جواد سليم وتخطيطاته الصغيرة الملونة
يستعرض نصي هذا في المقام الأول، رسم تخطيطي لجواد سليم، (الصورة رقم 1) تم تنفيذه ما بين عامي ١٩٥٤- ١٩٥٥، وذلك من حيث اعتباره اساسياً من عدة أوجه لدراسة الأعمال التخطيطية الأخرى، يظهر في هذا التخطيط تلاحم بين معالجات تقنية وأسلوبية متنوعة، حيث يبرز بشكل ممتاز اعتماده نزعة انتقائية/ توفيقية، تتجاوب فيها مؤثرات فنية متنوعة من التراث السومري والإسلامي، بالإضافة إلى لمسات من الفن الشعبي المحلي ورسوم الأطفال والكتابة اليدوية.
في هذا التخطيط الملون، الذي يعتمد على التكوين الديناميكي، من جهة إيجاد انطباع بالحركة خلال توزيع المفردات وتنوع اتجاهاتها، على الرغم من أن المفردات ذاتها تظهر بشكل ساكن إلى حد ما. ويتجلى التفاعل الديناميكي أيضاً في تقنية صياغة الخطوط الداخلية والخارجية، حيث تندمج التفاصيل والإنشاء العام بشكل متناغم داخل تدفق خطي حر يظهر على الأخص في الخطوط الصفراء المحيطة بمفردات العمل.
وتشكل التنويعات الخطية من حيث رقة الخطوط الخارجية في آن، وخشونتها وسماكتها في آن آخر، قيمة مضافة وهامة في هذا العمل. مقابل ذلك، يضع الفنان في أعلى وأسفل الصورة صياغات خطية لجمل من كلمات مموهة كما لو أن يداً لاهية خطتها.
وتبدو بعض المفردات مترعة برقتها، في حين بدت الأخرى خشنة سميكة وصلبة، إجترحتها عجالة يد الفنان التي راح بها يحور ويختزل شخوصه وأشكاله الأخرى إلى مجرد خطوط هندسية أساسية تذكر بحركة حروف عربية أو علامات خطية تجريدية بسيطة.
ويبدو الكائن المركب في هذا التخطيط، وهو هنا مزيج من رأس إنسان وجسم ثور مرسوماً بخطوط خارجية سوداء صارمة، ومحاطاً بين هلالين، أحدهما على اليمين ويعطي انطباعاً بأنه قرن، والثاني على اليسار ويعطي انطباعاً بأنه ذيل، وعدا هذا فإن هذين الشكلين الهلاليين منحا شعوراً بوجود جزء من العمل يقوم على مبدأ التناظر او التقابل في التكوين العام للصورة. ويقع هذا الكائن المركب في موقع مركزي داخل المشهد من حيث الأهمية. ويمكن اعتبار هذا الخيار التكويني في تعزيز اهمية هذه المفردة ومركزيتها من ضمن سياق خضوع جواد سليم الى تأثيرات الاسلوب السومري، الذي يضع مفرداته داخل نظام من التراتبية خاضع إلى درجة الأهمية، بحيث تتموضع تلك المفردات الاقل اهمية حول المفردة الأساسية أو تبدو بالمقارنة مع المفردة الاساسية منفذة بمستوى أقل من حيث دقة الصياغة أو اختيار الحجوم.
ويتكرر شكل مفردة الهلال عموماً في أماكن أخرى من هذا العمل، حيث يلعب أدواراً عدة، فهو تارة يبدو عنصراً مقروءاً وجزءاً من دلالة شكلية يمكن قراءتها، في حين يبدو تجريدياً وفاعلاً في تنظيم التكوين العام للتخطيط من غير دلالة مقروءة تارة أخرى.
وتتوزع عناصر هذا العمل بشكل يظهر عفوياً على الارضية، دون الاعتماد على منظور جوي يحدد المسافات والأبعاد، ولا تظهر أرض أو سماء بشكل واضح، وتبدو ارضية التخطيط على هيئة سطح مستوٍ، إلا إذا استثنينا رسمة الزهرية. هذه المواصفات، جعلت العمل يقترب كثيراً من فن الرسومات البدائية على الجدران، حيث تتراكم وتتقاطع العناصر، خاصة تلك التي تُنجَز من قبل عدة أفراد على مراحل زمنية مختلفة.
ويتسم هذا العمل بتنوع الأساليب والمعالجات، كما يظهر بوضوح في أسلوب رسم شخصية البنت في الجزء السفلي من التخطيط، حيث يتبنى الفنان نهجاً قريباً جداً من أساليب رسوم الأطفال. بالمقابل، ينجز الفنان صورة الكائن المركب بطريقة هندسية تتماشى مع ما يشبه المدرسة التكعيبية في مرحلتها التصميمية.
ويقترب عمل جواد في الأسلوب وبشكل ملحوظ، من ختم سومري معروف يصوّر وجه الآلهة إنانا، ويظهر ذلك الاقتران الأسلوبي خلال اعتماد الفنان السومري على اشكال مختصرة للاهلة ولوجه الآلهة وتوزيع المفردات كالنجوم وأبواب المعبد والاعمدة على شريط الختم بشكل افقي (الصورة رقم 2)، ويتمثل ذلك ايضاً في وجه زوجة الإله آبو حيث يظهر جواد اهتماماً خاصاً في طريقة تنفيذ عيونها الواسعة من خلال تضمينها في عمله التخطيطي. (الصورة رقم 3). ومما عزز ذلك التأثر ما ذكرته العديد من المصادر عن مرحلة عمله في المتحف العراقي، وما جلبه له من روافد نهل منها الكثير من المدركات الشكلية في سبيل تطوير عمله الفني بشكل عام.
ومن جهة أخرى، تبدو ذات المساعي والحلول الأسلوبية والتكوينية متواجدة في عمل الفنان السويسري بول كلي والمعنون بـ(ألبوم الصور) حيث نجد اهتمامه بشكل الهلال واضح، واستخدامه في تحديد وجه المرأة، وايضاً تموضعه في عدة أماكن من عمله الفني. (الصورة رقم 4)
وكما نرى، فإن جواداً وبول كلي قد اعتمدا على تواشج عناصر المحيط الأرضي من نبات وإنسان وحيوان وجماد على سطح العمل الفني وجمعها داخل قيم إنشائية تظهر من خلالها متساوية في الأهمية.
وتخضع العديد من تخطيطات جواد سليم الاخرى لذات القيم الأسلوبية والتكوينية والمفاهيمية الخاصة بالتخطيط الملون الذي يتناوله هذا النص، كما في الصور رقم 5، 6، 7، 8 حيث نجد إمعان الفنان جواد سليم في اختزال الأشكال الإنسانية والاعتماد على الأشكال الهندسية البسيطة في تنفيذها، كالمثلثات والأشكال اللوزية والدوائر والنقاط والخطوط المستقيمة والمنحنية والزوايا الحادة مع عناصر زخرفية ذات أشكال مختزلة. ولعل إكثار جواد من استخدام شكل الهلال في هذه الأعمال التخطيطية وفي العديد من أعماله الفنية الأخرى، لم يكن بتأثير من الفن الإسلامي فحسب، خصوصاً حين نعلم مدى اهمية هذا الرمز الديني في الحضارة السومرية.
ومهما كانت مفردات ورموز أعمال جواد التخطيطية خاضعة إلى مضامين اجتماعية أو روحية مرتبطة بحياة الناس والمجتمع بشكل عام، كما نطالع ذلك في العديد من الدراسات النقدية، فإنها من منظوري الشخصي، تعبر بالدرجة الأساسية عن اهتمام كبير وعميق بتطوير انساق شكلانية بحتة، تجد في الأشياء والكائنات بكل مرجعياتها ذرائع لإنجاز أعمال تعلي من شأن الأشكال وعوالمها الثرية قبل أي اهتمام أو اعتبار آخر.