قصتي مع التصوير بقلم العماد مصطفى طلاس .. كتاب التصوير الضوئي
الشكل هو الملك ! ...
إن شهد لي أحد بالذوق ، فأنا مبادر فورا إلى الاعتراف له بالحقيقة .. فكما عرف التصوير منذ عشرين ألف سنة في كهف ( لاسكو ) بفرنسا .. فقد عثرت على حبي للأطر ، وولعي بها قبل بدايات رحلتي الطويلة ، مع حروف الآلة ! .
ولا يزايل مخيلتي ذلك الطفل المبكر إلى الاهتمام بالصورة والشكل ، بكور النحلة إلى الزهرة ... فبخربشات بسيطة كنت أبرز زعامة القطة من ظهرها المتحفز ، أو دلال العروس من ثوبها الساحب على الأرض ...
حتى إن حكاية الشكل دخلت معي إلى درس الانشاء : كنت أقضي الساعات الطويلة أفكر كيف يجب أن أبدأ، حتى اذا تحصل لي الإطار، وجدت الحل ، فلا يكلفني الموضوع سوى الجهد الأقل ...
من يبدأ جيدا ينتهي جيدا في الأغلب، أما من يبدأ خطأ فانه لن يصل أبدا .. »، هذه المقولة لهيغل (1) ، عندما عثرت عليها فيما بعد، عرفت كم أنا هيغلي النزعة، من الولادة ! وأن ولعي بالشكل ولد لي مصيبة ولعي بالجمال .. الذي كثيراً ما أدخلني في التزامات ما كان أغناني عنها ! .
التزام واحد أنا ذاكره الآن ، لأنه بيت قصيد هذه العجالة التي أخط ....
كان ذلك في القرية الضيعة المعروفة في السويداء، وبها بدأت حياتي في العطاء كمعلم ..
والمعلم في القرى عليه أن يعلم كل شيء، وخصوصا المرسم ...
ولست أزعم في هذا المجال، أنني من شيوخ التحف النادرات ، ولكنني بين رفاقي المعلمين ، كنت من المبشرين بمواسم جيدة، ولأقلها بصراحة ، كنت بينهم ككسرى على الإيوان ! .
حتى الرسم بالألوان المائية أدخلته إلى صفوف الطلاب في هذا الوقت المبكر من الدراسة الابتدائية .
ونعود إلى الذوق ، أو إلى ضريبته على الأقل ...
في القرية التقيت بمعلمات من الشام، وكان التقليد المتبع أن يتلاقى المعلمون ، ويتعارفوا ، ففيه أكثر من خمس فوائد ، ولا شك أن تهيئة الجيل العربي الجديد وتربيته ، كانت على رأس القائمة .
وقدمت المديرة براءة الصواف المعلمات لنا أي لي ولزملائي ــ ولا أذكر منهن الآن ، سوى الآنسة ابتسام الخياط - أين تراها اليوم من ذلك الزمان ؟ كانت فعلا أميرة قيصرة البواكير المبشرة بغنى المواسم. وعرضت علينا بواكيرها أيضا ، أي تحفها التصويرية يوم كانت طالبة في دار المعلمات، ومع أنني صاحب حضارة في الذوق المترف، كما يشيعون عني ، وبدلا من أن أرتجل في إطرائها قصيدة ، ألفيتني قائلا :
هذه .. الصورة ! وأنا في المنام ، أرسم خيرا منها ...
قلتها ببراءة ، لكنها كانت على سمع ابتسام أقوى من الصاعقة .. وأعترف فورا أنني ما عاودتها
مرة أخرى في حياتي .
وانقلب وجه ابتسام إلى حقل ورد جوري ! .
وسارعت المديرة في محاولة انفراج تقول : اذا كنت على هذا المستوى الرفيع من الرسم الراقي فسترسم لنا العقاب ( الشعار السوري ) وقد رسمته لنا ابتسام ، وستقول لجنة تحكيم، أيهما الأجدر
بتعليقه في غرفة الاستقبال .
وبالطبع ، قلت : ( على الرحب والسعة ) .
الغربية الرهيبة ...
وبعد ثلاثة أسابيع تقريباً، فضلت لجنة التحكيم صورة العقاب التي رسمتها ، ولم تنس التنويه
بنسر الآنسة ابتسام ...
وظننت أن مسألة المباراة بالرسم قد انتهت بسلام . لكن في المهرجان السنوي الرياضي الذي
أقيم في صيف العام 1951 في السويداء، كنت أقود فرقة كشفية كانت قد اشتركت بذلك المهرجان . وصادف أن حازت على الدرجة الأولى بين مدارس المحافظة في اليوم الأول ، ثم كانت الأولى أيضاً بين فرق الجمهورية في اليوم التالي، فهناني وزير التربية الأستاذ رئيف الملقي على هذا النجاح والجهود المبذولة، كما فرح لي مدير التربية الأستاذ عثمان الحوراني . ولما وصل الدور إلى المديرة، هنأتني وضغطت على يدي قائلة : انني أحمل إليك خبرا جميلا .. سنصالحك ، يا أستاذ طلاس ، مع الآنسة ابتسام في هذه المناسبة .
وفتحت الدهشة المتسائلة عيني ! . فأكملت المديرة :
ليس الغبي بسيد في قومه
لكن سيد قومه المتغابي
وحلفت لها ، أني لم أفهم . فأوضحت أن ابتساما، منذ خمسة أشهر لم ترد على تحيتك لا في صباح، ولا في مساء ... ودار ببالي قول جميل بثينة :
وأول ما قاد المحبــــــة بيــننـا
بوادي بغيض يابثين سباب
فقلت لها قولا أجابت بمثله
لكل كلام يا بثين جواب
لكنني أبقيته في الخاطر ، وتذكرت قول عنترة ، فقلت للمديرة :
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواهــــــــا
ولكن اسمعي ياسيدتي المديرة ، وكانت ابتسام تسمع أيضا :
مادام ذلك كذلك فانني من أجل عيون ابتسام، قد آليت على نفسي ألا أمسك ريشة رسام في عمري ، ولتشهدا أنتما ، وليشهد الله على ذلك .
ويراودني اليوم سؤال ، سرعان ما أستبعده :
أترى ، بعهدي ذاك ، فقد القرن العشرون أحد الرسامين العظام ؟ ..
وتحولت بعد التعليم إلى الجندية ورأيت أن الرسم ضروري لمن يتأهب أن يكون شيئا في هذا المضمار ، ثم إن المرحوم العقيد وليد عزت، كان قد شجعني على البقاء في الرسم، كما أن معظم أصدقائي من الفنانين أذكر منهم عبد القادر النائب .. كانوا على رأيه، لكن العهد الذي قطعت في لحظة فروسية ، وقف دون ما أملوا ، كسد يأبى الاختراق .
لكن مسألة التصوير تجري في عروقي ، فكيف أهرب مما يجري في الشرايين ؟ وصارت قضية، أنا أدفنها في الأعماق، وهي تطفو إلى السطح ، إلى أن جاء الحل على يد عدسة آلة التصوير .
وكانت هي مفتاح الفرج السعيد ...
كل شيء يعوض ..
بعد ثورة 8 آذار المجيدة سنة 1963 ، مررت بأصدقائي القدامي ، أصحاب استوديو دنيا ، في مدينة حمص، جورج وجوزيف حداد، وطلبت إليهم أن ينصحوني، باقتناء آلة تضم المواصفات الثلاث المعروفة ، وكانت الكاميرا الروسية ( كييف (44) بالفعل رخيصة وكيسة وبنت ناس ، فاقتنيتها طويلا ، لكنني وجدتها لا تلبي كل طموحاتي ، فضممت إليها ( كانون fi) بناء على نصيحة الأخ كربيس .. وكيلها بدمشق. وسار الحال بشكل لا يعلى عليه إلى أن تعرفت في الأردن صيف العام 1976 على السيدة الكسندرا زوجة رئيس تحرير النيوزويك ، أرنود وبرشوفيف فنصحتني باستعمال آلة نيكون (f2) وانتصحت ...
ثم قيل لي إن أحد سفرائنا الذواقين الدكتور صباح قباني لديه مجموعة صور نادرة وذلك بفضل ( الهازلبلاد (500م) فكان التجاوب معها رائعا ، وتنقلت في مناخات الهاز لبلاد ، حتى وصلت إلى آخر صرعة في السلسلة، فاقتنيت (fcm 2000 ) متفائلا ، لا بل تيمناً بالعدد 2000، وهو علم آخر هذا القرن ، ان شاء الله .
لكن هذا لم يمنعني من الاستقصاء، فأدخلت في المجموعة ( لايكا (mm) وخاصة بعد أن قامت بتصميم الجانب الالكتروني فيها الشركة اليابانية التي تنتج الآلة المشهورة ( مينولتا ) . أما الآلة الألمانية ( لينهوف) ، فلا أمدحها لأن صهري السيد أكرم العجه كان قد أهدانيها ، ولكن فعلا فإن الكاميرا الألمانية هي الأولى اليوم في كل العالم ، وذلك لتخلصها نهائياً من اللابؤرية ... وهكذا أصبح لدي مجموعة كبيرة من الكاميرات ! .
و سرت وشوشات ...
اذا كان لا يجارى - يقصدون شخصي المتواضع في التصوير ـ فلأنه يملك أفضل الكاميرات في العالم !...
وكنت أتجاوز هذا القول الذي كان يطلقه بعض الزملاء المصورين ، وأمر به مرور الكرام ... إلى يوم دعاني فيه السيد عبد الحليم كركلا، إن غداء في بعلبك، وحضره ضباط قيادة القوات السورية في لبنان، ومصورون عسكريون ، وغيرهم .. هذا إلى جانب حشد صحافي من القصرين لا بأس به .
وصوروا كثيرا .. صوروا حتى تعبوا .. وعندها تناولت آلة من يد أحد المصورين ، وقلت : يقول الناس إن سري في التصوير ، يكمن في الآية العظيمة .. وأنا أقول إن الإنسان هو العامل الحاسم، والآن أشهدكم، وأشهد صاحب الآلة وكان هو المصور إسبر ملحم وخصوصا الآنسة مارسيل حرو (1) التي ستكون الحكم ، على صحة ما أقول ...
وبأقل من نصف دقيقة ضبطت الآلة، وسددتها نحو الآنسة مارسيل حرو ملكة جمال لبنان، بأوضاع خمسة. وبعد التظهير اعترفت فرقة كركلا، والآنسة مارسيل أن الصور الخمس الملتقطة كانت من أفضل الصور التي أخذت للملكة في انحاء العالم طوال عشر سنوات . وسيرى القارىء المعنى ، ذلك بعينه ، يوم يجيء الكلام عن الملكة الراحلة، في كتابي الجديد عنها و كسوف في سماء البقاع . .
1 - الفنانة الكبيرة المرحومة بطلة فرقة كركلا
رهان العدسة والريشة ...
يقولون إن العدسة أعجز من أن تصور أشياء العذوبة والرقة واليأس والغضب، والحزن، والفرح، وجميع هذه القوى المتصارعة على الوجه، وأنا أجزم بأن العدسة الجيدة في اليد الموهوبة القادرة على ضبط هذه العواطف، حتى بتفاصيلها اللامرئية، كما تفعل يد الفنان المجرد من الآلة سواء بسواء ..
وكما في الحرب التي مهما تطورت أساليبها وأدواتها، يبقى الجندي هو العامل الحاسم في الصراع المسلح، فكذلك التصوير . فسواء أكان يدويا أم آلياً يبقى الانسان هو العنصر الأهم في
العطاء الجيد .
لماذا صورة الريشة تبقى دوما المفضلة ؟ .
لن أدخل هنا في التفاصيل .. إنما أكتفي بالقول إن هذا التصوير بالآلة الذي نراه، ليس هو أبدا المعني بالمقارنة ؟ .
وكما أن ريشة الفنان كثيرا ما ترسم وترمي ، فكذلك عدسة الآلة، اذ ليس بمجرد التصويب ، تحدث التحفة النادرة .
وحتى المنظر الواحد، ليس هو واحدا بعدسة آلة واحدة، اذا تعاقب على هذا المنظر ، اثنان !
هنالك أشياء غير مدركة يضعها المتمكن في الحسبان، فيغير المناخ .. صورت مرة السيدة جين مانسون ، ذات الصوت الساحر ، ورأى الصورة صديق فقال : تبدو الفنانة وكأنها خرجت من أحابيل الدعاية الفنية لتدخل في شفافية الحب العذب ، فقلت : الحق على شريط الآلة .. كان رقيقا جدا .. فقال : لا بل الحق على شريط القلب .. الذي كان أرق ! .
في التصوير اليدوي : يد وعين وقلب، وهذا الثالوث نفسه، هو المتربع على عرش التصوير بالآلة ! .
والمعرفة ؟ . أين غدت المعرفة ؟ .
المعرفة أم ، ولا شيء يولد ، ويعيش بلا أم ! .
وانني أؤكد بأنني درست الآلة دراسة كاملة ، من يوم هي علبة خشبية، وبشمسية ولوح، ونافذة تفتح وتغلق باليد .. إلى يوم صارت الآلة عدسة تثبت في أسفل الطائرة ، وتلقط المنظر ، دون
ضرورة إلى مواجهة مباشرة .
كما أنني درست عظماء هذا الفن دراسة معمقة ، وكان عندي رونيسون وايرسون واطسون وغيرهم من فناني العدسة لايقلون زعامة عن ماتيس وليوناردو ، وميكالنج، وغيرهم من زعماء الريشة .
كما أخذت كثيرا عن المصور الانكليزي المعاصر دافيد هاملتون الذي يعيش الآن في باريس، دون أن نلتقي ، بسبب مسؤولياتي ومشاغله .
وعلى ذكر المسؤوليات ، يسأل بعضهم كيف أجد الوقت ؟ ... هذه المسألة لا تشغل البال كثيرا، إذ لم يعد سرا أن الذي يفتش عن الوقت يجده لأن السائب منه ، والمهدور ، لأكثر من المستعمل بعشرين مرة ! .
كان نيكيتا خروشوف يحمل ثلاثة هموم : الاتحاد السوفياتي، وآلة التصوير وزجاجة الفودكا ... ومع أنني أحب كثيرا الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، على مزايا نادرات كانت فيه، فلا أذيع سرا اذا قلت أن بحر محبتي ازداد نقطة عندما عرفت تعلقه الشديد بالكاميرا ..
أما فاليري جيسكار دستان ، فلم أحزن كثيرا له أو معه أو عليه، عندما خذلته الجمهورية، وخطفته من قصر الإليزيه الرئاسي .. إذ سلمت له إمبراطورية عدسته الوسيعة.
وأخيرا فان هذا الكتاب الذي أضعه بين يدي القارىء، ليس هو من صنعي ، وإنما انتزعته مما أنتجته مؤسسة لاروس العظيمة في هذا المضمار .. والذي ساعدني الأستاذ جابي أسود في ترجمته عن الفرنسية .
ولعله آن اليوم الذي تتصدر فيه كتب الجمال والذوق والحس ، واجهات مكتباتنا الكبيرة، بعد أن تكون قواتنا المسلحة قد ردت لنا حقوقنا المغتصبة، وعندئذ تحلو الآلة، وتحلو اليد، ويحلو
الورد ، ويحلو أكثر .. أكثر .. الوجه الصبوح ..
الشآم كانون الثاني 1987
العماد
مصطفى طلاس
الشكل هو الملك ! ...
إن شهد لي أحد بالذوق ، فأنا مبادر فورا إلى الاعتراف له بالحقيقة .. فكما عرف التصوير منذ عشرين ألف سنة في كهف ( لاسكو ) بفرنسا .. فقد عثرت على حبي للأطر ، وولعي بها قبل بدايات رحلتي الطويلة ، مع حروف الآلة ! .
ولا يزايل مخيلتي ذلك الطفل المبكر إلى الاهتمام بالصورة والشكل ، بكور النحلة إلى الزهرة ... فبخربشات بسيطة كنت أبرز زعامة القطة من ظهرها المتحفز ، أو دلال العروس من ثوبها الساحب على الأرض ...
حتى إن حكاية الشكل دخلت معي إلى درس الانشاء : كنت أقضي الساعات الطويلة أفكر كيف يجب أن أبدأ، حتى اذا تحصل لي الإطار، وجدت الحل ، فلا يكلفني الموضوع سوى الجهد الأقل ...
من يبدأ جيدا ينتهي جيدا في الأغلب، أما من يبدأ خطأ فانه لن يصل أبدا .. »، هذه المقولة لهيغل (1) ، عندما عثرت عليها فيما بعد، عرفت كم أنا هيغلي النزعة، من الولادة ! وأن ولعي بالشكل ولد لي مصيبة ولعي بالجمال .. الذي كثيراً ما أدخلني في التزامات ما كان أغناني عنها ! .
التزام واحد أنا ذاكره الآن ، لأنه بيت قصيد هذه العجالة التي أخط ....
كان ذلك في القرية الضيعة المعروفة في السويداء، وبها بدأت حياتي في العطاء كمعلم ..
والمعلم في القرى عليه أن يعلم كل شيء، وخصوصا المرسم ...
ولست أزعم في هذا المجال، أنني من شيوخ التحف النادرات ، ولكنني بين رفاقي المعلمين ، كنت من المبشرين بمواسم جيدة، ولأقلها بصراحة ، كنت بينهم ككسرى على الإيوان ! .
حتى الرسم بالألوان المائية أدخلته إلى صفوف الطلاب في هذا الوقت المبكر من الدراسة الابتدائية .
ونعود إلى الذوق ، أو إلى ضريبته على الأقل ...
في القرية التقيت بمعلمات من الشام، وكان التقليد المتبع أن يتلاقى المعلمون ، ويتعارفوا ، ففيه أكثر من خمس فوائد ، ولا شك أن تهيئة الجيل العربي الجديد وتربيته ، كانت على رأس القائمة .
وقدمت المديرة براءة الصواف المعلمات لنا أي لي ولزملائي ــ ولا أذكر منهن الآن ، سوى الآنسة ابتسام الخياط - أين تراها اليوم من ذلك الزمان ؟ كانت فعلا أميرة قيصرة البواكير المبشرة بغنى المواسم. وعرضت علينا بواكيرها أيضا ، أي تحفها التصويرية يوم كانت طالبة في دار المعلمات، ومع أنني صاحب حضارة في الذوق المترف، كما يشيعون عني ، وبدلا من أن أرتجل في إطرائها قصيدة ، ألفيتني قائلا :
هذه .. الصورة ! وأنا في المنام ، أرسم خيرا منها ...
قلتها ببراءة ، لكنها كانت على سمع ابتسام أقوى من الصاعقة .. وأعترف فورا أنني ما عاودتها
مرة أخرى في حياتي .
وانقلب وجه ابتسام إلى حقل ورد جوري ! .
وسارعت المديرة في محاولة انفراج تقول : اذا كنت على هذا المستوى الرفيع من الرسم الراقي فسترسم لنا العقاب ( الشعار السوري ) وقد رسمته لنا ابتسام ، وستقول لجنة تحكيم، أيهما الأجدر
بتعليقه في غرفة الاستقبال .
وبالطبع ، قلت : ( على الرحب والسعة ) .
الغربية الرهيبة ...
وبعد ثلاثة أسابيع تقريباً، فضلت لجنة التحكيم صورة العقاب التي رسمتها ، ولم تنس التنويه
بنسر الآنسة ابتسام ...
وظننت أن مسألة المباراة بالرسم قد انتهت بسلام . لكن في المهرجان السنوي الرياضي الذي
أقيم في صيف العام 1951 في السويداء، كنت أقود فرقة كشفية كانت قد اشتركت بذلك المهرجان . وصادف أن حازت على الدرجة الأولى بين مدارس المحافظة في اليوم الأول ، ثم كانت الأولى أيضاً بين فرق الجمهورية في اليوم التالي، فهناني وزير التربية الأستاذ رئيف الملقي على هذا النجاح والجهود المبذولة، كما فرح لي مدير التربية الأستاذ عثمان الحوراني . ولما وصل الدور إلى المديرة، هنأتني وضغطت على يدي قائلة : انني أحمل إليك خبرا جميلا .. سنصالحك ، يا أستاذ طلاس ، مع الآنسة ابتسام في هذه المناسبة .
وفتحت الدهشة المتسائلة عيني ! . فأكملت المديرة :
ليس الغبي بسيد في قومه
لكن سيد قومه المتغابي
وحلفت لها ، أني لم أفهم . فأوضحت أن ابتساما، منذ خمسة أشهر لم ترد على تحيتك لا في صباح، ولا في مساء ... ودار ببالي قول جميل بثينة :
وأول ما قاد المحبــــــة بيــننـا
بوادي بغيض يابثين سباب
فقلت لها قولا أجابت بمثله
لكل كلام يا بثين جواب
لكنني أبقيته في الخاطر ، وتذكرت قول عنترة ، فقلت للمديرة :
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواهــــــــا
ولكن اسمعي ياسيدتي المديرة ، وكانت ابتسام تسمع أيضا :
مادام ذلك كذلك فانني من أجل عيون ابتسام، قد آليت على نفسي ألا أمسك ريشة رسام في عمري ، ولتشهدا أنتما ، وليشهد الله على ذلك .
ويراودني اليوم سؤال ، سرعان ما أستبعده :
أترى ، بعهدي ذاك ، فقد القرن العشرون أحد الرسامين العظام ؟ ..
وتحولت بعد التعليم إلى الجندية ورأيت أن الرسم ضروري لمن يتأهب أن يكون شيئا في هذا المضمار ، ثم إن المرحوم العقيد وليد عزت، كان قد شجعني على البقاء في الرسم، كما أن معظم أصدقائي من الفنانين أذكر منهم عبد القادر النائب .. كانوا على رأيه، لكن العهد الذي قطعت في لحظة فروسية ، وقف دون ما أملوا ، كسد يأبى الاختراق .
لكن مسألة التصوير تجري في عروقي ، فكيف أهرب مما يجري في الشرايين ؟ وصارت قضية، أنا أدفنها في الأعماق، وهي تطفو إلى السطح ، إلى أن جاء الحل على يد عدسة آلة التصوير .
وكانت هي مفتاح الفرج السعيد ...
كل شيء يعوض ..
بعد ثورة 8 آذار المجيدة سنة 1963 ، مررت بأصدقائي القدامي ، أصحاب استوديو دنيا ، في مدينة حمص، جورج وجوزيف حداد، وطلبت إليهم أن ينصحوني، باقتناء آلة تضم المواصفات الثلاث المعروفة ، وكانت الكاميرا الروسية ( كييف (44) بالفعل رخيصة وكيسة وبنت ناس ، فاقتنيتها طويلا ، لكنني وجدتها لا تلبي كل طموحاتي ، فضممت إليها ( كانون fi) بناء على نصيحة الأخ كربيس .. وكيلها بدمشق. وسار الحال بشكل لا يعلى عليه إلى أن تعرفت في الأردن صيف العام 1976 على السيدة الكسندرا زوجة رئيس تحرير النيوزويك ، أرنود وبرشوفيف فنصحتني باستعمال آلة نيكون (f2) وانتصحت ...
ثم قيل لي إن أحد سفرائنا الذواقين الدكتور صباح قباني لديه مجموعة صور نادرة وذلك بفضل ( الهازلبلاد (500م) فكان التجاوب معها رائعا ، وتنقلت في مناخات الهاز لبلاد ، حتى وصلت إلى آخر صرعة في السلسلة، فاقتنيت (fcm 2000 ) متفائلا ، لا بل تيمناً بالعدد 2000، وهو علم آخر هذا القرن ، ان شاء الله .
لكن هذا لم يمنعني من الاستقصاء، فأدخلت في المجموعة ( لايكا (mm) وخاصة بعد أن قامت بتصميم الجانب الالكتروني فيها الشركة اليابانية التي تنتج الآلة المشهورة ( مينولتا ) . أما الآلة الألمانية ( لينهوف) ، فلا أمدحها لأن صهري السيد أكرم العجه كان قد أهدانيها ، ولكن فعلا فإن الكاميرا الألمانية هي الأولى اليوم في كل العالم ، وذلك لتخلصها نهائياً من اللابؤرية ... وهكذا أصبح لدي مجموعة كبيرة من الكاميرات ! .
و سرت وشوشات ...
اذا كان لا يجارى - يقصدون شخصي المتواضع في التصوير ـ فلأنه يملك أفضل الكاميرات في العالم !...
وكنت أتجاوز هذا القول الذي كان يطلقه بعض الزملاء المصورين ، وأمر به مرور الكرام ... إلى يوم دعاني فيه السيد عبد الحليم كركلا، إن غداء في بعلبك، وحضره ضباط قيادة القوات السورية في لبنان، ومصورون عسكريون ، وغيرهم .. هذا إلى جانب حشد صحافي من القصرين لا بأس به .
وصوروا كثيرا .. صوروا حتى تعبوا .. وعندها تناولت آلة من يد أحد المصورين ، وقلت : يقول الناس إن سري في التصوير ، يكمن في الآية العظيمة .. وأنا أقول إن الإنسان هو العامل الحاسم، والآن أشهدكم، وأشهد صاحب الآلة وكان هو المصور إسبر ملحم وخصوصا الآنسة مارسيل حرو (1) التي ستكون الحكم ، على صحة ما أقول ...
وبأقل من نصف دقيقة ضبطت الآلة، وسددتها نحو الآنسة مارسيل حرو ملكة جمال لبنان، بأوضاع خمسة. وبعد التظهير اعترفت فرقة كركلا، والآنسة مارسيل أن الصور الخمس الملتقطة كانت من أفضل الصور التي أخذت للملكة في انحاء العالم طوال عشر سنوات . وسيرى القارىء المعنى ، ذلك بعينه ، يوم يجيء الكلام عن الملكة الراحلة، في كتابي الجديد عنها و كسوف في سماء البقاع . .
1 - الفنانة الكبيرة المرحومة بطلة فرقة كركلا
رهان العدسة والريشة ...
يقولون إن العدسة أعجز من أن تصور أشياء العذوبة والرقة واليأس والغضب، والحزن، والفرح، وجميع هذه القوى المتصارعة على الوجه، وأنا أجزم بأن العدسة الجيدة في اليد الموهوبة القادرة على ضبط هذه العواطف، حتى بتفاصيلها اللامرئية، كما تفعل يد الفنان المجرد من الآلة سواء بسواء ..
وكما في الحرب التي مهما تطورت أساليبها وأدواتها، يبقى الجندي هو العامل الحاسم في الصراع المسلح، فكذلك التصوير . فسواء أكان يدويا أم آلياً يبقى الانسان هو العنصر الأهم في
العطاء الجيد .
لماذا صورة الريشة تبقى دوما المفضلة ؟ .
لن أدخل هنا في التفاصيل .. إنما أكتفي بالقول إن هذا التصوير بالآلة الذي نراه، ليس هو أبدا المعني بالمقارنة ؟ .
وكما أن ريشة الفنان كثيرا ما ترسم وترمي ، فكذلك عدسة الآلة، اذ ليس بمجرد التصويب ، تحدث التحفة النادرة .
وحتى المنظر الواحد، ليس هو واحدا بعدسة آلة واحدة، اذا تعاقب على هذا المنظر ، اثنان !
هنالك أشياء غير مدركة يضعها المتمكن في الحسبان، فيغير المناخ .. صورت مرة السيدة جين مانسون ، ذات الصوت الساحر ، ورأى الصورة صديق فقال : تبدو الفنانة وكأنها خرجت من أحابيل الدعاية الفنية لتدخل في شفافية الحب العذب ، فقلت : الحق على شريط الآلة .. كان رقيقا جدا .. فقال : لا بل الحق على شريط القلب .. الذي كان أرق ! .
في التصوير اليدوي : يد وعين وقلب، وهذا الثالوث نفسه، هو المتربع على عرش التصوير بالآلة ! .
والمعرفة ؟ . أين غدت المعرفة ؟ .
المعرفة أم ، ولا شيء يولد ، ويعيش بلا أم ! .
وانني أؤكد بأنني درست الآلة دراسة كاملة ، من يوم هي علبة خشبية، وبشمسية ولوح، ونافذة تفتح وتغلق باليد .. إلى يوم صارت الآلة عدسة تثبت في أسفل الطائرة ، وتلقط المنظر ، دون
ضرورة إلى مواجهة مباشرة .
كما أنني درست عظماء هذا الفن دراسة معمقة ، وكان عندي رونيسون وايرسون واطسون وغيرهم من فناني العدسة لايقلون زعامة عن ماتيس وليوناردو ، وميكالنج، وغيرهم من زعماء الريشة .
كما أخذت كثيرا عن المصور الانكليزي المعاصر دافيد هاملتون الذي يعيش الآن في باريس، دون أن نلتقي ، بسبب مسؤولياتي ومشاغله .
وعلى ذكر المسؤوليات ، يسأل بعضهم كيف أجد الوقت ؟ ... هذه المسألة لا تشغل البال كثيرا، إذ لم يعد سرا أن الذي يفتش عن الوقت يجده لأن السائب منه ، والمهدور ، لأكثر من المستعمل بعشرين مرة ! .
كان نيكيتا خروشوف يحمل ثلاثة هموم : الاتحاد السوفياتي، وآلة التصوير وزجاجة الفودكا ... ومع أنني أحب كثيرا الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، على مزايا نادرات كانت فيه، فلا أذيع سرا اذا قلت أن بحر محبتي ازداد نقطة عندما عرفت تعلقه الشديد بالكاميرا ..
أما فاليري جيسكار دستان ، فلم أحزن كثيرا له أو معه أو عليه، عندما خذلته الجمهورية، وخطفته من قصر الإليزيه الرئاسي .. إذ سلمت له إمبراطورية عدسته الوسيعة.
وأخيرا فان هذا الكتاب الذي أضعه بين يدي القارىء، ليس هو من صنعي ، وإنما انتزعته مما أنتجته مؤسسة لاروس العظيمة في هذا المضمار .. والذي ساعدني الأستاذ جابي أسود في ترجمته عن الفرنسية .
ولعله آن اليوم الذي تتصدر فيه كتب الجمال والذوق والحس ، واجهات مكتباتنا الكبيرة، بعد أن تكون قواتنا المسلحة قد ردت لنا حقوقنا المغتصبة، وعندئذ تحلو الآلة، وتحلو اليد، ويحلو
الورد ، ويحلو أكثر .. أكثر .. الوجه الصبوح ..
الشآم كانون الثاني 1987
العماد
مصطفى طلاس
تعليق