الرواية الثانية الخطوة الأولى للكاتب نحو بصمته الخاصة
كتّاب عرب يدعون إلى الخروج من جلباب الرواية السابقة.
الأحد 2024/08/11
الرواية اليتيمة قد لا تصنع كاتبا (لوحة للفنان وائل المرعب)
يروج رأي أنه بإمكان أي شخص كتابة رواية أولى، ربما استنادا إلى تجربة حياته وأفكاره ومغامراته ومشاعره وغيرها مما يدور حول الذات، ولذا تقاس تجارب الكتّاب عادة بعد الرواية الثانية، ونادرون هم من نجحوا بعمل يتيم، إذ الأدب في النهاية يقوم على التراكم. “العرب” تستطلع آراء روائيين عربا حول أهمية الرواية الثانية.
قد يكفي نشر رواية وحيدة ليكون صاحبها حاضرا في سجل الأدب العالمي، وهذا ما حققه باسترناك بروايته الشهيرة “دكتور جيفاكو”، كذلك الأمر بالنسبة إلى مواطنه ليرمنتوف الذي قد كسب الرهان بروايته “بطل من هذا الزمان” وأظهر ألمعيته في تناول المرحلة الانتقالية من تاريخ روسيا.
وعندما يدور الحديث عن الإبداع الروائي في أميركا اللاتينية لا يمكن القفز على رواية “بيدرو بارامو” التي انفردت برصيد خوان رولفو الروائي. ويتفق جمع من النقاد على أن هذه التحفة الأدبية قد ألقت بظلالها على جيل من الأدباء وصارت أيقونة روائية.
وتجد على المستوى العربي من لم يؤلّف خلال مسيرته الأدبية سوى رواية وحيدة وهنا من المناسب الإشارة إلى “الرواية الملعونة” للكاتبة السورية أمل جراح، وأيا يكن الأمر ربما لا يصعب على الكاتب تأليف روايته الأولى وهو يستمد من خبرته الحياتية وقراءاته مادة لحياكة عمله الأول، غير أن الموهبة لا تمتحن إلا بالرواية الثانية، لذلك فإن التحدي الأكبر بالنسبة إلى المبدع يكون بالخروج من جلباب كتابه الأول. حول هذا الموضوع رصدت “العرب” آراء عدد من الأدباء المبدعين.
الاندفاع الإبداعي
محمد حياوي: الرواية الثانية تشبه محاولة السباحة للابتعاد عن الشاطئ
يضرب الكاتب العراقي محمد حياوي مثالا توضيحيا للإبانة عن الصعوبة التي تنتظره وهو يشرع بكتابة الرواية الثانية قائلا “الرواية الثانية عندي تشبه محاولة السباحة للابتعاد عن الشاطئ، حيث يعمل البحر المستحيل لإعاقتك بواسطة الأمواج الكاسحة. في الواقع يكمن التحدي، في حال الرواية الثانية، بمدى القدرة على التخلص من تأثير الرواية الأولى، التي غالبا ما تكون متقنة جدا ومتماسكة، كون الكاتب قد عمل عليها لسنوات طويلة، أي منذ اللحظة التي قرر فيها أن يصبح كاتبا، حتى تقديم المخطوطة للناشر”.
ويضيف “أما الرواية الثانية، فهي تجربة مقامرة مدفوعة بالنجاح المفترض للرواية الأولى، وبعزم من تأثيرها، وبالتالي هي لم تحظ بالوقت الكافي للمراجعة والتمحيص، كسابقتها، وما لم يكن الروائي متمكنا من أدواته، لاسيما اللغة والقدرة على التخيل واختمار الفكرة، والتوظيف الحاذق للمكان والزمان، غالبا ما تكون النتيجة مخيبة للآمال، الأمر الذي يشكل انتكاسة غير متوقعة بالنسبة إلى القراء الذين توسموا ثقة بالكاتب، استنادا إلى روايته الأولى”.
ويذكر حياوي أنه شخصيا عانى من تلك التجربة وتأثيراتها بعد صدور روايته “خان الشابندر” وما حققته من انتشار ونجاح نسبي وردود أفعال طيبة من القراء والنقاد على حد سواء. إذ شكلت له عائقا كبيرا وتحديا صعبا، جعله يعيد كتابة روايته الثانية “بيت السودان” خمس مرات متتالية، وفي كل مرة تظهر له كما لو أنها رواية جديدة لا علاقة لها بشكلها السابق. لقد تطلب الأمر منه أكثر من سنتين حتى يقتنع بالشكل الأخير للمخطوطة ويدفعها للناشر.
سها مصطفى: التحدي في كتابة الرواية الثانية التجديد والهوية الإبداعية
ويتابع الكاتب “لحسن الحظ عدتها دار النشر بمستوى روايتي الأولى، إن لم تكن أفضل منها. لهذا السبب حسب ظني، ثمة الكثير من الكتاب يفشلون في روايتهم الثانية، بل وحتى الثالثة والرابعة، ولن يتخلصوا أبدا من تأثير الرواية الأولى ووقعها، فيتحولون إلى أصحاب الواحدة، وهي قضية مهمة للغاية، تقنيا ونفسيا بالنسبة إلى الكاتب”.
وترى الكاتبة السورية سها مصطفى التي صدرت لها مؤخرا رواية “اللعنة”، أن العمل الأول هو بمثابة تقديم أوراق الاعتماد للقراء، مشيرة إلى أن التحدي في كتابة الرواية الثانية يكمن في التجديد وصياغة الهوية الإبداعية الحديثة “إما تقدم مؤشرا لهوية واضحة لدى الكاتب أدبيا وإما نرى أن العمل الثاني ليس بسوية الأول الأمر الذي يقع بعض الكتاب فيه. وعليه كانت ثمة انطلاقة صاروخية لكاتبات عربيات في رواياتهن الأولى ولكن الروايات اللاحقة بدت مملة لغويا وتفتقر للشد ويغلب عليها التكرار، ولم تخرج من جلباب النص الأول”.
وتواصل مصطفى مداخلتها بالحديث عن تجربتها الشخصية “لا أضع في ذهني المقارنة مع العمل الأول بقدر التركيز على العمل الثاني، إن كنت أكتبه مثلا. بشكل عام سيرورة العمل الروائي من عمل إلى آخر تختلف بطبيعتها. يصل الكاتب إلى مرحلة التألق عندما يتوه أمام عناوينه أيها مفضل لديه ويرى أن معظم ما كتبه مفضل وأثيري عنده. والأهم بالنسبة إليّ هو وجود الاختلاف والتجدد في اللغة والتركيب وبناء الشخصيات وحبكة الحكاية بين العمل الأول وما يليه من النصوص الأخرى”.
أحمد الزمام: الكاتب معرض للوقوع في فخ التكرار دون شعور
من جانبه يسمّي الكاتب الكويتي أحمد الزمام، الذي صدرت له رواية “الاستدارة الأخيرة”، العمل الأول بالبطاقة التعريفية، يقول “أعتقد أن الرواية الأولى هي بمثابة تعريف الكاتب الجاد بنفسه في ميدان الرواية، وهذا ما يجعله يبذل قصارى جهده في تحضير الفكرة وتقديمها، وإن جاءت بمستوى متواضع، فهو يحمل عذر الابتداء. ولكن في هذا الابتداء، سيجد الكاتب صعوبة الانفكاك عن حياته وتجاربه الشخصية، وما تأثر به من كتب وما ساهم منها في تكوين أفكاره وتشكيل ذائقته، وهو اندفاع عاطفي للكتابة، وبشكل موسّع، يصبّ فيها الكاتب جل أفكاره ومشاعره التي تقلق إبداعه، وبأسلوب مشابه لأسلوب كتاب تأثر بأعمالهم، وهنا يظهر خليط من الألوان على الرواية أفقدت الكاتب قدرته على تمييز لونه الخاص”.
ويضيف “يظل الكاتب في هذا الانغلاق الإبداعي الذي يشق عليه كتابة الرواية الثانية، وأذكر ما قلته في مناسبات كثيرة، إن الكاتب معرّض للوقوع في فخ التكرار دونما شعور، سواء كان التكرار في الفكرة أو الأسلوب. وورطة الرواية الأولى قد وقع فيها الكثير من الروائيين العالميين، وهذا ما وجدناه بوضوح في أعمالهم الأولى، ولكنهم الآن في العالمية، وقد تخلصوا من قيود الابتداء. فالابتداء الإبداعي طبيعي، وسيصبح أكثر نضجا في الأعمال اللاحقة، حين يصبح الكاتب ماهرا في صناعة لونه الخاص الذي يميزه، وينجو بذكاء من قبضة الرواية الأولى، وهو تحد كبير، وبلا شك يزداد صعوبة في كل عمل إبداعي جديد”.
مي تلمساني: الموهبة تمتحن في كل عمل سواء الأول أو الأخير
تشير الكاتبة المصرية مي تلمساني إلى روائع الأدب الكلاسيكي وما اختبره نفر من الأدباء من بدايات متوهجة وما أعقب ذلك من التعثر مقابل من كانت رواياتهم الأولى متواضعة، غير أن ما أضافوه لاحقا فتح لهم أفقا آخر للإبداع. وتتحدث صاحبة “دنيا زاد” عن خطها الإبداعي قائلة “في ما يخص تجربتي في الكتابة، كل عمل جديد يطرح تحديا مشابها لتحدي الرواية الأولى: الخروج من أسر الوصفة سابقة التجهيز، القدرة على ممارسة اللعب بإخلاص، الاستمرار في مقاومة الجماليات المتوقعة لصالح فجأة التعبير المدهش، مطاردة ظلال الشخصيات المهمشة في الرواية الواقعية العربية، والوعي بأن الانتظار والصبر مفتاحان للإتقان في الإبداع لا غنى عنهما”.
وتضيف “أشعر مع كل عمل بأني في اختبار جديد، ليست لديّ إجابات جاهزة، لديّ فقط رغبة في الاندهاش تدعمها رغبة في التجويد والاختزال. تمتحن الموهبة في كل عمل، الأول والأخير، والموهبة في ذاتها ليست كافية لنقل العمل إلى مصاف الأدب الرفيع وانتشاله من هاوية التكرار أو الابتذال. يلزمها امتلاك لأدوات التعبير، ورؤية تصقلها القراءة والتجارب الحياتية، ووعي وصدق وترفّع عن الصغائر المحيطة بمؤسسة الأدب. الخروج من جلباب الرواية السابقة سواء كانت الأولى أو العاشرة مسعى أحترمه في الكتابة، وعليه لا أصدق فكرة أن الكاتب يعيد كتابة الرواية نفسها في كل مرة”.
محمد حباشة: كل رواية لها خصوصيتها وتقول عالمها وفضاءها
وتتابع “ففي طريق البحث عن بصمة وعن أسلوب يخصه، يقع البعض في وهم التفرد، وينهض البعض من كبوة التكرار، والكل يمنّي نفسه بكتابة عمل فائق يؤكد مكانته بين جمهور القراء ويحظى بدعم غير مشروط من مؤسسات النشر محليا ودوليا”.
وتؤكد أن قلة قليلة فقط هي من تحفر مسارات جديدة في الرواية وتراكم الأعمال الناجحة بوصفها كتلة مكتملة، لا بمعيار الانتشار المبتذل ولكن بمعيار الإبداع الإنساني القادر على تحدي الزمن.
وما يهم الكاتب التونسي محمد حباشة هو الالتفات إلى ذهنية المبدع وما يمكن أن يتطلع إليه وهو يقول بهذا الصدد “أعتقد بأن المسألة متعلقة أساسا بما يريد الروائي قوله. هناك روائيون ينتهجون التنوع في أعمالهم ولا يشبه كتاب لاحقه من حيث البنية واختيار تقنية السرد حتى وإن تشابهت المواضيع. هل تقول الرواية الثانية ما قالته الرواية الأولى؟ وهل ستقول الثالثة ما قالته الثانية؟ وهكذا”.
نسرين مؤدب: الرواية الثانية فرصة للكاتب لتكريس الخبرة التي اكتسبها
ويضيف “أؤمن بالتنوع في الكتابة الروائية، وهو ما يذهب إليه الروائي الأميركي بول أوستر حينما يصرح بأنه لا يعرف حقا قانونا عاما لكتابة الرواية وأن كل كتاب يجب أن يؤخذ على حدة، وأنه حالما يكون إزاء كتابة رواية جديدة فكأنما يتعلم كتابة الرواية من البداية. كل رواية لها خصوصيتها وتقول عالمها وفضاءها. هل تشكل الرواية الأولى تحديا؟ هل يقصد بذلك الرواية المكتوبة أولا أو المنشورة أولا؟ ذلك أن المطلع على المطبخ الداخلي للعديد من الروائيين سيعثر على مخطوط أو أكثر لروايات تظهر لاحقا جدا بعد مراكمة المدونة، وهو الحال مع رواية ‘المنور‘ لجوزيه ساراماغو التي تعد أول رواية كتبها وبقيت منسية في درج إحدى دور النشر، لتكون آخر رواية تنشر له في مسيرته بعد أن عاد إليها”.
ويذكر حكاية مماثلة مع رواية كتبها ماركيز قبل “عاصفة الأوراق”، روايته الأولى المنشورة، وتركها مخطوطة، لنكتشف لاحقا بأنها أنموذج مطول من “مائة عام من العزلة” وهي تأريخ لعائلته. وقد جاءت “مائة عام من العزلة” الخامسة في ترتيب رواياته حسب تاريخ النشر. وهناك من الروائيين من يكتفي برواية واحدة، تظل علامة أدبية خالدة، كما “بيدرو بارامو” لخوان رولفو وفي رأيي أن الكاتب قد أفرغ ما في جعبته واقتنع بما أراد قوله. في النهاية، يجب أن تقرأ كل رواية على حدة وعلى القارئ الذكي أن يدخل كل عمل جديد خاليا من انتظارات العمل السابق.
الهوس بالكمال
ليلى المطوع: خرجت من أجواء روايتها الأولى هاربة من ظلال نجاحها
بدورها تتابع الكاتبة التونسية نسرين مؤدب الموضوع من زاوية أخرى إذ تأخذ مزاج القراء ورأيهم بعين الاعتبار في تحسين جودة الكتابة، تقول “أعتقد أن القلق شعور ملازم للمبدع كقرينه فهو مهووس بالجمال والكمال ومطارد بمخاوفه وأوجاعه والموهبة وحدها لا تكفي لتبديد الهواجس. فهو في حاجة إلى الإيمان والمثابرة حتى يتجاوز ذاته ويتخطى كل العوائق التي تصادفه. تتيح الرواية الثانية الفرصة للكاتب لتكريس الخبرة التي اكتسبها من التجربة الأولى ليجيد استعمال تقنيات وأدوات الكتابة الروائية التي تحتاج مهارة ودراية بتفاصيل مهمة تصنع الفرق بين الرواية الجيدة والرديئة”.
وتضيف “في التجربة الثانية، يستفيد المؤلف أيضا من ملاحظات القراء والنقاد سواء بتثمين مواضع القوة في النص أو إبراز مواطن الضعف حتى يتجنبها في عمل إبداعي لاحق. كما يتحصل على دافع نفسي من الثقة والرغبة في تحسين قدراته وتقديم الأفضل وعلى صورة أكثر وضوحا للمشهد الأدبي بأطرافه المتعددة، مما يعبّد له طريقا ممهدا للنجاح ولكن يبقى هناك عنصر أساسي يحدد مصير تجربته ألا وهو القدرة على الإدهاش والإمتاع. فيجد نفسه أمام خطر الوقوع في التكرار أو التقوقع في مواضيع بعينها وفي الذاتية المطلقة، وإن كان من المحبذ أن تكون للكاتب شخصية فريدة وهوية معينة تبرز من خلال أعماله”.
وتبين أن تاريخ الرواية لا يخلو من كتاب أدهشوا العالم برواية واحدة كمارغريت ميتشيل وسيلفيا بلاث وغيرهما، فهم وإن لم يضيفوا عملا آخر فإنهم أضافوا إلى الرواية ما يجعلهم خالدين. الإبداع رحلة والمخاطرة تلازم من يعشق الترحال ومن ينتبه للذة الرحلة لن يتوقف بعد الوصول.
بسام المسلم: الرواية الثانية اختبار جديد لموهبة المؤلف وقدرته الإبداعية
أما الكاتبة البحرينية ليلى المطوع فتطالب بالخروج من أجواء روايتها الأولى هاربة من ظلال نجاحها المدوي، وفي سياق سردها لتلك التجربة تقول “كل عمل جديد يمثل تجربة وتحديا لاكتشاف مناطق جديدة لم يذهب إليها الروائي. بالنسبة إليّ كان التحدي الأكبر هو الخروج من الأعمال العاطفية التي تلاقي رواجا كبيرا في قطاع النشر، لدى الناشر ولدى القراء، لأنه حتى في القراءة هناك تيارات، وهذا التيار هو الأكبر وذو الربح المغري”. وتضيف صاحبة “المنسيون بين ماءين” موضحة بأن الرواية الأولى تكتسب أهمية استثنائية وقد تكون خطوة صغيرة على أرضية جديدة لكن قيمتها الكبيرة تكمن في تجسيدها لروحية مغامرة”.
تستعيد المطوع قصة نجاحها مع الرواية الأولى ومن ثم بحثها لشكل مختلف من الكتابة، فتقول “ما حدث أنني نشرت أول رواية وحققت انتشارا لا بأس به، ووصلت طبعاتها إلى السادسة، وهذا أمر جيد لي في ذاك الوقت؛ كاتبة شابة لا اسم لي في الساحة، أحقق هذا الانتشار. دفع ذلك بعض الناشرين إلى الإصرار على وضعي في هذه الخانة، أن أكتب أعمالا عاطفية، وأستمر في هذا الخط، ولكنني، وفق ما أسلفت، وقفت أتأمل ما حولي، أدركت أن عملي الأول كان مثل أطعمة الفاست فود، تقرأ بسرعة، ولا تترك أثرا! ولأن أول عمل لم يقرأ قراءة نقدية، بحثت عن آراء القراء لأرى ما أصبت به وما أخفقت، لأتعلم وأكون على دراية بنقاط قوتي وضعفي، فكان أن قررت الخروج من القالب الذي أقحمت نفسي فيه، وأصر على تعريفي به في ما بعد”.
وجاء العمل الثاني، ولا تعلم المطوع إن كانت نجحت في الامتحان، ولكن تناول النقاد له بهذه الصورة أمر مبشر. فمن قرأ عملها الأول، يسألها كيف انسلخت هذا الانسلاخ الجذري، وتحولت إلى الأساطير، والبحث عن ذاكرة الماء، إلى مساحات يعتقد البعض أن على الروائي الشاب، وخاصة المرأة، تجنبها.
اختبار الموهبة
أميرة الضحى: الكتابة ليست رواية وحيدة قال فيها الروائي كل ما لديه
من جانبه يعبّر الروائي الكويتي بسام المسلم عن رأيه بشأن الرواية الثانية قائلا “ربما تكون الرواية الثانية اختبارا جديدا لموهبة المؤلف وقدرته على الإبداع. يضع الكاتب غالبا خبراته وأفكاره الأبرز في روايته الأولى، حيث يحاول فيها إثبات ذاته والتعبير عن مخزون داخلي طويل. لكن الرواية الثانية تتطلب الابتعاد عن عناصر الرواية الأولى، والبحث عن طرق جديدة ومبتكرة للتعبير”.
ويضيف “الخروج من جلباب الرواية الأولى يعني تجنب الوقوع في فخ التكرار، أو تقديم عمل مشابه جدا للأول. وإذا كانت الرواية الأولى ناجحة، فهذا يعني التعامل مع توقعات عالية من القراء والنقاد، الذين يتطلعون لرؤية تطور الكاتب ونضجه وقدرته على توسيع آفاقه الأدبية واستكشاف مواضيع وأساليب جديدة. كل تجربة جديدة، ثانية كانت أو عاشرة، هي فرصة لإظهار تنوع الأسلوب والقدرة على التعامل مع مواضيع وشخصيات متنوعة، وعلى الاستمرار في الإبداع وتحقيق نجاح متواصل. كل كتاب جديد يحمل تحديا وفرصة للكاتب ليثبت أنه ليس مجرد موهبة عابرة، بل مؤلف متجدد وقادر على الاستمرار والتأثير في الأدب”.
وتشارك الروائية السعودية أميرة الضحى في النقاش حول تحديات كتابة الرواية الثانية فتقول “الكتابة تحديات مستمرة، لأنها طريقة حياة وصنعة يجب على الروائي والكاتب مزاولتها باستمرار. الرواية ليست بوحا يشعر الكاتب برغبته في التخفف منه، ليست نزوة أو كتابة عابرة أو طارئة. الروائي يواجه تحديات متتالية خلال مسيرته، لكنها في الرواية الثانية تكون أكبر. لا لأن الرواية الثانية تعتبر اختبارا حقيقيا لموهبته فقط، بل هي اختبار لاستمراريته. الكتابة ليست رواية وحيدة قال فيها الروائي كل ما لديه ومضى في دروب الحياة الأخرى، كما حصل للكثيرين حول العالم”.
نغم حيدر: ملامح هوية الكاتب الأدبية تكتمل مع الرواية الثانية
وتوضح أن الروائي سيواجه ضغوطا أكبر ليبرهن أن كتابته الأولى، لم تكن كتابة عابرة، وأن نجاح الرواية الأولى لم يكن مصادفة، وأن أفكاره لا تنضب. ويبقى المأزق الأكبر عندما تكون الرواية الأولى علامة فارقة في مسيرة الكاتب، حيث يصبح تجاوزها صعبا مهما كتب الروائي أعمالا أخرى وهذا حدث للكثيرين أيضا.
وتتابع الضحى “الضغوط التي تواجه الكاتب بعد العمل الأول هائلة في حال نجح العمل بالمقاييس المتعارف عليها (اهتمام النقاد وعدد الطبعات والمبيعات) أو لا، فالرواية الثانية برأيي هي بداية جديدة يخطو بها الكاتب في حياة الكتابة”.
في حين أن الروائية السورية نغم حيدر التي صدرت لها “معارك خاسرة” تقول “تكتمل مع الرواية الثانية ملامح هوية الكاتب الأدبية وخطها، ففي حين تبدو الرواية الأولى وكأنها تقدمة لموهبته وعالمه الروائي وتشكل فرصة للقراء والنقاد للاطلاع على أسلوبه، تأتي الرواية الثانية لتظهر تعدد إمكانياته وخاصة إن كانت هناك فترة زمنية لا بأس بها بين الروايتين”.
وتضيف “يحتاج الكاتب خلال هذه الفترة لأن يطور تجربته الأدبية وأدوات الكتابة لديه، ويستفيد من العثرات التي قد ارتكبها في الرواية الأولى. لا يكمن التحدي فقط في الخروج من أجواء الرواية الأولى وتجاوزها وإنما في الإتيان بجديد على صعيد الفكرة والأسلوب. لا ننسى أن شخصية الكاتب أيضا وتجربته وثقافته الأدبية ستتطور وتنضج مع الوقت، بالتالي فإن كل مرحلة من الكتابة مرتبطة أيضا بهذين العاملين. بالإضافة إلى هذا فإن قدرة الكاتب في الرواية الثانية على الحذف، المحو وتحرير النص وجعله أكثر تماسكا تكون أكبر”.
كه يلان محمد
كاتب عراقي
كتّاب عرب يدعون إلى الخروج من جلباب الرواية السابقة.
الأحد 2024/08/11
الرواية اليتيمة قد لا تصنع كاتبا (لوحة للفنان وائل المرعب)
يروج رأي أنه بإمكان أي شخص كتابة رواية أولى، ربما استنادا إلى تجربة حياته وأفكاره ومغامراته ومشاعره وغيرها مما يدور حول الذات، ولذا تقاس تجارب الكتّاب عادة بعد الرواية الثانية، ونادرون هم من نجحوا بعمل يتيم، إذ الأدب في النهاية يقوم على التراكم. “العرب” تستطلع آراء روائيين عربا حول أهمية الرواية الثانية.
قد يكفي نشر رواية وحيدة ليكون صاحبها حاضرا في سجل الأدب العالمي، وهذا ما حققه باسترناك بروايته الشهيرة “دكتور جيفاكو”، كذلك الأمر بالنسبة إلى مواطنه ليرمنتوف الذي قد كسب الرهان بروايته “بطل من هذا الزمان” وأظهر ألمعيته في تناول المرحلة الانتقالية من تاريخ روسيا.
وعندما يدور الحديث عن الإبداع الروائي في أميركا اللاتينية لا يمكن القفز على رواية “بيدرو بارامو” التي انفردت برصيد خوان رولفو الروائي. ويتفق جمع من النقاد على أن هذه التحفة الأدبية قد ألقت بظلالها على جيل من الأدباء وصارت أيقونة روائية.
وتجد على المستوى العربي من لم يؤلّف خلال مسيرته الأدبية سوى رواية وحيدة وهنا من المناسب الإشارة إلى “الرواية الملعونة” للكاتبة السورية أمل جراح، وأيا يكن الأمر ربما لا يصعب على الكاتب تأليف روايته الأولى وهو يستمد من خبرته الحياتية وقراءاته مادة لحياكة عمله الأول، غير أن الموهبة لا تمتحن إلا بالرواية الثانية، لذلك فإن التحدي الأكبر بالنسبة إلى المبدع يكون بالخروج من جلباب كتابه الأول. حول هذا الموضوع رصدت “العرب” آراء عدد من الأدباء المبدعين.
الاندفاع الإبداعي
محمد حياوي: الرواية الثانية تشبه محاولة السباحة للابتعاد عن الشاطئ
يضرب الكاتب العراقي محمد حياوي مثالا توضيحيا للإبانة عن الصعوبة التي تنتظره وهو يشرع بكتابة الرواية الثانية قائلا “الرواية الثانية عندي تشبه محاولة السباحة للابتعاد عن الشاطئ، حيث يعمل البحر المستحيل لإعاقتك بواسطة الأمواج الكاسحة. في الواقع يكمن التحدي، في حال الرواية الثانية، بمدى القدرة على التخلص من تأثير الرواية الأولى، التي غالبا ما تكون متقنة جدا ومتماسكة، كون الكاتب قد عمل عليها لسنوات طويلة، أي منذ اللحظة التي قرر فيها أن يصبح كاتبا، حتى تقديم المخطوطة للناشر”.
ويضيف “أما الرواية الثانية، فهي تجربة مقامرة مدفوعة بالنجاح المفترض للرواية الأولى، وبعزم من تأثيرها، وبالتالي هي لم تحظ بالوقت الكافي للمراجعة والتمحيص، كسابقتها، وما لم يكن الروائي متمكنا من أدواته، لاسيما اللغة والقدرة على التخيل واختمار الفكرة، والتوظيف الحاذق للمكان والزمان، غالبا ما تكون النتيجة مخيبة للآمال، الأمر الذي يشكل انتكاسة غير متوقعة بالنسبة إلى القراء الذين توسموا ثقة بالكاتب، استنادا إلى روايته الأولى”.
ويذكر حياوي أنه شخصيا عانى من تلك التجربة وتأثيراتها بعد صدور روايته “خان الشابندر” وما حققته من انتشار ونجاح نسبي وردود أفعال طيبة من القراء والنقاد على حد سواء. إذ شكلت له عائقا كبيرا وتحديا صعبا، جعله يعيد كتابة روايته الثانية “بيت السودان” خمس مرات متتالية، وفي كل مرة تظهر له كما لو أنها رواية جديدة لا علاقة لها بشكلها السابق. لقد تطلب الأمر منه أكثر من سنتين حتى يقتنع بالشكل الأخير للمخطوطة ويدفعها للناشر.
سها مصطفى: التحدي في كتابة الرواية الثانية التجديد والهوية الإبداعية
ويتابع الكاتب “لحسن الحظ عدتها دار النشر بمستوى روايتي الأولى، إن لم تكن أفضل منها. لهذا السبب حسب ظني، ثمة الكثير من الكتاب يفشلون في روايتهم الثانية، بل وحتى الثالثة والرابعة، ولن يتخلصوا أبدا من تأثير الرواية الأولى ووقعها، فيتحولون إلى أصحاب الواحدة، وهي قضية مهمة للغاية، تقنيا ونفسيا بالنسبة إلى الكاتب”.
وترى الكاتبة السورية سها مصطفى التي صدرت لها مؤخرا رواية “اللعنة”، أن العمل الأول هو بمثابة تقديم أوراق الاعتماد للقراء، مشيرة إلى أن التحدي في كتابة الرواية الثانية يكمن في التجديد وصياغة الهوية الإبداعية الحديثة “إما تقدم مؤشرا لهوية واضحة لدى الكاتب أدبيا وإما نرى أن العمل الثاني ليس بسوية الأول الأمر الذي يقع بعض الكتاب فيه. وعليه كانت ثمة انطلاقة صاروخية لكاتبات عربيات في رواياتهن الأولى ولكن الروايات اللاحقة بدت مملة لغويا وتفتقر للشد ويغلب عليها التكرار، ولم تخرج من جلباب النص الأول”.
وتواصل مصطفى مداخلتها بالحديث عن تجربتها الشخصية “لا أضع في ذهني المقارنة مع العمل الأول بقدر التركيز على العمل الثاني، إن كنت أكتبه مثلا. بشكل عام سيرورة العمل الروائي من عمل إلى آخر تختلف بطبيعتها. يصل الكاتب إلى مرحلة التألق عندما يتوه أمام عناوينه أيها مفضل لديه ويرى أن معظم ما كتبه مفضل وأثيري عنده. والأهم بالنسبة إليّ هو وجود الاختلاف والتجدد في اللغة والتركيب وبناء الشخصيات وحبكة الحكاية بين العمل الأول وما يليه من النصوص الأخرى”.
أحمد الزمام: الكاتب معرض للوقوع في فخ التكرار دون شعور
من جانبه يسمّي الكاتب الكويتي أحمد الزمام، الذي صدرت له رواية “الاستدارة الأخيرة”، العمل الأول بالبطاقة التعريفية، يقول “أعتقد أن الرواية الأولى هي بمثابة تعريف الكاتب الجاد بنفسه في ميدان الرواية، وهذا ما يجعله يبذل قصارى جهده في تحضير الفكرة وتقديمها، وإن جاءت بمستوى متواضع، فهو يحمل عذر الابتداء. ولكن في هذا الابتداء، سيجد الكاتب صعوبة الانفكاك عن حياته وتجاربه الشخصية، وما تأثر به من كتب وما ساهم منها في تكوين أفكاره وتشكيل ذائقته، وهو اندفاع عاطفي للكتابة، وبشكل موسّع، يصبّ فيها الكاتب جل أفكاره ومشاعره التي تقلق إبداعه، وبأسلوب مشابه لأسلوب كتاب تأثر بأعمالهم، وهنا يظهر خليط من الألوان على الرواية أفقدت الكاتب قدرته على تمييز لونه الخاص”.
ويضيف “يظل الكاتب في هذا الانغلاق الإبداعي الذي يشق عليه كتابة الرواية الثانية، وأذكر ما قلته في مناسبات كثيرة، إن الكاتب معرّض للوقوع في فخ التكرار دونما شعور، سواء كان التكرار في الفكرة أو الأسلوب. وورطة الرواية الأولى قد وقع فيها الكثير من الروائيين العالميين، وهذا ما وجدناه بوضوح في أعمالهم الأولى، ولكنهم الآن في العالمية، وقد تخلصوا من قيود الابتداء. فالابتداء الإبداعي طبيعي، وسيصبح أكثر نضجا في الأعمال اللاحقة، حين يصبح الكاتب ماهرا في صناعة لونه الخاص الذي يميزه، وينجو بذكاء من قبضة الرواية الأولى، وهو تحد كبير، وبلا شك يزداد صعوبة في كل عمل إبداعي جديد”.
مي تلمساني: الموهبة تمتحن في كل عمل سواء الأول أو الأخير
تشير الكاتبة المصرية مي تلمساني إلى روائع الأدب الكلاسيكي وما اختبره نفر من الأدباء من بدايات متوهجة وما أعقب ذلك من التعثر مقابل من كانت رواياتهم الأولى متواضعة، غير أن ما أضافوه لاحقا فتح لهم أفقا آخر للإبداع. وتتحدث صاحبة “دنيا زاد” عن خطها الإبداعي قائلة “في ما يخص تجربتي في الكتابة، كل عمل جديد يطرح تحديا مشابها لتحدي الرواية الأولى: الخروج من أسر الوصفة سابقة التجهيز، القدرة على ممارسة اللعب بإخلاص، الاستمرار في مقاومة الجماليات المتوقعة لصالح فجأة التعبير المدهش، مطاردة ظلال الشخصيات المهمشة في الرواية الواقعية العربية، والوعي بأن الانتظار والصبر مفتاحان للإتقان في الإبداع لا غنى عنهما”.
وتضيف “أشعر مع كل عمل بأني في اختبار جديد، ليست لديّ إجابات جاهزة، لديّ فقط رغبة في الاندهاش تدعمها رغبة في التجويد والاختزال. تمتحن الموهبة في كل عمل، الأول والأخير، والموهبة في ذاتها ليست كافية لنقل العمل إلى مصاف الأدب الرفيع وانتشاله من هاوية التكرار أو الابتذال. يلزمها امتلاك لأدوات التعبير، ورؤية تصقلها القراءة والتجارب الحياتية، ووعي وصدق وترفّع عن الصغائر المحيطة بمؤسسة الأدب. الخروج من جلباب الرواية السابقة سواء كانت الأولى أو العاشرة مسعى أحترمه في الكتابة، وعليه لا أصدق فكرة أن الكاتب يعيد كتابة الرواية نفسها في كل مرة”.
محمد حباشة: كل رواية لها خصوصيتها وتقول عالمها وفضاءها
وتتابع “ففي طريق البحث عن بصمة وعن أسلوب يخصه، يقع البعض في وهم التفرد، وينهض البعض من كبوة التكرار، والكل يمنّي نفسه بكتابة عمل فائق يؤكد مكانته بين جمهور القراء ويحظى بدعم غير مشروط من مؤسسات النشر محليا ودوليا”.
وتؤكد أن قلة قليلة فقط هي من تحفر مسارات جديدة في الرواية وتراكم الأعمال الناجحة بوصفها كتلة مكتملة، لا بمعيار الانتشار المبتذل ولكن بمعيار الإبداع الإنساني القادر على تحدي الزمن.
وما يهم الكاتب التونسي محمد حباشة هو الالتفات إلى ذهنية المبدع وما يمكن أن يتطلع إليه وهو يقول بهذا الصدد “أعتقد بأن المسألة متعلقة أساسا بما يريد الروائي قوله. هناك روائيون ينتهجون التنوع في أعمالهم ولا يشبه كتاب لاحقه من حيث البنية واختيار تقنية السرد حتى وإن تشابهت المواضيع. هل تقول الرواية الثانية ما قالته الرواية الأولى؟ وهل ستقول الثالثة ما قالته الثانية؟ وهكذا”.
نسرين مؤدب: الرواية الثانية فرصة للكاتب لتكريس الخبرة التي اكتسبها
ويضيف “أؤمن بالتنوع في الكتابة الروائية، وهو ما يذهب إليه الروائي الأميركي بول أوستر حينما يصرح بأنه لا يعرف حقا قانونا عاما لكتابة الرواية وأن كل كتاب يجب أن يؤخذ على حدة، وأنه حالما يكون إزاء كتابة رواية جديدة فكأنما يتعلم كتابة الرواية من البداية. كل رواية لها خصوصيتها وتقول عالمها وفضاءها. هل تشكل الرواية الأولى تحديا؟ هل يقصد بذلك الرواية المكتوبة أولا أو المنشورة أولا؟ ذلك أن المطلع على المطبخ الداخلي للعديد من الروائيين سيعثر على مخطوط أو أكثر لروايات تظهر لاحقا جدا بعد مراكمة المدونة، وهو الحال مع رواية ‘المنور‘ لجوزيه ساراماغو التي تعد أول رواية كتبها وبقيت منسية في درج إحدى دور النشر، لتكون آخر رواية تنشر له في مسيرته بعد أن عاد إليها”.
ويذكر حكاية مماثلة مع رواية كتبها ماركيز قبل “عاصفة الأوراق”، روايته الأولى المنشورة، وتركها مخطوطة، لنكتشف لاحقا بأنها أنموذج مطول من “مائة عام من العزلة” وهي تأريخ لعائلته. وقد جاءت “مائة عام من العزلة” الخامسة في ترتيب رواياته حسب تاريخ النشر. وهناك من الروائيين من يكتفي برواية واحدة، تظل علامة أدبية خالدة، كما “بيدرو بارامو” لخوان رولفو وفي رأيي أن الكاتب قد أفرغ ما في جعبته واقتنع بما أراد قوله. في النهاية، يجب أن تقرأ كل رواية على حدة وعلى القارئ الذكي أن يدخل كل عمل جديد خاليا من انتظارات العمل السابق.
الهوس بالكمال
ليلى المطوع: خرجت من أجواء روايتها الأولى هاربة من ظلال نجاحها
بدورها تتابع الكاتبة التونسية نسرين مؤدب الموضوع من زاوية أخرى إذ تأخذ مزاج القراء ورأيهم بعين الاعتبار في تحسين جودة الكتابة، تقول “أعتقد أن القلق شعور ملازم للمبدع كقرينه فهو مهووس بالجمال والكمال ومطارد بمخاوفه وأوجاعه والموهبة وحدها لا تكفي لتبديد الهواجس. فهو في حاجة إلى الإيمان والمثابرة حتى يتجاوز ذاته ويتخطى كل العوائق التي تصادفه. تتيح الرواية الثانية الفرصة للكاتب لتكريس الخبرة التي اكتسبها من التجربة الأولى ليجيد استعمال تقنيات وأدوات الكتابة الروائية التي تحتاج مهارة ودراية بتفاصيل مهمة تصنع الفرق بين الرواية الجيدة والرديئة”.
وتضيف “في التجربة الثانية، يستفيد المؤلف أيضا من ملاحظات القراء والنقاد سواء بتثمين مواضع القوة في النص أو إبراز مواطن الضعف حتى يتجنبها في عمل إبداعي لاحق. كما يتحصل على دافع نفسي من الثقة والرغبة في تحسين قدراته وتقديم الأفضل وعلى صورة أكثر وضوحا للمشهد الأدبي بأطرافه المتعددة، مما يعبّد له طريقا ممهدا للنجاح ولكن يبقى هناك عنصر أساسي يحدد مصير تجربته ألا وهو القدرة على الإدهاش والإمتاع. فيجد نفسه أمام خطر الوقوع في التكرار أو التقوقع في مواضيع بعينها وفي الذاتية المطلقة، وإن كان من المحبذ أن تكون للكاتب شخصية فريدة وهوية معينة تبرز من خلال أعماله”.
وتبين أن تاريخ الرواية لا يخلو من كتاب أدهشوا العالم برواية واحدة كمارغريت ميتشيل وسيلفيا بلاث وغيرهما، فهم وإن لم يضيفوا عملا آخر فإنهم أضافوا إلى الرواية ما يجعلهم خالدين. الإبداع رحلة والمخاطرة تلازم من يعشق الترحال ومن ينتبه للذة الرحلة لن يتوقف بعد الوصول.
بسام المسلم: الرواية الثانية اختبار جديد لموهبة المؤلف وقدرته الإبداعية
أما الكاتبة البحرينية ليلى المطوع فتطالب بالخروج من أجواء روايتها الأولى هاربة من ظلال نجاحها المدوي، وفي سياق سردها لتلك التجربة تقول “كل عمل جديد يمثل تجربة وتحديا لاكتشاف مناطق جديدة لم يذهب إليها الروائي. بالنسبة إليّ كان التحدي الأكبر هو الخروج من الأعمال العاطفية التي تلاقي رواجا كبيرا في قطاع النشر، لدى الناشر ولدى القراء، لأنه حتى في القراءة هناك تيارات، وهذا التيار هو الأكبر وذو الربح المغري”. وتضيف صاحبة “المنسيون بين ماءين” موضحة بأن الرواية الأولى تكتسب أهمية استثنائية وقد تكون خطوة صغيرة على أرضية جديدة لكن قيمتها الكبيرة تكمن في تجسيدها لروحية مغامرة”.
تستعيد المطوع قصة نجاحها مع الرواية الأولى ومن ثم بحثها لشكل مختلف من الكتابة، فتقول “ما حدث أنني نشرت أول رواية وحققت انتشارا لا بأس به، ووصلت طبعاتها إلى السادسة، وهذا أمر جيد لي في ذاك الوقت؛ كاتبة شابة لا اسم لي في الساحة، أحقق هذا الانتشار. دفع ذلك بعض الناشرين إلى الإصرار على وضعي في هذه الخانة، أن أكتب أعمالا عاطفية، وأستمر في هذا الخط، ولكنني، وفق ما أسلفت، وقفت أتأمل ما حولي، أدركت أن عملي الأول كان مثل أطعمة الفاست فود، تقرأ بسرعة، ولا تترك أثرا! ولأن أول عمل لم يقرأ قراءة نقدية، بحثت عن آراء القراء لأرى ما أصبت به وما أخفقت، لأتعلم وأكون على دراية بنقاط قوتي وضعفي، فكان أن قررت الخروج من القالب الذي أقحمت نفسي فيه، وأصر على تعريفي به في ما بعد”.
وجاء العمل الثاني، ولا تعلم المطوع إن كانت نجحت في الامتحان، ولكن تناول النقاد له بهذه الصورة أمر مبشر. فمن قرأ عملها الأول، يسألها كيف انسلخت هذا الانسلاخ الجذري، وتحولت إلى الأساطير، والبحث عن ذاكرة الماء، إلى مساحات يعتقد البعض أن على الروائي الشاب، وخاصة المرأة، تجنبها.
اختبار الموهبة
أميرة الضحى: الكتابة ليست رواية وحيدة قال فيها الروائي كل ما لديه
من جانبه يعبّر الروائي الكويتي بسام المسلم عن رأيه بشأن الرواية الثانية قائلا “ربما تكون الرواية الثانية اختبارا جديدا لموهبة المؤلف وقدرته على الإبداع. يضع الكاتب غالبا خبراته وأفكاره الأبرز في روايته الأولى، حيث يحاول فيها إثبات ذاته والتعبير عن مخزون داخلي طويل. لكن الرواية الثانية تتطلب الابتعاد عن عناصر الرواية الأولى، والبحث عن طرق جديدة ومبتكرة للتعبير”.
ويضيف “الخروج من جلباب الرواية الأولى يعني تجنب الوقوع في فخ التكرار، أو تقديم عمل مشابه جدا للأول. وإذا كانت الرواية الأولى ناجحة، فهذا يعني التعامل مع توقعات عالية من القراء والنقاد، الذين يتطلعون لرؤية تطور الكاتب ونضجه وقدرته على توسيع آفاقه الأدبية واستكشاف مواضيع وأساليب جديدة. كل تجربة جديدة، ثانية كانت أو عاشرة، هي فرصة لإظهار تنوع الأسلوب والقدرة على التعامل مع مواضيع وشخصيات متنوعة، وعلى الاستمرار في الإبداع وتحقيق نجاح متواصل. كل كتاب جديد يحمل تحديا وفرصة للكاتب ليثبت أنه ليس مجرد موهبة عابرة، بل مؤلف متجدد وقادر على الاستمرار والتأثير في الأدب”.
وتشارك الروائية السعودية أميرة الضحى في النقاش حول تحديات كتابة الرواية الثانية فتقول “الكتابة تحديات مستمرة، لأنها طريقة حياة وصنعة يجب على الروائي والكاتب مزاولتها باستمرار. الرواية ليست بوحا يشعر الكاتب برغبته في التخفف منه، ليست نزوة أو كتابة عابرة أو طارئة. الروائي يواجه تحديات متتالية خلال مسيرته، لكنها في الرواية الثانية تكون أكبر. لا لأن الرواية الثانية تعتبر اختبارا حقيقيا لموهبته فقط، بل هي اختبار لاستمراريته. الكتابة ليست رواية وحيدة قال فيها الروائي كل ما لديه ومضى في دروب الحياة الأخرى، كما حصل للكثيرين حول العالم”.
نغم حيدر: ملامح هوية الكاتب الأدبية تكتمل مع الرواية الثانية
وتوضح أن الروائي سيواجه ضغوطا أكبر ليبرهن أن كتابته الأولى، لم تكن كتابة عابرة، وأن نجاح الرواية الأولى لم يكن مصادفة، وأن أفكاره لا تنضب. ويبقى المأزق الأكبر عندما تكون الرواية الأولى علامة فارقة في مسيرة الكاتب، حيث يصبح تجاوزها صعبا مهما كتب الروائي أعمالا أخرى وهذا حدث للكثيرين أيضا.
وتتابع الضحى “الضغوط التي تواجه الكاتب بعد العمل الأول هائلة في حال نجح العمل بالمقاييس المتعارف عليها (اهتمام النقاد وعدد الطبعات والمبيعات) أو لا، فالرواية الثانية برأيي هي بداية جديدة يخطو بها الكاتب في حياة الكتابة”.
في حين أن الروائية السورية نغم حيدر التي صدرت لها “معارك خاسرة” تقول “تكتمل مع الرواية الثانية ملامح هوية الكاتب الأدبية وخطها، ففي حين تبدو الرواية الأولى وكأنها تقدمة لموهبته وعالمه الروائي وتشكل فرصة للقراء والنقاد للاطلاع على أسلوبه، تأتي الرواية الثانية لتظهر تعدد إمكانياته وخاصة إن كانت هناك فترة زمنية لا بأس بها بين الروايتين”.
وتضيف “يحتاج الكاتب خلال هذه الفترة لأن يطور تجربته الأدبية وأدوات الكتابة لديه، ويستفيد من العثرات التي قد ارتكبها في الرواية الأولى. لا يكمن التحدي فقط في الخروج من أجواء الرواية الأولى وتجاوزها وإنما في الإتيان بجديد على صعيد الفكرة والأسلوب. لا ننسى أن شخصية الكاتب أيضا وتجربته وثقافته الأدبية ستتطور وتنضج مع الوقت، بالتالي فإن كل مرحلة من الكتابة مرتبطة أيضا بهذين العاملين. بالإضافة إلى هذا فإن قدرة الكاتب في الرواية الثانية على الحذف، المحو وتحرير النص وجعله أكثر تماسكا تكون أكبر”.
كه يلان محمد
كاتب عراقي