للأرجنتيني أرنستو ساباتو.رواية «النفق»..تكشف أسرار الذات المظلمة.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • للأرجنتيني أرنستو ساباتو.رواية «النفق»..تكشف أسرار الذات المظلمة.

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	Screenshot_٢٠٢٤٠٨٠٩-١١٣٢٥٧_Chrome.jpg 
مشاهدات:	7 
الحجم:	50.2 كيلوبايت 
الهوية:	228708

    رواية «النفق» للأرجنتيني أرنستو ساباتو: كشف أسرار الذات المظلمة

    4 - أغسطس - 2024م

    نسرين بلوط

    هنالك ركنٌ خفي في اللاوعي المتلفع بسراديب الظلمات، يضيء مثل كشاف النور الخفيف عابراً وناقلاً لمرآة الوجدان الإنساني، ويظهر في الوعي المتكامل للفكر كنوع من العدائية المسلطة على من حولها، تفتك وتسفك وتعرك المشاعرَ الإنسانية بادعاءاتٍ فارغة، وهي أنها تبحث عن الحقيقة المتوهمة أو المزعومة.
    هذا النفق الحلزوني الذي يلغي سياجات النفس وخصوصيتها ويأخذها في رحلةٍ كابوسية تنتهي بنهاية مخزية وحتمية، هو عنوان رواية الكاتب الأرجنتيني أرنستو ساباتو «النفق»، الذي لمح للعلاج الفلسفي الروحي المبتور في منعطفات مكابحها، على طريقة الفيلسوف اليوناني ديموقريطيس الذي كرس مواهبه كطبيب روحي للذات التالفة والمشرفة على الهلاك، من خلال تجشم الآلام الهائلة في أعماق النفس وتخفيفها بالعلاج والسلوك الفلسفي، وكذلك ترجمة انفعالاتها بالحكمة الكامنة وراء أسرار الحياة والفناء، لاعتاقها من وبالها وتعاميها عن الحقيقة.
    أما عن محور الرواية فهو تشاؤمي كثير الانفعال وحافل بالتشويق، يحقق مرام الكاتب في جعل المتلقي مشدود البصر والمخيلة في تتبع هذه الدوامة المتشعبة التي تدخل عمق النفق الروحي.
    القصة تدور حول رسام متمرس يروي بلا ندم سبب ارتكابه لجريمة قتل حبيبته ماريا من وراء قضبان السجن، ويشير إلى أن الحكاية تبدأ ذات يوم عندما كان يراقب نظرات الناس في معرضه وهي تلتهم بشغف جمال رسوماته، ولكنها تغض الطرف عن لوحة لامرأة تقف ساكنة وهي تطل من نافذة وحدتها، لم يلتفت أي من الحاضرين للفن الأصيل المتماهي معها، ولكن فتاة من الموجودين وقفت صاغرة أمامها، وكأنها تقر بالجرح العميق فيها، وهي تتأملها ساكنة النفس، معصوبة العينين عمن حولها. تجتاح نظراتها كيانه ويقرر أن يلحق بها، ولكنه يفقدها بين الحشود. يبحث عنها كل يوم إلى أن تجمعه بها صدفة أخرى فيقوم بمطاردتها ويجتذبها من ذراعها مسلطاً عينيه في عمق نظراتها، ويسألها عن سر إعجابها بلوحته الفريدة التي لم يفهم بواطنها أحد غيرها، فترتبك وتنبئه عن إعجابها الشديد باللغز المبطن الذي تشير إليه لوحته وما أثارته فيها من شجن خفي وكمدٍ لامرئي، وسرعان ما تنشأ بينه وبينها (واسمها ماريا) علاقة حب عجيبة، هي أشبه بالتسلط والتملك الحاد من طرفه، فهو يحلل كل بادرةٍ منها على أنها خيانة، عندما يتصل بمنزلها ليسألَ عنها خادمتها، تهمس له ماريا بأنها لا تستطيع أن تتكلم بحريتها لأن باب غرفتها لم يوصد بعد، ويكتشف لاحقاً أنها متزوجة من رجل ضرير ولكنها لم تبح له سريعاً بوضعها الاجتماعي، حرصاً على مشاعره، ثم يعلم بأنها تقضي الكثير من أيامها في مزرعة ابن عم لها يدعى هونتر، وهو رجل ماجن ويفتقر للتهذيب السلوكي. تسوء علاقته بها بعد اتصالهما الجسدي، إذ أنه يشعر بأنها تتصنع النشوة وهي بين أحضانه، فيقوم باستجوابها عن أدق تفاصيل مشاعرها، ليطرح عليها أسئلةً غريبة: «هل تحب زوجها؟ فإذن كيف تهبه جسدها، ولماذا تغلق الباب حين يهاتفها، هل لأنها تمتلك قدراً هائلاً من العشاق وقد اعتادت الأمر، وكيف تخدع زوجها ببساطة، هل هي إذن عادة تمرست فيها واحترفتها، وكيف تجرأت واحتفظت برسائل رجل انتحر من أجلها منذ سنوات، إن لم تكن قد منحته رطب الأمل، ولماذا يرين التوتر على صوت خادمتها عندما يهاتفها، هل تعلم الأخيرة سراً خطيراً عن سيدتها؟» إلى ما هنالك من ضروب الجنون الذي تزيد أجوبة ماريا البريئة من إضرامها وهي تجلس قبالته كسيرة الروح ذليلة المحيا، تحاول إثبات براءتها دون جدوى، وكانت عندما تهجره وتذهب إلى المزرعة يكاد يفقد صوابه ويراسلها بكلماتٍ مضطرمة بنيران الوله والوحدة واليأس، مهدداً إياها بالانتحار.
    تدعوه ماريا ذات يوم ليلحقَ بها في مزرعة قريبها هونتر، وعند ذهابه يخيل إليه أن الأخير يتصرف بعصبية ونزق فيحلل الموقف بأن هونتر يغار على ماريا، وأنها تقيم علاقة سرية معه فيترك المزرعة دون أن يبلغها ويعود الى منزله ليغرقَ في جحيم الانفعالات النفسية الجائرة التي تسلخه عن واقعه وتزرعه في بركان الشك القاتل.
    يقوم بارسال رسالة الى ماريا ينبئها فيها بتحققه من خيانتها الآثمة، ثم يغير رأيه بعد دقائق ويحاول استرجاع الرسالة من موظفة البريد دون جدوى بعد أن أضاع الإيصال، فيتركها متبرماً حانقا، ويهاتف ماريا ليقنعها برؤيته، فتوافق رغم حاجة هونتر لها لأنه عليل، لكنها تبدل رأيها بعد أن تصل إلى منزلها فور مهاتفة الأخير لها وتعود أدراجها الى المزرعة مما يعزز شكوكه، ويجنح لارتياد الحانات والشرب حتى الثمالة، ثم يقوم باصطحاب بائعة هوى إلى معرضه، فتقوم عكس ماريا بالسخرية من لوحاته، ولكنه يلحظ أنها تردد الكلمات نفسها التي تفوهت بها حبيبته في الفراش، فيظن أنه حل معضلة الشك في نفسه، وأنه اكتشف أخيراً أن ماريا هي امرأة ساقطة تماما مثل بائعة الهوى، التي يقوم بطردها وركلها بعد أن أدمت يده بأسنانها لأنه نعتها بألفاظ مبتذلة.
    يهرول سريعا إلى منزل صديقه ويستعير منه سيارته ويصل المزرعة ليتعقب ماريا فيلمحها تنسل من المنزل متأبطة ذراع هونتر، ثم يعود الاثنان إلى الداخل، وتتشنُج عيناه مراقبة الضوء في الطابق العلوي، فتضاء غرفة نوم هونتر أولا، ثم تمر دقائق تشبه لهيب النار المتلظي، قبل أن تشعل ماريا ضوء غرفتها. فتغلي عروقه بلهب الشك ويتسلق الجدران ليصل إلى غرفة ماريا ويقوم بنحرها، ويذهب بعدها سريعاً إلى منزل زوجها ليخبره بأن امرأته خائنة، وكانت تخدع الجميع وتعاشر الكثيرين فانتقم منها. يصرخ زوجها الضرير ويقوم بملاحقته ناعتاً إياه بالأحمق، فيتملص منه الرسام ويسلم نفسه إلى الشرطة.
    قام فرويد بتحليل التجربة الذهانية التخيلية على أنها تجويفٌ متحلل في الجرف العنيف للصراع النفسي، الذي يتضمُن التيه الوجودي والريبة والتفاعلات الهستيرية، وقد تزيد النرجسية الصماء من خطورة الموقف وتفاعله، وقد كانت لبطل ساباتو صولاتٌ مجلجلة في هذه الدمويُة النفسية التي لم يكن وحده ضحيتها ولكنه قتل المرأة التي عطفت عليه، وتسبب بانتحار زوجها الضرير الذي لم يستطع كبح زلزال حزنه، فدخل الجميع معه النفق السوداوي الذي سبقه إليه كافكا، وانحاز في تسلسل الأحداث الى مشاعر بطله ليعطيه البراهين الكافية التي أشعلت جذوة هذا المرض، ويترك الجدل قائماً على هذه الرواية المدهشة، التي تتضافر فيها الجهود الفلسفية والتحليلات النفسية لتبيان خصائص دوافعها وخطورة نوازعها، وتعيدنا قليلاً إلى نظرية الفيلسوف الروماني إميل سيوران السوداوية الذي اعتنق نظرية التمزق الوجودي المرهون بالإخفاق وخيبات الأمل.

    كاتبة لبنانية
يعمل...
X