تعرفوامعنا على رؤية بودريار بين النقد والعدمية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تعرفوامعنا على رؤية بودريار بين النقد والعدمية


    (٤-١١) رؤية بودريار بين النقد والعدمية
    سبق لنا القول في بداية حديثنا عن بودريار أنَّ فرضية بودريار تَعتمِد على تصوُّرين رئيسين يَتمثلان في ضياع مفهوم الحقيقة، وضعف قدرة الإنسان المعاصر على التحليل النقدي لما يُعرض عليه. والواقع أن أطروحة بودريار، فضلًا عن هذَين التصوُّرين، قد أثارت جدلًا عنيفًا على مستوياتٍ عدة؛ فالبعض قد رأى في أطروحته ترسيخًا لعدمية الرؤية ما بعد الحداثية للواقع.٢٨٢ والبعض الآخر رآها خالية من العمق ومُفتقدة للمنهج.٢٨٣ وفي المقابل لاقت أطروحته ترحيبًا كبيرًا في الأوساط الأمريكية.٢٨٤ فوصفها ريتشارد لأن «بأن تأثيرها كان طاغيًا على العديد من الحقول المعرفية الأخرى.»٢٨٥ كما قال مورلي وروبنز في كتابهما المشترك فضاءات الهوية Spaces of Identity (١٩٩٥م): «إننا نأخذ كل ما قاله بودريار على محمل الجد، فقد ساعدنا كثيرًا في فهْم طبيعة مرحلة ما بعد الفوردية post-Fordism.»٢٨٦
    ورغم تعدُّد الآراء حول أطروحته، إلا أن بودريار، في واقع الأمر، كان يعرف حدود ما يقوم به؛ لذا لم يدَّعِ أبدًا أنه يُقدِّم عملًا نقديًّا للحضارة الغربية. فهو، مثله في ذلك مثل معظم فلاسفة ما بعد الحداثة، يرى أن النقد شيء ينتمي إلى الماضي النُّخبوي؛ حيث كان المُفكِّر ينظر إلى ذاته على أنها أكثر تميزًا وقدرة على الفهْم من الآخرين. إضافةً إلى أن الواقع بتشابكاته وفوضاه يَستعصي على أي رؤية نقدية تدعي امتلاكه، وقد قال بودريار في أحد الحوارات التي أُجريت معه: «أنْ تكون جذريًّا في قلبك للأشياء معناه أن تضع النتيجة مكان السبب؛ أي أن تقلب الوضع الطبيعي للأشياء. أنْ تكون عدميًّا — شكِّيًّا معناه أن تُبرز غياب السببية لصالح فوضى العلاقات والترابطات، وهذا هو تصوُّري للفكر الجذري الذي ليس بالعقلاني ولا بالنقدي: إنه فِكر خلخلة النقد والامتلاء. هل أنا فعلًا عدمي — شكي؟ أعتقد أن الأمر يتعلَّق برغبةٍ وبحُلمٍ إلى حدٍّ ما … باستراتيجيةٍ منظمةٍ لقلب الأشياء وتمديد المتواليات إلى ما لا نهاية، إلى حين حصول الكارثة؛ على الأقل الافتراضية منها.»٢٨٧
    إنَّ تسليم بودريار بموت الواقع، وبالتالي الغياب الكامل للحقيقة، يحمل بداخله الفرْق الرئيس بين مجتمع المشهد ومجتمع الواقع الفائق، «ما يُميِّز المجتمع المشهدي عن فوق الواقع، برأي بودريار، هو أن الأول قد ينطوي في داخله على إمكان النظرة النقدية. ففي المجتمع المشهدي هناك وعي لوجوده، وبالتالي وجود مسافة بين هذا المجتمع والواقع. في حين أن ما يُميِّز فوق-الواقع، وهو المُخيف أيضًا، استحالة النظرة النقدية، وبالتالي استحالة وجود مسافة بين المُشاهِد وما يُشاهده.»٢٨٨ وقد كان بودريار مدركًا جيدًا لهذا الفرْق؛ فهو قد قرأ أعمال جي ديبور النقدية، وأشهرها مجتمع الاستعراض، وقد أوضح ذلك الفرْق بقوله: «إن آخر التحليلات وأكثرها راديكالية لهذه الإشكالية أنجزها جي ديبور Guy Debord وSituationists المدرسة الظرفية، بتصوُّرهم عن «المشهد والاغتراب المشهدي». وبالنسبة لديبور فإنه لا تزال هناك فرصة للاغتراب، فرصة للذات في أن تَستعيد استقلالها أو سموُّها. لكن الآن انتهى هذا النقد الراديكالي ولم يَعُد له مبرِّر للوجود.»٢٨٩
    في الواقع يُمكن النظر إلى أطروحة بودريار بوصفها صرخة مُدوية في عالَم تُسيطِر عليه المحاكاة غير ذات الأصل والصور الزائفة، لكنها صرخة لا نقدية إن صحَّ التعبير؛ أي أنها تخلو من كل طابع نقدي، فبودريار لا يُقدِّم أي وسيلة يمكن من خلالها التغلُّب على هذا العالَم الزائف الذي يفترض وجوده، لا يوجد حلٌّ أو مهرَب، وكل محاولة ستُفضي إلى الفشل «لا شيء بمقدوره إصلاح هذه الوضعية … وليس هناك خطأ أفدح من النظر إلى الواقع بوصفه واقعي٢٩٠ الفكر الجذري.» وكما يقول آلن هاو عن بودريار: «ما يُقدِّمه بودريار بطرائق شتَّى هو أشبه ما يكون بحكايةٍ هي هكذا؛ فليس ثمة إمكانية خفية، ولا ذات غير مغتربة بطبيعتها تقبع خلف المظاهر وتُحاول أن تخرج إلى العلن. فالعالَم ما بعد الحديث هو عالَم «بلا عمق»، وذلك هو حال الأشياء لا أكثر ولا أقل. وهو يصف العالَم دون أن يُشير ما الذي يجعله كذلك، أو ما يفترض أن تكون عليه الذات من أجل مواجهة ذلك.»٢٩١ والواقع أن بودريار نفسه لم يُقدِّم نظريته بوصفها مناهضة للخطاب البصري المُهيمن، كما أنه لم يدَّعِ كونه ناقدًا، بل هو يقول عن نفسه: «لا أعتبر نفسي فيلسوفًا، كما أنني لا أقدِّم خطابًا ناقدًا.»٢٩٢
    يدَّعي بودريار أننا لسنا في حاجة إلى فكرٍ يقوِّض الواقع أو حتى ينقده، بل هو يرى أن مُهمَّته تتعارض تمامًا مع هذا التوجُّه: «مهمتنا واضحة: لا بد أن نجعل هذا العالَم أكثر لا عقلانية، بل أكثر غموضًا.»٢٩٣ إننا لسنا في حاجة إلى تأسيس حلول جديدة لأزمة الواقع ومأزق المعنى؛ فالواقع قد انتهى بالفعل وتحلَّل ومارس على ذاته تدميرًا استراتيجيًّا لا رجعة فيه، وأي محاولة لاستعادته مقضيٌّ عليها بالفشل. وتُصبح مهمة الفكر فقط مُتمثِّلة في تتبُّع الكيفية التي من خلالها دخل الواقع مرحلة الانهيار والتحلُّل الذاتي، والكشف عن مسارات هذا التحلُّل وأشكال الانهيار. وربما كان السؤال الذي لم يَتوقَّف عنده بودريار هنا، رغم محوريَّته، يتمثَّل في موقع تلك الذات التي من المفترض أن تقوم بعملية الكشف عن تحلُّل هذا الواقع، هل هي جزء من هذا التحلُّل أم لا بد أن تخلق لنفسها واقعًا جديدًا يعلو على الواقع الذي يصفه بودريار بأنه ذهب بلا رجعة؟ في أي فضاء توجد تلك الذات القادرة على الكشف والتحليل؟ لم تُثِر نصوص بودريار أيَّ أسئلة من هذا القبيل، كما لا تقدِّم لنا تفسيرًا لموقع الذات في تلك العملية، وإنما انخرَطت في فضاء من العدمية والتسليم المطلق باللاجدوى. وإذا كان بودريار قد رأى أن مسار الإنسان في هذا العالَم يُماثل المسار العبثي لسيزيف، كما عبَّر عنه ألبير كامو Albert Camus، فإنَّ هذا المسار في حقيقة الأمر هو ذاته الذي يَحكم رؤية بودريار في تحليله للواقع.
    إنَّنا إذا قارنَّا بين تحليل بودريار لموقع الذات في عملية التواصل، وبين التحليل الذي قدَّمه فلاسفة النظرية النقدية، لأدركنا على الفور الفارق بين الرؤية الوصفية المحايدة التي تُميِّز ثقافة ما بعد الحداثة ومفكِّريها، وبين الرؤية النقدية التي ما زالت تُراهن على تماسك الذات الإنسانية وقدرتها على المقاومة. إن السبب الرئيس في غياب روح النقد عن تحليل بودريار للصورة هو سيطرة فكرة «موت الذات»، وهي الفكرة التي يعتبرها ما بعد الحداثيين تبصُّرًا أساسيًّا، وهو في ذات الوقت ما انتقدته النظرية النقدية بقوة. فنقد مركزية الذات ينبغي ألا يُفضي في النهاية إلى القول بموت الذات، وعدم قدرتها على تكوين المعنى، ووقوعها أثيرةً للفصامات والأوهام النفسية. فعند بودريار تغدو الذات بِرُمَّتها نتاجًا لنظامٍ من التدليل، وليسَت حاجاتها سوى نتاج للنظام ذاته الذي أنتجها. وهكذا لا يعود مهمًّا مدى فقرك أو غناك؛ ففي النظام متسع لك ولحاجاتك. ولدى وسائل الإعلام مئونة لا تنفد من الصور «تلائم» أنماط المُستهلِكين جميعًا. وعلى سبيل المثال يُقدِّم بودريار في كتابه «أمريكا» وصفًا باردًا لرحلاته في الولايات المتحدة فيقول: «الصحراء التي تَعبُرها مثل منظر في فيلم من أفلام الويسترن، والمدينة شاشة من الدوال والصِّيَغ … تبدو المدينة الأمريكية كأنها خرجت للتوِّ من الأفلام. ولكي تلتقط سرَّها، لا ينبغي أن تبدأ من المدينة وتتحرَّك قُدُمًا إلى الداخل نحو الشاشة، بل يَنبغي أن تبدأ من الشاشة وتتحرَّك إلى الخارج صوب المدينة. ذلك هو المكان الذي لا تتَّخذ فيه السينما أي شكل استثنائي، بل تكتفي بأن تخلع على الشوارع والبلدة بأكملها جوًّا أسطوريًّا. ذلك هو المكان الذي تكون فيه خلابة آسرة. وهذا هو السبب في أن عبادة نجوم السينما ليست بالظاهرة الثانوية، بل الشكل الأرفع للسينما. وتجلِّيها الأسطوري، آخرُ الأساطير العظيمة في الحداثة.»٢٩٤ إنَّ هذا الوصف المحايد، الذي لا يخلو من نبرة إعجاب، هو مثال جيد على كيفية صياغة المشكلة، والتعبير عن المأزق دون أي مُحاولة لتقديم حلول من أي نوع.
    ثمة مسألة أخرى لم تَجِد، على أهميتها، أيَّ اهتمام يُذكَر لدى بودريار، بل ربما كانت نصوصه، في سياقاتٍ أخرى، تُعارضها بصورة كبيرة، ويمكن صياغة هذه المسألة في السؤال الآتي: هل ثمة أيديولوجيا ما تتحكَّم في وسائل الإعلام، أم أن وسائل الإعلام أصبحَت مُكتفية بذاتها وتعمل بصورة مستقلة؟ في الواقع تنحو نصوص بودريار إلى الافتراض الثاني المُتمثِّل في استقلال وسائل الإعلام وتشكيلها لفضائها الخاص (بمعنًى أدق أصبحت ذاتية الفعل)، كما أن نصوصه الأخرى تفترض ما يفترضه معظم مفكِّري ما بعد الحداثة من موتٍ للأيديولوجيا في ظل النظام العالمي الجديد.٢٩٥
    ١ لعلَّ هذا ما دفع جوناثان كوللر لأن يُعَنوِن الفصل الأول من كتابه عن بارت بالإنسان ذي الوجوه المُتعدِّدة Man of Parts؛ لكي يُوضِّح أن فكر بارت يمكن تناوله من أكثر من زاوية، ومن قِبَل العديد من الحقول المعرفية. Culler, Jonathan: Barthes: A Very Short I لم تحدث، وعن سنة ٢٠٠٠م التي لن تأتي.
    نصوصه الأخرى تفترض ما يفترضه معظم مفكِّري ما بعد الحداثة من موتٍ للأيديولوجيا في ظل النظام العالمي الجديد.٢٩٥
    ١ لعلَّ هذا ما دفع جوناثان كوللر لأن يُعَنوِن الفصل الأول من كتابه عن بارت بالإنسان ذي الوجوه المُتعدِّدة Man of Parts؛ لكي يُوضِّح أن فكر بارت يمكن تناوله من أكثر من زاوية، ومن قِبَل العديد من الحقول المعرفية. Culler, Jonathan: Barthes: A Very Short I لم تحدث، وعن سنة ٢٠٠٠م التي لن تأتي.
يعمل...
X