فيلم "وداعا جوليا" للمخرج محمد كردفاني..احداث سودانية بمعالجة كلاسيكية رصينة
معد فياض
لم يلجأ، كاتب السيناريو والمخرج السوداني محمد كردفاني، الى اية مقدمة مسهبة تهيئنا كمتلقين للدخول الى احداث فيلمه"وداعا جوليا"، الذي عرض العام الحالي، 2024، خلال المهرجانات العالمية وتجاريا في عدد من الدول العربية، من بينها العراق في مهرجان بغداد السينمائي والسعودية والامارات ومصر خاصة، والمعروض حاليا على شاشة منصة نيتفليكس Netflix، حيث تاخذنا افتتاحية الفيلم مباشرة إلى احداث السودان الراهن، الغارق في الصراعات السياسية والعنصرية الدموية، رغم اختلاف طرفي النزاع بين الأحداث الراهنة وأحداث قصة "جوليا"، التي تتزامن مع مصرع جون قرنق، مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان، وأحداث الشغب في الخرطوم عام 2005. وينقلنا المخرج مباشرة الى حمأة احداث قصته التي تتناول موضوع انفصال جنوب السودان.
تدور احداث الفيلم على مدى ستة أعوام حتى انفصال جنوب السودان عن الشمال بعد استفتاء شعبي، وخلال تلك السنوات، تكشف لنا الدراما جانباً من طبيعة العلاقة بين الشماليين والجنوبيين على المستوى المجتمع، وان موضوع الانفصال، كثيمة اساسية، فانسلاخ او استقلال جنوب السودان عن السودان ليس سياسيا فقط بل بالاساس اجتماعيا وثقافيا وبالتالي ياتي الفيلم لمحاكمة اخلاقيات اهالي الشمال وتصرفاتهم العنصرية اتجاه الجنوبيين، تلك التصرفات التي قادت اهل الجنوب بالاستفتاء على الانفصال والحصول على (نعم) بنسبة 99%.
يستهل نسيج الأحداث بخطين دراميين متوازيين بين عائلتين، عائلة منى (إيمان يوسف) مسلمة من شمال السودان، ميسورة الحال، تعيش مع زوجها المتشدد والمتطرف عنصريا واسلاميا، أكرم (نزار جمعة) حياة تبدو باردة مملة، وهي تتوق للأمومة التي حرمت منها، والغِناء الذي توقفت عنه خضوعا لرغبة زوجها وحفاظا على حياتها الزوجية فتترك فرقتها الموسيقية مرغمة، بالرغم من انها تعتبر الغناء اسعد ما في حياتها.
وفي الخط الموازي هناك أسرة جوليا المسيحية التي تعيش في منزل بسيط، تُطرد منه مع أسرتها الجنوبية بعد أحداث الشغب، لتعيش في عشوائية بائسة على اطراف الخرطوم مع ابنها وزوجها الذي تتسبب منى بمقتله.
يكشف لنا كاتب قصة الفيلم شخصية منى وتشبثها حتى بالاكاذيب البسيطة وهذا ما نراه في مشهد إعدادها للإفطار وحرقها للبيض أثناء طبخه، قبل أن تنكر أمام زوجها أنها قامت بتجهيزه من الأساس، مع ان الموضوع لا يحتاج الى الكذب، لكن هذه هي طبيعتها حيث يفضح هذا الكذب العلاقة الهشة بينها وبين وزوجها ويمهد للحادث الذي تتورط به وتدور خلاله حبكة الفيلم، عندما تصدم بسيارتها طفلا صغيرا ويطاردها والده بواسطة دراجته النارية (ماتور سايكل)، مع ان الحادث بسيط وهي حاولت ان تتوقف للاطمئنان على الطفل لكن خوفها من والده الجنوبي يدفعها للهروب عائدة الى البيت مدعية بأن رجلا جنوبيا يلاحقها، فيقرر زوجها قتله ببندقيته التي كان قد اشتراها توا بتحريض من جارهم المتشدد هو الآخر ضد الجنوبيين في ظل اشتعال الأحداث. لا يتعرض أكرم للعقاب بحجة ان القتل تم دفاعا عن النفس، ولان هذا الحدث يتماشى مع النظام المنحاز الى الشمالي المسلم ضد الجنوبي المسيحي، وهذا ما يمثله ايضا نظام الحكم ككل، وتضيع جثة زوج جوليا التي تحاول العثور عليه في المستشقيات او اقسام الشرطة او حتى في الكنيسة، دون ان تصل الى نتيجة فتستسلم لليأس وتحاول التعايش في عشوائية مع ام زوجها قبل ان يتم تهديم هذه العشوائيات بضغط من الشماليين اصحاب البيوت المترفة القريبة من هذه العشوائيات.
تشعر منى بتأنيب الضمير اتجاه جوليا التي تسببت بمقتل زوجها ويتم ابنها الصغير دانيال لهذا تسعى الى جلبها الى بيتها للعمل كخادمة وتمنحها سكنا بسيطا ملحقا للحديقة وترعى ابنها لا سيما وانها عاجزة عن الولادة. هنا تبرز عنصرية زوجها الذي يقول لها بان تهتم جوليا بالتنظيف فقط وان لا تدخل المطبخ ويامرها بعزل الصحون التي تاكل بها هي وابنها وتنصاع لذلك.
سرعان ما تتكون علاقة صداقة بين منى وجوليا، ستستمر لست سنوات، وتقترح عليها الالتحاق بمدرسة الكنيسة كي تتعلم بينما تُلحق ابنها بمدرسة خاصة بالرغم من اعتراضات زوجها، وفي الكنيسة تتعرف جوليا على جوني (قير دويني) الجنوبي المتمرّد، المدعوم من جهات أجنبية، والذي عانى كثيرا فيما مضى: قُتلت عائلته بأكملها، عرف الجوع والتشرّد، وفي أول مشهد له، يظهر متحدثا بالإنجليزية، ملقيا خطابا حول أهمية التصويت لصالح قرار الانفصال، لإنهاء عهد طويل من العنصرية تجاه الجنوبيين. بعد تعرفه على جوليا، تعبّر له عن نيتها بالتصويت بـ (لا) للانفصال، فهي ترى أن الشماليين والجنوبيين، ومهما اختلفوا في اللون والدين والعادات، شعب واحد. يعزم جوني على تغيير رأيها، عبر التقرّب منها ومن طفلها، وعرض المساعدة في معرفة حقيقة ما حدث لزوجها. كما يصارحها برغبته في الزواج منها. ترى جوليا أن الارتباط به سيهدم الحياة، التي بنتها مع منى على أساس الكذبة المسكوت عنها، وترفض كل عروضه.
إلا أن جوني لا يستسلم، بل يقرر التفتيش بنفسه عمّا حدث لزوج جوليا. وفي الختام يواجه الشمالي أكرم، زوج منى، ويرغمه على الخنوع، والاعتذار عن استخدام لفظ (عبد) تجاهه أو الموت. إنه تغيير واضح في ميزان القوة، ومكافأة حلم بها جوني طويلا.
وبالتفاعل مع تناقضات منى، يتضح لنا بالتدريج أن البطل الحقيقي للفيلم هو جوليا، الفتاة الجنوبية، التي لم تكن تريد سوى حياة بسيطة، كانت تعيشها مع زوجها الذي تحبه جدا، وطفلها الذي تقلق عليه من المستقبل الذي ينتظره، في بلد سيُنادى فيه بـ "العبد" طوال عمره، بسبب جذوره الجنوبية.
أما منى، وبعد أن تدحرجت كذبتها الأولى، لتصبح شديدة الضخامة، ككرة الثلج، ترى كل شيء ينهار فوق رأسها: تخسر زوجها، وترحل عنها جوليا ودانيال الصغير، الذي تعلّقت به جدا، وتجد نفسها تواجه نتائج أفعالها. يتزامن كل هذا مع إعلان نتائج التصويت، الذي أدى إلى انفصال الجنوب عن السودان، وبدء عملية ترحيل الشماليين.
في مشهد النهاية، تجتمع الصديقتان، في هذا الوقت بالتحديد تعلم منى أن جوليا كانت تعرف الحقيقة منذ البداية، حقيقة مقتل زوجها على يد زوج منى، وبمنتهى النرجسية تلومها على الكذب. وبعد المواجهة، تستلقى منى على حضن صديقتها المفضّلة، طالبة السلام والأمان. بالرغم من كل ما جرى بينهما، وما جرى بين الشمال والجنوب، وجدت الصديقتان في بعضهما الالفة، التي تبحث عنها كل منهما.
لقد صاغ كردفاني المشاهد الأخيرة ببراعة، فخلت من الحوار تقريبا، لكن تداخلت عناصر مثل الموسيقى والغناء بصوت منى من أجل رسم نهاية للقصة، نهاية منى وأكرم ومن جانب آخر زميلها في الفرقة الموسيقية، وبين جوليا وابنها دانيال، وبين جون الذي عرض على جوليا الزواج. وعلى ضوء المواقف التي تعرض لها الشخصيات خلال السنوات الـ6 منذ بداية الأحداث، نجد خاتمة تفتح طرقا مختلفة لكل شخصية منهم، ومسارات شديدة الاختلاف، مشاهد صامتة وفي الخلفية أغنية تبدو كمرثية على مصير الأبطال، وعلى الأحداث في السودان بعد التصويت بالموافقة على الانقسام.
وتعد نماذج الشخصيات والبناء الدرامي والحوار الثري أكثر العناصر تفوقا في الفيلم، إلى جانب توجيه الممثلين، فعلى الرغم من أن قضية "وداعا جوليا" هى الصراع بين الشمال والجنوب السوداني وتأثير العنصرية، فإن صياغة الشخصيات والأحداث جعلت الفيلم يصلح للتعبير عن أي زمان ومكان آخر، في رفض واضح للعنف والعنصرية والحروب، رغم محلية القضية التي تناقش الانفصال بين شمال السودان وجنوبه. وبالرغم من ان احداث الفيلم سودانية او ان الموضوع سوداني الا ان المعالجة، بما فيها السيناريو والتصوير والتمثيل والاخراج بالتأكيد جاء كلاسيكيا ويذكرنا بقصص عربية او غربية تمت معالجتها بلا تعقيدات تقنية او اسلوبية وهذا ما يجعله يصل الى المتلقي بسلاسة، وهذا ليس انتقاصا من السيناريو والاخراج والاداء بقدر ما هو تقييم وامتياز يضاف لعناصر نجاح الفيلم.
يختم محمد كردفاني، كاتب قصة ومخرج فيلم "وداعا جوليا" بمشهد دانيال الطفل الجنوبي الصغير وهو يحمل السلاح، رغبة منه في الثأر بعد أن علم بأن العائلة الشمالية التي تولت تربيته خلال السنوات الـ6 هي من قتلت والده.
لقد دعمت، اضافة الى القصة والاخراج، اداء الممثلين نجاح الفيلم، فقد جسدت فيه المطربة السودانية إيمان يوسف الشخصية الشمالية "منى"، اضافة الى استمتاعنا بجمال صوتها السوداني الاصيل، واستعان كردفاني بوجه بارز من جنوب السودان وهي سيران رياك ملكة جمال الجنوب عام 2015، لتجسد شخصية "جوليا"ولنتعرف عليها هنا كممثلة اجادت تجسيد شخصيتها بابداع.
قالت سيران في تصريحات صحفية عن الانطباع الأوليّ لها عن شخصية "جوليا" حين قرأت النص هي أنها شخصية مثيرة للاهتمام، لاسيما وأن قصتها لا تبتعد كثيراً عن قصص عاصرتها.
وأضافت "عشت بعضاً من الأحداث التي حدثت خلال الانفصال، لذا كنت قادرة على الاتصال بشخصية جوليا من ناحية المشاعر".
من ناحيته اوضح محمد كردفاني بإنه بدأ كتابة هذا الفيلم الروائي الأول له عام 2018، بعد أربعة أعوام من دخوله هذا المجال لأول مرة، مؤكداً أن قضية العنصرية راودته ككاتب منذ فترة طويلة.وأضاف أنه حين علم بنتيجة الاستفتاء على انفصال جنوب السودان عام 2011، والتي بلغت 99 في المئة؛ فكتب حينها أن العنصرية كانت من الأسباب الأكيدة للانفصال.
ومع ذلك، جادل بعض من شاهد الفيلم من السودانيين أن القصة ربما تكون أكثر انحيازاً لجنوب السودان، لكن كردفاني أوضح أن الفيلم في الأصل موجه لسكان الشمال.
قال: "الفكرة أصلاً كانت تتناول الظلم الاجتماعي عند الشماليين، والانفصال أحد أسوأ تجليات ذلك".
لقد حظي فيلم "وداعا جوليا" بنجاح جماهيري إلى جانب النجاح النقدي، إذ توج بـ24 جائزة من مهرجانات عالمية، حيث حصل على جائزة الحرية بمهرجان كان السينمائي، وعلق كردفاني قائلا "كنت أتوقع النجاح لكن الحقيقة فاقت التوقعات، لأن الفوز في مهرجان كان لم يكن متوقعاً، فهو أمر صعب أن يحصده فيلم عربي".
كما رشح ليمثل السودان في جوائز الأوسكار ضمن فئة "أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية"، كما حصلت بطلة الفيلم إيمان يوسف على جائزة أفضل ممثل في النسخة الـ 18 من مهرجان قبرص السينمائي الدولي، وحاز محمد كردفاني جائزة أفضل مخرج في عمل روائي أول بذات المهرجان. وفاز "وداعا جوليا" أيضا بجائزة روجر إيبرت في مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي، إلى جانب جائزتين من مهرجان الحرب على الشاشة في فرنسا، وهما جائزة الجمهور وجائزة الصحافة.
وحصد الفيلم أيضًا 3 جوائز دولية في مهرجان صانعي الأفلام الفرنسي (Paysages de Cinéastes) وهي جائزة لجنة تحكيم الصاعدين، وجائزة الجمهور، وجائزة لجنة تحكيم المرأة، كما فاز بجائزة أفضل فيلم أفريقي في جوائز سبتيموس الدولية. أما آخر الجوائز، فكانت جائزة الجمهور في مهرجان السينما العربية والبحر المتوسط بكتالونيا.
معد فياض
لم يلجأ، كاتب السيناريو والمخرج السوداني محمد كردفاني، الى اية مقدمة مسهبة تهيئنا كمتلقين للدخول الى احداث فيلمه"وداعا جوليا"، الذي عرض العام الحالي، 2024، خلال المهرجانات العالمية وتجاريا في عدد من الدول العربية، من بينها العراق في مهرجان بغداد السينمائي والسعودية والامارات ومصر خاصة، والمعروض حاليا على شاشة منصة نيتفليكس Netflix، حيث تاخذنا افتتاحية الفيلم مباشرة إلى احداث السودان الراهن، الغارق في الصراعات السياسية والعنصرية الدموية، رغم اختلاف طرفي النزاع بين الأحداث الراهنة وأحداث قصة "جوليا"، التي تتزامن مع مصرع جون قرنق، مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان، وأحداث الشغب في الخرطوم عام 2005. وينقلنا المخرج مباشرة الى حمأة احداث قصته التي تتناول موضوع انفصال جنوب السودان.
تدور احداث الفيلم على مدى ستة أعوام حتى انفصال جنوب السودان عن الشمال بعد استفتاء شعبي، وخلال تلك السنوات، تكشف لنا الدراما جانباً من طبيعة العلاقة بين الشماليين والجنوبيين على المستوى المجتمع، وان موضوع الانفصال، كثيمة اساسية، فانسلاخ او استقلال جنوب السودان عن السودان ليس سياسيا فقط بل بالاساس اجتماعيا وثقافيا وبالتالي ياتي الفيلم لمحاكمة اخلاقيات اهالي الشمال وتصرفاتهم العنصرية اتجاه الجنوبيين، تلك التصرفات التي قادت اهل الجنوب بالاستفتاء على الانفصال والحصول على (نعم) بنسبة 99%.
يستهل نسيج الأحداث بخطين دراميين متوازيين بين عائلتين، عائلة منى (إيمان يوسف) مسلمة من شمال السودان، ميسورة الحال، تعيش مع زوجها المتشدد والمتطرف عنصريا واسلاميا، أكرم (نزار جمعة) حياة تبدو باردة مملة، وهي تتوق للأمومة التي حرمت منها، والغِناء الذي توقفت عنه خضوعا لرغبة زوجها وحفاظا على حياتها الزوجية فتترك فرقتها الموسيقية مرغمة، بالرغم من انها تعتبر الغناء اسعد ما في حياتها.
وفي الخط الموازي هناك أسرة جوليا المسيحية التي تعيش في منزل بسيط، تُطرد منه مع أسرتها الجنوبية بعد أحداث الشغب، لتعيش في عشوائية بائسة على اطراف الخرطوم مع ابنها وزوجها الذي تتسبب منى بمقتله.
يكشف لنا كاتب قصة الفيلم شخصية منى وتشبثها حتى بالاكاذيب البسيطة وهذا ما نراه في مشهد إعدادها للإفطار وحرقها للبيض أثناء طبخه، قبل أن تنكر أمام زوجها أنها قامت بتجهيزه من الأساس، مع ان الموضوع لا يحتاج الى الكذب، لكن هذه هي طبيعتها حيث يفضح هذا الكذب العلاقة الهشة بينها وبين وزوجها ويمهد للحادث الذي تتورط به وتدور خلاله حبكة الفيلم، عندما تصدم بسيارتها طفلا صغيرا ويطاردها والده بواسطة دراجته النارية (ماتور سايكل)، مع ان الحادث بسيط وهي حاولت ان تتوقف للاطمئنان على الطفل لكن خوفها من والده الجنوبي يدفعها للهروب عائدة الى البيت مدعية بأن رجلا جنوبيا يلاحقها، فيقرر زوجها قتله ببندقيته التي كان قد اشتراها توا بتحريض من جارهم المتشدد هو الآخر ضد الجنوبيين في ظل اشتعال الأحداث. لا يتعرض أكرم للعقاب بحجة ان القتل تم دفاعا عن النفس، ولان هذا الحدث يتماشى مع النظام المنحاز الى الشمالي المسلم ضد الجنوبي المسيحي، وهذا ما يمثله ايضا نظام الحكم ككل، وتضيع جثة زوج جوليا التي تحاول العثور عليه في المستشقيات او اقسام الشرطة او حتى في الكنيسة، دون ان تصل الى نتيجة فتستسلم لليأس وتحاول التعايش في عشوائية مع ام زوجها قبل ان يتم تهديم هذه العشوائيات بضغط من الشماليين اصحاب البيوت المترفة القريبة من هذه العشوائيات.
تشعر منى بتأنيب الضمير اتجاه جوليا التي تسببت بمقتل زوجها ويتم ابنها الصغير دانيال لهذا تسعى الى جلبها الى بيتها للعمل كخادمة وتمنحها سكنا بسيطا ملحقا للحديقة وترعى ابنها لا سيما وانها عاجزة عن الولادة. هنا تبرز عنصرية زوجها الذي يقول لها بان تهتم جوليا بالتنظيف فقط وان لا تدخل المطبخ ويامرها بعزل الصحون التي تاكل بها هي وابنها وتنصاع لذلك.
سرعان ما تتكون علاقة صداقة بين منى وجوليا، ستستمر لست سنوات، وتقترح عليها الالتحاق بمدرسة الكنيسة كي تتعلم بينما تُلحق ابنها بمدرسة خاصة بالرغم من اعتراضات زوجها، وفي الكنيسة تتعرف جوليا على جوني (قير دويني) الجنوبي المتمرّد، المدعوم من جهات أجنبية، والذي عانى كثيرا فيما مضى: قُتلت عائلته بأكملها، عرف الجوع والتشرّد، وفي أول مشهد له، يظهر متحدثا بالإنجليزية، ملقيا خطابا حول أهمية التصويت لصالح قرار الانفصال، لإنهاء عهد طويل من العنصرية تجاه الجنوبيين. بعد تعرفه على جوليا، تعبّر له عن نيتها بالتصويت بـ (لا) للانفصال، فهي ترى أن الشماليين والجنوبيين، ومهما اختلفوا في اللون والدين والعادات، شعب واحد. يعزم جوني على تغيير رأيها، عبر التقرّب منها ومن طفلها، وعرض المساعدة في معرفة حقيقة ما حدث لزوجها. كما يصارحها برغبته في الزواج منها. ترى جوليا أن الارتباط به سيهدم الحياة، التي بنتها مع منى على أساس الكذبة المسكوت عنها، وترفض كل عروضه.
إلا أن جوني لا يستسلم، بل يقرر التفتيش بنفسه عمّا حدث لزوج جوليا. وفي الختام يواجه الشمالي أكرم، زوج منى، ويرغمه على الخنوع، والاعتذار عن استخدام لفظ (عبد) تجاهه أو الموت. إنه تغيير واضح في ميزان القوة، ومكافأة حلم بها جوني طويلا.
وبالتفاعل مع تناقضات منى، يتضح لنا بالتدريج أن البطل الحقيقي للفيلم هو جوليا، الفتاة الجنوبية، التي لم تكن تريد سوى حياة بسيطة، كانت تعيشها مع زوجها الذي تحبه جدا، وطفلها الذي تقلق عليه من المستقبل الذي ينتظره، في بلد سيُنادى فيه بـ "العبد" طوال عمره، بسبب جذوره الجنوبية.
أما منى، وبعد أن تدحرجت كذبتها الأولى، لتصبح شديدة الضخامة، ككرة الثلج، ترى كل شيء ينهار فوق رأسها: تخسر زوجها، وترحل عنها جوليا ودانيال الصغير، الذي تعلّقت به جدا، وتجد نفسها تواجه نتائج أفعالها. يتزامن كل هذا مع إعلان نتائج التصويت، الذي أدى إلى انفصال الجنوب عن السودان، وبدء عملية ترحيل الشماليين.
في مشهد النهاية، تجتمع الصديقتان، في هذا الوقت بالتحديد تعلم منى أن جوليا كانت تعرف الحقيقة منذ البداية، حقيقة مقتل زوجها على يد زوج منى، وبمنتهى النرجسية تلومها على الكذب. وبعد المواجهة، تستلقى منى على حضن صديقتها المفضّلة، طالبة السلام والأمان. بالرغم من كل ما جرى بينهما، وما جرى بين الشمال والجنوب، وجدت الصديقتان في بعضهما الالفة، التي تبحث عنها كل منهما.
لقد صاغ كردفاني المشاهد الأخيرة ببراعة، فخلت من الحوار تقريبا، لكن تداخلت عناصر مثل الموسيقى والغناء بصوت منى من أجل رسم نهاية للقصة، نهاية منى وأكرم ومن جانب آخر زميلها في الفرقة الموسيقية، وبين جوليا وابنها دانيال، وبين جون الذي عرض على جوليا الزواج. وعلى ضوء المواقف التي تعرض لها الشخصيات خلال السنوات الـ6 منذ بداية الأحداث، نجد خاتمة تفتح طرقا مختلفة لكل شخصية منهم، ومسارات شديدة الاختلاف، مشاهد صامتة وفي الخلفية أغنية تبدو كمرثية على مصير الأبطال، وعلى الأحداث في السودان بعد التصويت بالموافقة على الانقسام.
وتعد نماذج الشخصيات والبناء الدرامي والحوار الثري أكثر العناصر تفوقا في الفيلم، إلى جانب توجيه الممثلين، فعلى الرغم من أن قضية "وداعا جوليا" هى الصراع بين الشمال والجنوب السوداني وتأثير العنصرية، فإن صياغة الشخصيات والأحداث جعلت الفيلم يصلح للتعبير عن أي زمان ومكان آخر، في رفض واضح للعنف والعنصرية والحروب، رغم محلية القضية التي تناقش الانفصال بين شمال السودان وجنوبه. وبالرغم من ان احداث الفيلم سودانية او ان الموضوع سوداني الا ان المعالجة، بما فيها السيناريو والتصوير والتمثيل والاخراج بالتأكيد جاء كلاسيكيا ويذكرنا بقصص عربية او غربية تمت معالجتها بلا تعقيدات تقنية او اسلوبية وهذا ما يجعله يصل الى المتلقي بسلاسة، وهذا ليس انتقاصا من السيناريو والاخراج والاداء بقدر ما هو تقييم وامتياز يضاف لعناصر نجاح الفيلم.
يختم محمد كردفاني، كاتب قصة ومخرج فيلم "وداعا جوليا" بمشهد دانيال الطفل الجنوبي الصغير وهو يحمل السلاح، رغبة منه في الثأر بعد أن علم بأن العائلة الشمالية التي تولت تربيته خلال السنوات الـ6 هي من قتلت والده.
لقد دعمت، اضافة الى القصة والاخراج، اداء الممثلين نجاح الفيلم، فقد جسدت فيه المطربة السودانية إيمان يوسف الشخصية الشمالية "منى"، اضافة الى استمتاعنا بجمال صوتها السوداني الاصيل، واستعان كردفاني بوجه بارز من جنوب السودان وهي سيران رياك ملكة جمال الجنوب عام 2015، لتجسد شخصية "جوليا"ولنتعرف عليها هنا كممثلة اجادت تجسيد شخصيتها بابداع.
قالت سيران في تصريحات صحفية عن الانطباع الأوليّ لها عن شخصية "جوليا" حين قرأت النص هي أنها شخصية مثيرة للاهتمام، لاسيما وأن قصتها لا تبتعد كثيراً عن قصص عاصرتها.
وأضافت "عشت بعضاً من الأحداث التي حدثت خلال الانفصال، لذا كنت قادرة على الاتصال بشخصية جوليا من ناحية المشاعر".
من ناحيته اوضح محمد كردفاني بإنه بدأ كتابة هذا الفيلم الروائي الأول له عام 2018، بعد أربعة أعوام من دخوله هذا المجال لأول مرة، مؤكداً أن قضية العنصرية راودته ككاتب منذ فترة طويلة.وأضاف أنه حين علم بنتيجة الاستفتاء على انفصال جنوب السودان عام 2011، والتي بلغت 99 في المئة؛ فكتب حينها أن العنصرية كانت من الأسباب الأكيدة للانفصال.
ومع ذلك، جادل بعض من شاهد الفيلم من السودانيين أن القصة ربما تكون أكثر انحيازاً لجنوب السودان، لكن كردفاني أوضح أن الفيلم في الأصل موجه لسكان الشمال.
قال: "الفكرة أصلاً كانت تتناول الظلم الاجتماعي عند الشماليين، والانفصال أحد أسوأ تجليات ذلك".
لقد حظي فيلم "وداعا جوليا" بنجاح جماهيري إلى جانب النجاح النقدي، إذ توج بـ24 جائزة من مهرجانات عالمية، حيث حصل على جائزة الحرية بمهرجان كان السينمائي، وعلق كردفاني قائلا "كنت أتوقع النجاح لكن الحقيقة فاقت التوقعات، لأن الفوز في مهرجان كان لم يكن متوقعاً، فهو أمر صعب أن يحصده فيلم عربي".
كما رشح ليمثل السودان في جوائز الأوسكار ضمن فئة "أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية"، كما حصلت بطلة الفيلم إيمان يوسف على جائزة أفضل ممثل في النسخة الـ 18 من مهرجان قبرص السينمائي الدولي، وحاز محمد كردفاني جائزة أفضل مخرج في عمل روائي أول بذات المهرجان. وفاز "وداعا جوليا" أيضا بجائزة روجر إيبرت في مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي، إلى جانب جائزتين من مهرجان الحرب على الشاشة في فرنسا، وهما جائزة الجمهور وجائزة الصحافة.
وحصد الفيلم أيضًا 3 جوائز دولية في مهرجان صانعي الأفلام الفرنسي (Paysages de Cinéastes) وهي جائزة لجنة تحكيم الصاعدين، وجائزة الجمهور، وجائزة لجنة تحكيم المرأة، كما فاز بجائزة أفضل فيلم أفريقي في جوائز سبتيموس الدولية. أما آخر الجوائز، فكانت جائزة الجمهور في مهرجان السينما العربية والبحر المتوسط بكتالونيا.