سينما دالي
جنون العظمة
صلاح سرميني/باريس
جريدة القاهرة، العدد 1254، 30 يوليو 2024
******
"عندما كنتُ صغيراً، أردتُ أن أكون طباخاً، وفي سنّ السادسة من عمريّ، أردتُ أن أكون نابليون، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف طموحي عن التضخم، اليوم، ما يهمّني أكثر، أن لا أكون أيّ شيء آخر غير سلفادور دالي".
هكذا يبدأ الفيلم التسجيلي الفرنسي "سينما، دالي" إخراج تشافي فيجويراس بصوت سلفادور دالي نفسه إمبراطور السوريالية الأكثر تعجرفاً، والأكثر استفزازاً، ولا يشفع له غير أنه الأكثر خيالاً، والأكثر تأثيراً على كلّ أشكال الفنون.
تكشف المشاهد الوثائقية التي يُظهرها الفيلم عن شخصيةٍ فنيةٍ، واجتماعيةٍ خلقت لنفسها صورةً خارقة تقبّلها الجميع بفضولٍ، ومرح.
في العروض/الأدءات الفنية المباشرة التي كان ينظمّها، أو يشارك فيها، أو يُدعى إليها، كان سلفادور دالي يفعل أيّ شيءٍ، ويقول أيّ شيءٍ، ومع ذلك، يحصد الإعجاب، والتصفيق، في الحقيقة، يمتلك جاذبيةً من الصعب الصمود أمامها، تصدّيها، أو مقاومتها.
في الفيلم، يقول:
"السينما السوريالية تسمح بأن نشاهد في داخلنا عرضاً لا يخلو من الخطورة"، ولعله يقصد خطورة أن تتجسّد أحلامنا، وهواجسنا، ورغباتنا.
وعندما يتحدث عن "كلب أندلسي"، الفيلم الأسطورة الذي يُؤرخ رسمياً لأول فيلم سورياليّ في تاريخ السينما (هناك أفلامٌ سوريالية أخرى تسبقه، ولكنها أقلّ شهرةً)، يقول:
"كلبٌ أندلسيّ هو العمل الأخويّ الأول الذي أنجزته مع لويس بونويل، صورناه في ستة أيام بدءاً من سيناريو كتبتُ له الخطوط العريضة، قرأه بونويل، وقال لي "رائع"، وفيما بعد اضفنا له تفاصيل كثيرة.... كانت رغبتنا الأساسية، أنه كلما كان الفيلم معقداً، كلما كان ذلك أفضل، مع مبدأ أنه في كلب أندلسي، لا يوجد كلب، ولا أندلسي ..".
تتخلل الصياغة السينمائية لفيلم "سينما، دالي" مقادير متوازنة من مشاهد تسجيلية/توثيقية، ومقتطفاتٍ من أفلامٍ، وأحداثٍ مصوّرة، تتضافر مع أخرى أنجزها المخرج بنفسه مستلهماً من روح السينما التجريبية، وتصل أحياناً إلى مستوى لقطاتٍ تجريدية، أو بالأحرى حُلمية، وفي نفس الوقت، يحافظ على ترتيبٍ زمنيٍّ، ينتقل من مرحلةٍ إلى أخرى من المسيرة الفنية لـ سلفادور دالي، حيث ينطلق من قريته "كاداكيس" في كاتالانيا/إسبانيا، ويتتبع "فتوحاته" في الولايات المتحدة، ومن ثمّ في فرنسا، ويعود مرةً أخرى إلى قريته، وخلال تلك "الغزوات" نتعرّف على منحنيات حياته الشخصية، والفنية، وإن كان الفيلم لا يُعير اهتماماً كبيراً لأعماله، ورصدها، وتحليلها بقدر اهتمامه بالمقام الأول التعرّف على هذه الشخصية الجدلية، والاقتراب منها إلى أبعد حدٍّ، أو بمعنى أدقّ، اقتراب سلفادور دالي من عدسة الكاميرا التي يعشقها، ويعرف كيف يجذبها نحوه، ويتلاعب بصورته من خلالها، وعن طريقها.
عندما وصل سلفادور دالي إلى الولايات المتحدة، واستقر به الحال في نيويورك، كانت عملته الأكثر قيمةً، ورواجاً هي زيادة جرعة الاستعراض، والاستفزاز، هناك وضع على رأسه القبعة الكاتالانية الحمراء، وفسّر ذلك بقوله:
"أول مرة وضعت القبعة عندما وصلت إلى نيويورك، تلك المبادرة جلبت لي الكثير من الانتباه، كان هدفي إيصال فكرة مفادها أن الجانب الأكثر محلية، يمكن أن يصبح عالمياً، إذاً، كي أفتح أمريكا، وضعت على رأسي القبعة الكاتالانية".
وعلى الرغم من الاهتمام المُتبادل بين سلفادور دالي، وشركات الانتاج في هوليوود، إلاّ أنه لم يتمكن من إقناع أحدها بإنجاز سيناريوهاته، ورسوماته الفائقة الخيال، حيث كانت تكاليفها المُحتملة تمثل عقبة في استثمار الفيلم تجارياً، وهي النتيجة التي حصل عليها من علاقته القريبة جداً مع المخرج ألفريد هيتشكوك عندما طلب منه بأن يصمّم مشهد الحلم/الهلوسة لفيلمه "منزل الدكتور إدواردز" إنتاج عام 1945، ولكن المنتج دافيد سالزنيغ لم يوافق إلاّ على ثلاثة دقائق فقط من أصل عشرين دقيقة كانت مخصصة لهذا الحلم.
بدوره، اهتمّ والت ديزني بأعمال سلفادور دالي، حيث وجدها مناسبةً لأفلام التحريك التي تنتجها شركته، ودعاه للمُساهمة برسوماته، لكن، وللمرة الثالثة، لم يتمكن دالي من التغلب على المنطق التجاري الذي يحكم انتاجات الشركات الكبرى، وكان الردّ اللطيف:
"سيناريو غير تجاريّ، ورسوماتٍ متقنة جداً".
من الواضح بأن جنوح خيالات دالي أرعبت الصناعة السينمائية في هوليوود، وهكذا بعد الفشل المُتلاحق في السينما، توجه سلفادور دالي إلى أفكارٍ تجلب له الشهرة، والمال، حيث بادر إلى تنظيم حفلاتٍ غريبة جذبت الهوس الجماعي النيويوركي، وسلطت عليه كلّ الأضواء.
"أنا مجنون،...مجنون بالمال"، وبدأ بتصميم ملابس بحر نسائية غريبة، والتمثيل في أشرطة إعلانية.
ومن أجل تلخيص شخصية دالي، من المفيد التوقف عند حواراتٍ متبادلة مع إحدى الممثلات التي كان من المفترض أن تشارك في أحد أفلامه/أداءاته الفنية المباشرة أمام الكاميرا:
الممثلة: إذاً سوف أمثل دور المُساعدة؟
دالي: الناس عبيد لي.
الممثلة: لا، الناس ليسوا عبيداً لكَ.
دالي: ابتعدي، لا أريدك إلاّ عبداً لي.
الممثلة: هل يمكن أن أحصل على دورٍ آخر؟
دالي: حسناً انتهى النقاش،.. الناس عبيد لي، هذا السيد هنا جيد جداً، انتهى النقاش، الناس عبيد لي.
الممثلة: يريدني أن أمثل دور العبد، كيف يقول هذا، ونحن في عام 1965؟
يبتعد دالي عن مكان التصوير غاضباً، وهو يردد: الناس عبيد لي.
ومنذ تلك الفترة، بدأُ دالي يعيد التفكير بعلاقته مع السينما، وقرر أن يكون شخصيةً مركزيةً أمام الكاميرا، وخلفها، ويسيطر على تفاصيل إنجاز أعماله، وأفلامه، وبعد أن عاد إلى قريته كاداكيس في كاتالانيا/إسبانيا، صوّر أفلاماً تجريبية تُحيلنا إلى بدايات السينما، وبالأخصّ أفلام الفرنسي جورج ميلييس.
يختتم المخرج تشافي فيجويراس فيلمه بجملةٍ دالة يقولها دالي معززاً نرجسيته المُتعاظمة:
"يهمني أن يتحدث الناس عن دالي حتى وإن قالوا عنه أشياء إيجابية".
في الحقيقة، ومهما كانت شخصية سلفادور دالي منفرة، إلاّ أنه فنانٌ أحدث ثورةً في عالم الفنون.
Cinéma Dali
إخراج تشافي فيجويراس، 52 دقيقة، إنتاج فرنسا 2023
جنون العظمة
صلاح سرميني/باريس
جريدة القاهرة، العدد 1254، 30 يوليو 2024
******
"عندما كنتُ صغيراً، أردتُ أن أكون طباخاً، وفي سنّ السادسة من عمريّ، أردتُ أن أكون نابليون، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف طموحي عن التضخم، اليوم، ما يهمّني أكثر، أن لا أكون أيّ شيء آخر غير سلفادور دالي".
هكذا يبدأ الفيلم التسجيلي الفرنسي "سينما، دالي" إخراج تشافي فيجويراس بصوت سلفادور دالي نفسه إمبراطور السوريالية الأكثر تعجرفاً، والأكثر استفزازاً، ولا يشفع له غير أنه الأكثر خيالاً، والأكثر تأثيراً على كلّ أشكال الفنون.
تكشف المشاهد الوثائقية التي يُظهرها الفيلم عن شخصيةٍ فنيةٍ، واجتماعيةٍ خلقت لنفسها صورةً خارقة تقبّلها الجميع بفضولٍ، ومرح.
في العروض/الأدءات الفنية المباشرة التي كان ينظمّها، أو يشارك فيها، أو يُدعى إليها، كان سلفادور دالي يفعل أيّ شيءٍ، ويقول أيّ شيءٍ، ومع ذلك، يحصد الإعجاب، والتصفيق، في الحقيقة، يمتلك جاذبيةً من الصعب الصمود أمامها، تصدّيها، أو مقاومتها.
في الفيلم، يقول:
"السينما السوريالية تسمح بأن نشاهد في داخلنا عرضاً لا يخلو من الخطورة"، ولعله يقصد خطورة أن تتجسّد أحلامنا، وهواجسنا، ورغباتنا.
وعندما يتحدث عن "كلب أندلسي"، الفيلم الأسطورة الذي يُؤرخ رسمياً لأول فيلم سورياليّ في تاريخ السينما (هناك أفلامٌ سوريالية أخرى تسبقه، ولكنها أقلّ شهرةً)، يقول:
"كلبٌ أندلسيّ هو العمل الأخويّ الأول الذي أنجزته مع لويس بونويل، صورناه في ستة أيام بدءاً من سيناريو كتبتُ له الخطوط العريضة، قرأه بونويل، وقال لي "رائع"، وفيما بعد اضفنا له تفاصيل كثيرة.... كانت رغبتنا الأساسية، أنه كلما كان الفيلم معقداً، كلما كان ذلك أفضل، مع مبدأ أنه في كلب أندلسي، لا يوجد كلب، ولا أندلسي ..".
تتخلل الصياغة السينمائية لفيلم "سينما، دالي" مقادير متوازنة من مشاهد تسجيلية/توثيقية، ومقتطفاتٍ من أفلامٍ، وأحداثٍ مصوّرة، تتضافر مع أخرى أنجزها المخرج بنفسه مستلهماً من روح السينما التجريبية، وتصل أحياناً إلى مستوى لقطاتٍ تجريدية، أو بالأحرى حُلمية، وفي نفس الوقت، يحافظ على ترتيبٍ زمنيٍّ، ينتقل من مرحلةٍ إلى أخرى من المسيرة الفنية لـ سلفادور دالي، حيث ينطلق من قريته "كاداكيس" في كاتالانيا/إسبانيا، ويتتبع "فتوحاته" في الولايات المتحدة، ومن ثمّ في فرنسا، ويعود مرةً أخرى إلى قريته، وخلال تلك "الغزوات" نتعرّف على منحنيات حياته الشخصية، والفنية، وإن كان الفيلم لا يُعير اهتماماً كبيراً لأعماله، ورصدها، وتحليلها بقدر اهتمامه بالمقام الأول التعرّف على هذه الشخصية الجدلية، والاقتراب منها إلى أبعد حدٍّ، أو بمعنى أدقّ، اقتراب سلفادور دالي من عدسة الكاميرا التي يعشقها، ويعرف كيف يجذبها نحوه، ويتلاعب بصورته من خلالها، وعن طريقها.
عندما وصل سلفادور دالي إلى الولايات المتحدة، واستقر به الحال في نيويورك، كانت عملته الأكثر قيمةً، ورواجاً هي زيادة جرعة الاستعراض، والاستفزاز، هناك وضع على رأسه القبعة الكاتالانية الحمراء، وفسّر ذلك بقوله:
"أول مرة وضعت القبعة عندما وصلت إلى نيويورك، تلك المبادرة جلبت لي الكثير من الانتباه، كان هدفي إيصال فكرة مفادها أن الجانب الأكثر محلية، يمكن أن يصبح عالمياً، إذاً، كي أفتح أمريكا، وضعت على رأسي القبعة الكاتالانية".
وعلى الرغم من الاهتمام المُتبادل بين سلفادور دالي، وشركات الانتاج في هوليوود، إلاّ أنه لم يتمكن من إقناع أحدها بإنجاز سيناريوهاته، ورسوماته الفائقة الخيال، حيث كانت تكاليفها المُحتملة تمثل عقبة في استثمار الفيلم تجارياً، وهي النتيجة التي حصل عليها من علاقته القريبة جداً مع المخرج ألفريد هيتشكوك عندما طلب منه بأن يصمّم مشهد الحلم/الهلوسة لفيلمه "منزل الدكتور إدواردز" إنتاج عام 1945، ولكن المنتج دافيد سالزنيغ لم يوافق إلاّ على ثلاثة دقائق فقط من أصل عشرين دقيقة كانت مخصصة لهذا الحلم.
بدوره، اهتمّ والت ديزني بأعمال سلفادور دالي، حيث وجدها مناسبةً لأفلام التحريك التي تنتجها شركته، ودعاه للمُساهمة برسوماته، لكن، وللمرة الثالثة، لم يتمكن دالي من التغلب على المنطق التجاري الذي يحكم انتاجات الشركات الكبرى، وكان الردّ اللطيف:
"سيناريو غير تجاريّ، ورسوماتٍ متقنة جداً".
من الواضح بأن جنوح خيالات دالي أرعبت الصناعة السينمائية في هوليوود، وهكذا بعد الفشل المُتلاحق في السينما، توجه سلفادور دالي إلى أفكارٍ تجلب له الشهرة، والمال، حيث بادر إلى تنظيم حفلاتٍ غريبة جذبت الهوس الجماعي النيويوركي، وسلطت عليه كلّ الأضواء.
"أنا مجنون،...مجنون بالمال"، وبدأ بتصميم ملابس بحر نسائية غريبة، والتمثيل في أشرطة إعلانية.
ومن أجل تلخيص شخصية دالي، من المفيد التوقف عند حواراتٍ متبادلة مع إحدى الممثلات التي كان من المفترض أن تشارك في أحد أفلامه/أداءاته الفنية المباشرة أمام الكاميرا:
الممثلة: إذاً سوف أمثل دور المُساعدة؟
دالي: الناس عبيد لي.
الممثلة: لا، الناس ليسوا عبيداً لكَ.
دالي: ابتعدي، لا أريدك إلاّ عبداً لي.
الممثلة: هل يمكن أن أحصل على دورٍ آخر؟
دالي: حسناً انتهى النقاش،.. الناس عبيد لي، هذا السيد هنا جيد جداً، انتهى النقاش، الناس عبيد لي.
الممثلة: يريدني أن أمثل دور العبد، كيف يقول هذا، ونحن في عام 1965؟
يبتعد دالي عن مكان التصوير غاضباً، وهو يردد: الناس عبيد لي.
ومنذ تلك الفترة، بدأُ دالي يعيد التفكير بعلاقته مع السينما، وقرر أن يكون شخصيةً مركزيةً أمام الكاميرا، وخلفها، ويسيطر على تفاصيل إنجاز أعماله، وأفلامه، وبعد أن عاد إلى قريته كاداكيس في كاتالانيا/إسبانيا، صوّر أفلاماً تجريبية تُحيلنا إلى بدايات السينما، وبالأخصّ أفلام الفرنسي جورج ميلييس.
يختتم المخرج تشافي فيجويراس فيلمه بجملةٍ دالة يقولها دالي معززاً نرجسيته المُتعاظمة:
"يهمني أن يتحدث الناس عن دالي حتى وإن قالوا عنه أشياء إيجابية".
في الحقيقة، ومهما كانت شخصية سلفادور دالي منفرة، إلاّ أنه فنانٌ أحدث ثورةً في عالم الفنون.
Cinéma Dali
إخراج تشافي فيجويراس، 52 دقيقة، إنتاج فرنسا 2023