"الفلق" صحيفة عمانية ولدت في شرق أفريقيا لترويج الثقافة العربية
"الصحافة العمانية المهاجرة وشخصياتها" كتاب يؤرخ لأول صحيفة تنويرية ومؤسسها.
الأربعاء 2024/08/14
من أوائل الصحف العربية
كانت الصحافة في طليعة التنوير الذي شهدته الدول العربية في محاولة للحاق بركب التقدم بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وإثبات ما للعرب من إسهامات ثقافية وحضارية. وسلطنة عمان من بين هذه الدول، إذ كانت الصحافة على رأس اهتمامها، وما صحيفة "الفلق" العريقة إلا مثال على ذلك.
بعد توقّف دام شهورا تعود مجلة “الفلق” العُمانية في نسختها الإلكترونية للصدور مُجددا، بعد أن خضعت لمشروع تطوير استهدف ظهورها للقراء في ثوب جديد وقشيب وتبويب يتناسب مع متطلبات العصر. وخلال توقفها خضعت المجلة لإعادة هيكلة استهدفت النهوض بالتجربة، وعودتها في صورة ترضي القراء حاضرا ومستقبلا.
"الفلق"، التي كانت تصدر في أربعينات القرن الماضي بزنجبار في شكل صحيفة باللغة العربية، أسسها آنذاك الشيخ هاشل بن راشد المسكري، وأعاد إصدارها في نسخة إلكترونية حفيده المهندس سعيد بن سيف بن هاشل بن راشد المسكري، كانت من أوائل الصحف العربية التي صدرت في شرق أفريقيا بعد الحرب العالمية الأولى.
كانت “الفلق” عبر إصداراتها المتتالية منذ أربعينات القرن الماضي إلى اليوم مجلة عمانية عربية تسعى لإبراز النتاج الثقافي العماني النخبوي إلى الوطن العربي وإلى العالم، وتهتم بالجوانب السياسيَّة والثقافيَّة والفكريَّة.
ويدلنا كتاب “الصحافة العُمانية المُهاجرة وشخصياتها: الشيخ هاشل بن راشد المسكري نموذجاً”، لمؤلفه الأكاديمي محسن بن حمود الكندي، والصادر عن رياض الريس للكتب والنشر، على أن الصحافة العُمانية التي كانت تصدر في زنجبار وأفريقيا الشرقية ما هي إلا تعبير صادق عن ذلكم الوجود العربي العماني الممتد إلى أعماق الوجود البشري في عمان وشرق أفريقيا.
تاريخ الصحافة
◙ الكتاب يحتفي بـ"الفلق" وأول رئيس تحرير لها الشيخ هاشل بن راشد المسكري، وهو احتفاء بالمنجز الثقافي العماني
ونتعرّف من خلال صفحات الكتاب على أنه كان هناك تفاعل وحراك بين عرب الجزيرة العربية والأفارقة منذ القرن الأول للميلاد، وأن هذا التفاعل قديم. وهكذا، وبحسب الكتاب، فقد شهدت مناطق الشرق الأفريقي وجودا عُمانيا إسلاميا مُبكراً، حيث تكوّنت الإمارات العربية الإسلامية على طول الساحل الشرقي للقارة السمراء.
وقد تكثّف الوجود العماني في أفريقيا الشرقية في عهد السلطان سعيد بن سلطان ليزداد اتصال العمانيين بها؛ نظرا إلى استقرار السلطان المذكور هناك واتخاذه زنجبار عاصمة ثانية لإمبراطوريته العربية الآسيوية – الأفريقية واتساع نفوذه، وبسط مملكته حتى البحيرات الوسطى في القارة السمراء. ويعبّر عن ذلك النفوذ والتوسع البيت الشعري القائل: إن تعالى المزمار في زنجبار/ رقص الناس في البحيراتِ رقصا.
وبعد السلطان سعيد بن سلطان تعاقب أبناؤه ثم أحفاده على الحكم، وهناك شهد الوجود العربي العماني دورة حضارية جديدة قوامها نشوء المؤسسات كالمحاكم والمدارس والمعاهد والمستشفيات وتنظيم الأمور العسكرية والمدنية في إطار هيكلة الدولة، ولعل ذلك المرسوم الذي أصدره السلطان ماجد بن سعيد بن سلطان سنة 1276هـ الذي يتضمن أحكاما وتشريعات مقسمة إلى خمسة أبواب دليل على ذلك، ويعتبر بمثابة النظام الأساسي للدولة آنذاك.
ومع تلك التطورات التنظيمية في بنية الدولة والمجتمع، كان لا بد -بحسب مؤلف كتاب “الصحافة العُمانية المُهاجرة وشخصياتها: الشيخ هاشل بن راشد المسكري نموذجاً”- من وجود “صاحبة الجلالة” الصحافة، وصدرت بالفعل بعض الصحف التي كان أشهرها “الفلق” التي كانت أيضا أطول تلك الصحف عُمراً، وأغزرها مادة؛ حيث أنها كانت مصبّا لأفكار الكثيرين من أرباب العلم والفكر، وميدانا يتبارى فيه أهل الحكم والقلم، من بين كاتب لمقال إصلاحي أو قائل لقصيدة شعرية، أو طارح لفكرة اجتماعية.
ويُحدثنا مؤلف الكتاب عن مؤسس صحيفة “الفلق” في زنجبار، فيصفه لنا بـ”الشيخ الزعيم الوجيه هاشل بن راشد المسكري”، ويشير إلى أن المسكري كان في طليعة أولئك الأشخاص الذين قامت عليهم وعلى فكرهم صحيفة “الفلق”، حيث بث فيها وعبر صفحاتها شجونه الإصلاحية وشؤونه الاجتماعية وهمومه الوطنية.
ووفقا لصفحات كتاب الدكتور محسن بن حمود الكندي، فإن الشيخ هاشل بن راشد المسكري كان يتميز بصفات حميدة كثيرة وخلال مجيدة، أهلته موضع الزعامة ومكانة الوجاهة، فقد كان ملجأ للضيف، وكهفا وملاذاً للضعيف، وموئلا لطلاب الحاجة. وقد جمع لنا الكندي في كتابه بعض الشهادات من أهل بلدة نفعاء، الذين سبق لهم الذهاب إلى زنجبار، حيث سجّلت تلك الروايات كيف كان يقابلهم الشيخ هاشل بن راشد المسكري بأريحية عربية عمانية صادقة ضيافة وعطفا وتواضعا.
◙ فصول الكتاب تتحدث عن رحلات الشيخ هاشل بن راشد المسكري من زنجبار إلى وطنه الأم عُمان حيث كان يأتي حاملا معه أفكارا إصلاحية مستنيرة
وتتحدث فصول الكتاب عن رحلات الشيخ هاشل بن راشد المسكري من زنجبار إلى وطنه الأم عُمان، حيث كان يأتي حاملا معه تلك الأفكار الإصلاحية المستنيرة التي كان يطرحها على بساط الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، بغية تطوير الدولة والمجتمع العُماني آنذاك، وأساس ذلك وعموده مؤسسة الشورى، الأمر الذي كان يعجب له الإمام الخليلي.
وهكذا يحتفي الكتاب بـ”الفلق” ومحررها وأول رئيس تحرير مسؤول عنها وهو الشيخ هاشل بن راشد المسكري، وهو احتفاء أيضا بالمنجز الثقافي العماني، وإبراز لما عرفه العمانيون من أشكال التحضر الحديث، بداية من التعليم ومرورا بالصحافة والمسرح والسينما والموسيقى، وكذلك الجمعيات وغيرها من المكونات الحضارية العُمانية.
توقف الأكاديمي محسن بن حمود الكندي، عبر صفحات كتابه، عند الخطاب الثقافي لـ”الفلق” كصحيفة عربية تصدر في زنجبار، وذلك بغية كشف هذا الخطاب واستجلائه، وتقديمه للقارئ العربي، وهو يستشرف آفاق القرن القادم بعين واعية وفكر وثاب، لاسيما تجاه الخطاب الثقافي العماني الذي يمتاز بخصوبته وغناه وحيويته، والذي لم يتيسر للكثير من الباحثين العرب الاطلاع عليه، حيث ظلت الأدراج والخزائن والمكتبات الأهلية أمينة عليه لأزمان عديدة، ناهيك عن كون بعضه مخطوطا لم ير النور، تجعل كثرته المقدرة بأكثر من سبعة آلاف مخطوطة بين مؤلف وديوان وكتاب، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الرسائل والخطب والقصائد المفردة والمقالات، وحتى المقامات التي ربما لم تعرف في الأدب العربي المعاصر إلا في الأدب العماني.
الخطاب الثقافي
◙ "الفلق" عرفت على امتداد تاريخ ظهورها تحولات جوهرية في الشكل والمضمون
وبجانب تناوله للدور الإصلاحي لـ”الفلق” تناول أيضا الصحيفة من جوانب مادية منطلقا من شكلها ثم العنوان، فالمضمون الصحفي، فأشكال الخطاب التنويري. ويرصد الكتاب ما عرفته “الفلق” على امتداد تاريخ ظهورها من تحولات جوهرية في الشكل والمضمون؛ إذ كان المشرفون عليها على وعي بجملة التحولات الطارئة على العمل الصحفي من ناحية، وبمقتضيات الحرفة الصحافية ودواعي الإصدار ومقتضياته من ناحية أخرى.
وبحسب الكتاب صدرت “الفلق” في 4 صفحات، ثم صارت 6 صفحات ثم تحولت إلى 8 صفحات، وذلك بعد أن رأى محرروها أهمية مخاطبة العنصر غير العربي من الإنجليز والهنود وبعض الأفارقة، فصدرت باللغتين العربية في أربع صفحات، وباللغة الإنجليزية في أربع أخرى، لتكون في متناول الجاليات غير العربية القاطنة في زنجبار وما حولها آنذاك.
وبجانب رؤساء التحرير المسؤولين كان هناك محررون عملوا في الصحيفة، وقد اتخذت لهم الصحيفة مسميات وظيفية أمثال: مدير إدارة الجريدة وخازنها، ومساعد مدير إدارة الجريدة وخازنها، ومدير الجريدة، وقد تعاقب على هذه الوظائف محررون أمثال: الشيخ سيف بن علي البوعلى، والشيخ هلال بن محمد بن هلال البرواني، والشيخ عبدالله بن حمود الحارثي، وغيرهم.
◙ المشرفون على "الفلق" كانوا على وعي بجملة التحولات الطارئة على العمل الصحفي وبمقتضيات الحرفة الصحافية ودواعي الإصدار ومقتضياته
ويوضح الكتاب أن “الفلق” توقفت عن الصدور لمدة سنة كاملة بدءاً من 19 يونيو 1954، إلى التاريخ نفسه من العام التالي 1955، بسبب مقالاتها الصارخة في وجه السلطة، وتحريضها على بداية العمل الوطني المتمثل في المناداة بالديمقراطية، وانتخاب أعضاء المجلس التشريعي، وقد حوكمت بسبب ذلك، وصدر الحكم رقم 1805 ضدها في 19 يونيو 1954 بإدانة أعضاء اللجنة المركزية للجمعية العربية، واتهام “الفلق” بإحدى عشرة تهمة ونص الحكم على إيقافها سنة كاملة ودفع غرامة قدرها خمسة وثلاثون ألف شلن.
وفور انتهاء تنفيذ الحكم عاودت “الفلق” الصدور، وكانت أطروحاتها الثقافية والسياسية مثار إعجاب قرائها ومتابعيها داخل الوطن العربي، إذ كانت تصل إلى عمان، وتوزع في الشام ومصر والجزائر وتونس وغيرها، ولذلك عني بها الشعراء والباحثون والقراء، وتضامنوا معها في فترة توقفها، ويؤكد مؤلف الكتاب على أن “الفلق” كانت من أبرز الصحف التي اضطلعت بدور في مجال الإصلاح الثقافي.
وقد اعتمد محسن بن حمود الكندي، في عرض وتحليل وتوثيق الخطاب التنويري لـ”الفلق” وشخصياتها، على العديد من المصادر والمراجع الموازية؛ منها بحث الأكاديمي فوزي مخيمر: الصحافة العمانية نشأتها وتطورها واتجاهاتها، وبحث عبدالله بن هاشل وصالحة المسكري عن حياة الشيخ هاشل بن راشد المسكري، إضافة إلى مؤلفات الأكاديمي إبراهيم غلوم وأبحاثه المتعددة في مجال الاحتفاء بالإعلام وبالتجارب الأدبية المؤسسة للخطاب الثقافي.
وبحسب ما طالعناه في كتاب “الصحافة العُمانية المُهاجرة وشخصياتها: الشيخ هاشل بن راشد المسكري نموذجاً”، لمؤلفه الأكاديمي محسن بن حمود الكندي، فقد أنجز العمانيون مناخات الثقافة الفكرية الحديثة في شرق أفريقيا خير إنجاز، وما الصحافة إلا أحد تلك الإنجازات الطليعية المعاصرة التي كانوا يضاهون بها آنذاك أقرانهم من الشعوب العربية.
حجاج سلامة
كاتب مصري
"الصحافة العمانية المهاجرة وشخصياتها" كتاب يؤرخ لأول صحيفة تنويرية ومؤسسها.
الأربعاء 2024/08/14
من أوائل الصحف العربية
كانت الصحافة في طليعة التنوير الذي شهدته الدول العربية في محاولة للحاق بركب التقدم بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وإثبات ما للعرب من إسهامات ثقافية وحضارية. وسلطنة عمان من بين هذه الدول، إذ كانت الصحافة على رأس اهتمامها، وما صحيفة "الفلق" العريقة إلا مثال على ذلك.
بعد توقّف دام شهورا تعود مجلة “الفلق” العُمانية في نسختها الإلكترونية للصدور مُجددا، بعد أن خضعت لمشروع تطوير استهدف ظهورها للقراء في ثوب جديد وقشيب وتبويب يتناسب مع متطلبات العصر. وخلال توقفها خضعت المجلة لإعادة هيكلة استهدفت النهوض بالتجربة، وعودتها في صورة ترضي القراء حاضرا ومستقبلا.
"الفلق"، التي كانت تصدر في أربعينات القرن الماضي بزنجبار في شكل صحيفة باللغة العربية، أسسها آنذاك الشيخ هاشل بن راشد المسكري، وأعاد إصدارها في نسخة إلكترونية حفيده المهندس سعيد بن سيف بن هاشل بن راشد المسكري، كانت من أوائل الصحف العربية التي صدرت في شرق أفريقيا بعد الحرب العالمية الأولى.
كانت “الفلق” عبر إصداراتها المتتالية منذ أربعينات القرن الماضي إلى اليوم مجلة عمانية عربية تسعى لإبراز النتاج الثقافي العماني النخبوي إلى الوطن العربي وإلى العالم، وتهتم بالجوانب السياسيَّة والثقافيَّة والفكريَّة.
ويدلنا كتاب “الصحافة العُمانية المُهاجرة وشخصياتها: الشيخ هاشل بن راشد المسكري نموذجاً”، لمؤلفه الأكاديمي محسن بن حمود الكندي، والصادر عن رياض الريس للكتب والنشر، على أن الصحافة العُمانية التي كانت تصدر في زنجبار وأفريقيا الشرقية ما هي إلا تعبير صادق عن ذلكم الوجود العربي العماني الممتد إلى أعماق الوجود البشري في عمان وشرق أفريقيا.
تاريخ الصحافة
◙ الكتاب يحتفي بـ"الفلق" وأول رئيس تحرير لها الشيخ هاشل بن راشد المسكري، وهو احتفاء بالمنجز الثقافي العماني
ونتعرّف من خلال صفحات الكتاب على أنه كان هناك تفاعل وحراك بين عرب الجزيرة العربية والأفارقة منذ القرن الأول للميلاد، وأن هذا التفاعل قديم. وهكذا، وبحسب الكتاب، فقد شهدت مناطق الشرق الأفريقي وجودا عُمانيا إسلاميا مُبكراً، حيث تكوّنت الإمارات العربية الإسلامية على طول الساحل الشرقي للقارة السمراء.
وقد تكثّف الوجود العماني في أفريقيا الشرقية في عهد السلطان سعيد بن سلطان ليزداد اتصال العمانيين بها؛ نظرا إلى استقرار السلطان المذكور هناك واتخاذه زنجبار عاصمة ثانية لإمبراطوريته العربية الآسيوية – الأفريقية واتساع نفوذه، وبسط مملكته حتى البحيرات الوسطى في القارة السمراء. ويعبّر عن ذلك النفوذ والتوسع البيت الشعري القائل: إن تعالى المزمار في زنجبار/ رقص الناس في البحيراتِ رقصا.
وبعد السلطان سعيد بن سلطان تعاقب أبناؤه ثم أحفاده على الحكم، وهناك شهد الوجود العربي العماني دورة حضارية جديدة قوامها نشوء المؤسسات كالمحاكم والمدارس والمعاهد والمستشفيات وتنظيم الأمور العسكرية والمدنية في إطار هيكلة الدولة، ولعل ذلك المرسوم الذي أصدره السلطان ماجد بن سعيد بن سلطان سنة 1276هـ الذي يتضمن أحكاما وتشريعات مقسمة إلى خمسة أبواب دليل على ذلك، ويعتبر بمثابة النظام الأساسي للدولة آنذاك.
ومع تلك التطورات التنظيمية في بنية الدولة والمجتمع، كان لا بد -بحسب مؤلف كتاب “الصحافة العُمانية المُهاجرة وشخصياتها: الشيخ هاشل بن راشد المسكري نموذجاً”- من وجود “صاحبة الجلالة” الصحافة، وصدرت بالفعل بعض الصحف التي كان أشهرها “الفلق” التي كانت أيضا أطول تلك الصحف عُمراً، وأغزرها مادة؛ حيث أنها كانت مصبّا لأفكار الكثيرين من أرباب العلم والفكر، وميدانا يتبارى فيه أهل الحكم والقلم، من بين كاتب لمقال إصلاحي أو قائل لقصيدة شعرية، أو طارح لفكرة اجتماعية.
ويُحدثنا مؤلف الكتاب عن مؤسس صحيفة “الفلق” في زنجبار، فيصفه لنا بـ”الشيخ الزعيم الوجيه هاشل بن راشد المسكري”، ويشير إلى أن المسكري كان في طليعة أولئك الأشخاص الذين قامت عليهم وعلى فكرهم صحيفة “الفلق”، حيث بث فيها وعبر صفحاتها شجونه الإصلاحية وشؤونه الاجتماعية وهمومه الوطنية.
ووفقا لصفحات كتاب الدكتور محسن بن حمود الكندي، فإن الشيخ هاشل بن راشد المسكري كان يتميز بصفات حميدة كثيرة وخلال مجيدة، أهلته موضع الزعامة ومكانة الوجاهة، فقد كان ملجأ للضيف، وكهفا وملاذاً للضعيف، وموئلا لطلاب الحاجة. وقد جمع لنا الكندي في كتابه بعض الشهادات من أهل بلدة نفعاء، الذين سبق لهم الذهاب إلى زنجبار، حيث سجّلت تلك الروايات كيف كان يقابلهم الشيخ هاشل بن راشد المسكري بأريحية عربية عمانية صادقة ضيافة وعطفا وتواضعا.
◙ فصول الكتاب تتحدث عن رحلات الشيخ هاشل بن راشد المسكري من زنجبار إلى وطنه الأم عُمان حيث كان يأتي حاملا معه أفكارا إصلاحية مستنيرة
وتتحدث فصول الكتاب عن رحلات الشيخ هاشل بن راشد المسكري من زنجبار إلى وطنه الأم عُمان، حيث كان يأتي حاملا معه تلك الأفكار الإصلاحية المستنيرة التي كان يطرحها على بساط الإمام محمد بن عبدالله الخليلي، بغية تطوير الدولة والمجتمع العُماني آنذاك، وأساس ذلك وعموده مؤسسة الشورى، الأمر الذي كان يعجب له الإمام الخليلي.
وهكذا يحتفي الكتاب بـ”الفلق” ومحررها وأول رئيس تحرير مسؤول عنها وهو الشيخ هاشل بن راشد المسكري، وهو احتفاء أيضا بالمنجز الثقافي العماني، وإبراز لما عرفه العمانيون من أشكال التحضر الحديث، بداية من التعليم ومرورا بالصحافة والمسرح والسينما والموسيقى، وكذلك الجمعيات وغيرها من المكونات الحضارية العُمانية.
توقف الأكاديمي محسن بن حمود الكندي، عبر صفحات كتابه، عند الخطاب الثقافي لـ”الفلق” كصحيفة عربية تصدر في زنجبار، وذلك بغية كشف هذا الخطاب واستجلائه، وتقديمه للقارئ العربي، وهو يستشرف آفاق القرن القادم بعين واعية وفكر وثاب، لاسيما تجاه الخطاب الثقافي العماني الذي يمتاز بخصوبته وغناه وحيويته، والذي لم يتيسر للكثير من الباحثين العرب الاطلاع عليه، حيث ظلت الأدراج والخزائن والمكتبات الأهلية أمينة عليه لأزمان عديدة، ناهيك عن كون بعضه مخطوطا لم ير النور، تجعل كثرته المقدرة بأكثر من سبعة آلاف مخطوطة بين مؤلف وديوان وكتاب، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الرسائل والخطب والقصائد المفردة والمقالات، وحتى المقامات التي ربما لم تعرف في الأدب العربي المعاصر إلا في الأدب العماني.
الخطاب الثقافي
◙ "الفلق" عرفت على امتداد تاريخ ظهورها تحولات جوهرية في الشكل والمضمون
وبجانب تناوله للدور الإصلاحي لـ”الفلق” تناول أيضا الصحيفة من جوانب مادية منطلقا من شكلها ثم العنوان، فالمضمون الصحفي، فأشكال الخطاب التنويري. ويرصد الكتاب ما عرفته “الفلق” على امتداد تاريخ ظهورها من تحولات جوهرية في الشكل والمضمون؛ إذ كان المشرفون عليها على وعي بجملة التحولات الطارئة على العمل الصحفي من ناحية، وبمقتضيات الحرفة الصحافية ودواعي الإصدار ومقتضياته من ناحية أخرى.
وبحسب الكتاب صدرت “الفلق” في 4 صفحات، ثم صارت 6 صفحات ثم تحولت إلى 8 صفحات، وذلك بعد أن رأى محرروها أهمية مخاطبة العنصر غير العربي من الإنجليز والهنود وبعض الأفارقة، فصدرت باللغتين العربية في أربع صفحات، وباللغة الإنجليزية في أربع أخرى، لتكون في متناول الجاليات غير العربية القاطنة في زنجبار وما حولها آنذاك.
وبجانب رؤساء التحرير المسؤولين كان هناك محررون عملوا في الصحيفة، وقد اتخذت لهم الصحيفة مسميات وظيفية أمثال: مدير إدارة الجريدة وخازنها، ومساعد مدير إدارة الجريدة وخازنها، ومدير الجريدة، وقد تعاقب على هذه الوظائف محررون أمثال: الشيخ سيف بن علي البوعلى، والشيخ هلال بن محمد بن هلال البرواني، والشيخ عبدالله بن حمود الحارثي، وغيرهم.
◙ المشرفون على "الفلق" كانوا على وعي بجملة التحولات الطارئة على العمل الصحفي وبمقتضيات الحرفة الصحافية ودواعي الإصدار ومقتضياته
ويوضح الكتاب أن “الفلق” توقفت عن الصدور لمدة سنة كاملة بدءاً من 19 يونيو 1954، إلى التاريخ نفسه من العام التالي 1955، بسبب مقالاتها الصارخة في وجه السلطة، وتحريضها على بداية العمل الوطني المتمثل في المناداة بالديمقراطية، وانتخاب أعضاء المجلس التشريعي، وقد حوكمت بسبب ذلك، وصدر الحكم رقم 1805 ضدها في 19 يونيو 1954 بإدانة أعضاء اللجنة المركزية للجمعية العربية، واتهام “الفلق” بإحدى عشرة تهمة ونص الحكم على إيقافها سنة كاملة ودفع غرامة قدرها خمسة وثلاثون ألف شلن.
وفور انتهاء تنفيذ الحكم عاودت “الفلق” الصدور، وكانت أطروحاتها الثقافية والسياسية مثار إعجاب قرائها ومتابعيها داخل الوطن العربي، إذ كانت تصل إلى عمان، وتوزع في الشام ومصر والجزائر وتونس وغيرها، ولذلك عني بها الشعراء والباحثون والقراء، وتضامنوا معها في فترة توقفها، ويؤكد مؤلف الكتاب على أن “الفلق” كانت من أبرز الصحف التي اضطلعت بدور في مجال الإصلاح الثقافي.
وقد اعتمد محسن بن حمود الكندي، في عرض وتحليل وتوثيق الخطاب التنويري لـ”الفلق” وشخصياتها، على العديد من المصادر والمراجع الموازية؛ منها بحث الأكاديمي فوزي مخيمر: الصحافة العمانية نشأتها وتطورها واتجاهاتها، وبحث عبدالله بن هاشل وصالحة المسكري عن حياة الشيخ هاشل بن راشد المسكري، إضافة إلى مؤلفات الأكاديمي إبراهيم غلوم وأبحاثه المتعددة في مجال الاحتفاء بالإعلام وبالتجارب الأدبية المؤسسة للخطاب الثقافي.
وبحسب ما طالعناه في كتاب “الصحافة العُمانية المُهاجرة وشخصياتها: الشيخ هاشل بن راشد المسكري نموذجاً”، لمؤلفه الأكاديمي محسن بن حمود الكندي، فقد أنجز العمانيون مناخات الثقافة الفكرية الحديثة في شرق أفريقيا خير إنجاز، وما الصحافة إلا أحد تلك الإنجازات الطليعية المعاصرة التي كانوا يضاهون بها آنذاك أقرانهم من الشعوب العربية.
حجاج سلامة
كاتب مصري