المثقفون العرب أكثر المتحدثين عن الديمقراطية.. فهل هم ديمقراطيون؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المثقفون العرب أكثر المتحدثين عن الديمقراطية.. فهل هم ديمقراطيون؟

    المثقفون العرب أكثر المتحدثين عن الديمقراطية.. فهل هم ديمقراطيون؟


    التنافس والازدواجية والمصالح الضيقة أبرز أمراض الثقافة العربية.
    الأحد 2024/08/04
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    المثقف في صراعات ذاتية لا تنتهي (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

    المثقفون العرب أكثر من يستعمل مصطلحات الديمقراطية والحرية والحوار وغيرها من معان تمثل روح الحداثة والتنوير، لكنّ أغلبهم لا يتجاوزون حدود الاستعمال اللفظي لهذه الكلمات، بينما الحقيقة والواقع مختلفان كليا. "العرب" استطلعت آراء عدد من الكتاب والمثقفين حول مدى حضور الديمقراطية في الساحة الثقافية العربية.

    المثقف مصطلح حديث يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، وتزامن ظهوره مع قضية دريفوس التي أثارت الرأي العام الفرنسي، حيث قدم أميل زولا مرافعته في مقال منشور بجريدة كليمونصو محتجا على المكيدة التي تعرض لها الضابط دريفوس. ومنذ ذاك الوقت إلى الآن يتجدد الجدل بشأن موقع المثقف ودوره في المجتمع.

    ومن المعلوم أن حضور المثقف يكتسب مساحة أوسع في العالم المعاصر مع انحسار الأضواء عن الفئات التي كانت تمثل السلطة الروحية. لكن هل تمكن المثقف من التعبير عن رسالة فكرية تخدم العقل الحيوي وتجسد الانفتاح على الآراء المتعددة وفتح أفق للإمكان ومجال لإدارة الاختلافات؟

    ما يشترك فيه المثقفون بغض النظر عن خلفياتهم الأيدولوجية ومثاباتهم الفكرية هو التغزل بالديمقراطية وفضائلها. ولا ينفك لفظ الديمقراطية يتوارد في الخطابات الموقعة باسم الطليعة المثقفة. وهذا ما يحدو بالمتابع أن يرتد بالسؤال على شريحة الانتلجنسيا محاولا اكتشاف طبيعة الوسط الثقافي ومعرفة السجالات التي تدور بين العاملين في تلك البيئات التي تسمى بالنخبوية مع البحث عن إمكانيات التدبير الديمقراطي في فهم التباين بالآراء والمواقف.

    حول هذا الموضوع سألت “العرب” عددا من المثقفين هل العلاقات السائدة في المشهد الثقافي هي علاقات ديمقراطية؟
    صندوق الرأس




    في البداية يؤكد المفكر السوري هاشم صالح أن الديمقراطية سابقة لأوانها بالنسبة إلى العالم العربي، متوقعا الوصول إليها لكن ليس في القريب العاجل على حد قوله. والمشكلة تكمن في عدم تحمل الاختلاف في الآراء السياسية والدينية، يذكر صاحب “لماذا يشتعل العالم العربي؟” بمقولة فولتير “قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد لأن أدفع حياتي ثمنا لكي تقول رأيك”. غير أن المعادلة المقلوبة في ذهنية المثقف العربي فالأخير يقول حسب قراءة صالح “سوف أدمرك إذا ما اختلفت معي في الرأي. ينبغي أن توافقني على كل شيء لكي أقبل بوجودك. ينبغي أن تكون تابعا لي”. لذلك ينبه مؤلف “مدخل إلى التنوير الأوروبي” إلى ما يضمره الإسراف في استخدام كلمة الديمقراطية من المكر لاسيما على لسان الأحزاب الدينية ومن يتبعهم من المثقفين.

    يلفت صالح النظر إلى اللغط الذي يسود في الواقع جراء اختزال مفهوم الديمقراطية في صناديق الاقتراع. ويرى أن البيئة الثقافية امتداد للعقلية المهيمنة على التيارات الدينية، يكفي أن تتناقش مع أحدهم خمس دقائق وتختلف معه في الشؤون الدينية أو السياسية لكي يستشيط غضبا ويكرهك فورا. يضاف إلى ذلك أن الاختلاف حول القومية مثلا أو حول العقائد الدينية يعتبر بمثابة الكفر أو الخيانة العظيمة وبالتالي فإن الديمقراطية بعيدة المنال ومن السذاجة أن تحمل ما يلوح به المثقف التعبوي من الشعارات وما يردده من المقولات على محمل الجد.

    ويشدد على أن القيم التي تحدد شكل التفكير والرؤية لا تزال ترفل في أجواء القرون الوسطى، ويختم هاشم صالح مداخلته بالإشارة إلى أن الديمقراطية ثقافة كاملة متكاملة. إنها ثقافة حداثية، ثقافة حقوق الإنسان والمواطن، لا الثقافة الطائفية والمذهبية والعنصرية. قد يتحلى العقل الثقافي بالديمقراطية ولكن ليس الآن قبل تفكيك العقائد التكفيرية والتخوينية القديمة المهيمنة على مناخنا الفكري والسياسي منذ ألف سنة. وبالتالي فالمسألة عويصة وصعبة جدا. باختصار كما قال جورج طرابيشي: الديمقراطية ليست فقط صناديق الاقتراع وإنما هي أيضا صناديق الرؤوس. ماذا يوجد في رأسك أيها الإنسان أو أيها المثقف العربي أو الكردي؟ هل توجد ثقافة حداثية تنويرية تؤمن بالتعددية العرقية واللغوية والدينية وحق الاختلاف في الرأي أم توجد ثقافة سلفية تكفرك إذا لم تكن تنتمي إلى ذات المذهب أو ذات الدين أو ذات القومية.

    شغلت السجالات المجانية بين المثقفين تفكير الروائية السورية مها حسن، فالثقافة برأيها هي فعل تغيير الثوابت، وتحريض على التفكير، وخلق وعي جديد، فكيف يقوم بهذه المهام، أشخاص يحاربون التغيير والرؤى المختلفة ويتمسكون بثوابتهم المعرفية، وبأخلاق وسلوكيات لا تنسجم مع أدائهم الفكري.

    تعبّر صاحبة “مترو حلب” بكلمات واضحة بعيدة عن الزخرف اللفظي قائلة “ككاتبة أعيش داخل الوسط الثقافي العربي، محاطة بمشاكله الغريبة، أستطيع أن أقول دون تردد إن هذا الوسط يفتقد في مساحة كبيرة منه للديمقراطية والحوار والتسامح”. وتفسر حسن سبب ما تسميه بالنقص بالقطيعة بين المثقف وتاريخه الجمعي. فأغلب المثقفين يكررون في حياتهم اليومية سلوكيات ومواقف آبائهم الرجعيين الذين كانوا ينتقدونهم، أو يتماهون مع شخصيات سياسية دكتاتورية، ادعوا أنهم انقلبوا عليها. لهذا فإن المثقف العربي، مع وجود استثناءات دائما، يخرج من السلطة، لا لينقذ الآخر منها، بل ليتملكها هو بطريقة جديدة، أكثر حداثة وذكاء ومهارة.

    تتابع مها حسن مقدمة منظورها حول تبعات تقيد المثقف العربي بالتاريخ الجمعي إذ يجعله ذلك كائنا غير حر ويصبح نسخة أمينة للعشيرة والطائفة والجهوية الأمر الذي يودي به نحو الانفصام ويتصرف بخلاف ما ينادي به. لهذا من الصعب أن نعثر على كتاب أحرار، لأن الإبداع يحتاج إلى الحرية، والحرية ليست فقط مفهوما يعرف وفق الآخر، أي الحرية ليست حريتي من الآخر، بل حريتي من نفسي ومن تاريخ القمع الذي لا أستطيع الخروج منه. وهذه حالة أغلب مثقفينا، الذين لم يتحرروا من أنفسهم بعد، ومقابل هذا، يعيشون نرجسية مرضية تجعلهم يحاربون ويخونون ويتشاجرون مع كل مبدع مختلف، خوفا من بروزه على حسابهم، مع أن المشهد يتسع للجميع، لكن المثقف الموتور يعتقد أن نجاح أي أحد آخر، هو إلغاء له.
    ازدواجية المثقفين


    ◄ العلاقات في الوسط الثقافي تشكلها المصالح التي تتحكم في الأمزجة وشكل التواصل، ومثل هذه الروابط لا تدوم

    لا يستغرب الكاتب العراقي فلاح حكمت وجود المشادات والتشنج بين المثقفين لأن التاريخ يخبرنا حسب ما يفيد كلامه بأن العلاقة بين المثقفين (الأدبيين والمشتغلين بالإنسانيات) غالبا ما تكون مغلفة بقناع من المجاملات البروتوكولية، وبعيدة عن العقلنة الهادئة. الأمر مع المثقفين العرب ربما يكون أكثر حدة مع شواهد شاخصة تقرب من حدود الميلودراما الساخرة أحيانا. وهو يشير في سياق حديثه إلى كتاب “لماذا يكره المثقفون بعضهم؟” للدكتور جمال حسين علي وما يضمه من تفاصيل مثيرة عن العلاقة المأزومة بين المثقفين والتي تتجاوز حد التفنن اللعوب بأحابيل المنافسة الساخنة على الحظوة والمناصب والجوائز الدسمة.

    ما يرد ضمن فصول المؤَلف يختصر الأسباب وراء هذه السياسة الصراعية البالغة حد التكاره بين المثقفين (العراقيين والعرب عموما). يحدد حكمت العوامل التي ساهمت في تركيبة المثقف على المستوى النفسي والاجتماعي والوظيفي. غالبا ما يتظاهر المثقف بأنه متمسك باستقلاليته وعدم تبعيته لأي جهة. لكن في الحقيقة هو يطمح إلى مناصب حتى يستفيد من عطايا السلطة المعنوية والمادية. لذلك تراه واقعا باستمرار في مطب ازدواجيته. أكثر من ذلك لم يعد للمثقف دور على المستوى الرمزي ولا يضيف شيئا من خلال مهنته على الصعيد المادي لذلك يعتقد حكمت بأن التسابق والتصارع على المال والمواقع هما مكمن الأمراض الثقافية وما يعمق الأزمة هو الاقتصاد الريعي.

    لطالما أثار هذا الموضوع الإشكالي والشائك دهشة الأديبة السورية شادية الأتاسي وهي تقول “وأنا أتابع وسائل الاتصال الاجتماعي، وأرى وأقرأ هذه النغمة العجيبة التي ربما هي ليست بالجديدة، لكنها ازدادت بوتيرة عالية في السنوات الأخيرة، بدا فيه المشهد الثقافي العربي، على درجة من القتامة، وبدا فيه صوت المثقف خافتا ومراوغا ومتناقضا، يتلعثم بالشعارات الرنانة ويدعو إلى الديمقراطية وحرية التعبير، ويطلق الأحكام ويسبغ على نفسه صفات المثقف الحداثي في حين تتسم ممارساته بالازدواجية، وتبدو لغته متوترة قلقة تفتقر إلى المرونة الفكرية، ويشتم منها رائحة التخوين والاستخفاف بالآخر، اتهامات تطلق بسهولة دون مستند حقيقي، فهذا خائن، وذاك يقبض أموالا، وهذا طائفي وعنصري ورجعي”.

    تلاحظ الأتاسي سقوط وتعرية أسماء وشخصيات وازنة في حلبة المهاترات والتنابذ، مستغربة من حدة التنافس الشديد على الشهرة والنفوذ والإقصاء، وانتفاء لغة الحوار المرن، والأصعب من كل هذا هو الجهل والتعصب لفكر أو أيديولوجية محددة، وعدم تقبل الفكر الآخر. تتساءل الأتاسي عن موقع المثقف، هل يملك رفاهية التفكير في منطقة موبوءة بالصراع والأزمات؟ فالوعي كما يقول سيوران “لعنة مزمنة، كارثة مَهولة، إنه منفانا الحقيقي، فالجهل وطن، والوعي منفى”. وهذا الكلام بما يحمله من القساوة ينطبق على واقع الإنسان الشرقي.



    ترفض الأتاسي أن يكون المثقف بوقا أو طبلا أجوف يروج للشعارات لكن يجب مغادرة برجه العاجي وينحاز بوضوح وبالصوت العالي إلى كل القضايا التي تتعلق بقيم الحرية والعدالة. على الرغم من سوء الأحوال وسطوة المظهر المزيف لكن هذا كله لا يعني أنه ليس هناك من أصوات حرة وصلبة اتخذت خيارها الشجاع وجعلت من القلم سلاحا ناعما، آمنت بأن الجهد الدؤوب لا بد أن يفتح الأبواب المغلقة، إذ يتوجب على هذا المثقف الجريء أن يواجه عبئا جديدا، إضافة إلى همومه، وهو الحملات العنصرية وموجة الكراهية الشرسة”.
    المجتمع المتهالك


    من الصعب بمكان فهم شخصية المثقف برأي الروائي العراقي سعد سعيد بعيدا عن المشهد العام، لذلك قبل الحديث عن البيئة الثقافية يتطرق إلى ما يمر به المجتمع الذي ينعته بالضائع. في مثل هذا الواقع الممزق ما بين الماضي والحاضر، لا يمكن للديمقراطية أن تلقي بظلالها الوارفة على الأفراد الموجودين في واقع متهالك، سواء أكانوا يدعون الثقافة أم مجرد جهلة تعودوا على سلوكيات القطعان لأنها، أي الديمقراطية، ليست دواء يحقن به الرأس فيرفع لواءها فورا، فهي صيرورة طويلة يجب أن تبدأ من بداياتها الطبيعية وصولا إلى نتائجها المرغوبة، يعترف سعد قائلا “نحن لم نكن مؤهلين يوما لفهمها أو ممارستها، ولذلك كانت كارثة علينا يوم فرضها علينا من كان على يقين من أثرها المفجع علينا”.

    يتابع مؤكدا أن المرء لا يمكن أن يكون إلا ديمقراطيا ليبراليا إن كان مثقفا حقيقيا، ولكن هل نحن مثقفين؟ هذا هو السؤال الذي يحتاج إلى الإجابة قبل مناقشة شجون العلاقات بين المنتمين إلى ما يسمى بالوسط الثقافي، في الحقيقة لا ديمقراطية في العلاقات في هذا الوسط لأن المصالح تتحكم بالأمزجة وشكل التواصل ومثل هذه الروابط لا تدوم بل هي مؤقتة، فما إن تنتفي المصلحة وتبدأ الخصومات حتى يسقط القناع عن الوجوه وتبدأ الأخلاق المتدنية بالأصل، تفعل فعلها، والكارثة أن الأخلاق في المجتمعات المحرومة من الحس الإنساني القويم تكون متوترة وعنيفة، ولكنها تبدو أسوأ حين يمارسها مدعو الثقافة بدلا من أن تبدو أحسن كما هو مفروض.

    وأخيرا، يعتبر مؤلف “يا حادي العيس” بأن الاختلافات من الطبيعي جدا أن تتحول في هذا الوسط إلى مشاحنات ومعارك شخصية لأن طبيعتها مصلحية، وتزيدها سوءا مسألة الحسد والغيرة التي تكاد تكون سمة رئيسية في هذا الوسط.

    تركز الباحثة العراقية لاهاي حسين على المشهد العراقي، تقول “ما يحدث اليوم على مستوى الجدالات الحامية بين المثقفين في العراق إنما هو عَرَض يشير إلى ما هو أعمق من أسباب. هناك حالة من عدم الانسجام والتطير والتنمر نتيجة عدم تبلور مفهوم الثقافة والمثقف مما يؤدي إلى استبداله بهذه الأساليب العدوانية. لا تزال السياسة والموقف من هذا النظام أو ذاك هي الحاكمة. في الوقت الذي يتوقع أن يتقدم المثقف بأسلوبه ومنطقه على أسلوب العوام، نجد العكس. تتداخل مع هذه الحالة الانتماءات الدينية والطائفية والعرقية المحكومة بالعزلة والانعزال لأن المثقف لم يتسام عليها باستثناء حالات فردية”.

    وعن دور وسائل التواصل الاجتماعي في كشف النقاب عن الترسبات تؤكد صاحبة “مقدمة في علم الاجتماع” أن المنصات الرقمية قد طفت بالظواهر المرضية إلى السطح. وبالتالي لا تحسن الإفادة من الحرية النسبية التي توفرها أجهزة التواصل حيث ينفرد الناشر أو المعلق خلفها غير مبال في الغالب بما يترتب عليها من ردود ونقاشات. لا يزال الكثيرون يدورون حول مفهوم الثقافة والمثقف رغم اطلاعهم عليه. الجروح لم تشف بعد للوقوف بشجاعة والإعلان بأن المثقف “موقف”.

    وتتابع “يتضامن نفر من المثقفين ضد الحرب في مكان ما من العالم، ولكنهم يؤججون نيرانها في بلدهم وبين ظهراني بني جدلتهم. وتأتيك هذه النزعة التكتلية والنقابية فيقف الشعراء مع الشعراء والفنانون مع الفنانين، إلخ. الكل يبحث عن ملاذ يلوذ به أو قوقعة يتخندق بها. يحدث هذا على مستوى قضايا تهم الرأي العام مثل قضايا المرأة أو العيد الوطني أو المناسبات الدينية. ستتوقف هذه الحالة عندما يتوافق الجميع على مصلحة وطنية عليا”.

    ◄ الديمقراطية ثقافة كاملة متكاملة. إنها ثقافة حداثية، ثقافة حقوق الإنسان والمواطن، لا الثقافة الطائفية والمذهبية والعنصرية

    ما يحتاج إليه الوسط الثقافي برأي لاهاي حسين هو الصدمة لإدراك مخاطر التقاطع والتهجم وكيل الاتهامات. وتجاوز الرثاثة التعبيرية.

    يبدو أن المثقف يرتبط مسماه بالوظيفة التي يقوم بها بالنسبة إلى الأكاديمي اللبناني علي نسر الذي يقول “يشكل المثقفون الطبقة النخبوية في المجتمعات عادة، لما يرسمونه من طرق خلاص أو وعي ممكن برؤاهم مترامية المسافات، متجاوزين حدود الوعي الفعلي القائم الواقع تحت مرأى العامة ومسامعهم لكنهم (أي العامة) عاجزون عن إيجاد تلك الحلول التي يحملها المثقف الحقيقي. يعني المثقف الحقيقي هو الذي لا يقف حضوره عند حدود دفتي كتاب يتفاخر بقراءته، بل عبر ما يسهم من خلال قراءاته في تطوير المجتمع المحلي والكوني”.

    ويصف نسر هذا الطرز من المثقف بالحصاة التي ينبغي أن ترمى في صفحة الماء الراكد كل يوم لتسبب دوائر لا تخمد أو تهدأ… والدور الذي يسند إلى المثقف هو ريادة التغيير بالدرجة الأولى، يمكن أن تنقلب المعادلة رأسا على عقب حين يوظف المثقف فكره والأيديولوجيا وقراءاته في غير مكانها فيصبح حمده ذما عليه ويندم كل من كان يضع على عاتقه الأمل في ذاك التغيير فيتشوش أفق الانتظار ويخيب ذاك الرجاء. وأبرز مظاهر انحراف مهمة المثقف عن سكتها الأساسية، الدخول في تفاصيل الاصطفافات الضيقة التي ينبغي أن يحذر الآخرون منها، فتصبح العلة عصية على الشفاء حين يتلوث من يحمل راية التغيير في أوحال الآخرين.

    ويشدد على أن المثقف ينبغي أن يعرف كيف يحسن إدارة مفهوم الديمقراطية ويبعدها من مفهومها الشعبوي العشوائي الذي لا يتجاوز حدود التشهير والشتم وتعرية الآخر تحت مسمى احترام الرأي. فالمثقف ينبغي أن يظل مترفعا عن لغة العامة. ويخلص علي نسر إلى أن المثقف هو الفرد الذي تتوجه إليه انظار الناس ليتخذوه قدوة يحذون حذوها، فعلا هذا يتطلب تعاليا على وجع الذاتية والفردية منحيا التعصب الأيديولوجي الأعمى. وهذا لا يعني أن يكون من دون انتماء لأنه لا يقدر على ذلك، بل ينبغي أن يكون انتماؤه مروضا يحركه لا أن يتحرك بعصاه كالمخدرين المنمطين. إنه يحيي الناس جميعا بكلمة، وقد يقتل الناس جميعا بكلمة أخرى، لذا ينبغي كبح جماح قلمه ومنعه من التفلت وممارسة ما ينادي المثقف عادة بضرورة تعطيله من خطاب ولغة يسوغ صاحبهما استخدامهما ليساعد نفسه ويقنع ذاته بأن التشهير والتحصن بالكلمات المنمقة ضد من يختلف معهم ضرب من ضروب الحرية والديمقراطية.

    بدورها تتناول الدكتورة فاطمة الثابت ظاهرة الازدواجية في شخصية المثقف فيما يدعو جميع المثقفين إلى الديمقراطية وفوائدها على الأصعدة السياسية والاجتماعية لكن هم يقولون ما لا يفعلون، تشخيص هذا التناقض برأي الثابت هو الخطوة الأولى لمعالجة ما يمكن تسميته بالاحتقان الثقافي، وقطع الطريق على المعجم الحافل بالمصطلحات والعبارات المبتذلة.

    تتمثل مهمة المثقف في حماية القيم الفكرية والمبادئ الداعمة للحراك الثقافي الجاد. وتذكر الثابت بما قاله نعوم تشومسكي تماما فقد “أثبت المجتمع الفكري القدرة على التصرف كالقطيع من أجل دعم سلطة الدولة”. وفي خضم عالم مضطرب على كافة المستويات، تخلى المثقف عن دوره في تعريب الحقائق، ولجأ بدلا من ذلك إلى التوافق مع هياكل السلطة المهيمنة.


    الثقافة هي فعل تغيير الثوابت، وتحريض على التفكير، وخلق وعي جديد، فكيف يقوم بهذه المهام، أشخاص يحاربون التغيير والرؤى المختلفة ويتمسكون بثوابتهم المعرفية


    تهتم الثابت في قراءتها بالواقع الثقافي مشيرة إلى أن المثقفين ليسوا محصنين ضد الاضطرابات التي تؤثر على المجتمع ككل إن ضغوط الحفاظ على السمعة، والخوف من عدم الأهمية، والطبيعة التنافسية للخطاب الفكري يمكن أن تؤدي إلى سلوكيات تتسم بالنرجسية، وجنون العظمة، وحتى العدوان. يمكن أن تؤدي هذه الضغوط النفسية إلى تفاقم البيئة السامة التي ينتشر فيها التشهير والخيانة. ناقش إريك فروم كيف يمكن للحاجة إلى الاعتراف والخوف من الحرية أن تقود الأفراد، بما في ذلك المثقفون، إلى تبني مواقف استبدادية والانخراط في سلوك متعجرف تجاه أولئك الذين يهددون مكانتهم. تختم فاطمة الثابت مداخلتها بالقول إن المثقف لا بد أن يقف صوتا معارضا ولا يكتفي بدور المتفرج ولا يوافق على الوضع القائم.

    لم تتعرف الكاتبة السورية مثال سليمان وهي تحرر مجلة رواق الأدب على المثقف في المنتديات والمقاهي، بل كانت البيئة الافتراضية بوابتها لمعرفة هذا العالم المتناقض وما لاحظته في هذا المعترك أن المنصات الإلكترونية كثيرا ما تتحول إلى جبهات الصراع والتناوش.

    لا تنفي سليمان وجود الفوائد من التواصل مع المثقفين والانفتاح عليهم إذ ترى في ذلك فرصة لاكتساب المعرفة لكن ما يؤسف عليه أن النفس المتشدد غالب على هذا الفضاء فإن المشاحنات والمناكفات تفوض أي محاولة هادفة لبناء حلقة النقاش الفكري المؤثر. بينما يتابع القارئ كلام المشاركين حول موقع المثقف ربما يراوده سؤال لماذا الأسماء الواردة في التحقيق من خلفيات متباينة من الروائي إلى الأكاديمي والمفكر والصحافي؟ ما المشترك بينهم؟ هنا نستعيد ما قاله ماركس بأن الفيزيائي المتخصص حين يتحدث عن الانشطار النووي فهو يتحدث بوصفه عالما أما حين يتحدث عن الاستخدام العسكري للذرة فهو يعبر عن نفسه بوصفه مثقفا ما يعني أن لفظ المثقف يتسع لكل من يهمه التفكير أبعد من مجال اختصاصه.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    كه يلان محمد
    كاتب عراقي
يعمل...
X