يفتحه بيديه المرتجفتين ثم يغادر المنزل خلسة عن أولاده لعلمه أنهم سيمنعونه من المغادرة
يصل مرهقا لحارة صغيرة فيبتسم بينما تتسارع دقات قلبه فهو مريض قلب ،ويقطر جبينه عرقا فيما يجلس على عتبة باب بيت قديم
يستمتع جدا حينما ينظر الأطفال يلعبون بالحي الذي عاش به سنينا عديدة ، وصنع ذكرياته مع والديه ثم أبنائه وجيرانه وأحبابه ، لطالما تعلقت روحه بجدران الحي البالية وأشجاره المسنة حتى هواء تلك البقعة التي لا يراها الغير سوى حفنة من الاحجار والمنازل القديمة يدخل لرئتيه منعشا لطيفا حنونا حنان الأمهات
لا أحد كان يفهم لما يتكبد عناء الذهاب إلى هناك رغم أن بيته الجديد أوسع وأجمل وأرقى ، ورغم أن كل الوجوه بذلك الحي تغيرت ، وأن الأحباب ماتوا وغادروا وتشتتوا ، لكنه الوحيد الذي يحس في ذلك المكان بالإنتماء
ربما لم يكن الدافع لجلوسه طويلا على عتبة الباب هو الإنتماء ، ربما هو الشوق لمن فارق الحياة ولم يفارق قلبه ، ولمن فارق البلاد ولم يفارق مخيلته ، ولمن فارق الحب ولم يفارق فؤاده
هؤلاء الكبار يملكون قلوبا أرق من قلوب العصافير ، هم بعد أن عاشوا الحياة كما نعيشها نحن الآن وبذلوا قصارى جهدهم في بناء البيوت وتوفير القوت وتربية الأبناء ثم انتهوا من عيشها وكبر الأبناء وتفرقوا و علموا بعدها يقينا أنهم عاشوا لهدف ليسوا ببالغيه وأن ما كانوا يحاولون جمعه طويلا تفرقت أواصره ، فبعد أن علموا أنهم تعلقوا بزائل أصبحوا يعيشون الماضي ، يقتاتون من ذكرياتهم ، ولا شيء يسعدهم كالحديث عن ذكرياتهم مع الاموات ، يعيشون في صراع مع أنفسهم ، يرقبون إتصالا من عزيز تارة وينتظرون عودة مغرب تارة أخرى وبين كل انتظار وانتظار يتجرعون مرارة الخيبة ببطء
مات منذ مدة ، رحمة الله عليه
لا يزال صدى خطواته البطيئة يتردد في الأثير ، ولا تزال روحه الطيبة تمد جدران الحارة وعتبة الباب بالدفء والحب والأمل ، ولا تزال كل أحجار الديار والبيوت البالية والأزهار والأشجار تذكره وتستغفر له ، كل ما نسميه جماد ، هو ليس جمادا في الحقيقة بل إن للأشياء روحا وحسا وطاقة تمنحها لمن يحبها حتى يستأنس بها أكثر من بعض البشر ، الإنسان هو الجماد المطلق
ثم في هدوء الأشجار والحي القديم وعتبة الباب القديمة ، اقتربت خطوات أقدام متثاقلة ، وارتفع صوت دقات قلب إرتجف شوقا وهو يقترب من عتبة الباب ، جلس بنفس المكان ، وبنفس الهيئة متنهدا ( ليتني رافقتك الى هنا بدل أن أمنعك من المجيء يا أبي ) .