تأملات في أساطير «مرتضى حداد»

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تأملات في أساطير «مرتضى حداد»

    معارض صفحة الفن والنقد التشكيلي
    المعرض التاسع والخمسون
    الفنان د. مرتضى حداد
    بوست رقم 2

    تأملات في أساطير «مرتضى حداد»
    د. زهير صاحب

    زرت (استوديو) النحات العراقي (مرتضى حداد)، صيف هذا العام ۲۰۱۹ ، فادهشني ضخامة النتاج الفني الذي أبدعه وعشقت الكثير من تلك الإبداعات التي ازدحمت على رفوف ذلك المحترف التي تستحق أن تعرض للشعب العراقي في متحف جميل، لعلاج أزمة الفن) التي نعاني من ارهاصاتها في الوقت الحاضر. لذلك تكمن (ريادة) (مرتضى حداد في خاصية (العطاء) الذي يوجد التأثير والحق فقد درب النحات نفسه وملأها وحررها من أجل العطاء، وكأنه كأس لا قرارة لها في امتلاء مستمر وطفح مستمر.

    إن بعض المركبات المعدنية. إذا تم تركيبها بنسب معينة تصنع ذهباً مستعاراً، غير إن الذهب المستعار يحول لونه، أما الذهب الصافي فهو صاف قبل كل شيء. وذلك ما تشعر به نحو أساطين الفن الكبار. و (مرتضى حداد واحد من أولئك الأساطين، إنه اسطورة في أصعب مناطق الإبداع صعوبة، ألا وهي خاصية التفرد كونه الباعث الذي يفعل تلفظ الأسطورة، ففنه العظيم يبغي الانعتاق من حالة البشرية، ليتمتع بصفة الأبدية. ومن هنا اكتسب مبدعنا الكبير هالته الأسطورية في حراك النحت العراقي المعاصر، وهو أهل لها دون ريب، فلا شيء يستطيع أن يحل محل بداهته وحدوسه تلك هي خاصية التشكيل الإبداعي في الفن، إنها ذات مظاهر وخصوصيات فردية وتفرد على مر التاريخ، بنوع من النزعة غير التسجيلية، التي سعت في منظومة أشكاله، إلى اختزال الظواهر المرئية. لتأكيد استقلالية الأشكال الخالصة إنها رؤية (فناننا) المبدعة، وهي تفرض نظاماً على أشكاله، متوصلة إلى أسلوب اتاح له مزيداً من الحرية للإيفاء بحاجاته الداخلية، وتأويل ما لا يحصى من انفعالاته النفسية. ذلك أن تعبيريته) تعكزت على إعادة بناء الوجود في حالته السرية، فلم تعد لدلالة الظواهر في تشكيلاته، إلا بقدر تحولاتها لتعكس حالة انسانية سعيدة.

    إن أزمة النحت العراقي المعاصر، ليست بالتحرر من التاريخ، إنما هي أزمة (الحالة) التي يجب أن يتعامل بها مع التأريخ، فنحن نؤمن بأن ضاغطات حياتنا المعاصرة تسهم بدور أساسي في (توليد) الأعمال الفنية إلا أن كل عصر، يطرح قضايا، على الإنسان، وبوسعه أن يقدم إجاباته عليها، إذا كان خلاقاً، ومع أن (جواد سليم) قال: «إن نوعية المبدع تتوقف على كمية الماضي التي يحملها في جنباته، فأنه كان يرى الإبداع بمثابة الهروب من التأريخ ومن وطأة الزمن مع الإيمان في الوقت ذاته، بصدق تلك الأشكال في التعبير عن تأريخها، مما جعله يتأمل التاريخ كسلسلة من التطور. إنه نهاية عالم جديد وبدايته في الأوان نفسه.

    واعتقد إن (حداد) مثل (جواد) سليم عرف كيف يقرأ قوانين عصرنا (المتشظية) بلغته الخاصة، فكل منجز من إبداعاته، لا يعد نقطة وصول. إذ يولد شيء جديد مع كل من تشكيلاته الإبداعية، وتتزايد قدراته على التجديد، حتى أن اعماله الأخيرة، تعد أكثر أشكاله حداثة وأشدها خروجاً عن المألوف في متحفه الضخم.

    حمل (نحاتنا الكبير في ذهنيته ثقافة الفكر الإنساني السابقة له. أما حاضره، فكائن في تواجد عصره في كيانه. فقد عرف لعبة الحداثة بأنها تكمن في استقدام الماضي الى (ميكانيزمات) الفهم المعاصر، وليس بالذهاب إليه فشيد (الواحه النذرية باستقدام المنظومات الصورية الكامنة في خبرته المعرفية، ليؤسس منها سطوح تعبيرية، تتكون من عناصر شكلية انتظمت بأنساق خاصة فتحولت تشكيلاته بفعل تأويلاته الإبداعية. من أنساق شكلية ذات دلالات محددة في زمانها الى بنيات نسقية خاصة اكتسبت دلالاتها المتشظية من علائقها الداخلية كل منها بالآخر بنوع من الخبرة التي نسجت الحياة والفن والتمثيل والإعمام والتصميم في نسيج واحد وبفعل إنكماش التعبير في منظومة سطوحه النحتية على إحساساته الداخلية التي تجاهلت العوالم الخارجية برز نوع من القصدية الواعية المستندة الى خبرته الكبيرة، في تحطيم الأشكال الواقعية للصور، بغية التغلغل بما هو انفعالي، لكشف مشكلات الذات الإنسانية المعذبة. إذ يمكننا رصد نوعاً من النزعة العاطفية، وهي ترجح خطاب ذاته على حساب الواقع. وذلك يبرز في وعورة جيولوجيا سطوحه النحتية، وتفاوت مستوياتها وحدة تقاطع منظوماته الخطية وتفاوت مستوياتها بين المتموج والمستوي، فما بين ارتفاع وانخفاض برز خطاب ذاته على حساب الواقع، وفي ذلك نوع من الجدل بين الحسي والحدسي لتجاوز معايير الصور المرئية، إنها بمثابة الإنطلاق الى إبصارات أبعد مدى.

    حين نقيم فهماً لتاريخ النحت بدلالة الفن وليس العكس، يكون (مرتضى حداد قد قدم للإنسانية والذائقية الجمالية المعاصرة في منظومة (بورتريتاته الجميلة، فهماً للفن من خلال الفن ذاته. إذ يمكننا أن نراقب فيها المزاوجة بين التجريد والتمثيل، سعياً لبناء عالم متحرك بين طرفي المعادلة، ففي حالة التجريد استحضر ملامح وجوه (موديلاته). وفي حالة تمثله للشخصيات كان يراها بعين تجريدية. وتظهر لنا الغاية العدمية هنا، في نفي ما يمكن تحقيقه، أو إلغاء ما هو قائم الوجود سواء في مجال التجريد أو التمثيل، فما هو استنطاق للتجريد عنده كان إخراساً للتمثيل.

    لذلك فأن تماثيل فناننا الكبير، أشكال قائمة في الفضاء لها ألوان وتماسك. ولكن ليس فيها بذرة ولا قشرة ولا سوابق، ولا حتى أوهى الاقترانات، إذ ولدت كأشكال مكتفية بذاتها، ولا تمثل سوى ذاتها. إنها ملأى بالإيهامات، وبأسرارها الخاصة بمعانها الخفية، ذلك الغموض الضروري الذي يؤلف جزءاً من اللغز الكلي في أي عمل إبداعي. وكأن الفكرة كانت بمثابة النحت في الهواء، وإن فناً كهذا يبدو قريباً من السحر، ولكنه ليس سحراً.

    ولم يكن لذلك الوهم الأسطوري لتلك الصور الأسطورية أن تتحول الى فن لو لم تكن متعكزة على قدرة (فناننا الكبير) الإبداعية. ذلك إن إعمامه الرمزي في تحويل المفاهيم الى رموز والتجريدات الذهنية الى صور فنية، قد جعل تلك الصور الأسطورية فناً أسطورياً في منحوتاته. إنه ينظم عالماً دون تناقضات، كونه عالماً ممتداً بالبداهة، ليشكل وجوداً سعيداً. فالفن عنده كالمعرفة الصوفية، معرفة خاصة جداً. ومشيدة على التجربة الذاتية، إذ أصبح (الموضوع عنده محض، وسيلة الإبداع علاقات شكلية تجريدية، بفعل اهتمامه بداخلية الأشياء والظواهر العميقة. إنه تشفير رمزي يؤطر ما هو زائل بإطاره الأبدي الخالد.

    وآخر القول: أدرك (مرتضى حداد أنه على عتبة عصر روحاني جديد، وإنه عن طريق التعبير عن رؤاه الروحية، فإن باستطاعته إيضاح الأفكار المتخفية في أحشاء أساطيره المسطرة حجر على حجر. فإذا ما قدر للفن أن يعبر عن الروح، فإن على الفنان أن يتحرر من (ماديته)، لأن في استطاعة الخطوط والأشكال الهندسية أن تبوح عن خصائص روحية واضحة المعالم باستطاعتها إستثارة حواسنا، بل والولوج الى لب نفوسنا المتعبة، وذلك هو علاج (مرتضى) المقترح الذي قدمه للشعب العراقي
يعمل...
X