"حليم بين الماء وبين النار" سيرة روائية للعندليب الأسمر
فنان كان يسابق الموت ليخلّد اسمه في تاريخ الموسيقى العربية.
السبت 2024/08/03
ShareWhatsAppTwitterFacebook
قدّم حياته ثمنا لفنه
نجح الفنان المصري عبدالحليم حافظ في كسب رهانه مع الموت الذي اختطفه مبكرا جسدا، لكنه فشل في إصابة اسمه أو صوته بالذبول والنسيان، رغم مرور قرابة الخمسة عقود على رحيله، إذ مازال العندليب الأسمر حاضرا بيننا بأغانيه وأدائه الغنائي الفريد الذي مثل بصمة خاصة. وخلف صورة الفنان الناجح هناك معاناة كبيرة ترويها الكاتبة المصرية رضوى الأسود.
كتاب “حليم بين الماء وبين النار” سردية بديعة كتبت بحب عن حياة أحد أساطير الغناء في مصر والعالم العربي، نص ارتحلت فيه الكاتبة رضوى الأسود من ميلاد الفنان عبدالحليم حافظ إلى وفاته، ومن ظلام اليتم والمعاناة إلى وهج الأضواء والشهرة.
لم تنحز الكاتبة لرواية أو مقولة لمجرد شيوعها في حياة العندليب الأسمر الخالد في وجدان الجماهير العريضة، خاصة المقولات التي طالما روجها من يمكن وصفهم بكهنة حليم من حاملي مفاتيح صندوقه الأسود، سواء مفيد فوزي أو مجدي العمروسي أو وجدي الحكيم أو صديق عمره كمال الطويل أو غيرهم.
بين مولده في 21 يونيو 1929 وحتى وفاته في يوم الأربعاء 30 مارس 1977، 48 عاما من العذاب والمعاناة، من الحب والدموع، من الحياة والموت، من الفشل والنجاح من الصعود المدوي والانكسار المزلزل، بين الوهج والنجومية، والأفول والذبول، إلى السفر الطويل من غير وداع، كانت حياة أسطورة الغناء العربي العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، الذي أبدعت في سردها الكاتبة رضوى الأسود ورسمت بالكلمات والخطوط والظلال والألوان، سيرة روائية مشحونة بالشجن والأحاسيس والمشاعر التي أبرزت فيها صنوف العذاب والمعاناة، وبإيقاعات موسيقية حزينة في مجملها بدأت بالموت وأنهت به كتابها الصادر عن كتوبيا للنشر والتوزيع.
يوم الأربعاء، 30 مارس 1977، في غرفة العمليات، بمستشفى كينغ كولدج بلندن دخل عبدالحليم حافظ غرفة العمليات لأخذ عينة من المريء، وبعد العملية، وبمجرد مغادرة حليم للغرفة، هاجمه نزيف حاد استمر لثلاث ساعات كاملة، فشلت فيها كل المحاولات لإيقافه، ما أحدث هبوطا حادا في الدورة الدموية خفتت معه ضربات القلب حتى توقف تماما، وأسلم الروح وهو في غيبوبة.
بدمعتين سقطتا من عينيه سحب الدكتور شاكر سرور الغطاء الأبيض المسدل فوق جسد حليم، وغطى به وجهه الذي اكتسى بملامح طفولية تغط في نوم عميق، لتطلق أخته علية صرخة تدمي القلوب، تجعل السيدة نهلة القدسي زوجة عبدالوهاب، تهرع صوبها وتحاول احتضانها لكنها تتفلت من بين يديها وتذهب باتجاه جثة حليم الممددة فوق السرير، وتبدأ بهزها غير مصدقة، أما مجدي العمروسي، فيعدو خارج الغرفة والدموع تنداح من عينيه كشلال، لا تغادره صورة حليم حين رآه أول مرة وهو يغني وحيدا في إحدى الحجرات "من قد ايه كنا هنا.. من شهر فات ولا سنة".
مسيرة حلم
◙ سردية بديعة كتبت بحب عن حياة أحد أساطير الغناء في مصر والعالم العربي
كان الطفل اليتيم يحن لأصله ومنبته وجذوره دائما، الحلوات ملجأه الآمن ومكانه المفضل حتى النهاية، من بيت خاله إلى الملجأ إلى منزله بالقاهرة، وعمله مدرسا للموسيقى في أكثر من مدرسة تفصل بينها جميعا مسافات طويلة، خلال هذه الرحلة أحب حليم الموسيقى والغناء وكاد يفقد حياته حين تابع عرسا غنائيا أحياه موسيقار الأجيال عبدالوهاب محمد في الزقازيق، وكانت فرحة عمره حين فصلوه من التدريس ليتنسم الحرية. الحلم المستحيل الذي حلق به في السماء وهبط منه إلى الأرض وإلى الحياة.
تصف رضوى الأسود فرحة حليم بفصله من عمله مدرسا للموسيقى نتيجة كثرة تأخره وغيابه المتكرر، لبعد المسافات فتقول “حين نزل إلى الشارع، فرد ذراعيه وكأنه يتأهب للطيران، ثم ما لبث أن شرع في الجري، بعدها هدأ من سرعته وبدأ يمشي الهوينى، لكن على غير هدى، اصطدم بحجر صغير عند قدمه اليمنى، فقذف به بكل قوة ثم لمح في طريقه دكة خشبية، جلس عليها ناظرا إلى البعيد، فبدأ شريط حياته يمر من أمام عينيه: طفل الحلوات الصغير، حفل العرس وشدو عبدالوهاب وصعوده فوق السرادق. الباب الخشبي الذي وقع فوق قدمه. وقوفه أمام طالبات يشعر بحاسته بأن منهن من يعجبن به ومنهن من يصرخن بهذا الإعجاب، لكن وضعه كمدرس يضعه في حرج بالغ أمام أحاسيسهن، وإحساسه هو شخصيا بواحدة منهن فقط، استقل الحافلة التي توقفت في باب اللوق، فاتجه إلى الإذاعة بشارع الشريفين، وبحث عن كمال الطويل، وحين رآه أمامه، واجهه بمأزقه دون مقدمات: فصلوني من التدريس”.
الحرية عند حليم هي كلمة السر في كل مشوار حياته؛ الحرية هي الحلم، وقد ظل متمسكا بحلمه حتى النهاية، حلمه بحب مستحيل، وتكوين أسرة، وترك بصمة في عالم الغناء، والأهم من كل ذلك حلمه بالشفاء من مرضه حتى عندما علم من الأطباء بأنه يعيش بـ 10 بالمئة من كبده.
عمل حليم عازفا على آلة الأبوا لفترة قضاها في الظل، مكنته من وضع كل من يقف أمامه ويصدح بالغناء تحت المجهر، من دراسته دراسة تحليلية لا تغفل أي عامل من العوامل، وبعدها يستخلص النتائج التي سيستفيد منها لاحقا. ذلك المنهج التحليلي هو ما التزمه في تتبع من يعرفهم وبخاصة عبدالوهاب، وبليغ حمدي.
بدأ يفهم أسباب نجاح أغنية، أو فشلها، لمعان مطرب أو انطفائه؛ بدأ يستوعب أن هناك لحنا يولَد ميتا لأن الملحن لم يبذل فيه من روحه، لم يتوغل في معاني الكلمات، وهناك كلمات رائعة أماتها لحن ليس بمستواها، كما أن هناك مطربا لا يشعر بما يغنيه، فترتسم البهجة على وجهه، بينما يتغنى بالحزن، وفهم أن ما يجمع كل ما سبق يمكن تلخيصه في كلمة واحدة فقط "الإحساس". ذلك الإحساس سيستدعي بالضرورة "الإتقان".. وهو ما ظل حليم حريصا عليه طول حياته.
◙ حليم شخصية روائية بامتياز، شخصية تغري بالكتابة عنها نظرا لحياته الثرية والمؤلمة والتي تحوي بداخلها عوالم كثيرة
ورغم إخفاقه أمام لجان الاستماع بالإذاعة؛ كان حليم لونا مختلفا، ثورة على الأداء القديم، يؤدي أغنيات عبدالوهاب لكن ممهورة بتوقيعه بخاتمه بنكهته وإحساسه وشجنه المميز، وكان هذا يعتبر تمردا وخروجا عن المتعارف عليه والمألوف، خروج على "هذا ما وجدنا عليه آباءنا". كان أداء حليم البسيط والهادئ والحقيقي، هو ما جعلهم يعتبرونه “خواجة”. حتى جاء اليوم الذي قال عنه الناقد كمال النجمي "لقد استخرج من صوته الحساس المرهف دقائق فنية عجيبة غير مسبوقة في الغناء العربي، ولا وجود لها في الغناءالكلاسيكي، الذي أضاف إليه ولم يأخذ منه".
البشر في حياتنا إما فرص أو دروس نتعلمها أو فواتير نظل نسددها حتى رحيلنا، هكذا كان كمال الطويل لحليم، صديق عمر تحمس لموهبة العندليب دونما يأس أو فتور، ثم أضيف إليه حماس الإذاعي حافظ عبدالوهاب، الذي حث حليم على التقدم مرة أخرى إلى لجنة الاستماع التي سيكون هو أحد أعضائها، بجانب قمم الغناء والتلحين: أم كلثوم، عبدالوهاب، رياض السنباطي، ومحمد القصبجي. وقد أجازته تلك اللجنة بالإجماع. ويومها منحه حافظ عبدالوهاب اسمه، ليصبح بعدها عبد الحليم حافظ.
كانت الإجازة بمثابة صافرة البدء بالظهور، الباب الذي يفتح كي يدخل منه المرء إلى عالم الشهرة، كي يلج بؤرة الضوء بعد أن كان متواريا في الظلام، كي يصبح معروفا بعد أن ظل مجهولا. بحساسية شديدة تصف الكاتبة رضوى الأسود في كتابها "حليم بين الماء وبين النار"، الصراع الرهيب جدا بين حليم والوقت، وسيظل حليم يلهث وراء الوقت في صراع متواصل، وكأنه كان يعلم بأن مجموع ما سينفقه ممددا فوق السرير سيعادل تقريبا نصف عمره.
عنونت المؤلفة فصول كتابها بأشهر ما غنى حليم، الذي قيل إنه قدم في حياته أكثر من 250 أغنية، الفرح فيها قليل، وأغلبها حزن ولوعة وألم وفقد وفراق، حتى حين أحب ديدي صاحبة أجمل عيون في الكون والتي رآها في الإسكندرية مرة وفي لندن مرة، كان للقدر رأي آخر، وصفته الكاتبة ببراعة ضمن وصفها لكره حليم للموت.
تكتب “كان لديه شعور عميق يشبه اليقين بأنها لن تعيش طويلا، وبأن القدر سيقطفها كما تقطَف الوردة في عز تفتحها، وكان ينتفض رعبا من كلماتها محذرا إياها من تكرارها. كان يكره سيرة الموت، فالموت كان أكبر عدو له، إذ كان أول ما تفتحت عيناه عليه، فقد قطف أمه وهو ابن سبعة أيام، ثم خطف أباه وهو بعمر العام، وهو الآن يعيش تحت تهديده بأن يخطف منه حب حياته، إنه يهاب موته نفسه؛ لأنه سيحرمه تلك الأحاسيس التي يعيش ويتغنى بها، والتي يبثها لجمهوره الذي يتمدد كل يوم أكثر من سابقه، إنه يفضل حياة معذبة، على موت مبهم وانطفاء أبدي”.
وتضيف “حين سيقترف الموت جريمته بحقها، وحين سيحاول حليم الهرب من صورتها وذكراها التي ستظل تطارده بقية حياته بالاستغراق في العمل، أو بقصص من هنا وهناك، لن يستطع الهروب من تلك الفكرة! إنها لعنة أن تظل بانتظار حتفك! تلك القصة التي بدأت مواكبة لانطلاقته وشهرته، والتي نسجَ من خيوطها فيلم ‘حكاية حب‘، قد فجرَت أعظم أغنياته العاطفية”.
شخصية روائية بامتياز
◙ العندليب كان مرهف الحس
لا شيء مجانيا، هناك مقابل لكل شيء، وأحيانا يكون الثمن باهظا جدا. قبل الشهرة، كان حليم حرا؛ يأكل بحرية، ينام بحرية، يمارس حريته بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وبعد النجاح أصبح أسيرا لكل شيء؛ للمرض، والدواء، والأسرة، ونواهي وتعليمات الأطباء، وأصبحت كمية الحبوب التي يبتلعها طوال اليوم، أكبر من كمية الطعام التي يتناولها.
كان العندليب مرهف الحس، إلى درجة توهم من يتعامل معه أو ينصت لمجرد حديثه العادي، بأنه يتصنع هذه الرهافة ويتاجر بمعاناته، وما كان يؤلم حليم بطول تلك الرحلة الصعبة، ما كان يشاع بين الناس وفي الصحافة من أنه يتاجر بمرضه من أجل الشهرة، كان يصطدم بتلك الأقاويل إما في أسئلة توجه إليه بشكل مباشر من صحفيين يجرون حوارات معه، وإما حين كان يطالع مقالات في الجرائد والمجلات تتناول سيرته باتهامات واضحة وتشكيك في حكاية مرضه بالكامل.
لم يفهم أبدا كيف من الممكن أن يستثمر شخص مرضه كي تسَلط عليه الأضواء، وتتردد أخباره في الصحف والمجلات، لم يفهم كيف يشيطن الناس بعضهم البعض، لم يستوعب سر الأذى المجاني، وكيف يبدأ سوء الظن، كيف يتعاظم وكيف ينتهي، وكيف تبدأ كذبة، وتنتشر، ويصدقها صاحبها والآخرون.
لا ينكر حليم حبه للأضواء وللشهرة، إذ يعتبرهما أكبر تجليات التحقق، وكان يعشق النجاح، كان الهدف الذي يسعى دوما إليه، لقد قدم حياته ثمنا لفنه، ولنشر ذلك الفن كان الغناء بالنسبة إليه حياة كاملة يسكنها الفرح والحزن والألم، والمعاناة، والتفاؤل، واليأس، وحب المرأة وحب الوطن، الذي غنى له في أوج عصر عبد الناصر ومباشرة بعد ملحمة نصر أكتوبر العظيم، فرغم اشتداد المرض عليه في 1973 انطلق إلى الأستديو ليشدو "لفي البلاد يا صبية"، و"صباح الخير يا سينا"، و"المركبة عدت"، وعاش اللي قال الكلمة بحكمة في الوقت المناسب.
في عام 1977 كان حليم قد وصل إلى قمة شعوره بالوحدة وضراوتها، وهو الذي طالما كان يهرب منها ومن حقيقة مرضه بالأصدقاء، بالتواجد وسطهم بالذوبان في وجودهم حين ينفض الناس عنه، وقتها فقط كان يشعر بأنه مريض، بأنه متهم، وجريرته تكمن في مرضه. وهكذا وجد حليم فرصة لمراجعة النفس والانتهاء من كتابة الجزء الثاني من مذكراته التي بدأها ونشر الجزء الأول منها عام 1973.
وبحسب الكاتبة رضوى الأسود فإن حليم شخصية روائية بامتياز، شخصية تغري بالكتابة عنها، فبالإضافة لحياته الثرية والمؤلمة والتي تحوي بداخلها عوالم كثيرة وجوانب عدة، كان هناك ذلك الغموض الذي أحاط بتفصيلات حياته الشخصية، نتيجة أنه في قرارة نفسه كان رجلا شرقيا لا يحب أن تعرض دقائقها على الملأ، وبخاصة فيما يتعلق بقصص حبه، وبالنساء اللاتي ارتبط بهن، وهكذا عاش حزينا يتألم في صمت حتى جاء الوداع الأخير، لتبكيه مصر وسائر البلدان العربية، أسطورة غنائية أطول عمرا من صاحبها الموعود بالعذاب، الذي فارق الحياة عن عمر 48 سنة من المعاناة والشهرة والنجاح.
صدر للكاتبة رضوى الأسود، حفل المئوية، دار الياسمين للطبع والنشر والتوزيع، 2010. تشابك، دار الكتاب العربي، 2013. كل هذا الصخب، دار مقام للنشر والتوزيع، 2015. زجزاج، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2018. أديان وطوائف مجهولة – جوهر غائب ومفاهيم مغلوطة، مؤسسة بتانة الثقافية، 2018. بالأمس كنت ميتا: حكاية عن الأرمن والكرد، الدار المصرية اللبنانية، 2020. سيد قطب: رحلة بين ضفاف أسطورة التناقضات، دار سما، 2022. خداع واحد ممكن، دار الشروق، 2022. يونيفرس، دار العين، 2023.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
سمير محمود
كاتب صحفي مصري
فنان كان يسابق الموت ليخلّد اسمه في تاريخ الموسيقى العربية.
السبت 2024/08/03
ShareWhatsAppTwitterFacebook
قدّم حياته ثمنا لفنه
نجح الفنان المصري عبدالحليم حافظ في كسب رهانه مع الموت الذي اختطفه مبكرا جسدا، لكنه فشل في إصابة اسمه أو صوته بالذبول والنسيان، رغم مرور قرابة الخمسة عقود على رحيله، إذ مازال العندليب الأسمر حاضرا بيننا بأغانيه وأدائه الغنائي الفريد الذي مثل بصمة خاصة. وخلف صورة الفنان الناجح هناك معاناة كبيرة ترويها الكاتبة المصرية رضوى الأسود.
كتاب “حليم بين الماء وبين النار” سردية بديعة كتبت بحب عن حياة أحد أساطير الغناء في مصر والعالم العربي، نص ارتحلت فيه الكاتبة رضوى الأسود من ميلاد الفنان عبدالحليم حافظ إلى وفاته، ومن ظلام اليتم والمعاناة إلى وهج الأضواء والشهرة.
لم تنحز الكاتبة لرواية أو مقولة لمجرد شيوعها في حياة العندليب الأسمر الخالد في وجدان الجماهير العريضة، خاصة المقولات التي طالما روجها من يمكن وصفهم بكهنة حليم من حاملي مفاتيح صندوقه الأسود، سواء مفيد فوزي أو مجدي العمروسي أو وجدي الحكيم أو صديق عمره كمال الطويل أو غيرهم.
بين مولده في 21 يونيو 1929 وحتى وفاته في يوم الأربعاء 30 مارس 1977، 48 عاما من العذاب والمعاناة، من الحب والدموع، من الحياة والموت، من الفشل والنجاح من الصعود المدوي والانكسار المزلزل، بين الوهج والنجومية، والأفول والذبول، إلى السفر الطويل من غير وداع، كانت حياة أسطورة الغناء العربي العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، الذي أبدعت في سردها الكاتبة رضوى الأسود ورسمت بالكلمات والخطوط والظلال والألوان، سيرة روائية مشحونة بالشجن والأحاسيس والمشاعر التي أبرزت فيها صنوف العذاب والمعاناة، وبإيقاعات موسيقية حزينة في مجملها بدأت بالموت وأنهت به كتابها الصادر عن كتوبيا للنشر والتوزيع.
يوم الأربعاء، 30 مارس 1977، في غرفة العمليات، بمستشفى كينغ كولدج بلندن دخل عبدالحليم حافظ غرفة العمليات لأخذ عينة من المريء، وبعد العملية، وبمجرد مغادرة حليم للغرفة، هاجمه نزيف حاد استمر لثلاث ساعات كاملة، فشلت فيها كل المحاولات لإيقافه، ما أحدث هبوطا حادا في الدورة الدموية خفتت معه ضربات القلب حتى توقف تماما، وأسلم الروح وهو في غيبوبة.
بدمعتين سقطتا من عينيه سحب الدكتور شاكر سرور الغطاء الأبيض المسدل فوق جسد حليم، وغطى به وجهه الذي اكتسى بملامح طفولية تغط في نوم عميق، لتطلق أخته علية صرخة تدمي القلوب، تجعل السيدة نهلة القدسي زوجة عبدالوهاب، تهرع صوبها وتحاول احتضانها لكنها تتفلت من بين يديها وتذهب باتجاه جثة حليم الممددة فوق السرير، وتبدأ بهزها غير مصدقة، أما مجدي العمروسي، فيعدو خارج الغرفة والدموع تنداح من عينيه كشلال، لا تغادره صورة حليم حين رآه أول مرة وهو يغني وحيدا في إحدى الحجرات "من قد ايه كنا هنا.. من شهر فات ولا سنة".
مسيرة حلم
◙ سردية بديعة كتبت بحب عن حياة أحد أساطير الغناء في مصر والعالم العربي
كان الطفل اليتيم يحن لأصله ومنبته وجذوره دائما، الحلوات ملجأه الآمن ومكانه المفضل حتى النهاية، من بيت خاله إلى الملجأ إلى منزله بالقاهرة، وعمله مدرسا للموسيقى في أكثر من مدرسة تفصل بينها جميعا مسافات طويلة، خلال هذه الرحلة أحب حليم الموسيقى والغناء وكاد يفقد حياته حين تابع عرسا غنائيا أحياه موسيقار الأجيال عبدالوهاب محمد في الزقازيق، وكانت فرحة عمره حين فصلوه من التدريس ليتنسم الحرية. الحلم المستحيل الذي حلق به في السماء وهبط منه إلى الأرض وإلى الحياة.
تصف رضوى الأسود فرحة حليم بفصله من عمله مدرسا للموسيقى نتيجة كثرة تأخره وغيابه المتكرر، لبعد المسافات فتقول “حين نزل إلى الشارع، فرد ذراعيه وكأنه يتأهب للطيران، ثم ما لبث أن شرع في الجري، بعدها هدأ من سرعته وبدأ يمشي الهوينى، لكن على غير هدى، اصطدم بحجر صغير عند قدمه اليمنى، فقذف به بكل قوة ثم لمح في طريقه دكة خشبية، جلس عليها ناظرا إلى البعيد، فبدأ شريط حياته يمر من أمام عينيه: طفل الحلوات الصغير، حفل العرس وشدو عبدالوهاب وصعوده فوق السرادق. الباب الخشبي الذي وقع فوق قدمه. وقوفه أمام طالبات يشعر بحاسته بأن منهن من يعجبن به ومنهن من يصرخن بهذا الإعجاب، لكن وضعه كمدرس يضعه في حرج بالغ أمام أحاسيسهن، وإحساسه هو شخصيا بواحدة منهن فقط، استقل الحافلة التي توقفت في باب اللوق، فاتجه إلى الإذاعة بشارع الشريفين، وبحث عن كمال الطويل، وحين رآه أمامه، واجهه بمأزقه دون مقدمات: فصلوني من التدريس”.
الحرية عند حليم هي كلمة السر في كل مشوار حياته؛ الحرية هي الحلم، وقد ظل متمسكا بحلمه حتى النهاية، حلمه بحب مستحيل، وتكوين أسرة، وترك بصمة في عالم الغناء، والأهم من كل ذلك حلمه بالشفاء من مرضه حتى عندما علم من الأطباء بأنه يعيش بـ 10 بالمئة من كبده.
عمل حليم عازفا على آلة الأبوا لفترة قضاها في الظل، مكنته من وضع كل من يقف أمامه ويصدح بالغناء تحت المجهر، من دراسته دراسة تحليلية لا تغفل أي عامل من العوامل، وبعدها يستخلص النتائج التي سيستفيد منها لاحقا. ذلك المنهج التحليلي هو ما التزمه في تتبع من يعرفهم وبخاصة عبدالوهاب، وبليغ حمدي.
بدأ يفهم أسباب نجاح أغنية، أو فشلها، لمعان مطرب أو انطفائه؛ بدأ يستوعب أن هناك لحنا يولَد ميتا لأن الملحن لم يبذل فيه من روحه، لم يتوغل في معاني الكلمات، وهناك كلمات رائعة أماتها لحن ليس بمستواها، كما أن هناك مطربا لا يشعر بما يغنيه، فترتسم البهجة على وجهه، بينما يتغنى بالحزن، وفهم أن ما يجمع كل ما سبق يمكن تلخيصه في كلمة واحدة فقط "الإحساس". ذلك الإحساس سيستدعي بالضرورة "الإتقان".. وهو ما ظل حليم حريصا عليه طول حياته.
◙ حليم شخصية روائية بامتياز، شخصية تغري بالكتابة عنها نظرا لحياته الثرية والمؤلمة والتي تحوي بداخلها عوالم كثيرة
ورغم إخفاقه أمام لجان الاستماع بالإذاعة؛ كان حليم لونا مختلفا، ثورة على الأداء القديم، يؤدي أغنيات عبدالوهاب لكن ممهورة بتوقيعه بخاتمه بنكهته وإحساسه وشجنه المميز، وكان هذا يعتبر تمردا وخروجا عن المتعارف عليه والمألوف، خروج على "هذا ما وجدنا عليه آباءنا". كان أداء حليم البسيط والهادئ والحقيقي، هو ما جعلهم يعتبرونه “خواجة”. حتى جاء اليوم الذي قال عنه الناقد كمال النجمي "لقد استخرج من صوته الحساس المرهف دقائق فنية عجيبة غير مسبوقة في الغناء العربي، ولا وجود لها في الغناءالكلاسيكي، الذي أضاف إليه ولم يأخذ منه".
البشر في حياتنا إما فرص أو دروس نتعلمها أو فواتير نظل نسددها حتى رحيلنا، هكذا كان كمال الطويل لحليم، صديق عمر تحمس لموهبة العندليب دونما يأس أو فتور، ثم أضيف إليه حماس الإذاعي حافظ عبدالوهاب، الذي حث حليم على التقدم مرة أخرى إلى لجنة الاستماع التي سيكون هو أحد أعضائها، بجانب قمم الغناء والتلحين: أم كلثوم، عبدالوهاب، رياض السنباطي، ومحمد القصبجي. وقد أجازته تلك اللجنة بالإجماع. ويومها منحه حافظ عبدالوهاب اسمه، ليصبح بعدها عبد الحليم حافظ.
كانت الإجازة بمثابة صافرة البدء بالظهور، الباب الذي يفتح كي يدخل منه المرء إلى عالم الشهرة، كي يلج بؤرة الضوء بعد أن كان متواريا في الظلام، كي يصبح معروفا بعد أن ظل مجهولا. بحساسية شديدة تصف الكاتبة رضوى الأسود في كتابها "حليم بين الماء وبين النار"، الصراع الرهيب جدا بين حليم والوقت، وسيظل حليم يلهث وراء الوقت في صراع متواصل، وكأنه كان يعلم بأن مجموع ما سينفقه ممددا فوق السرير سيعادل تقريبا نصف عمره.
عنونت المؤلفة فصول كتابها بأشهر ما غنى حليم، الذي قيل إنه قدم في حياته أكثر من 250 أغنية، الفرح فيها قليل، وأغلبها حزن ولوعة وألم وفقد وفراق، حتى حين أحب ديدي صاحبة أجمل عيون في الكون والتي رآها في الإسكندرية مرة وفي لندن مرة، كان للقدر رأي آخر، وصفته الكاتبة ببراعة ضمن وصفها لكره حليم للموت.
تكتب “كان لديه شعور عميق يشبه اليقين بأنها لن تعيش طويلا، وبأن القدر سيقطفها كما تقطَف الوردة في عز تفتحها، وكان ينتفض رعبا من كلماتها محذرا إياها من تكرارها. كان يكره سيرة الموت، فالموت كان أكبر عدو له، إذ كان أول ما تفتحت عيناه عليه، فقد قطف أمه وهو ابن سبعة أيام، ثم خطف أباه وهو بعمر العام، وهو الآن يعيش تحت تهديده بأن يخطف منه حب حياته، إنه يهاب موته نفسه؛ لأنه سيحرمه تلك الأحاسيس التي يعيش ويتغنى بها، والتي يبثها لجمهوره الذي يتمدد كل يوم أكثر من سابقه، إنه يفضل حياة معذبة، على موت مبهم وانطفاء أبدي”.
وتضيف “حين سيقترف الموت جريمته بحقها، وحين سيحاول حليم الهرب من صورتها وذكراها التي ستظل تطارده بقية حياته بالاستغراق في العمل، أو بقصص من هنا وهناك، لن يستطع الهروب من تلك الفكرة! إنها لعنة أن تظل بانتظار حتفك! تلك القصة التي بدأت مواكبة لانطلاقته وشهرته، والتي نسجَ من خيوطها فيلم ‘حكاية حب‘، قد فجرَت أعظم أغنياته العاطفية”.
شخصية روائية بامتياز
◙ العندليب كان مرهف الحس
لا شيء مجانيا، هناك مقابل لكل شيء، وأحيانا يكون الثمن باهظا جدا. قبل الشهرة، كان حليم حرا؛ يأكل بحرية، ينام بحرية، يمارس حريته بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وبعد النجاح أصبح أسيرا لكل شيء؛ للمرض، والدواء، والأسرة، ونواهي وتعليمات الأطباء، وأصبحت كمية الحبوب التي يبتلعها طوال اليوم، أكبر من كمية الطعام التي يتناولها.
كان العندليب مرهف الحس، إلى درجة توهم من يتعامل معه أو ينصت لمجرد حديثه العادي، بأنه يتصنع هذه الرهافة ويتاجر بمعاناته، وما كان يؤلم حليم بطول تلك الرحلة الصعبة، ما كان يشاع بين الناس وفي الصحافة من أنه يتاجر بمرضه من أجل الشهرة، كان يصطدم بتلك الأقاويل إما في أسئلة توجه إليه بشكل مباشر من صحفيين يجرون حوارات معه، وإما حين كان يطالع مقالات في الجرائد والمجلات تتناول سيرته باتهامات واضحة وتشكيك في حكاية مرضه بالكامل.
لم يفهم أبدا كيف من الممكن أن يستثمر شخص مرضه كي تسَلط عليه الأضواء، وتتردد أخباره في الصحف والمجلات، لم يفهم كيف يشيطن الناس بعضهم البعض، لم يستوعب سر الأذى المجاني، وكيف يبدأ سوء الظن، كيف يتعاظم وكيف ينتهي، وكيف تبدأ كذبة، وتنتشر، ويصدقها صاحبها والآخرون.
لا ينكر حليم حبه للأضواء وللشهرة، إذ يعتبرهما أكبر تجليات التحقق، وكان يعشق النجاح، كان الهدف الذي يسعى دوما إليه، لقد قدم حياته ثمنا لفنه، ولنشر ذلك الفن كان الغناء بالنسبة إليه حياة كاملة يسكنها الفرح والحزن والألم، والمعاناة، والتفاؤل، واليأس، وحب المرأة وحب الوطن، الذي غنى له في أوج عصر عبد الناصر ومباشرة بعد ملحمة نصر أكتوبر العظيم، فرغم اشتداد المرض عليه في 1973 انطلق إلى الأستديو ليشدو "لفي البلاد يا صبية"، و"صباح الخير يا سينا"، و"المركبة عدت"، وعاش اللي قال الكلمة بحكمة في الوقت المناسب.
في عام 1977 كان حليم قد وصل إلى قمة شعوره بالوحدة وضراوتها، وهو الذي طالما كان يهرب منها ومن حقيقة مرضه بالأصدقاء، بالتواجد وسطهم بالذوبان في وجودهم حين ينفض الناس عنه، وقتها فقط كان يشعر بأنه مريض، بأنه متهم، وجريرته تكمن في مرضه. وهكذا وجد حليم فرصة لمراجعة النفس والانتهاء من كتابة الجزء الثاني من مذكراته التي بدأها ونشر الجزء الأول منها عام 1973.
وبحسب الكاتبة رضوى الأسود فإن حليم شخصية روائية بامتياز، شخصية تغري بالكتابة عنها، فبالإضافة لحياته الثرية والمؤلمة والتي تحوي بداخلها عوالم كثيرة وجوانب عدة، كان هناك ذلك الغموض الذي أحاط بتفصيلات حياته الشخصية، نتيجة أنه في قرارة نفسه كان رجلا شرقيا لا يحب أن تعرض دقائقها على الملأ، وبخاصة فيما يتعلق بقصص حبه، وبالنساء اللاتي ارتبط بهن، وهكذا عاش حزينا يتألم في صمت حتى جاء الوداع الأخير، لتبكيه مصر وسائر البلدان العربية، أسطورة غنائية أطول عمرا من صاحبها الموعود بالعذاب، الذي فارق الحياة عن عمر 48 سنة من المعاناة والشهرة والنجاح.
صدر للكاتبة رضوى الأسود، حفل المئوية، دار الياسمين للطبع والنشر والتوزيع، 2010. تشابك، دار الكتاب العربي، 2013. كل هذا الصخب، دار مقام للنشر والتوزيع، 2015. زجزاج، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2018. أديان وطوائف مجهولة – جوهر غائب ومفاهيم مغلوطة، مؤسسة بتانة الثقافية، 2018. بالأمس كنت ميتا: حكاية عن الأرمن والكرد، الدار المصرية اللبنانية، 2020. سيد قطب: رحلة بين ضفاف أسطورة التناقضات، دار سما، 2022. خداع واحد ممكن، دار الشروق، 2022. يونيفرس، دار العين، 2023.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
سمير محمود
كاتب صحفي مصري