الموسوعة التاريخية لأعلام حلب
✿✦ الفن التشكيلي و العمارة في حلب جـ2 ✦✿
بقلم : الفنان التشكيلي والناقد الفني طاهر البني
✦✿✦✿✦•••✦✿✦✦✿✦•••✦✿✦✿✦
✦✿✦ في العصر الحديث ✦✿✦ :
- شهدت حلب منذ نهاية القرن السابع عشر و خلال القرن التاسع عشر عدداً من الفنانين المستشرقين ، الذين وفدوا إليها ، يصورون معالمها التاريخية ، و مشاهد الحياة اليومية في أسواقها و أزقتها ، فكانت هذه الحركة الاستشراقية نافذة أطل منها الحلبيون على فن التصوير الغربي ، و من غير المستبعد أن تكون بعض الأسر الحلبية الميسورة ، قد اقتنت بعض أعمال المصورين الذين وفدوا إلى حلب ، و احتكوا بطبقاتها الغنية ، و لعل عدداً من أبناء هذه الطبقات ، يحتفظون بصور لأجدادهم و آبائهم من أعمال أولئك المصورين أو بعض المصورين الحلبيين الذين تتلمذوا على أيدي المستشرقين أمثال نديم بخاش و منيب النقشبندي الذي لازم الفنان الفرنسي الذي صمم ساعة باب الفرج و تعلم منه مبادئ فنون الرسم .
- و إذا كانت آلة التصوير الضوئي ، قد دخلت حلب مع نهاية القرن التاسع عشر فلا شك أن محترفي هذه المهنة اضطروا إلى تكبير الصور الشخصية ، مستخدمين في ذلك وسائل التكبير اليديوية ، مما أتاح الفرصة لظهور فن الصورة الشخصية ، و في أوائل القرن العشرين ، اشتهرت بعض الأسر الحلبية بامتهان حرفة التدهين فكان منهم آل الدهان و آل القمري ، الذين كانوا يصنعون القمريات من الجص في البيوت و انتقلوا إلى صنعة التدهين ، فظهر لدى بعض افرادهم ميل واضح لفن التصوير من امثال عبد الحميد القمري .
و أما المطبوعات التي وصلت إلى حلب عن طريق الإرساليات التبشيرية ، أو عن طريق الطلاب العرب الذين درسوا في الأستانة أو غيرها من العواصم الغربية ، فقد كان أثرها واضحاً في نمو الوعي الفني لدى العديد من المثقفين في مدينة حلب أمثال جبرائيل الدلال الذي اشتهر بكتاباته الأدبية و اهتمامه بفنون الموسيقى و الرسم .
- و حين تأسـس المكتب السلطاني ( ثانوية المأمون ) بحلب فـي مطلع القرن العشرين ، عُيّن الفنان منيب النقشبندي أول مدرس للفنون فيها ، و كان من تلاميذه (( غالب سالم ـ وهبي الحريري ـ إسماعيل حسني )) الذين تابعوا دراستهم الفنية في أكاديمية الفنون الجميلة بروما ، و ساهموا في تأسيس الحركة الفنية المعاصرة في سورية ، ففي عام 1936 عاد من روما غالب سالم كأول متخرج من أكاديمية الفنون الجميلة ، و تبعه في العام التالي وهبي الحريري الذي أسس أول محترف للفنون بحلب ، وكان من مريديه ( فتحي محمد قباوة ) الذي قدّم تجارب نحتية متميزة قبل سفره للدراسة في القاهرة و روما في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين في الوقت الذي تألق فيه اسم الفنان ( الفريد بخاش ) نجل نديم البخاش حين أقام أول معرض للفن التشكيلي في هذه المدينة بعد الاستقلال مع مجموعة من الفنانين الهواة عام 1948 في دار الحمصي بالعزيزية .
- و في مطلع الخمسينيات ظهرت مساهمات الفنان ( نوبار صباغ ) في التصوير المائي و الزيتي ، و تأسست أول جمعية فنية بحلب برعاية المهندس ( زاره كابلان ) الذي أشرف على تأسيس أكاديمية ( صاريان ) و كان من معاضديه الفنان ( حزقيال طوروس ) و الفنانة ( ليلى جانجي ) ، كما برزت مساهمات الفنانين الحلبيين في المعـارض الرسمية التي اقامتها وزارة المعـارف و مديرية الآثار و المتاحف بدمشق ، منذ مطلع الخمسينيات بمشاركة الفنانين (( غالب سالم ـ إسماعيل حسني ـ نوبار صباغ ـ حزقيال طوروس ـ الفريد بخاش ـ فاتح المدرس )) .
- و في أوائل الستينيات تأسس مركز فتحي محمد للفنون التشكيلية بحلب ، و عُيّن إسماعيل حسني أول مدير له بعد تخرجه من روما عام 1957 ، فكان هذا المركز بمثابة أكاديمية صغيرة تخرج فيها عدد من الفنانين الذين رفدوا الحركة التشكيلية السورية ، و في تلك المرحلة عاد من روما عدد من الدارسين للفنون أمثال (( فاتح المدرس ـ لؤي كيالي ـ رولان خوري ـ طالب يازجي )) مشكلين القاعدة الراسخة للإنتاج التشكيلي الإبداعي ، من خلال معارضهم ، و تدريسهم للفنون ، و ترافق ذلك مع ظهور عدد من الهواة المبدعين أمثال (( وحيد مغاربة ـ محمد اعزازي ـ أسعد المدرس ـ وحيد استنابولي ـ سامي برهان )) حيث أقام الأخير معرضه الأول في دمشق عام 1961 .
- و في منتصف الستينيات عاد من فيينا ( وحيد استنابولي ) الذي درس النحت ، و تبعه ( فواز نصري ) الذي درس الديكور في روما ، و كذلك عاد من القاهرة ( وجيه ستوت ) و ( أحمد جزماتي ) و ( محمد عساني ) الذي أتم دراسته في دمشق ، و غدت الحركة التشكيلية في حلب تمور بشتى الفعاليات و الأنشطة الفنية ، حيث تقام المعارض ، و تعقد الندوات و تدار الحوارات ، و أضحى معرض الربيع يزهو بمعظم نتاج الفنانين الدارسين و الهواة و خريجي مركز الفنون التشكيلية من خلال المعارض الجماعية و الفردية التي كانوا يقيمونها ، كما ظهرت تجمعات فنية هامة كان أبرزها ( جماعة رواد الفن ) التي ضمت نبيه قطاية ـ محمد عساني ـ وليد سرميني ـ عبد الرزاق سباهي ، و جماعة ( الريشة الذهبية ) التي ضمت وحيد مغاربة ـ أسعد المدرس ـ غياث الناصر ـ محمد اعزازي .
و في مطلع السبعينيات عاد الفنان لؤي كيالي إلى حلب إثر ازمة نفسية حادة تعرض لها في دمشق ، و أخذ الفنانون الشباب يلتفون حوله ، و يشاركونه جولاته التصويرية في المقاهي الشعبية ، حيث يختارون موضوعاتهم ، و أنجز عدد منهم معارض فردية طليعية فكان منهم : مأمون صقال ـ سعد يكن ـ عبد الرحمن مهنا ـ طاهر البني ـ عبد الرحمن مؤقت ـ يوسف صابوني .
- و قد آثر بعض الفنانين الشباب السفر إلى روما لمتابعة الدراسة أو العمل فيها ، فغادر حلب إلى روما : عبد الرحيم تاتاري ـ عبد المجيد صفو ـ علاء يازجي ـ غسان سياف . و في الوقت الذي تألق فيه نجم الفنان وحيد مغارية الذي أقام عدداً من المعارض الفردية و المشتركة بحلب و دمشق و بيروت ، و حظيت تجربته الإبداعية بتقدير كبير ، و إعجاب مستمر في الأوساط الفنية في سورية و لبنان ، و قد آثر السفر إلى روما لمتابعة دراسته فيها ، فغادر حلب في منتصف السبعينيات ، و عاد إليها في نهاية الثمانينيات ليتابع انتاجه و تألقه في حلب ، و يقدّم عدداً من المعارض في صالاتها .
أما الفنان لؤي كيالي فقد وجد في حلب مناخاً مناسباً لإنتاجه ، فأقام عدداًَ من المعارض التي حظيت بنجاح كبير في حلب و دمشق و بيروت ، لكنه واجه بعض الأزمات النفسية ، و تعرض للنقد اللاذع من بعض سماسرة الصحافة المحلية ، مما عجّل في وفاته محترقاً عام 1978 .
- و في أوائل الثمانينيات أقام سعود غنايمي أول صالة خاصة لللفنون ، ضمت إليها أصدقاء الفن ، فكانت موئلاً لعدد من الفنانين و الأدباء ، و عرضت لمعظم الفنانين المقيمين في حلب و الوافدين إليها من المحافظات السورية .
و تزامن ذلك مع عودة عدد من الفنانين الذين درسوا في دمشق أمثال : سعيد الطه ـ زهير دباغ ـ يوسف عقيل ـ شكيب بشقان ـ شريف محرم ـ جبران هدايا ـ مراد ويس .
و صار لهؤلاء الفنانين نشاطهم المتميز و أساليبهم المحدّثة التي أكسبت الحركة التشكيلية بحلب حضوراً فاعلاً ضمن المشهد التشكيلي السوري إلى جانب عدد من الفنانين أمثال : عبد الرحمن مؤقت ـ سعد يكن ـ طاهر البني ـ علي الحسين ـ نبيه قطاية ـ عبد الرحمن مهنا ـ غسان صباغ ـ الأخوين بشير و نعمت بدوي ـ محمد صفوت ـ محمد أبو صلاح ـ وليد كموش .
- و في هذه الآونة ، تم افتتاح عدد من صالات العرض الخاصة التي نشطت في إقامة المعارض بمستويات متفاوتة ، و كان من أبرز هذه الصالات : ( صالة إيبلا ) التي أسسها سعود غنايمي ـ و ( صالة سومر ) التي أسسها علي الحسين و ( صالة أكاد ) التي أسسها جبران هدايا و ( صالة النقطة ) التي أسسها سعد يكن ، و ( صالة الخانجي ) التي أسسها محسن خانجي ، و (صالة سرمد ) التي أسسها يوسف عقيل ، و ( دار أمية ) و ( صالة بلاد الشام ) التي أسستها أمية الزعيم ، و صالة ( دار كلمات ) التي أسسها عدنان الأحمد ، و صالة القواف ، و صالة الجسر ، و صالة بولمان الشهباء بالإضافة إلى صالتي ( تشرين ) و مديرية الثقافة ، و صالة ( الأسد ) التابعة لنقابة الفنون الجميلة .
و بذلك أتيحت الفرصة لظهور تجارب فنية جديدة ، كان بعضها وافد من الأقطار العربية و الأجنبية ، و وفد بعضها من المحافظات السورية ، و قد أخذت اللوحة الفنية تجد لها طريقاً إلى بيوت المقتننين الذين أبدوا حرصهم على اختيار الأعمال الفنية الجيدة من المعارض المتوالية ، فظهر بذلك مجموعة من المقتنين الذين يفاخرون بمجموعاتهم الخاصة لأشهر الفنانين ، حيث تحولت البيوت و المكاتب إلى متاحف صغيرة .
- و في مطلع التسعينيات رفدت الحركة التشكيلية بحلب مجموعة من التجارب الواعدة وجدت لها ترحيباً واضحاً من قبل الجمهور الفني الذي وجد فيها مذاقاً متميزاً يتناسب مع روح العصر و آفاقه ، و نذكر هنا تجارب كل من : (( محمد قباوة ـ يعقوب إبراهيم ـ ناصر نعسان آغا ـ أحمد برهو ـ ألبير كندورة ـ وارتكس بارصوميان ـ ضياء حموي ـ حسين محمد ـ جوزيف كبابة ـ جورج بيلوني ـ صلاح خالدي ـ حازم عقيل ـ وحيد قصاص ـ إبراهيم حسون ـ زافين بردقجيان ـ آردو همبارسوميان )) .
- و في هذا الخضم نشطت التجـارب النقـدية ، و التغطية الصحفية لمعظم هـذا الإنتاج ، فمنذ منتصف الأربعينيات ، أصدر غالب سالم كتاب ( موجز تاريخ الفن ) و تبعه فاتح المدرس بسلسلة عرض فيها أهم المدارس الفنية الغربية ، كما أصدر الدكتور سلمان قطاية كتـاباً عن الفنان فتحي محمد و آخـر عـن المدرسة الإنطباعية ، بينما قدّم رولان خوري ( بيان الواقعية الإيحائية ) بالاشتراك مع نهاد رضا ، بالإضافة إلى خمسة كتب أنجزها طاهر البني ، استعرض فيها الفن التشكيلي بحلب و سورية ، موسومة بالعناوين الآتية : الفن التشكيلي بحلب ـ فضاءات تشكيلية ـ تجارب تشكيلية رائدة ـ ذاكرة الفن التشكيلي في سورية ـ عشرة فنانين من حلب .
- و في الوقت ذاته تصدى للكتابة النقدية عدد من الفنانين و الأدباء أمثال : غالب سالم ـ إسماعيل حسني ـ لؤي كيالي ـ سلمان قطاية ـ أسعد المدرس ـ نبيه قطاية ـ صلاح الدين محمد ـ عبد الرحمن مهنا ـ محمد أبو صلاح ـ وليد إخلاصي ـ محمد الراشد ـ فريد جحا ـ محمود علي السعيد ـ لؤي فؤاد الأسعد .
و في التغطية الصحفية للمعارض و الندوات برز دور : صفوان عكي ـ صفوان الجندي ـ هناء طيبي ـ فيصل خرتش ـ أنور محمد ـ محمود مكي ـ إبراهيم داوود و غيرهم .
كما أقيمت الندوات و المحاضرات ، تلقي الأضواء الكاشفة على التجارب الفنية المتميزة التي باتت إرثاً غنياً لمدينة حلب و للفن التشكيلي السوري .
و سنحاول فيمايلي استعراض أبرز الاتجاهات الفنية التي سلكها الفنانون في حلب عبر ثلاثة محاور (( التصوير ـ النحت ـ العمارة )) .
✦✿✦أولاً : التصوير :
يمكننا أن نحصر اتجاهات التصوير التي درج عليها الفنانون بثلاثة اتجاهات رئيسية : (( اتباعية ـ حديثة ـ مستحدثة )) ، و هذا التصنيف تقريبي إلى حد ما ، فكثيراً ما تتمازج هذه الاتجاهات لدى الفنان الواحد ، و ربما تنقّل الفنان في أكثر من اتجاه حتى استقرّت مواقفه ، و وضح اتجاهه .
آ ـ الاتجاهات الاتباعية :
و تشمل : (( الواقعية ـ التسجيلية ـ الرومانسية ـ الانطباعية )) لأنها تتبع المدارس الفنية الغربية التي اعتمدت المحاكاة و المماثلة في تصوير الإنسان و الطبيعة و لم تخرج عن قواعد المنظور و التشريح و النسب الرياضية في الرسم .
و من الطبيعي أن تنصرف اهتمامات الفنانين الرواد في حلب كما في غيرها من الحواضر السورية و العربية إلى محاكاة الاتجاهات الاتباعية و الكلاسيكية التي نشأت في الغرب ، تُعنى بالتصوير الواقعي دون تحريف أو تغيير ، و ذلك لأكثر من سبب ، في طليعتها إعجاب الفنان العربي بإنجازات عصر النهضة في الغرب لا سيما في التصوير و النحت ، بالإضافة إلى مواقفه المعادية للاتجاهات الفنية الحديثة التي تتجاوز القيم الكلاسيكية المدرسية و تبتعد عن المحاكاة فلا توافق هواه و وعيه الفني . و كذلك فإن تمسكه بالقيم التقليدية جاء نتيجة رغبته في تأكيد مقدرته على إنجاز أعمال فنية مشابهة ، تكسبه إعجاب جمهوره بصنعته الفنية التي تماثل آلة التصوير الضوئي في الدقة ، و إبراز الملامح المطابقة للأصل .
و ياتي الفنانون (( نديم بخاش ـ منيب المقشبندي ـ غالب سالم ـ وهبي الحريري ـ علي رضا معين )) في طليعة الفنانين الرواد الذين أنتجوا لوحات تصويرية في هذا الاتجاه ، و قد مضى في أثرهم عدد من الفنانين الذين توفرت لهم دراسة أكاديمية خارج البلاد و داخلها أمثال : (( فتحي محمد ـ محمد قباوة ـ جبران هدايا ـ حيدر يازجي ـ عصام حطيطو ـ رولان خوري ـ برهان عيسى )) .
و تتجلى الواقعية التصويرية بأبهى ملامحها الأكاديمية في لوحات فتحي محمد التي أنجزها في روما خلال دراسته للجسد الأنثوي العاري التي حرص فيها على النسب التشريحية السليمة ، و ألوان الجسد الإنساني بمهارة واضحة ، و حساسية عالية ، دون تحريف أو اجتهادات تعبيرية تُخرج الشكل عن ملامحه الطبيعية في مناخ المحترَف الفني و إضاءته .
بينما تبدو واقعية رولان خوري في أعماله التصويرية التي أنجزها في روما و سورية و بيروت و سواها ، عبر مسيرة حافلة امتدت لأكثر من أربعة عقود صور فيها بعض مشاهد الطبيعة و البيئة السورية و الأحياء و الأسواق و الحافلات و الصورة الشخصية التي برع في تجسيد ملامحها بلمسات رشيقة ، و ألوان محودة و دافئة ، تقترب من المناخات الشاعرية و الرومانسية .
و تظهر لوحات حيدر يازجي تأثره بالواقعية الروسية أثناء دراسته في موسكو ، و هي واقعية تميل إلى الألوان الداكنة ، و النبرات الضوئية التي تبوح بوجودها في حنايا الشكل ، و تقوم على الإيحاء في بواطن العتمة ، و التفصيل في مواطن الضوء ،و تشمل تصوير الملامح الإنسانية ، و معالم البيئة السورية تصويراً موضوعياً ، تبرز مهارة الفنان و براعة أدواته .
كما تبدو ملامح الواقعية في أعمال عدد من الفنانين الذين درسوا في موسكو أمثال : عصام حطيطو ـ محمد قباوة ، و غيرهم .
أما الواقعية التسجيلية فتبدو جلية في لوحات برهان عيسى الذي درس الرسم في محترف والده جاك عيسى بحلب ، و هو يحرص في لوحاته على صياغة الأشكال بدقة متناهية ، و انشغاله بالتفاصيل ، لا سيما حين يرسم بعض معالم البيئة الحلبية و العمارة القديمة و الأسواق الشعبية التي تقتصر على بعض الألوان ، لتظهر عنايته الفائقة بالرسم ، و يشاركه في هذا الاتجاه عدد من الهواة و الفنانين أمثال نزار حطاب و جميل كنهوش . و بعض لوحات صلاح خالدي ذلت الطابع التسجيلي .
و مع ذلك فقد ظهرت بعض المحاولات لعدد من الفنانين الواقعيين في الخروج عن قيود ذلك الاتجاه ، لا سيما عند فتحي محمد ، حيث ظهر في بعض أعمالهم ملامح انطباعية و رومانسية ، و رمزية ، و هذا ما نراه في محفورات فتحي محمد المحفوظة في متحف حلب .
و مع تطوّر الوعي الثقافي في البلاد عقب الاستقلال ، أخذت ملامح الرومانسية تتسرب إلى لوحات الفنانين في حلب ، ذلك أن الرومانسية تُعنى بالانفعالات المتوهجة التي تنعكس في صورة الإنسان و ملامحه النفسية التي تعكسها الألوان المعبرة عن العواطف الجياشة ، و الأحاسيس الشاعرية . و هكذا غدت لوحات (( الفرد بخاش ـ حزقيال طوروس ـ جبران هدايا ـ بشير بدوي ـ وليد كموش )) تزخر بالأشكال الإنسانية ، و ملامح الطبيعة المشبعة بالألوان الدافئة ، و الأجواء الشاعرية الحالمة .
فالأعمال التصويرية التي أنجزها الفرد بخاش في حلب و بيروت بعد دراسته في محترف والده نديم بخاش ، تتجلى فيها النزعة الرومانسية من خلال تصويره الملامح الإنسانية و لا سيما المرأة ، و ذلك عبر تشكيل شاعري للوضعيات التي يرسمها ، و العناية بالخطوط الحانية التي تجسد التشكيل ، و تمنحه بعداً عاطفياً ، تساهم فيه الألوان الدافئة .
أما لوحات حزقيال طوروس ، فإنها تكتسب ملامحها الرومانسية من خلال الألوان المتوهجة التي كان يستخدمها في تصوير الملامح البيئية في أحياء حلب و أسواقها و ريفها ، و المشاهد الطبيعية المحيطة بها مستخدماً في ذلك الألوان الكثيفة التي تُظهر انفعالاته في توضعاتها العفوية ، مما يمنح لوحته حيوية ، حظيت باهتمام المقتنين .
و تمتاز لوحات جبران هدايا بصياغاتها اللونية الحالمة ، و الإضاءة الشاعرية التي تستمد شعاعها من ضوء الشموع الخافت ، و هي تثير مناخات روحية دافئة ، تظهر في وجوه النساء الحالمات و أيديهن البضّة ، و في ملامح البيت الحلبي الحافل بالأبواب و النوافذ و القمريات و الشجيرات و نافورة الماء و السلالم الحجرية و مساندها المعدنية المزخرفة .
و في حين تنصرف لوحات بشير بدوي إلى تصوير المواقف الإنسانية و الوضعيات العاطفية ، و الجسد الأنثوي ضمن صياغات شاعرية مشبوبة بالعواطف عبر لمسات لونية ناعمة ، و إضاءات خافتة ، تلتمع في زوايا الجسد الإنساني و هو ما نراه أيضاً في لوحاته التي صوّر فيها الحارة الشعبية و البيت الحلبي بمفرداته التي أتينا على ذكرها لدى جبران .
و تستمد لوحات وليد كموش مادتها التصويرية من البيئة الحلبية الشعبية و بعض الطقوس الدينية المتمثلة بالطرق الصوفية كالمولوية التي تظهر بصياغة مبتكرة تنتقل من العتمة إلى الضوء المتوهج عبر لمسات لونية ناعمة ، تعكس إحساسه بالمواجد الروحية و المشاعر الدينية المتوحدة مع صورة الطقس الذي يجسده بحركات متقنة التكوين .
و في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين شرعت ملامح الانطباعية تظهر في نتاج عدد من الفنانين الذين انصرفوا إلى تصوير الطبيعة الريفية و الأحياء الشعبية في حلب و ريفها ، مبرزين اهتمامهم بتسجيل المظاهر المتغيرة في الطبيعة ، و مؤكدين على فكرة تحليل الضوء إلى عناصره الجوهرية ، باستخدام اللمسات السريعة و الضربات المركّزة بالفرشاة من أجل الحصول على تأثيرات قوية و سطوح زاخرة بالأضواء و الألوان ذات الملامس المثيرة . و هذا ما نلمسه في لوحات : ( إسماعيل حسني ـ غسان صباغ ـ نوبار صباغ ـ محمد صفوت ـ غسان سعيد ـ يوسف صابوني ـ غياث الناصر ـ ظافر سرميني ) و غيرهم .
و بالرغم من تنوع الاتجاهات التي سلكها إسماعيل حسني في لوحاته التصويرية إلا أن معظم نتاجه جاء في سياق الانطباعية التي صوّر من خلالها العديد من مشاهد الطبيعة الفراتية ، و البيئة السورية عبر لمسات لونية واضحة ، ترتصف متقاربة لتشكل نسيجاً غنياً ، يبرز الأشكال بحيوية متوسطة .
و تتجلى الانطباعية في لوحات غسان صباغ الذي درس التصوير في أكاديمية ( ريبن ) الروسية ، من خلال رصده للأحياء الشعبية ، و المشاهد الريفية و الصورة الشخصية بأشكال واقعية ، تكسوها عجينة لونية غنية بالمؤثرات التي تضفي على اللوحة حيوية و نضارة ، حيث تتوزع نبرات الضوء في حنايا الأشكال لتكسبها نبضاً حيوياً .
أما نوبار صباغ فقد انعكست ملامح الانطباعية لديه من خلال لوحاته المائية بينما نجده يبتعد عن ذلك في لوحاته الزيتية و أعماله التصويرية الأخرى .
ب ـ الاتجاهات الحديثة :
تشمل هذه الاتجاهات ( التعبيرية ـ التكعيبية ـ السريالية ـ التجريدية ) و كلها ظهرت في أوربا أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين . و إذا كانت ملامح التعبيرية أخذت تتجلى في الفن الأوربي ، فهي تسعى للتعبير عن المشاعر الإنسانية بكل السبل المتاحة للفنان بما في ذلك المبالغة في تحريف الأشكال في سبيل إيصال الحالة الشعورية للمتلقي .
و التعبيريون يرفضون مبدأ المحاكاة بكافة أشكالها مستخدمين الخطوط البسيطة و الألوان المثيرة في التعبير عن حالات النفس و دفقات الشعور .
و قد حظي الاتجاه التعبيري في التصوير باهتمام واضح لدى الكثير من فناني حلب لما يتمتع به من خصائص تُبعد الفنان عن قيود التقليدية ، و تًُشرع أمامه مساحات رحبة لصياغة لوحة تعبيرية بأدوات مستحدثة ، و تقانا مختلفة ، حققت حضوراً جديداً ، و صياغة معاصرة .
و لعل من أبرز الفنانين الذين مضوا في هذا الاتجاه : (( طالب يازجي ـ لؤي كيالي ـ وحيد مغاربة ـ سعد يكن ـ علي السرميني ـ عناية عطار ـ زهير دباغ ـ طاهر البني ـ ألبير كندورة ـ خيرو حجازي ـ عبد الرحمن مهنا ـ شريف محرم ـ إبراهيم حسون ت نهاد الترك ـ حسكو حسكو ـ وحيد قصاص )) .
و قد كانت لوحات طالب يازجي التي أنجزها في مطلع الستينيات مـن القرن العشرين ، تعكس رؤياه التعبيرية الواضحة في رصد بعض القضايا الاجتماعية من خلال أشكال إنسانية و حيوانية ، أخضعها لصياغة خاصة ، تُظهر رغبته في تحوير الأشكال ، و إعادة بنائها عبر خطوط قاسية تحيط بالشكل المرتدي حلة لونية باهتة .
أما لوحات لؤي كيالي التي أنجزها عن القضية الفلسطينية ، و خصّ معظمها في معرضه الشهير ( في سبيل القضية ) عام 1967 ، فتعتبر ذروة التعبيرية في التصوير السوري المعاصر ، فقد حطّم الفنان في لوحته فـي كل القيم التشكيلية السلفية ، و قدّم صياغة مبتكرة للشكل الإنساني ، تجلت في حركة الجسد الانفعالية ، حيث بدت شخوصه مثقلة بالألم و الغضب ، و هي تتتلوى في حركات مفزعة و ملتحمة في فضاء اللوحة ، و أضحت عيونها نوافذ تطل على عوالمها الداخلية المثخنة بجراح القهر و البؤس في حين بدت الأيدي مسترخية ، و منقبضة ، تعبر عن مواقف انفعالية شتى . و قد عالج الفنان لوحاته هذه بالأبيض و الأسود في مناخ درامي مفعم بالأحاسيس القومية و المشاعر الإنسانية المتأججة .
لكن لؤي عُرف باسلوبه التعبيري الذي يقترب من ضفاف الواقعية المتحررة حين تناول في لوحاته صور الفقراء و الباعة المتجولين ، و المشردين ، معتمداً على خطوطه المرهفة و الرصينة فـي تحديد ملامح أشكاله و إكسائها بألـوان بسيطة هادئة ، تأتي ضمن إيقاعات متباينة ، تظهر براعة الفنان في اختيارها و توضعها بشفافية ، تظهر تاثيرات قاع اللوحة التي يعالجها بتقنية أنيقة ، تكسب اللوحة خصوصية ، و تضعها في مناخات تعبيرية حيناً و رومانسية حيناً آخر ، لا سيما في معالجة الموضوعات الإنسانية ، و في تصوير قرية معلولا ، و تقترب من مناخات التجريد في معالجة موضوعات الطبيعة الصامتة و الزهور بينما تجنح نحو السريالية في تصوير المراكب البحرية الراسية على الشواطئ المقفرة .
و تبدو لوحات وحيد مغاربة بعوالمها التعبيرية المتميزة ، تستمد مفرداتها من التراث الشعبي و البيئة العربية و الإسلامية ، و من الملامح الإنسانية النبيلة ، تحمل طابعاً درامياً ، يمتزج فيه الخيال مع الواقع عبر لغة تشكيلية مبتكرة ، تسهم الألوان الدافئة في إغنائها ، و تتحاور الأشكال بحيوية في محيطها ، حيث تطل المفردات و الشخوص بصورة إيحـائية من خـلال الظلال لتعلن حضورها علـى نحو غير مباشر ، و تروي الحكايات ، و توقظ المشاعر الإنسانية ، و تصور البيئة التي اختزنتها ذاكرة الفنان في قراءته للحياة و التاريخ و الأساطير ، و عوالمها الملحمية الممتدة في أعماق التاريخ لبلاد الشام .
و تأتي تجربة سعد يكن في صيغة تصويرية تعبيرية متفردة و مثيرة ، فقد داب الفنان طيلة أربعة عقود على تصوير حالات الاستلاب الاجتماعي و التأزم الإنساني في ظل الطغيان المادي و القهر الاجتماعي ، معتمداً في ذلك على صياغات غرافيكية مبتكرة ، تنهض على تحوير الأشكال الإنسانية ، و صياغتها في تكوينات متلاحمة ، تظهر شغفه في الكشف عن الملامح الدفينة فـي النفس الإنسـانية ، و سبر انفعالاتها المختلفة ، مستخدماً في ذلك جملاً لونية ذات إيقاعات عصرية و توضعات صريحة .
و قد كان للفنان سعيد الطه تجربة موازية في إطار التعبيرية ، لكنه سرعان ما تجاوزها إلى مسار آخر سناتي على ذكره .
و عالج علي السرميني أعماله التصويرية بإحساس تعبيري ، يبدو فيه تأثره بالتعبيرية الألمانية ، حيث يميل إلى صياغة الأشكال الإنسانية ، و المعالم المحيطة بها بشيء من العفوية التي تعكسها لمساته اللونية الجريئة و المتوضعة كبقع و نقاط يتجاو فيها الحار و البارد في محاولة لخلق نسيج لوني فسيفسائي ، يسهم في التعبير عن المواقف الإنسانية و القضايا القومية .
و تعكس أعمال عناية عطار إحساسه التعبيري المتدفق من خلال تكوينه للأشكال الإنسانية و الملامح البيئية في شمال الريف السوري ، مؤكداً على الملامح المحلية عبر الألوان الحارة التي تعكس دفء الشمس ، و حيوية الإنسان حيث تتلاحم الألوان ببعضها من خـلال لمسات مرتعشة لتبني الشكل بعفوية نزقة ، تصـدح بأغنيات جبلية ، تفوح منها رائحة الأرض الندية و عبق الأزهار البرية .
و تبدو معالم التعبيرية المستحدثة في لوحات طاهر البني التي تستمد مادتها من الحياة الاجتماعية ، و المواقف الإنسانية ، حيث تطلّ شخوصه بملامح مختزلة مستوحاة من الفنون السورية الآرامية القديمة لتثير الفضول في معرفة مكنوناتها ، و البحث في همومها ، عبر لغة لونية حديثة ، و تقنيات مبتدعة ، تساهم فيها الإيقاعات اللونية العفوية و الأداء المتدفق من مخازن الذاكرة ، و فيض النفس .
و تقدّم لوحات زهير دباغ مبدعها كواحد من المصورين التعبيريين المجددين بالإضافة إلى تجربته النحتية المتميزة ، و هو إذ يصور ملامح الحياة الاجتماعية في البيئة المدنية و الفلاحية فإنه يؤكد مهارته في صياغة الأشكال على نحو مبتكر تكشف خبرته التصويرية العالية الغنية بالمؤثرات البصرية المفعمة بشحنات عاطفية ، تطل ملامحها في تكويناته الحيوية و لمسات فرشاته النزقة .
و استطاع ألبير كندورة ان يوظف طاقته التصويرية التعبيرية في عرض موضوعات إنسانية مختلفة ، عكست براعته في تقانات التصوير ، و معالجة الهموم الإنسانية من خلال لمسات لونية جريئة و مؤثرات بصرية متنوعة ، مما يجعل لوحته تزخر بمجموعة من الانفعالات التي تؤكد ثقافته البصرية ، و رهافة أدواته الفنية .
أما خيرو حجازي فقد وزّع نتاجه التصويري بين التعبيرة من جهة و الواقعية المبسطة من جهة أخرى ، و تبدو مقدرته التعبيرية في تصوير الوجوه الإنسانية ، و الوضعيات التي يجسد فيها شخوصه ن حيث تظهر حساسيته العالية في عكس الأبعاد النفسية ، و الهموم الفردية و الجماعية من خلال ألوان تميل إلى البساطة و الهدوء .
و قد مرت تجربة عبد الرحمن مهنا في مراحل تعبيرية مختلفة ، ظهرت بداياتها في معرضه الأول الذي عكس فيه تاثره بالقضايا القومية ، بأسلوب يستمد تشكيلاته السكونية من الفنون السورية / الحثية ، و قد عالجها بالأبيض و الأسود ، لكن التعبيرية لدى مهنا تتخذ لها أشكالاً أخرى أكثر حيوية ، لا سيما في معارضه التي أنجزها خلال إقامته بدمشق ، حيث عكست لوحاته قضية الإنسان العربي و همومه في التحرر من الأخطار المحدقة به ، من خلال الألوان الشمعية التي برع في معالجتها عبر موضوعات شتى صوّر فيها دمشق القديمة و معلولا و بعض مشاهد الريف السوري و الطبيعة الصامتة .
و بالرغم من التطورات التي خضعت لها تجربة شريف محرم التصويرية إلا اننا نلمح في أعماله عناصر تعبيرية و تجريدية ، تتمثل في الموضوعات المستمدة من البيئة الريفية في شمال البلاد ، حيث يضفي على المرأة الريفية إحساساً تعبيرياً مفعماً بالمشاعر الإنسانية من خلال خطوط واهنة ، مسترسلة في صياغة الشكل بعفوية ، و ألوان متدفقة ، تتوضع على شكل ضربات كثيفة او سائلة ، تحدث نبضاً حاراً يسري في خلايا اللوحة .
و تنفرد لوحات إبراهيم حسون بتكويناتها التي تجمع الملامح الرييفية الشرقية بمفرداتها الإنسانية و البيئية بإحساس تعبيري عفوي تغشاه طبقات لونية شفافة ، تتقارب في دراجتها الضوئية التي تشف عن مفردات صغيرة ، تسهم في إغناء الشكل و إكسابه بعداً غرافيكياً رخيماً ، يجسد صورة القرية و رائحة تربتها .
أما نهاد الترك فقد تحول الإنسان في لوحته إلى كائن غريب ، ارتعدت أطرافه ، و سحقت معالمه ، فبات شبحاً لإنسانٍ أحاطت به خيوط العذاب و القهر ، و سلبته كل ملامحه الإنسانية ، و هو مع ذلك يقف في ثبات و عناد لمواجهة ما ينتظره ، من خلال صياغة لونية مفعمة بالمؤثرات البصرية التي يجتهد الفنان في تأكيدها .
كما تعتمد لوحة حسكو حسكو على مادة تعبيرية ، تستمد مفرداتها من البيئة الريفيية بما فيها من مشاهد " أشجار ـ طيور ـ دواجن ـ حيوانات " تتوزع في أرجاء اللوحة في خضم الألوان الطازجة ، حيث تطل من خلال عجينة لونية شديدة الحيوية ، تشف عن طبقات لونية مستترة ، تغني سطوح اللوحة بملامسها المتنوعة ، و تضيف نبرة جديدة إلى التشكيل المحلي .
و تأتي لوحة وحيد قصاص في سياق الاتجاه التعبير الذي يستمد مادته من ملامح الحياة الشعبية و المرأة الريفية ن و الطبيعة الصامتة ، في تشكيلات يشغل التجريد حيزاً طموحاً من مساحة اللوحة التي تتمحور الأشكال في وسطها ، متداخلة مع محيطها الذي يحظى باهتمام واضح من الفنان لا توازيه ملامح الوجوه و الأيدي ، و هو يعالج لوحته بألوان تجمع بين الكثافة و السيولة عبر توضعات غرافيكية حيوية .
و إذا كانت التكعيببية تمثل ضرباً من التأليف بين عناصر مستمدة من أشكال الطبيعة بعد تحليلها و الكشف عما وراء مظاهرها الخارجية من قوانين تتحكم في تكوينها ، فإن هذا الاتجاه لم يظهر بكالمل عناصره الغربية في لوحات فناني حلب ، بل كان يمدّ بأطيافه إلى بعض لوحات فنانيهم التي نسجت بمساحات لونية ، و خطوط متكسرة ذات زوايا حادة .
و قد تجلت أطياف التكعيبية في لوحات ( زاره كابلان ) الذي درس في فرنسا ، كما ظهرت في اللوحات المبكرة لسامي برهان الذي درس في بعض المعاهد الفرنسية قبل سفره إلى روما و دراسته فيها ، فقد استخدم كابلان الخطوط المستقيمة ذات الزوايا الحادة في تكوينات بسيطة في بعض ملامح الحي الشعبي ، بينما أتخم برهان لوحاته المبكرة بالخطوط المتكسرة و اللوحات المثلثية الصغيرة ، كما في لوحته ( قطاف القطن ) .
أما أسعد المدرس فقد تحولت لديه المشاهد الطبيعية إلى مساحات لونية تختزن في تناسقها صورة الأرض و الجبال والأشجار و السماء ، و تشكل منظومة لونية ، ذات خصوصية شاعرية ، و إحساس رهيف في مفاتن الطبيعة و ألوانها .
و قد تجلت هذه السمات في لوحات علي الحسين الذي نسج موضوعات عاطفية و مشاهد طبيعية مستمدة من الريف السوري و أظهر من خلالها نزعته التكعيبية التي تجلت في المساحات اللونية ذات الحود المتكسرة ، و الطبقات اللونية الكثيفة ، الموشاة بطبقات لونية شفافة ، مما أكسب لوحته بعداً شاعرياً مؤنساً .
و تبدو تأثيرات التكعيبية في بعض لوحات وحيد مغاربة التي عمد فيها إلى إيقاعات تشكيلية عبر مساحات لونية ، تتوزع فيها الأشكال بين العتمة و الضياء ، لتثير أثراً درامياً متحركاً ، و يفسح المجال للأشكال في أن تظهر و تتوارى في آنٍ معاً . و هذه سمات أفاد منها عدد من الفنانين أمثال سعد يكن الذي تتوزع الأشكال في لوحته في سطوح متباينة و متداخلة بين العتمة و الضوء .
و لما كانت السريالية تسعى إلى التخلي عن الواقع الخارجي ، و تؤكد على استلهام ما يكمن في عالم اللاشعور من موضوعات مكبوتة في النفس البشرية فإنها ترمي إلى الابتعاد عن السبل التقنية في التصوير ، و تعفي ذاتها من أسلوب معين في التعبير .
و قد أطلت السريالية في حلب بشكل رسوم تخطيطية أنجزها عدنان ميسر و عرض بعضها في ديوان الشاعر علي الناصر ( اثنان في واحد ) و هي تصور الكائنات الإنسانية بوحي من تخيلاته التي لا ترتبط بالأشكال الواقعية بصورة مباشرة .
و مع ذلك فإن السريالية لم تأخذ أبعادها الحقيقية في لوحات أحدٍ من فناني حلب ، بل كانت تطلّ بمناخاتها و أجوائها الغربية في بعض لوحات : ( فاتح المدرس ـ لؤي كيالي ـ إحسان عنتابي ـ يوسف عقيل ـ نعمت بدوي ـ زاوين بردقجيان ) .
لقد اتجه فاتح المدرس في انطلاقته الأولى نحو عوالم السريالية ، و حاول الإفادة من مناخاتها المتحررة في خلق الأشكال و ابتداعها ، و لعل لوحته المشهورة ( كفر جنة ) تعكس اتجاهه هذا الذي تغلغل إلى الكثير من إنتـاجه الذي لا يقف عند حدود التصنيف ، كما تجلت السريالية بمناخاتها في بعض لوحات لؤي كيالي التي صور فيها المراكب البحرية الراسية على شواطئ مقفرة ، كما أسلفنا .
أما أعمال إحسان عنتابي فهي أقرب إلى السريالية الغربية ، حيث تستمد مادتها من مخيلة الفنان التي تمزج بين المرئي و المتخيل بعناصر لا تخضع أبعادها إلى المقاييس الواقعية رغم استعارته لهذه الأشكال دون تحريف في تكوينها و خصائصها العامة ، و هي تجمع بين ما يعلوها من سماء و ما يرسو بها في أعماق البحار في صياغات غرافيكية و لونية لا تخلو من الدقة و البراعة .
كما تتبدى بعض مـلامح السـريالية في أعمـال يوسف عقيل التصويرية ، و ذلك من خلال استخدامه الحاذق للظلال و الإضاءة التي تثير في لوحته مناخات سحرية حالمة ، و قد شرع الفنان عقيل في تضمين بعض لوحاته ملامح ميتافيزقية تحرك في الذهن أسئلة شتى حول الإنسان و الزمن و الحياة التي تتمثل بالشجرة في أغلب أعماله .
و بالرغم من انتماء أغلب لوحات نعمت بدوي إلى التعبيرية المحدثة إلا انها تتضمن في بعضها خصائص السريالية التي تبدو في صياغة الأشكال الإنسانية على نحو مبتكر ، يتصل بالمعنى الميتافيزيقي للموضوعات التي يعالجها بمنظومات لونية شاعرية ، يتحدد فيها الشكل من خلال انسياب الضوء على محيط الجسد الغارق في العتمة .
و قد تسربت مناخات السريالية إلى لوحات عدد من الفنانين أمثال : ( عبد القادر بساطة ـ زاوين بردقجيان ـ جبران هدايا ـ وليد كموش ) .
و تسعى التجريدية في الفن إلى الابتعاد عن الأشكال الطبيعية في اللوحة لتفسح مجالاً للتعبير بالألوان عن جماليات مطلقة فحسب ، و هي تستوحي من الموسيقى مادة تعبر بها عن المجردات من ألوان و خطوط و مساحات ، كما تستلهم من القوانين الهندسية بعض العناصر التي يستخلصها الفنان من الواقع لتأليف عمله الإبداعي . و لعل من أبرز الفنانين الذين توجهوا نحو اللوحة التجريدية في حلب ( جورج قصابيان ـ أحمد برهو ـ ناصر نعسان آغا ـ ضياء حموي ـ غسان قصير ـ حازم عقيل ـ آردو همبارسوميان ـ نهاد كوليه ) .
و يأتي أحمد برهو في طليعة الفنانين الذين اقتصروا في تجاربهم الإبداعية على اللوحة التجريدية ، عبر لغة شاعرية ، تمتاز بشفافيتها ، و حيويتها التي تختزل رهافة الفنان و إحساسه بالحالات الإنسانية والمشاعر الفياضة ، و هو يلجأ في معالجته إلى جمل لونية غنية في تركيبها ، و يحيطها بآفاق شاسعة ، تاركاً لها فرصة التنفس و الحركة من خلال فرش الألوان بكثافة متوسطة تكاد تشفّ في بعض مواطنها ، لتؤلف بمجموعها إيقاعات بصرية
=========================
30 لوحة فنية ومنحوتات يدوية في معرض لروح الفنان طاهر بني
16 تشرين2/نوفمبر 2021
الجماهير - أنطوان بصمه جي
احتضنت صالة الأسد للفنون الجميلة بحي الرازي معرضاً لفناني حلب تحت عنوان "تحية لروح الفنان الراحل طاهر بني"، المعرض الذي أقامته جمعية أصدقاء فتحي محمد للفنون التشكيلية بالتعاون مع اتحاد الفنانين التشكيليين بحلب حيث تم عرض 30 لوحة فنية إضافة إلى منحوتات يدوية.
وبيّن الفنان التشكيلي إبراهيم داود أمين سر اتحاد الفنانين التشكيليين أن المعرض بمثابة تحية للفنان الراحل طاهر بني التي تربطه علاقة امتدت ما يقارب 50 سنة مبيناً أن الدراسة الأدبية التي عاشها الراحل نتج عنها مخزون ثقافي كبير يتناول الحركة التشكيلية الفنية في سورية، إضافة لكونه فنانا تشكيليا مبدعا.
وأضاف أمين سر الاتحاد أن المعرض جاء بمبادرة من جمعية أصدقاء فتحي محمد للفنون التشكيلية بالتعاون اتحاد الفنانين التشكيليين لتكريم الراحل، حيث شمل المعرض مجموعة أعمال فنية محلية إضافة إلى مجموعة أعمال كانت مقتنيات لفنانين يعيشون خارج القطر ولوحات تم إرسالها من محافظات أخرى، مبيناً أن العدد الإجمالي للأعمال المشاركة يقارب 30 لوحة فنية و8 منحوتات يدوية.
بدورها، أوضحت الفنانة التشكيلية نجلاء دالاتي مسؤولة المعارض في جمعية أصدقاء فتحي محمد للفنون التشكيلية أن المعرض جاء بمساهمة فنانين من محافظات سورية أصروا على المشاركة بلوحاتهم الفنية إضافة إلى لوحات لفنانين سوريين متواجدين خارج القطر، مبينة أن الهدف من إقامة المعرض تسليط الضوء على حياة الفنان طاهر بني الذي يعتبر رمزاً للأصالة وناقداً للفن التشكيلي في سورية، مبينة أن زيارتها الأخيرة للفنان الراحل أوصاها برسم حارات حلب بكل عشق حيث جسدت لوحتها المعبرة عن جامع الجن الأصفر الكائن بحي الجلوم، مضيفة لها ألوانها الخاصة لتنثر الدفء والعشق للوحاتها بريشتها
وعن مشاركته في المعرض، يأخذنا الفنان التشكيلي خلدون الأحمد من خلال لوحته الفنية إلى عالم مليء بالحركة واللغة الصامتة، مؤكداً أن مشاركته جاءت لتكريم روح الفنان طاهر بني الذي يعد من رواد الفن التشكيلي في سورية والذي أبدع بأعمال فنية رائعة في الرسم التعبيري الواقعي والتي تجسد في تفاصيلها حارات وبيوت مدينة حلب إضافة لتجسيد صورة المرأة في أعماله.
واتخذت لوحة الفنان التشكيلي خلدون الأحمد المشاركة في المعرض اسم "العزف بالألوان" التي أضاف لها لغة بصرية تشكيلية متخذاً من الموسيقا والجمال والعزف الداخلي للروح تجسيداً لفنه، مبيناً أن العمل من إنتاج السنة الحالية حيث استهلك إنتاجه 3 أشهر توزعت على جلسات متعددة ومراحل مستمرة للوصول به إلى ولادته للنور.
في حين أشار الفنان التشكيلي بشار برازي إلى مشاركة لوحات فنية لفنانين من خارج محافظة حلب والمعرض بمثابة تحية للفنان طاهر بني الناقد التشكيلي، معتبراً أن المعرض فرصة للقاء الفنانين التشكيليين للحديث عن الفن التشكيلي واستذكار الفنان الراحل، مبيناً أن لوحته من إنتاج 2017 تجسد حالة حب بين شاب وفتاة ترصدهما إشارة القناص الذي يدخل حالة الهلع والرعب في شوارع حلب في سنوات الحرب وخلفهما بيوت عربية تعرضت للدمار وتجمع اللوحة بين التفاؤل والتشاؤم.
منحوتات يدوية تتوسط صالة المعرض، شارك بها الفنان التشكيلي النحات عبد القادر منافيخي ليؤكد مشاركته ب 5 منحوتات تحاكي وحدة تراث مدينة حلب وأسماء الله الحسنى والخط العربي والأمومة مصنعة من الخشب.
تصوير: جورج أورفليان