نجيب محفوظ أقدم الروائيين ارتباطا بالسينما فهل كانت أمينة لأدبه
محمود قاسم يقارن بين 36 فيلما سينمائيا ونصا أدبيا لمحفوظ.
الجمعة 2024/08/16
ShareWhatsAppTwitterFacebook
مهما قيل إن الفيلم صورة، فهو أيضا قصة وحوار
العلاقة بين أدب نجيب محفوظ والسينما علاقة ممتدة، حتى أنه أكثر الكتاب العرب الذين استلهمت الشاشة الكبيرة أعمالهم. ولكن كما هو شائع فإن استلهام الروايات والقصص أو الاقتباس منها غالبا ما يثير مسألة الأمانة، وهذا ما يناقشه الناقد محمود قاسم في دراسة مقارنة بين الأفلام وأدب محفوظ الذي استلهمته.
خمسون فيلما مأخوذا عن أعمال نجيب محفوظ القصصية والروائية، وما يقرب من خمسة عشر فيلما كتب لها السيناريو والحوار أو شارك في كتابته، وذلك وفقا للفيلموجرافيا التي وضعها الناقد السينمائي محمود قاسم كملحق خاص في كتابه “نجيب محفوظ بين الفيلم والرواية”.
يقدم الكتاب دراسة مقارنة بين العمل الأدبي ونظيره السينمائي متخذا من أعمال نجيب محفوظ موضوعا للدراسة لكونها الأكثر تجسيدا على شاشة السينما، وذلك بهدف دراسة الزاوية التي نظر بها صناع الفيلم إلى العمل الروائي، ومدى الالتزام بالنص الأدبي، والمساحات التي تمكن صناع العمل من الولوج إلى روح العمل وفكرته واستبعاد ما وجدوه غير مؤثر، والاستعاضة عن بعض الأحداث بمدلولات تعبر عنها، ومدى التوفيق في اختيار الممثلين الذين جسدوا شخصيات محفوظ.
الأفلام وأدب محفوظ
تناول محمود قاسم في كتابه، الصادر عن مؤسسة هنداوي، 36 عملا سينمائيا كل عمل على حدة، بداية من “بداية ونهاية” الذي كان أول أعمال محفوظ الروائية التي تجسد سينمائيا، حتى رواية “قلب الليل”، فضلا عن الأعمال التي اتخذت الفكرة عن إحدى الروايات وعالجتها في فيلم سينمائي، مثل فيلم “ليل وخونة” المأخوذ عن رواية “اللّص والكلاب”.
يوضح قاسم أن فكرة الكتاب جاءت من خلال اهتمامه بالمقارنة بين النصوص الأدبية، والأفلام السينمائية المأخوذة عنها، سواء في الآداب العالمية أو المحلية، وهو أمر مهم للغاية. ويقول “لاحظت دوما أن الكثير من المهتمين بالسينما المصرية، ومنهم نقاد، لا يقرأون الآداب إلا قليلا، وأن أدباء ينظرون إلى السينما في بعض الأحيان، نظرة دونية، فلا يتابعون الجديد منها، وإن كان بعض الأدباء قد صاروا نجوما في السينما بفضل إبداعاتهم، لذا فإن الدراسات المقارنة الحقيقية بين الآداب والسينما قليلة للغاية، رغم هذا الكم الكبير من الأفلام الجيدة، والمتميزة المأخوذة في كل أنحاء الكون عن الأدب.
ويضيف “مهما قيل إن الفيلم صورة، فهو أيضا قصة وحوار. وكم قيل في هذه العلاقة بين الفيلم والنص الأدبي، وكم نوقشت مسألة الالتزام، أو الخروج عن النص الأدبي، وقد كانت أعمال نجيب محفوظ هي الأكثر جدلا في هذا الأمر، ليس فقط لأن أعمال الكاتب كانت الأكثر أهمية، ولكن أيضا لأن محفوظ هو أقدم الروائيين ارتباطا بالسينما، سواء ككاتب سيناريو منذ بدايته عام 1947، أو منذ أن تم الانتباه إلى إنتاج رواياته، عام 1960، وحتى الآن. فليس هناك أديب آخر ظلت له هذه العلاقة بالسينما طوال هذه السنوات الطويلة، بالإضافة إلى أنه تعاون في كتاباته للسيناريو مع أبرز المخرجين، وفي مقدمتهم صلاح أبوسيف، الذي كان يفخر دوما بأنه علم نجيب محفوظ حرفية كتابة السيناريو. لذا فإن مناقشة مسيرة محفوظ في السينما، ستظل أمرا متجددا في مسألة الدراسات والبحوث السينمائية، خاصة المقارنة منها”.
يتناول قاسم العلاقة بين الفيلم والرواية عند الكاتب، أو بشكل عام بين النص الأدبي، أيا كان رواية أو قصة قصيرة، وبين النص السينمائي، حيث يقارن في المقام الأول بين الطرفين؛ الفيلم، الرواية، ويقرأ النصين معا؛ أي قراءة النص السينمائي، مع أصله النص الأدبي، ماذا لفت كاتب السيناريو في النص الأدبي؟ وماذا توقف عنده؟ وماذا حذف من النّص؟ ثم إضافات السيناريو، حيث لوحظ أن هناك كتاب سيناريو تعاملوا مع النص الأدبي بالتزام واضح في أفلام عديدة، منها “اللص والكلاب” و”أهل القمة” و”الحبّ فوق هضبة الهرم” و”بين القصرين” وبدرجات مختلفة في “السمان والخريف” و”الطريق” و”السكرية” و”الحب تحت المطر” و”ميرامار” و”القاهرة 30″ و”الحرافيش”.
وهناك أفلام أخرى راحت تأخذ بعض السطور أو الفصول، مثل “الخادمة” و”نور العيون” و”وصمة عار” و”ليل وخونة”، بينما من الصعب جدا أن نرى أي علاقة بين أفلام كتب في أفيشاتها أنها مأخوذة عن نجيب محفوظ، دون أن تكون مأخوذة حقيقة عن أيّ من أعمال نجيب محفوظ، مثل “الشريدة” لأشرف فهمي و”أميرة حبي أنا” لحسن الإمام و”فتوّات بولاق” ليحيى العلمي و”المذنبون” لسعيد مرزوق.
ويضيف قاسم “توقفت عند المقارنة بين النص الأدبي، والسينمائي، وعندما لم أجد أي شيء لا يستدعي المقارنة، أو التحليل، مثل الأفلام سابقة الذكر، التي استبعدت الحديث عنها تماما، تجاهلت الكتابة والمقارنة عن هذه الأفلام، فمثلا بالبحث عن الأصل الأدبي لفيلم ‘فتوات بولاق’، فإن معركة مفتعلة قد قيلت في بداية الثمانينات أن الأصل هو ‘الشيطان يعظ’، علما أن هذا الاسم هو للمجموعة، وليس للقصة المأخوذ عنها الفيلم، وقد قيل آنذاك إن القصة بيعت مرتين، كما ادعى البعض أنها مأخوذة من إحدى قصص ‘أولاد حارتنا’، وهذا ليس صحيحا، كما أن البعض ذكر أن الفيلم مأخوذ من الحكاية رقم 22 في رواية ‘حكايات حارتنا'”.
ويؤكد أنه بقراءة الحكاية التي لا تزيد عن صفحتين، اتضح أنها لا علاقة لها بقصة الفيلم، والأرجح أنها مأخوذة من “الشيطان يعظ”. أما “أميرة حبي أنا” فالفيلم مأخوذ عن واحدة من قصص “المرايا”، وهناك تشابه واه للغاية بين بطلة القصة وبين أميرة، كما أن كاتب السيناريو أحمد صالح قد كتب سيناريو مختلفا تماما عن أقصوصة “الشريدة”، المنشورة في أول مجموعة قصصية للكاتب باسم “همس الجنون” عام 1939، وقد كتب مقالا في أخبار اليوم حول هذه الظاهرة، بعد أن كتبت عن الفيلم بمناسبة تكريمه في مهرجان الإسكندرية عام 2009.
بداية ونهاية
في مقارنته بين النص والرواية “بداية ونهاية”، يقول قاسم “الفيلم أقرب في مشاهدته إلى قراءة النص، مع احتفاظ المخرج صلاح أبوسيف بالتفاصيل الخاصة به التي لم تأت في الرواية ولا في السيناريو، ويبدو ذلك واضحا في الرمز الديني الموجود على حوائط المنزل، وأيضا فوق جدران البيت المقابل في الحارة، وأيضا في لافتات الاحتفال بالأعياد، مما يؤكد أن هذا الرمز، أو الدلالات، قد استخدمها المخرج دون الكاتب، ليعبر أكثر عن حالة أبطاله، مثلا، فإن هناك لوحة خطية مكتوبا عليها ‘الصبر مفتاح الفرج’ موجودة في غرفة بهية، حتى إذا دخلت الغرفة في أشد حالات اليأس، انقسم الكادر بشكل غير محدد، ورأينا اللوحة كأنها تخفف من عبء الفتاة، وذلك كدلالة على استخدام الرمز بشكل عام عند المخرج”.
ويضيف “هناك أيضا عبارة ‘اتق شر من أحسنت إليه’ في محل البقالة، حين يأتي حسن لمساومة صاحب المحل، مقابل إحياء حفل زفاف ابنه سلمان، أما بيت المأذون في طرف الشارع، فهناك مكتوب بخط كبير ‘الله.. محمد.. منزل المأذون’، ومثل هذا النسيج قام المخرج بنسجه، ولم يذكر قط في الرواية، وهذا هو الفارق بين الكلمة والصورة أو الأدب والسينما، فمثلا، فإن الفصل 29 من الرواية يبدأ كالتالي: ‘وجاء عيد الأضحى فجذب أفكار الأسرة وعواطفها إلى واد واحد تلتقي فيه ذكريات الأمس واليوم. واجتمعت الأسرة ليلة الوقفة في الصالة، حتى حسن كان بينهم’. أما الفيلم، فقد أشار لنا إلى عيد الأضحى من خلال لافتة عليها إشارة حول العيد، بشارع شبرا، ثم بدأ المشهد الخاص بالعيد في البيت”.
ويتابع قاسم “لقد كان صلاح أبوسيف دوما مغرما بعيد الأضحى، سيقدم شعائره في أفلام مثل ‘لك يوم يا ظالم’ عام 1951، وفيما بعد في ‘المجرم’ عام 1977، لكنه هنا لم يتوقف عند العيد إلا من خلال ما كتبه محفوظ في المشهد. إذن مشاهدة الفيلم هي قراءة أمينة للغاية للرواية، كما أن قراءة الرواية بمثابة مشاهدة جيدة للفيلم، مع اختلاف إيقاع السينما، مثل المشاهد المتلاحقة التي عرفت فيها نفيسة من أخيها أن سلمان سوف يتزوج، فهي تستغرق قرابة سبع دقائق حتى يبدأ الفرح، أما هذه المشاهد التي تبدو سريعة الإيقاع قياسا للرواية، فقد استغرقت قرابة عشرين صفحة، في طبعة الرواية الصادرة عن سلسلة الكتاب الذهبي لعام 1956، مما يعني أن الفيلم متماسك الإيقاع كان بمثابة اختصار ملحوظ”.
وفي تحليله لرواية وفيلم “خان الخليلي” يلفت قاسم إلى أن أحداث رواية “خان الخليلي” تدور في نفس الفترة الزمنية التي دارت فيها أحداث النصف الثاني من رواية “السكرية”، وهي فترة الحرب العالمية الثانية، وقد حدد نجيب محفوظ الزمن في السطر الأول من روايته، سبتمبر عام 1941، حيث يغير الموظف أحمد عاكف وجهة عودته من السكاكيني إلى الأزهر، بعد إقامة امتدت أعواما هناك، ووصف الكاتب تفاصيل الاتجاه نحو البيت، والترام الذي استقلّه، وقد حدث نفس الشيء في الرواية.
إلا أن الفيلم الذي أخرجه عاطف سالم، وكتبه محمد مصطفى سامي، بدأ بغارة جوية، وهروب الناس من الخطر، ولجوء أسرة عاكف كلها إلى الملجأ؛ الأم وزوجها وابنها أحمد (40 عاما)، ثم رشدي الذي سوف يصطاد امرأة وحيدة بحاسته في التعرف على النساء. وفي اليوم التالي، يستيقظ في بيتها مذعورا، باعتبار أن عليه أن يسافر إلى أسيوط كي يعمل هناك، ثم يدور حوار مع أخيه الذي سيرافقه حتى المحطة، والذي يعاتبه على نزقه، فيبدو رشدي لطيفا وزير نساء. وقد رأى السيناريو أن يكرّر مسألة الغارة ونزول الأسرة إلى الملجأ بدون رشدي الذي سافر، إلا أن الغارة هذه المرة تكون أشد، ثم يأتي صوت أحمد وهو يكتب رسالة إلى أخيه “تركنا السكاكيني، وما به من ذكريات الشباب”. وهو الوصف الذي جاء في الصفحة الثانية من الرواية.
الناقد يتناول العلاقة بين الفيلم والرواية أو بشكل عام بين النص الأدبي والنص السينمائي عبر أعمال محفوظ
يبدأ الفيلم من حيث بدأت الرواية، حيث سيبدو مدى ارتباط أحمد بالكتب، فهو يتصفح الكتب التي تباع في الترام لدى أحد الباعة، ويردد: كل دا قريناه، ثم يكمل: إيش يكون جنب الكتب اللي عندي؟ وفي الرواية كان بواب إحدى العمارات هو أول من التقى به في خان الخليلي، بينما كان المعلم نونو الخطاط، صاحب عبارة “ملعون أبو الدنيا” هو أول من قابله صوته، ثم هو الذي دله إلى مسكنه الجديد، حيث يصعد السلم، ويرى التلميذة نوال وهي تطلب من أخيها شراء البقدونس. أما في الرواية فقد وصف محفوظ معالم المنطقة، ولم تكن هناك نوال على السلم، ثم محاولة استيعاب المكان وهو يستمع إلى السّباب بين الناس، وهو أمر لم يعتد عليه.
فيلم “الحرافيش” الذي تم إخراجه في نفس وقت إخراج “شهد الملكة” استعان فيه المخرج بنفس الديكور وأحيانا الممثلين أنفسهم، مثل صلاح قابيل الذي قام بدور الفتوة في الفيلمين، في “شهد الملكة” أدى دور نوح الغراب، وفي “الحرافيش” أدى دور عتريس الذي يطمع في المنصب بعد أن ضعفت الأحوال بالأب سليمان، فظهر الابن عند الضرورة كي ينتصر لأبيه، وهو أمر لم يحدث في الرواية.
يرى قاسم أن “الفيلم والنص الأدبي يستفيدان من الصراع الأزليّ بين قابيل وهابيل، كما أن هناك إشارة في نهاية النص الأدبي حول تشابه هذا الصراع مع امرأة العزيز، فالمرأة هنا شريرة تغوي حبيبها الذي يتمنع عنها، وهي تؤذيه، وعندما يظهر مرة أخرى، تحاول التودد إليه، لكن الصراع هو بين شقيقين حول المرأة نفسها، وإن تم ذلك في حارة شعبية فيها الصراع الأزلي بين الفقراء والأغنياء، وفيها الصعود ثم الهبوط الاقتصادي والاجتماعي، والنهاية الحتمية لامرأة تحاول أن تخون زوجها مع أخيه، ثم إذا هي عندما تفشل تسعى للإيقاع فيما بين الأخوين. والأخوان هنا لا يقتتلان من أجل المرأة نفسها، فخضر يترك الحارة بمن فيها، ولا يظهر إلا من أجل إنقاذ أخيه وأسرته”.
ويشير إلى أن الخلافات الواضحة بين الفيلم والرواية أن عتريس هو المنافس الأزلي لسليمان الناجي، ففي بداية الفيلم يقف عتريس معلنا أنه الفتوة، عند أطراف المنطقة، وهنا يظهر سليمان كي يواجه خصمه، أما في النصّ الأدبي فإن العلاقة التي تربط بين الرجلين وطيدة، فعتريس هو شقيق الزوجة فتحية، وحين يود سليمان أن يتزوج للمرة الثانية يستشير عتريس، عندما يمرض سليمان، فإن عتريس ينوب عنه، ثم لا يلبث أن يصبح الفتوة دون أن ينازعه أحد على المنصب، أما عتريس الفيلم فهو شرير، يطمع في المنصب، ويربض في مكانه حتى تحين الظروف، وحين يمرض سليمان ويصاب بالشلل يقفز عتريس إلى مكان الفتوّة ويعلن نفسه فتوة المكان، وفي اللحظة المناسبة يظهر خضر ويعود من غربته الاختيارية. وفي الفيلم سعت سنية للتقرب من سليمان، معجبة بقوته، بينما في الرواية فإن سليمان هو الذي شاهدها بعد عشر سنوات من زواجه بفتحية، وهو الذي سعى إلى ذلك حبّا فيها، وبتردّد ملحوظ، وهي كلها اختلافات شكلية، أمّا باقي الحوادث فإنها تكاد تطابق النص الأدبي، وقد انتهى الفيلم بقيام بكر بطعن امرأته وقتلها، أمّا النص الأدبي، فإن الأخ قد هرب، وتعافت رضوانة التي ظلت على حبّها لخضر، وأن الذي قتلها خنقا هذه المرّة هو أخوها إبراهيم الشوبشكي.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
محمود قاسم يقارن بين 36 فيلما سينمائيا ونصا أدبيا لمحفوظ.
الجمعة 2024/08/16
ShareWhatsAppTwitterFacebook
مهما قيل إن الفيلم صورة، فهو أيضا قصة وحوار
العلاقة بين أدب نجيب محفوظ والسينما علاقة ممتدة، حتى أنه أكثر الكتاب العرب الذين استلهمت الشاشة الكبيرة أعمالهم. ولكن كما هو شائع فإن استلهام الروايات والقصص أو الاقتباس منها غالبا ما يثير مسألة الأمانة، وهذا ما يناقشه الناقد محمود قاسم في دراسة مقارنة بين الأفلام وأدب محفوظ الذي استلهمته.
خمسون فيلما مأخوذا عن أعمال نجيب محفوظ القصصية والروائية، وما يقرب من خمسة عشر فيلما كتب لها السيناريو والحوار أو شارك في كتابته، وذلك وفقا للفيلموجرافيا التي وضعها الناقد السينمائي محمود قاسم كملحق خاص في كتابه “نجيب محفوظ بين الفيلم والرواية”.
يقدم الكتاب دراسة مقارنة بين العمل الأدبي ونظيره السينمائي متخذا من أعمال نجيب محفوظ موضوعا للدراسة لكونها الأكثر تجسيدا على شاشة السينما، وذلك بهدف دراسة الزاوية التي نظر بها صناع الفيلم إلى العمل الروائي، ومدى الالتزام بالنص الأدبي، والمساحات التي تمكن صناع العمل من الولوج إلى روح العمل وفكرته واستبعاد ما وجدوه غير مؤثر، والاستعاضة عن بعض الأحداث بمدلولات تعبر عنها، ومدى التوفيق في اختيار الممثلين الذين جسدوا شخصيات محفوظ.
الأفلام وأدب محفوظ
تناول محمود قاسم في كتابه، الصادر عن مؤسسة هنداوي، 36 عملا سينمائيا كل عمل على حدة، بداية من “بداية ونهاية” الذي كان أول أعمال محفوظ الروائية التي تجسد سينمائيا، حتى رواية “قلب الليل”، فضلا عن الأعمال التي اتخذت الفكرة عن إحدى الروايات وعالجتها في فيلم سينمائي، مثل فيلم “ليل وخونة” المأخوذ عن رواية “اللّص والكلاب”.
يوضح قاسم أن فكرة الكتاب جاءت من خلال اهتمامه بالمقارنة بين النصوص الأدبية، والأفلام السينمائية المأخوذة عنها، سواء في الآداب العالمية أو المحلية، وهو أمر مهم للغاية. ويقول “لاحظت دوما أن الكثير من المهتمين بالسينما المصرية، ومنهم نقاد، لا يقرأون الآداب إلا قليلا، وأن أدباء ينظرون إلى السينما في بعض الأحيان، نظرة دونية، فلا يتابعون الجديد منها، وإن كان بعض الأدباء قد صاروا نجوما في السينما بفضل إبداعاتهم، لذا فإن الدراسات المقارنة الحقيقية بين الآداب والسينما قليلة للغاية، رغم هذا الكم الكبير من الأفلام الجيدة، والمتميزة المأخوذة في كل أنحاء الكون عن الأدب.
ويضيف “مهما قيل إن الفيلم صورة، فهو أيضا قصة وحوار. وكم قيل في هذه العلاقة بين الفيلم والنص الأدبي، وكم نوقشت مسألة الالتزام، أو الخروج عن النص الأدبي، وقد كانت أعمال نجيب محفوظ هي الأكثر جدلا في هذا الأمر، ليس فقط لأن أعمال الكاتب كانت الأكثر أهمية، ولكن أيضا لأن محفوظ هو أقدم الروائيين ارتباطا بالسينما، سواء ككاتب سيناريو منذ بدايته عام 1947، أو منذ أن تم الانتباه إلى إنتاج رواياته، عام 1960، وحتى الآن. فليس هناك أديب آخر ظلت له هذه العلاقة بالسينما طوال هذه السنوات الطويلة، بالإضافة إلى أنه تعاون في كتاباته للسيناريو مع أبرز المخرجين، وفي مقدمتهم صلاح أبوسيف، الذي كان يفخر دوما بأنه علم نجيب محفوظ حرفية كتابة السيناريو. لذا فإن مناقشة مسيرة محفوظ في السينما، ستظل أمرا متجددا في مسألة الدراسات والبحوث السينمائية، خاصة المقارنة منها”.
يتناول قاسم العلاقة بين الفيلم والرواية عند الكاتب، أو بشكل عام بين النص الأدبي، أيا كان رواية أو قصة قصيرة، وبين النص السينمائي، حيث يقارن في المقام الأول بين الطرفين؛ الفيلم، الرواية، ويقرأ النصين معا؛ أي قراءة النص السينمائي، مع أصله النص الأدبي، ماذا لفت كاتب السيناريو في النص الأدبي؟ وماذا توقف عنده؟ وماذا حذف من النّص؟ ثم إضافات السيناريو، حيث لوحظ أن هناك كتاب سيناريو تعاملوا مع النص الأدبي بالتزام واضح في أفلام عديدة، منها “اللص والكلاب” و”أهل القمة” و”الحبّ فوق هضبة الهرم” و”بين القصرين” وبدرجات مختلفة في “السمان والخريف” و”الطريق” و”السكرية” و”الحب تحت المطر” و”ميرامار” و”القاهرة 30″ و”الحرافيش”.
الكتاب يقدم دراسة مقارنة بين العمل الأدبي ونظيره السينمائي متخذا من أعمال نجيب محفوظ موضوعا للدراسة
وهناك أفلام أخرى راحت تأخذ بعض السطور أو الفصول، مثل “الخادمة” و”نور العيون” و”وصمة عار” و”ليل وخونة”، بينما من الصعب جدا أن نرى أي علاقة بين أفلام كتب في أفيشاتها أنها مأخوذة عن نجيب محفوظ، دون أن تكون مأخوذة حقيقة عن أيّ من أعمال نجيب محفوظ، مثل “الشريدة” لأشرف فهمي و”أميرة حبي أنا” لحسن الإمام و”فتوّات بولاق” ليحيى العلمي و”المذنبون” لسعيد مرزوق.
ويضيف قاسم “توقفت عند المقارنة بين النص الأدبي، والسينمائي، وعندما لم أجد أي شيء لا يستدعي المقارنة، أو التحليل، مثل الأفلام سابقة الذكر، التي استبعدت الحديث عنها تماما، تجاهلت الكتابة والمقارنة عن هذه الأفلام، فمثلا بالبحث عن الأصل الأدبي لفيلم ‘فتوات بولاق’، فإن معركة مفتعلة قد قيلت في بداية الثمانينات أن الأصل هو ‘الشيطان يعظ’، علما أن هذا الاسم هو للمجموعة، وليس للقصة المأخوذ عنها الفيلم، وقد قيل آنذاك إن القصة بيعت مرتين، كما ادعى البعض أنها مأخوذة من إحدى قصص ‘أولاد حارتنا’، وهذا ليس صحيحا، كما أن البعض ذكر أن الفيلم مأخوذ من الحكاية رقم 22 في رواية ‘حكايات حارتنا'”.
ويؤكد أنه بقراءة الحكاية التي لا تزيد عن صفحتين، اتضح أنها لا علاقة لها بقصة الفيلم، والأرجح أنها مأخوذة من “الشيطان يعظ”. أما “أميرة حبي أنا” فالفيلم مأخوذ عن واحدة من قصص “المرايا”، وهناك تشابه واه للغاية بين بطلة القصة وبين أميرة، كما أن كاتب السيناريو أحمد صالح قد كتب سيناريو مختلفا تماما عن أقصوصة “الشريدة”، المنشورة في أول مجموعة قصصية للكاتب باسم “همس الجنون” عام 1939، وقد كتب مقالا في أخبار اليوم حول هذه الظاهرة، بعد أن كتبت عن الفيلم بمناسبة تكريمه في مهرجان الإسكندرية عام 2009.
بداية ونهاية
في مقارنته بين النص والرواية “بداية ونهاية”، يقول قاسم “الفيلم أقرب في مشاهدته إلى قراءة النص، مع احتفاظ المخرج صلاح أبوسيف بالتفاصيل الخاصة به التي لم تأت في الرواية ولا في السيناريو، ويبدو ذلك واضحا في الرمز الديني الموجود على حوائط المنزل، وأيضا فوق جدران البيت المقابل في الحارة، وأيضا في لافتات الاحتفال بالأعياد، مما يؤكد أن هذا الرمز، أو الدلالات، قد استخدمها المخرج دون الكاتب، ليعبر أكثر عن حالة أبطاله، مثلا، فإن هناك لوحة خطية مكتوبا عليها ‘الصبر مفتاح الفرج’ موجودة في غرفة بهية، حتى إذا دخلت الغرفة في أشد حالات اليأس، انقسم الكادر بشكل غير محدد، ورأينا اللوحة كأنها تخفف من عبء الفتاة، وذلك كدلالة على استخدام الرمز بشكل عام عند المخرج”.
ويضيف “هناك أيضا عبارة ‘اتق شر من أحسنت إليه’ في محل البقالة، حين يأتي حسن لمساومة صاحب المحل، مقابل إحياء حفل زفاف ابنه سلمان، أما بيت المأذون في طرف الشارع، فهناك مكتوب بخط كبير ‘الله.. محمد.. منزل المأذون’، ومثل هذا النسيج قام المخرج بنسجه، ولم يذكر قط في الرواية، وهذا هو الفارق بين الكلمة والصورة أو الأدب والسينما، فمثلا، فإن الفصل 29 من الرواية يبدأ كالتالي: ‘وجاء عيد الأضحى فجذب أفكار الأسرة وعواطفها إلى واد واحد تلتقي فيه ذكريات الأمس واليوم. واجتمعت الأسرة ليلة الوقفة في الصالة، حتى حسن كان بينهم’. أما الفيلم، فقد أشار لنا إلى عيد الأضحى من خلال لافتة عليها إشارة حول العيد، بشارع شبرا، ثم بدأ المشهد الخاص بالعيد في البيت”.
ويتابع قاسم “لقد كان صلاح أبوسيف دوما مغرما بعيد الأضحى، سيقدم شعائره في أفلام مثل ‘لك يوم يا ظالم’ عام 1951، وفيما بعد في ‘المجرم’ عام 1977، لكنه هنا لم يتوقف عند العيد إلا من خلال ما كتبه محفوظ في المشهد. إذن مشاهدة الفيلم هي قراءة أمينة للغاية للرواية، كما أن قراءة الرواية بمثابة مشاهدة جيدة للفيلم، مع اختلاف إيقاع السينما، مثل المشاهد المتلاحقة التي عرفت فيها نفيسة من أخيها أن سلمان سوف يتزوج، فهي تستغرق قرابة سبع دقائق حتى يبدأ الفرح، أما هذه المشاهد التي تبدو سريعة الإيقاع قياسا للرواية، فقد استغرقت قرابة عشرين صفحة، في طبعة الرواية الصادرة عن سلسلة الكتاب الذهبي لعام 1956، مما يعني أن الفيلم متماسك الإيقاع كان بمثابة اختصار ملحوظ”.
وفي تحليله لرواية وفيلم “خان الخليلي” يلفت قاسم إلى أن أحداث رواية “خان الخليلي” تدور في نفس الفترة الزمنية التي دارت فيها أحداث النصف الثاني من رواية “السكرية”، وهي فترة الحرب العالمية الثانية، وقد حدد نجيب محفوظ الزمن في السطر الأول من روايته، سبتمبر عام 1941، حيث يغير الموظف أحمد عاكف وجهة عودته من السكاكيني إلى الأزهر، بعد إقامة امتدت أعواما هناك، ووصف الكاتب تفاصيل الاتجاه نحو البيت، والترام الذي استقلّه، وقد حدث نفس الشيء في الرواية.
إلا أن الفيلم الذي أخرجه عاطف سالم، وكتبه محمد مصطفى سامي، بدأ بغارة جوية، وهروب الناس من الخطر، ولجوء أسرة عاكف كلها إلى الملجأ؛ الأم وزوجها وابنها أحمد (40 عاما)، ثم رشدي الذي سوف يصطاد امرأة وحيدة بحاسته في التعرف على النساء. وفي اليوم التالي، يستيقظ في بيتها مذعورا، باعتبار أن عليه أن يسافر إلى أسيوط كي يعمل هناك، ثم يدور حوار مع أخيه الذي سيرافقه حتى المحطة، والذي يعاتبه على نزقه، فيبدو رشدي لطيفا وزير نساء. وقد رأى السيناريو أن يكرّر مسألة الغارة ونزول الأسرة إلى الملجأ بدون رشدي الذي سافر، إلا أن الغارة هذه المرة تكون أشد، ثم يأتي صوت أحمد وهو يكتب رسالة إلى أخيه “تركنا السكاكيني، وما به من ذكريات الشباب”. وهو الوصف الذي جاء في الصفحة الثانية من الرواية.
الناقد يتناول العلاقة بين الفيلم والرواية أو بشكل عام بين النص الأدبي والنص السينمائي عبر أعمال محفوظ
يبدأ الفيلم من حيث بدأت الرواية، حيث سيبدو مدى ارتباط أحمد بالكتب، فهو يتصفح الكتب التي تباع في الترام لدى أحد الباعة، ويردد: كل دا قريناه، ثم يكمل: إيش يكون جنب الكتب اللي عندي؟ وفي الرواية كان بواب إحدى العمارات هو أول من التقى به في خان الخليلي، بينما كان المعلم نونو الخطاط، صاحب عبارة “ملعون أبو الدنيا” هو أول من قابله صوته، ثم هو الذي دله إلى مسكنه الجديد، حيث يصعد السلم، ويرى التلميذة نوال وهي تطلب من أخيها شراء البقدونس. أما في الرواية فقد وصف محفوظ معالم المنطقة، ولم تكن هناك نوال على السلم، ثم محاولة استيعاب المكان وهو يستمع إلى السّباب بين الناس، وهو أمر لم يعتد عليه.
فيلم “الحرافيش” الذي تم إخراجه في نفس وقت إخراج “شهد الملكة” استعان فيه المخرج بنفس الديكور وأحيانا الممثلين أنفسهم، مثل صلاح قابيل الذي قام بدور الفتوة في الفيلمين، في “شهد الملكة” أدى دور نوح الغراب، وفي “الحرافيش” أدى دور عتريس الذي يطمع في المنصب بعد أن ضعفت الأحوال بالأب سليمان، فظهر الابن عند الضرورة كي ينتصر لأبيه، وهو أمر لم يحدث في الرواية.
يرى قاسم أن “الفيلم والنص الأدبي يستفيدان من الصراع الأزليّ بين قابيل وهابيل، كما أن هناك إشارة في نهاية النص الأدبي حول تشابه هذا الصراع مع امرأة العزيز، فالمرأة هنا شريرة تغوي حبيبها الذي يتمنع عنها، وهي تؤذيه، وعندما يظهر مرة أخرى، تحاول التودد إليه، لكن الصراع هو بين شقيقين حول المرأة نفسها، وإن تم ذلك في حارة شعبية فيها الصراع الأزلي بين الفقراء والأغنياء، وفيها الصعود ثم الهبوط الاقتصادي والاجتماعي، والنهاية الحتمية لامرأة تحاول أن تخون زوجها مع أخيه، ثم إذا هي عندما تفشل تسعى للإيقاع فيما بين الأخوين. والأخوان هنا لا يقتتلان من أجل المرأة نفسها، فخضر يترك الحارة بمن فيها، ولا يظهر إلا من أجل إنقاذ أخيه وأسرته”.
ويشير إلى أن الخلافات الواضحة بين الفيلم والرواية أن عتريس هو المنافس الأزلي لسليمان الناجي، ففي بداية الفيلم يقف عتريس معلنا أنه الفتوة، عند أطراف المنطقة، وهنا يظهر سليمان كي يواجه خصمه، أما في النصّ الأدبي فإن العلاقة التي تربط بين الرجلين وطيدة، فعتريس هو شقيق الزوجة فتحية، وحين يود سليمان أن يتزوج للمرة الثانية يستشير عتريس، عندما يمرض سليمان، فإن عتريس ينوب عنه، ثم لا يلبث أن يصبح الفتوة دون أن ينازعه أحد على المنصب، أما عتريس الفيلم فهو شرير، يطمع في المنصب، ويربض في مكانه حتى تحين الظروف، وحين يمرض سليمان ويصاب بالشلل يقفز عتريس إلى مكان الفتوّة ويعلن نفسه فتوة المكان، وفي اللحظة المناسبة يظهر خضر ويعود من غربته الاختيارية. وفي الفيلم سعت سنية للتقرب من سليمان، معجبة بقوته، بينما في الرواية فإن سليمان هو الذي شاهدها بعد عشر سنوات من زواجه بفتحية، وهو الذي سعى إلى ذلك حبّا فيها، وبتردّد ملحوظ، وهي كلها اختلافات شكلية، أمّا باقي الحوادث فإنها تكاد تطابق النص الأدبي، وقد انتهى الفيلم بقيام بكر بطعن امرأته وقتلها، أمّا النص الأدبي، فإن الأخ قد هرب، وتعافت رضوانة التي ظلت على حبّها لخضر، وأن الذي قتلها خنقا هذه المرّة هو أخوها إبراهيم الشوبشكي.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري