المنهج التكاملي
تمهيد:
في زحمة المناهج النقدية المعاصرة، وفي ظل ما تعرضت له الجهود النقدية العربية من اتهام بالميل إلى التبعية التنظيرية للغرب، يظهر المنهج التكاملي ليغطي على بعض النقص الحاصل في الجانب التطبيقي لتلك المناهج، فهو المنهج الذي يحاول أن يأخذ بطرف من مجموعة مناهج، بغرض التخلص من ضيق المنهج الواحد، تارة ومن صرامته تارة أخرى.
وعلى الرغم من عدم اعتراف بعض النقاد بهذا المنهج، على اعتبار أن لكل منهج قواعده وأسسه الخاصة به تميزه عن غيره، أما هذا فخليط منها، فإن آخرين ينظرون إليه بوصفه ضرورة أمام اتساع آفاق النصوص الأدبية، ومحدودية النتائج التي يصل إليها كل منهج منفردا. خصوصا إذا علمنا أن المنهج في حد ذاته وسيلة للتحليل والدراسة وليس غاية يسعى الدارس إلى تحقيقها. وإذا كان تحليل النص في كل حالاته لا يستطيع الادعاء بامتلاك الحقيقة، فإن المنهج أو المناهج المتبعة فيه لا يمكن أن تؤمن الوصول إلى حقيقة النص الأدبي التي ليس بعدها جدل أو شك.
نستطيع القول- والحال هذه- إن المقاربة النصية هي في بعض أوجهها محاولات لها نصيب من الفضل في تقريب النص إلى القارئ بدرجات متفاوتة، ولكنها لا تصل أبدا إلى الكمال أو إلى الاكتفاء ، ولا يخرج المنهج التكاملي عند المؤمنين به عن هذه القاعدة؛ ذلك أنه يحاول أن يقدم رؤية متعددة الأوجه لها ما يجمعها أو ما يوحدها، لتصل إلى تقديم قراءة مقبولة للعمل الأدبي .
ولا ينبغي في هذا المقام أن يُتعصب لهذا المنهج أو أن يعاب على المناهج الأخرى شيء من إجراءاتها أو أدواتها أو تستصغر النتائج التي تصل إليها.. غاية ما يُسعى إليه هو إفساح المجال أمام تلك الأدوات والإجراءات بمختلف توجهاتها لتعالج النص الأدبي تفسيرا أو تأويلا أو تحليلا.
ما المنهج التكاملي؟
التكامل في اللغة هو المشاركة في اكتمال الشيء، والمنهج التكاملي هو المنهج الذي تشترك فيه عناصر من مناهج مختلفة قد تقل أو تكثر بحسب درجة الائتلاف فيما بينها، ولا يقصد به الكمال لأنه لا كمال في ما تعلق بفكر أو علم إنساني مبني على الرأي والنظر العقلي.
يتحدث الدكتور عبد العزيز عتيق عن المنهج التكاملي في إطار حديثه عن المناهج السياقية ، ويعرفه بقوله: “هو منهج يأخذ من كل منهج ما يراه معينا على إصدار أحكام متكاملة على الأعمال الأدبية من جميع جوانبها” [1]، وهو بذلك يقترح إمكانية الجمع بين المنهج التاريخي والفني والنفسي جمعا يمكننا من دراسة النص من زوايا مختلفة. ولعل المنهج الفني بين هذه المناهج ما دفع الناقد إلى تصور إمكانية الجمع بينها، على اعتبار أنه الجانب الذي يلامس النص في ذاته بينما يتناول المنهجان الآخران ما يعلق بالنص من سياقات خارجية .
غير أن التكامل لا يرتبط بالمناهج السياقية وحدها، بل يمكن أن يكون بين منهج نسقي وآخر أو أخرى سياقية. فتجربة لوسيان غولدمان في البنيوية التكوينية تمثل شكلا من أشكال النزوع إلى النقد التكاملي، أو النقد المركب أو التركيبي الذي جاء ردا على أحادية المنهج التي حاولت النظرية النقدية اعتمادها بدء من جهود الشكليين الروس؛ فقد أقر غولدمان بضرورة إدراج السياق التاريخي والاجتماعي والسيرة الذاتية للمنتج إلى جانب بنية النص اللسانية من خلال الآليات التي” تربط بين داخل النص وخارجه مستفيدة من المناهج النقدية الحديثة ومتجاوزة إياها إلى تفسير البنيات الخارجية في المجتمع.” [2]
والمنهج التكاملي يقوم” بتسخير جميع المدارس النقدية المناسبة في تكاملها، وذلك من خلال الاستعانة بأبرز وأهم أدواتها، والاستفادة من أدق أساسياتها قدر الإمكان”[3] إيمانا بعدم قدرة أي منهج بمفرده على دراسة النص دراسة كافية مقنعة، بل قد ” يستعير مجموعة من النظريات المتباينة من العلوم المختلفة، ولكن السمة البارزة لتلك التوجهات تبدو لسانية وأسلوبية أكثر من غيرهما”.[4]
إن المنهج النقدي التكاملي ” هو أداة تستقي قوتها من ممارسة نقدية مركبة، تجمع بين المعطيات الفنية والتاريخية، والأبعاد النفسية، والاجتماعية، والعقدية، أما الشرط الوحيد في بناء هذا المنهج النقدي، فهو الارتكاز على رؤية نقدية شمولية واحدة، والأخذ بكل أداة منهجية صغرى تستجيب لهذه الرؤية وتوظيفها”.[5]
ولقد كان التعامل بهذا النوع من المناهج قائما عند العرب في بداية العصر الحديث، وتذكر بعض المصادر أن السيد قطب هو أول من استعمله أو دعا إليه في كتابة (النقد الأدبي) في النصف الأول من القرن العشرين، كما دعا إليه طه حسين و”سماه المقياس المرّكب وتابعه في هذا الدكتور شكري فيصل في المنهج التركيبي. وحين اكتفى الثاني بالتنظير كان يسعى الأول إلى شيء غير قليل من التطبيق”.[6]
كما نجد نقادا عربا آخرين تحدثوا عنه، منهم عبد القادر القط، وشوقي ضيف و”يعد إبراهيم عبد الرحمن واحداً ممن حددوا عناصره، مثل استناد النص إلى الواقع الذاتي والاجتماعي والطبيعي وانفتاحه على أشياء أخرى ومن ثم إعادة تشكيله فنياً، لأنه قابل للإجراء الفني والنقدي،وغير قائم على التناقض مع المناهج النقدية القديمة والحديثة.”[7]
غير أن كثيرا من النقاد يشددون على ضرورة التسلح بآليات المناهج المختلفة والتحكم فيها وامتلاك القدرة على الجمع فيما بينها عند الاقتضاء؛ فمن غير المنطقي أن يسمى هذا المنهج منهجا إذا لم يكتسب صفة المنهج ممثلة في آلياته النظرية والتطبيقية. وهي في عمومها مأخوذة من المناهج الأخرى، غير أنها تتمتع بخاصية التآلف والتكامل والإحاطة بجوانب النص المختلفة. و لعل هذا الشرط الحيوي يبعدنا عن تسمية (عدم الالتزام المنهجي الذي خلص إليه الدكتور قائد غيلان في وصف الظاهرة النقدية في اليمن بقوله” إن النقاد اليمنيين يلتقون عند نقطة واحدة هي عدم الالتزام المنهجي، والاغتراف بحرية مطلقة من منابع ومناهج شتى؛ تستوي في ذلك الدراسات الأكاديمية وغير الأكاديمية. ووَجد كثيرٌ منهم ضالته في المنهج التكاملي الذي يسمح للناقد أن يستفيد من أيٍّ من المناهج أو بعضها وأحيانا كلِّها في وقت واحد.[8] فتسمية (عدم الالتزام المنهجي) قد توحي بالخروج عن المنهج، أو أن المنهج التكاملي لا يحمل صفة المنهج.
كما يساوي بعضهم بين المنهج التكاملي واللامنهج، لأنه عندهم يفتقد إلى عناصر محددة تجعله مستقلا عن أمثاله، وقد وصف اللامنهج عند عبد المالك مرتاض بأنه منهج تكاملي على الرغم من أن تلميذه يوسف وغليسي يوضح خاصية منهج مرتاض بقوله:” هو التطبيق المنهجي المرن الذي يتيح للناقد العربي أن يدخل تعديلات طفيفة على المنهج الغربي استجابة لخصوصيات النص العربي، لا أن يطبقه عليه تطبيقا آليا أعمى”.[9]
وفي نظر محمد عزام” من المستحيل خلط هذه المناهج المتباينة للخروج بفرية منهج تكاملي”[10]، ذلك أن خاصية تناص النص الواحد مع نصوص عدة قديمة وحديثة وتداخله معها يمنع إمكانية نجاح هذا النوع من النقد في الوصول إلى خصائص النص الأساسية وميزاته الخاصة.
مبررات المنهج التكاملي :
يمكننا إرجاع مبررات اعتماد المنهج التكاملي إلى عاملين اثنين:
الأول هو كثرة الانتقادات والثغرات التي سجلت على المناهج الكثيرة المتلاحقة، سواء على المستوى النظري أو على مستوى التطبيق عند الممارسة النقدية، وخصوصا ما تعلق بالاتهامات المتبادلة بين أنصار النسق وأنصار السياق بخصوص قيمة العوامل الخارجية في دراسة النص؛ فسلدن وستروك مثلا يريان في البنيوية ” نزعة مضادة للنزعة الإنسانية، نظرا لمعارضة البنيويين لكل أشكال النقد الأدبي التي تجعل من الذات الإنسانية مصدرا للمعنى الأدبي وأصله.”[11]
أما جوناتان كولر فيعتقد” أن خطيئة السيميوطيقا تتمثل في محاولتها تدمير إحساسنا بالحقيقة في القص.. مع أن هذه الحقيقة تسبق القص في القصة الجيدة وتظل منفصلة عنه.” [12] ويبدو جون إليس مفندا للفكر التفكيكي، ومهاجما أسلوب أصحابه، الذي يتم بالاستفزاز في مهاجمة معارضيهم.”[13]
كما يعتبر أبرامز أن التفكيك لا يضع في اعتباره الطريقة التي نمارسها في تدقيق النصوص، أو ما لدينا من إحساس بأن النصوص ذات تفرد، وكذلك لا يهتم بالطريقة التي تثيرنا، وتبعث المشاعر والانفعالات في الناس.” [14]
ويذهب نقاد عرب إلى انتقاد المناهج المعاصرة، على النحو الذي نجده عند الغربيين، استنادا إلى ما رأوه من نقائص وعيوب في تطبيق هذه المناهج؛ ففؤاد زكريا يرى أن مطبقي البنيوية يتعسفون” في تطبيق النموذج اللغوي على كل مجالات العلوم الإنسانية، وإنكار تعدد النماذج بتعدد ميادين البحث.”وأن ” البنيوية فلسفة تصلح لمجتمع تسوده وتحكمه التكنوقراطية”[15] التي لا تصلح إلا لمواجهة القضايا الجزئية الدقيقة ولا تصلح للنظر في المجموع الكلي .
وينظر عثمان موافي في أعمال عبد الله الغدامي النقدية فيجد أن” تطبيقه شابه بعض القصور، نظرا لخلطه بين البنيوية والتفكيكية أو التشريحية طبقا لتعبيره، وبعض الاتجاهات الأخرى.”[16]
أما الثاني فهو البحث عن الآليات التي تدفع إلى تقبل النص الأدبي وإدراك جمالياته وقيمه بعيدا عن التعصب المنهجي الذي يصل أحيانا إلى نوع من الإرهاب المنهجي، ولهذا يطرح حسين جمعة مصطلح القراءة” مصطلحاً منفتحاً بإجراءاته النقدية على المناهج النقدية والأدبية مجتمعة أو منفردة، وعلى تقنياتها؛ فيبيح الشمولية والموازنة والمقارنة.” على اعتبار أن هذه القراءة طريقة فنية تؤدي إلى تأسيس منهج نقدي عربي تكاملي أصيل غير معزول عن المناهج النقدية والأدبية؛ وعن العلوم المساعدة الأخرى”.[17]
وما يعزز هذا التوجه هو عدم قدرة التحليل النقدي بأنواعه الشائعة على الكشف عن جوهر النص الإبداعي كشفا حاسما نتيجة لتعدد عناصره وتعدد مستوياته، فما من تحليل إلا ويلامس جانبا من النص ويهمل أو يغفل جوانب أخرى، بل إن الجوانب المكتشفة لا تتوضح عند كثير من النقاد بدرجة واحدة، إن لم نقل إنها تتناقض في أحايين كثيرة تبعا للزاوية التي ينطلق منها الناقد.
ولا يستطيع أحد من الناس أن يدعي أن المنهج التكاملي يحل هذا الإشكال حلا حاسما، كل ما في الأمر أنه يحاول أن يخفف من حدة الاضطراب الحاصل على مستوى تطبيق المناهج النقدية المختلفة، لأن الجمع بين عدد من المناهج كفيل بأن يجعل بعضها يعاضد بعضا، فما لا ينكشف بهذا ينكشف بذاكخــــــــاتمة :
إذا كان القارئ العربي ما يزال يتغنى بخصوصية لغته وتميز أدبه عما لدى غيره، أفلا يمكن أن يكون المنهج التكاملي في النقد الأدبي العربي متناغما مع هذا الاتجاه في قراءة هذا الأدب؟ وإذا كانت غاية النقد أن يكشف عما تعتقد شريحة واسعة من القراء أنه يمثل القيم الجمالية والإنسانية والاجتماعية، أفلا يكون المنهج التكاملي قادرا على القيام بهذه المهمة على أكمل وجه ؟
وبعد كل ما سبق، حري بنا أن ندرك مشكلاتنا النقدية، مقتنعين بأن المناهج النقدية إذا لم تساهم في دفع عجلة الأدب إلى الأمام ، فإنها لا تستحق أن تبذل في شأنها الجهود. ومن بين أهم القضايا التي لا بد من إعادة النظر فيها، والتي تعترض الناقد العربي وهو ينظر إلى الأعمال الأدبية العربية هي التبعية الفكرية لكل ما هو غربي، وينتج عن هذا تبني الفلسفات الغربية المتصارعة بل والمتناقضة أحيانا، وفرضها على الأدب والنقد كأنها قدرهما المحتوم. لقد ظللنا منذ عصر النهضة العربية ننظر إلى الأوروبي خاصة والغربي عامة على أنه المتفوق، بل الحادي الذي لا بد من السير على حدوه، وإلى فلسفته بأنها قمة التطور الفكري، وبانية الحضارة. ثم تبعته نظرة مشابهة إلى أدبه ونقده، فصرنا لا نستطيع الاكتفاء بما لدينا من مقومات التطور والنهوض، بل أكثر من ذلك بتنا نجلد ذواتنا أسفا على أننا وجدنا في بيئة قاحلة من الفكر والإبداع
تمهيد:
في زحمة المناهج النقدية المعاصرة، وفي ظل ما تعرضت له الجهود النقدية العربية من اتهام بالميل إلى التبعية التنظيرية للغرب، يظهر المنهج التكاملي ليغطي على بعض النقص الحاصل في الجانب التطبيقي لتلك المناهج، فهو المنهج الذي يحاول أن يأخذ بطرف من مجموعة مناهج، بغرض التخلص من ضيق المنهج الواحد، تارة ومن صرامته تارة أخرى.
وعلى الرغم من عدم اعتراف بعض النقاد بهذا المنهج، على اعتبار أن لكل منهج قواعده وأسسه الخاصة به تميزه عن غيره، أما هذا فخليط منها، فإن آخرين ينظرون إليه بوصفه ضرورة أمام اتساع آفاق النصوص الأدبية، ومحدودية النتائج التي يصل إليها كل منهج منفردا. خصوصا إذا علمنا أن المنهج في حد ذاته وسيلة للتحليل والدراسة وليس غاية يسعى الدارس إلى تحقيقها. وإذا كان تحليل النص في كل حالاته لا يستطيع الادعاء بامتلاك الحقيقة، فإن المنهج أو المناهج المتبعة فيه لا يمكن أن تؤمن الوصول إلى حقيقة النص الأدبي التي ليس بعدها جدل أو شك.
نستطيع القول- والحال هذه- إن المقاربة النصية هي في بعض أوجهها محاولات لها نصيب من الفضل في تقريب النص إلى القارئ بدرجات متفاوتة، ولكنها لا تصل أبدا إلى الكمال أو إلى الاكتفاء ، ولا يخرج المنهج التكاملي عند المؤمنين به عن هذه القاعدة؛ ذلك أنه يحاول أن يقدم رؤية متعددة الأوجه لها ما يجمعها أو ما يوحدها، لتصل إلى تقديم قراءة مقبولة للعمل الأدبي .
ولا ينبغي في هذا المقام أن يُتعصب لهذا المنهج أو أن يعاب على المناهج الأخرى شيء من إجراءاتها أو أدواتها أو تستصغر النتائج التي تصل إليها.. غاية ما يُسعى إليه هو إفساح المجال أمام تلك الأدوات والإجراءات بمختلف توجهاتها لتعالج النص الأدبي تفسيرا أو تأويلا أو تحليلا.
ما المنهج التكاملي؟
التكامل في اللغة هو المشاركة في اكتمال الشيء، والمنهج التكاملي هو المنهج الذي تشترك فيه عناصر من مناهج مختلفة قد تقل أو تكثر بحسب درجة الائتلاف فيما بينها، ولا يقصد به الكمال لأنه لا كمال في ما تعلق بفكر أو علم إنساني مبني على الرأي والنظر العقلي.
يتحدث الدكتور عبد العزيز عتيق عن المنهج التكاملي في إطار حديثه عن المناهج السياقية ، ويعرفه بقوله: “هو منهج يأخذ من كل منهج ما يراه معينا على إصدار أحكام متكاملة على الأعمال الأدبية من جميع جوانبها” [1]، وهو بذلك يقترح إمكانية الجمع بين المنهج التاريخي والفني والنفسي جمعا يمكننا من دراسة النص من زوايا مختلفة. ولعل المنهج الفني بين هذه المناهج ما دفع الناقد إلى تصور إمكانية الجمع بينها، على اعتبار أنه الجانب الذي يلامس النص في ذاته بينما يتناول المنهجان الآخران ما يعلق بالنص من سياقات خارجية .
غير أن التكامل لا يرتبط بالمناهج السياقية وحدها، بل يمكن أن يكون بين منهج نسقي وآخر أو أخرى سياقية. فتجربة لوسيان غولدمان في البنيوية التكوينية تمثل شكلا من أشكال النزوع إلى النقد التكاملي، أو النقد المركب أو التركيبي الذي جاء ردا على أحادية المنهج التي حاولت النظرية النقدية اعتمادها بدء من جهود الشكليين الروس؛ فقد أقر غولدمان بضرورة إدراج السياق التاريخي والاجتماعي والسيرة الذاتية للمنتج إلى جانب بنية النص اللسانية من خلال الآليات التي” تربط بين داخل النص وخارجه مستفيدة من المناهج النقدية الحديثة ومتجاوزة إياها إلى تفسير البنيات الخارجية في المجتمع.” [2]
والمنهج التكاملي يقوم” بتسخير جميع المدارس النقدية المناسبة في تكاملها، وذلك من خلال الاستعانة بأبرز وأهم أدواتها، والاستفادة من أدق أساسياتها قدر الإمكان”[3] إيمانا بعدم قدرة أي منهج بمفرده على دراسة النص دراسة كافية مقنعة، بل قد ” يستعير مجموعة من النظريات المتباينة من العلوم المختلفة، ولكن السمة البارزة لتلك التوجهات تبدو لسانية وأسلوبية أكثر من غيرهما”.[4]
إن المنهج النقدي التكاملي ” هو أداة تستقي قوتها من ممارسة نقدية مركبة، تجمع بين المعطيات الفنية والتاريخية، والأبعاد النفسية، والاجتماعية، والعقدية، أما الشرط الوحيد في بناء هذا المنهج النقدي، فهو الارتكاز على رؤية نقدية شمولية واحدة، والأخذ بكل أداة منهجية صغرى تستجيب لهذه الرؤية وتوظيفها”.[5]
ولقد كان التعامل بهذا النوع من المناهج قائما عند العرب في بداية العصر الحديث، وتذكر بعض المصادر أن السيد قطب هو أول من استعمله أو دعا إليه في كتابة (النقد الأدبي) في النصف الأول من القرن العشرين، كما دعا إليه طه حسين و”سماه المقياس المرّكب وتابعه في هذا الدكتور شكري فيصل في المنهج التركيبي. وحين اكتفى الثاني بالتنظير كان يسعى الأول إلى شيء غير قليل من التطبيق”.[6]
كما نجد نقادا عربا آخرين تحدثوا عنه، منهم عبد القادر القط، وشوقي ضيف و”يعد إبراهيم عبد الرحمن واحداً ممن حددوا عناصره، مثل استناد النص إلى الواقع الذاتي والاجتماعي والطبيعي وانفتاحه على أشياء أخرى ومن ثم إعادة تشكيله فنياً، لأنه قابل للإجراء الفني والنقدي،وغير قائم على التناقض مع المناهج النقدية القديمة والحديثة.”[7]
غير أن كثيرا من النقاد يشددون على ضرورة التسلح بآليات المناهج المختلفة والتحكم فيها وامتلاك القدرة على الجمع فيما بينها عند الاقتضاء؛ فمن غير المنطقي أن يسمى هذا المنهج منهجا إذا لم يكتسب صفة المنهج ممثلة في آلياته النظرية والتطبيقية. وهي في عمومها مأخوذة من المناهج الأخرى، غير أنها تتمتع بخاصية التآلف والتكامل والإحاطة بجوانب النص المختلفة. و لعل هذا الشرط الحيوي يبعدنا عن تسمية (عدم الالتزام المنهجي الذي خلص إليه الدكتور قائد غيلان في وصف الظاهرة النقدية في اليمن بقوله” إن النقاد اليمنيين يلتقون عند نقطة واحدة هي عدم الالتزام المنهجي، والاغتراف بحرية مطلقة من منابع ومناهج شتى؛ تستوي في ذلك الدراسات الأكاديمية وغير الأكاديمية. ووَجد كثيرٌ منهم ضالته في المنهج التكاملي الذي يسمح للناقد أن يستفيد من أيٍّ من المناهج أو بعضها وأحيانا كلِّها في وقت واحد.[8] فتسمية (عدم الالتزام المنهجي) قد توحي بالخروج عن المنهج، أو أن المنهج التكاملي لا يحمل صفة المنهج.
كما يساوي بعضهم بين المنهج التكاملي واللامنهج، لأنه عندهم يفتقد إلى عناصر محددة تجعله مستقلا عن أمثاله، وقد وصف اللامنهج عند عبد المالك مرتاض بأنه منهج تكاملي على الرغم من أن تلميذه يوسف وغليسي يوضح خاصية منهج مرتاض بقوله:” هو التطبيق المنهجي المرن الذي يتيح للناقد العربي أن يدخل تعديلات طفيفة على المنهج الغربي استجابة لخصوصيات النص العربي، لا أن يطبقه عليه تطبيقا آليا أعمى”.[9]
وفي نظر محمد عزام” من المستحيل خلط هذه المناهج المتباينة للخروج بفرية منهج تكاملي”[10]، ذلك أن خاصية تناص النص الواحد مع نصوص عدة قديمة وحديثة وتداخله معها يمنع إمكانية نجاح هذا النوع من النقد في الوصول إلى خصائص النص الأساسية وميزاته الخاصة.
مبررات المنهج التكاملي :
يمكننا إرجاع مبررات اعتماد المنهج التكاملي إلى عاملين اثنين:
الأول هو كثرة الانتقادات والثغرات التي سجلت على المناهج الكثيرة المتلاحقة، سواء على المستوى النظري أو على مستوى التطبيق عند الممارسة النقدية، وخصوصا ما تعلق بالاتهامات المتبادلة بين أنصار النسق وأنصار السياق بخصوص قيمة العوامل الخارجية في دراسة النص؛ فسلدن وستروك مثلا يريان في البنيوية ” نزعة مضادة للنزعة الإنسانية، نظرا لمعارضة البنيويين لكل أشكال النقد الأدبي التي تجعل من الذات الإنسانية مصدرا للمعنى الأدبي وأصله.”[11]
أما جوناتان كولر فيعتقد” أن خطيئة السيميوطيقا تتمثل في محاولتها تدمير إحساسنا بالحقيقة في القص.. مع أن هذه الحقيقة تسبق القص في القصة الجيدة وتظل منفصلة عنه.” [12] ويبدو جون إليس مفندا للفكر التفكيكي، ومهاجما أسلوب أصحابه، الذي يتم بالاستفزاز في مهاجمة معارضيهم.”[13]
كما يعتبر أبرامز أن التفكيك لا يضع في اعتباره الطريقة التي نمارسها في تدقيق النصوص، أو ما لدينا من إحساس بأن النصوص ذات تفرد، وكذلك لا يهتم بالطريقة التي تثيرنا، وتبعث المشاعر والانفعالات في الناس.” [14]
ويذهب نقاد عرب إلى انتقاد المناهج المعاصرة، على النحو الذي نجده عند الغربيين، استنادا إلى ما رأوه من نقائص وعيوب في تطبيق هذه المناهج؛ ففؤاد زكريا يرى أن مطبقي البنيوية يتعسفون” في تطبيق النموذج اللغوي على كل مجالات العلوم الإنسانية، وإنكار تعدد النماذج بتعدد ميادين البحث.”وأن ” البنيوية فلسفة تصلح لمجتمع تسوده وتحكمه التكنوقراطية”[15] التي لا تصلح إلا لمواجهة القضايا الجزئية الدقيقة ولا تصلح للنظر في المجموع الكلي .
وينظر عثمان موافي في أعمال عبد الله الغدامي النقدية فيجد أن” تطبيقه شابه بعض القصور، نظرا لخلطه بين البنيوية والتفكيكية أو التشريحية طبقا لتعبيره، وبعض الاتجاهات الأخرى.”[16]
أما الثاني فهو البحث عن الآليات التي تدفع إلى تقبل النص الأدبي وإدراك جمالياته وقيمه بعيدا عن التعصب المنهجي الذي يصل أحيانا إلى نوع من الإرهاب المنهجي، ولهذا يطرح حسين جمعة مصطلح القراءة” مصطلحاً منفتحاً بإجراءاته النقدية على المناهج النقدية والأدبية مجتمعة أو منفردة، وعلى تقنياتها؛ فيبيح الشمولية والموازنة والمقارنة.” على اعتبار أن هذه القراءة طريقة فنية تؤدي إلى تأسيس منهج نقدي عربي تكاملي أصيل غير معزول عن المناهج النقدية والأدبية؛ وعن العلوم المساعدة الأخرى”.[17]
وما يعزز هذا التوجه هو عدم قدرة التحليل النقدي بأنواعه الشائعة على الكشف عن جوهر النص الإبداعي كشفا حاسما نتيجة لتعدد عناصره وتعدد مستوياته، فما من تحليل إلا ويلامس جانبا من النص ويهمل أو يغفل جوانب أخرى، بل إن الجوانب المكتشفة لا تتوضح عند كثير من النقاد بدرجة واحدة، إن لم نقل إنها تتناقض في أحايين كثيرة تبعا للزاوية التي ينطلق منها الناقد.
ولا يستطيع أحد من الناس أن يدعي أن المنهج التكاملي يحل هذا الإشكال حلا حاسما، كل ما في الأمر أنه يحاول أن يخفف من حدة الاضطراب الحاصل على مستوى تطبيق المناهج النقدية المختلفة، لأن الجمع بين عدد من المناهج كفيل بأن يجعل بعضها يعاضد بعضا، فما لا ينكشف بهذا ينكشف بذاكخــــــــاتمة :
إذا كان القارئ العربي ما يزال يتغنى بخصوصية لغته وتميز أدبه عما لدى غيره، أفلا يمكن أن يكون المنهج التكاملي في النقد الأدبي العربي متناغما مع هذا الاتجاه في قراءة هذا الأدب؟ وإذا كانت غاية النقد أن يكشف عما تعتقد شريحة واسعة من القراء أنه يمثل القيم الجمالية والإنسانية والاجتماعية، أفلا يكون المنهج التكاملي قادرا على القيام بهذه المهمة على أكمل وجه ؟
وبعد كل ما سبق، حري بنا أن ندرك مشكلاتنا النقدية، مقتنعين بأن المناهج النقدية إذا لم تساهم في دفع عجلة الأدب إلى الأمام ، فإنها لا تستحق أن تبذل في شأنها الجهود. ومن بين أهم القضايا التي لا بد من إعادة النظر فيها، والتي تعترض الناقد العربي وهو ينظر إلى الأعمال الأدبية العربية هي التبعية الفكرية لكل ما هو غربي، وينتج عن هذا تبني الفلسفات الغربية المتصارعة بل والمتناقضة أحيانا، وفرضها على الأدب والنقد كأنها قدرهما المحتوم. لقد ظللنا منذ عصر النهضة العربية ننظر إلى الأوروبي خاصة والغربي عامة على أنه المتفوق، بل الحادي الذي لا بد من السير على حدوه، وإلى فلسفته بأنها قمة التطور الفكري، وبانية الحضارة. ثم تبعته نظرة مشابهة إلى أدبه ونقده، فصرنا لا نستطيع الاكتفاء بما لدينا من مقومات التطور والنهوض، بل أكثر من ذلك بتنا نجلد ذواتنا أسفا على أننا وجدنا في بيئة قاحلة من الفكر والإبداع