المناهج السياقية
تأثر النقاد العرب بالنقد الغربي الحديث:
أثر النقاد العرب بالنقد الغربي الحديث تأثّر العرب بالنقد الأدبي السائد لدى الغرب في العصر الحديث، وما عاصره أهله من انفتاح على الشعوب الأخرى واختلاط الأجناس وتبادل الثقافات، فانتهجوا مناهجه التي بدت مختلفة كلية عن العملية النقدية التي كانت سائدة في العصور السابقة لدى العرب، فقد أصبحت له قواعد وأصول منهجية تقصر هذا العلم على الدارس المتخصص في علوم الأدب صاحب النظر الثاقب والاطلاع الواسع والموهبة النقدية كما بيّنَها تعريف النقد الأدبي الحديث.[٣] واستقى العرب كثيرًا من المُصطلحات النقديّة المستخدَمة لدى الغرب، فقاموا بتعريبها أو ترجمتها أو الإبقاء عليها كما هي، وأخذ النقاد ينظرون في النصوص الأدبية نظرة كلية تشمل العمل الأدبي بكل ما فيه من عناصر أساسية كاللغة والأفكار والعاطفة والصورة الفنية، وعملوا على الكشف عن مزايا العمل الأدبي الدفينة وتفسير الانفعالات التي مر بها الأديب إثر إنتاجه لعمله الأدبي بوصفها العامل الأساسي لتكوينه، كما اختلفت النظرات النقدية وتعددت فظهر العديد من المناهج النقدية المختلفة التي تأثر بها الأدب والأدباء على حد سواء.
مناهج النقد السياقي: هي تلك الممارسة النقدية التي تقارب النص الإبداعي· معتمدة في ذلك على المؤثرات الخارجية (سو اء أكانت تاريخية، أو نفسية، أو ، واحتضنت 6 ميثيودينية، أو اجتماعية) والتي أحاطت بميلاد النص الشعري 7 تكونه، فكان لها التأثير المباشر أو غير المباشر .
بناء على ذلك، فالنقد السياقي إضاءة للنص الإبداعي من الخارج، وذلك باستثمار كل ما يحيط بالنص من سياقات تاريخية، واجتماعية، ونفسية، لما للنص من شبكة علاقات بينه وبين تلك السياقات، لأن النص مثلما يتولد من ذات مبدعه فإنه يخضع للمؤثرات الثقافية، والحضارية التي توجه رؤية المبدع، وبالتالي تكون تلك الموجهات الخارجية سبيلا لفهم النص الإبداعي والكشف عن أسراره، الأمر الذي يجعل الآليات المنهجية لمقاربة النص تختلف من منهج سياقي لمنهج آخر، غير أن الغاية من الدراسة ليست البحث في الآليات وإنما الكشف عن الأسس والخلفيات التي يستند إليها النقد السياقي.
الأسس الفلسفية للنقد السياقي: كل رؤية في الوجود إلا وتستند إلى خلفية فلسفية، تحدد مسارات التفكير، وتضبط مجالات الر ؤية وآفاقها، ومثلما تتعلق تلك الرؤية بالحياة وما يعتريها من تغيرات فإنها ترتبط بالفن والإبداع وما يتولد عنه من مواقف نقدية، إذ الفلسفة ثاوية في عمق كل تفكير إنساني، ولذلك فكل بناء معرفي يجب أن يستند إلى خلفية فلسفية، تحدد منطلقاته، وترسم أهدافه وغاياته، ومن تلك المعارف الإنسانية التي تستند في مقولاتها ومنظورها النقدي على جملة من الفلسفات تبرز المناهج النقدية التي سايرت الظاهرة الإبداعية وكانت معها في سجال دائم، ويمكن أن نؤسس لعلاقة المناهج النقدية بالأسس الفلسفية بهذه المقولة لــــ " لوسيان غولدمان »
يقول "لوسيان غولدمان": «إذا كانت الفلسفة أكثر من مجرد تعبير تصوري عن مختلف رؤيات العالم، وإذا كانت خارج خاصيتها الأيديولوجية، تحمل أيضا بعض الحقائق الجوهرية المتعلقة بعلاقات الإنسان مع الناس الآخرين، وعلاقة الناس مع الكون، فإن هذه ، الحقائق يجب أن توجد بالضبط في قاعدة العلوم الإنسانية وبالخصوص في مناهجها» وعليه تبرز العلاقة بين المناهج النقدية وخلفيتها الفلسفية، وذلك ما سنحاول الكشف عنه فيما يتعلق بالمناهج السياقية. إن أهم الخلفيات الفلسفية التي يستند إليها النقد السياقي تتمثل في:
1 /فلسفة العلوم التجريبية : هي الفلسفة التي تتخذ من الواقع الخارجي أساسا لبناء الأحكام، وتـ مستندة إلى التجربة العلمية في وضع مبادئها وإقامة تصوراا، وقد وضع مبادئ التجريبية كل من "دافيد هيوم" و "جون لوك" و "هوبز" و "ليسينج"، و«اعتمدت على الحواس في إيصال المعرفة، وبنت قضاياها على التجربة، فالحواس منافذ المعرفة وا نرى الأشياء، ونسمعها، ونشمها، ونذوقها، ونلمسها، فتنطبع صور المحسوسات في الذهن، وتتولد منها ، ذلك أن التجربة تستند إلى ما هو ملاحظ ومشاهد، وقابل للقياس، وهو المسعى الذي تجسد في منظور النقد السياقي.
عمل رواد النقد السياقي على تحويل الشروط التجريبية المتعلقة بعلوم المادة من فيزياء وكيمياء، ومن علم الأحياء إلى ميدان النقد الأدبي، وذلك باستثمار كل ما يمكن أن يفك لغز الأدب، وقابل لأن يكون عينة تجريبية، ومنه «كان السبب في ازدهار المناهج السياقية في ميدان النقد الأدبي، رغبة كثير من مفكري القرن التاسع عشر ونقاده في أن يجعلوا النقد علميا بمعنى الكلمة، وذلك لسببين: الأول أم كانوا معجبين بدقة العلوم الطبيعية ويقينها، وكانت النظرية المسماة بالوضعية تشيد بالعلم بصفته أعظم إنجازات العقل الإنساني، ، 15 وأكثرها اتساقا،
والثاني أم كانوا رافضين للأحكام المغرقة في الذاتية والانطباعية» وعليه فالنقد السياقي يفتح سجل حياة المؤلف، وظروف بيئته، وما فيها من تغيرات سياس
ية، وثقافية، واجتماعية ليقيم أحكامه النقدية، إذ يصبح ذلك السجل بمثابة عينة تجريبية قابلة للملاحظة، والقياس، وتسمح بإصدار الأحكام العلمية حولها، شأن التجربة العلمية مع ما بينهما من فروق تقرب الحكم النقدي من العلمية وتبعده عن الذاتية، لأن التجربة الإبداعية إنسانية بطبيعتها، ولن تسلم قيادها للشروط الصارمة للتجربة العلمية مهما حاول النقاد ذلك.
2 /الفلسفة الوضعية إن استناد المناهج السياقية إلى أصول المنهج التجريبي من وصف وملاحظة و استنتاج، ووضع قوانين رياضية تضبط الشروط التجريبية، وتعبر عن النتائج المتحققة، يؤكد الصلة الوثيقة بين هذه المناهج والوضعية الفلسفية. جاءت الوضعية معززة لما قامت عليه التجريبية، واستبعدت كل تفكير لا يستمد عناصره الأولى من الحس والتجربة، ولذلك فالأفكار في الوضعية لا تظل شتاتا مبعثرة في الذهن، بل ترتبط بقانون التداعي، الذي يعد معادلا في أهميته لقانون الجاذبية » تطور الفكر الإنساني من منظور "أوغست كونت" فيلسوف الوضعية من الطور اللاهوتي (حيث يرجع تغيير الظواهر إلى قوى خارقة وكائنات فوق الطبيعة) إلى الطور الميتافيزيقي (حيث استبدلت القوى الخارقة إلى قوى مجردة تقدر على صنع كل الظواهر)، ثم الطور الوضعي، حيث انصرف التفكير من المطلق إلى الانشغال بدراسة الظواهر والبحث عن القوانين التي تحكم تلك الظواهر، وتكون الملاحظة والاستدلال هما سبيل معرفة تلك القوانين.
أثرت الوضعية في الإبداع الأدبي ونتج عن ذلك المذهب الطبيعي مع "إيميل زولا" ومن نحا نحوه في مجال الرواية والمسرح، وقادت الشعر إلى"البرناسية" التي مهدت السبيل أمام الشعر الرمزي والشعر التصويري، وبالمقابل «أثرت في النقد وقادته إلى ، والتي تجعل العمل الأدبي واقعة يمكن تفسيرها من خلال 19 التاريخية أو الواقعية النقدية» ما يرتبط ا من بيئة، وجنس، وعصر.
وذلك ما جعل النقد السياقي يركز على ما ينطوي عليه النص من قيم جذورها ممتدة في الواقع الثقافي، والاجتماعي، والنفسي، حتى يتسنى له الإحاطة بالتجربة الإبداعية، لأا ليست فعلا معزولا عن السياقات المحيطة ا، ومنه توصل النقاد السياقيون إلى «تقطيع النص إلى شكل ومحتوى، ويصرفون النظر عن الشكل ويقلبون في المحتوى، بحثا هناك عن مواد اجتماعية، وتاريخية، ولغوية، ودينية، وسياسية، وأيديولوجية، ومأثورات شعبية» ، إذ الأدب من منظور الفلسفة الوضعية «ليس شيئا مستقلا، وإنما نتيجة 20 ، ولدراسته وإقامة الأحكام النقدية حوله يجب ربطه بعلم الاجتماع، 21 أسباب غير أدبية» وعلم وصف الأجناس البشرية، وعلم النفس والفيزياء، وحتى الميتافيزيقا، ولذلك يأتي الأدب في الفلسفة الوضعية محددا دائما من الخارج، وهو المرتكز النقدي الذي ينطلق منه الدارسون للأدب من منظور سياقي.
3 /الفلسفات الاجتماعية والنفسية من الفلسفات الحديثة التي كان لها الدور الأساس في بلورة المفاهيم التي تأسس عليها النقد السياقي تبرز الفلسفة الاجتماعية، وفلسفة التحليل النفسي، فمن التحليل النفسي استعار النقد السياقي الفروض الأساسية عن عمل اللاشعور، وكيف يعبر عن رغباته الكامنة بالتداعي، وعن عمل الأحلام استعار فكرة النماذج العليا، أو محتوى اللاشعور الجمعي، ومن علم النفس الجماعي عند الجشطالتيين أخذ فكرة الكليات، ومن علماء النفس التجريبيين استمد المقدمات التجريبية عن السلوك، ومن علم النفس الإكلينيكي استقى المعلومات المتعلقة بالتعبيرات المرضية للعقل الإنساني، ومن علم النفس الاجتماعي تعرف على طرق الكشف عن سلوك الإنسان في الجماعات والمجتمعات الكبرى، كما استفاد مما تقدمه العلوم النفسية والعصبية المتصلة بعلم الغدد الصم.
واستعار النقد الأدبي الحديث في صورته السياقية من الفلسفات الاجتماعية عند « دوركايم" و "أوغست كونت" نظريات ومقدمات عن طبيعة المجتمع، والتغير الاجتماعي، . والصراع الاجتماعي، وصلة هذه بالأدب والظواهر الثقافية الأخرى ومن الفلسفة الماركسية استقى العلاقة الجدلية بين البنيتين الفوقية والتحتية، وأن الأدب في حقيقته انعكاس ولا يمكن فهم إحدى البنيتين في غياب الأخرى ولذلك «أصبحت الماركسية منذ بداية القرن التاسع عشر تمثل الأساس الصلب للتصور التاريخي للأدب ، من منظور شيوعي على أقل تقدير.
» ومن الفلسفة الوجودية استمد فكرة الالتزام التي ترى أن الأدب التزام بقضايا المجتمع، وأن المبدع قائد فكري في مجتمعه، وبالتالي فهو ملزم بقضايا الصراع الداخلي في مجتمعه، أو الصراعات الخارجية التي تواجهه، وعليه«اعتبرت الوجودية أن المشتغل بالفكر الأدبي إبداعا ونقدا، لا يستطيع بحال أن يتخذ موقفا سلبيا منها (أي من تلك الصراعات)، ولا أن يهرب من أداء وظيفته، وتحمل مسؤوليته تجاهها» وذلك ما يؤهل إبداعه للتعبير عن تلك الصراعات، وما يمنح الناقد فرصة الإمساك من خلال إحاطته بالسياقات المولدة للإبداع وهو يحاكم النص، لأن علاقة الإبداع بالنقد في الفلسفة الوجودية محكومة بثنائية الحرية والمسؤولية، وذلك أساس الحكم على الأعمال الأد
بية، إذ «تتحدد أقدار الناس وقيمهم طبقا لمدى قدرتهم على صناعة مشروعاتهم في الحياة، وطبقا لنوعية المواقف التي يتخذونها أثناء صياغتهم لهذه المشروعات ، ومنه يكون الناقد الوجودي مرتبطا بقيم الحياة، ويكون نصه سجلا لتلك المواقف.
تأثر النقاد العرب بالنقد الغربي الحديث:
أثر النقاد العرب بالنقد الغربي الحديث تأثّر العرب بالنقد الأدبي السائد لدى الغرب في العصر الحديث، وما عاصره أهله من انفتاح على الشعوب الأخرى واختلاط الأجناس وتبادل الثقافات، فانتهجوا مناهجه التي بدت مختلفة كلية عن العملية النقدية التي كانت سائدة في العصور السابقة لدى العرب، فقد أصبحت له قواعد وأصول منهجية تقصر هذا العلم على الدارس المتخصص في علوم الأدب صاحب النظر الثاقب والاطلاع الواسع والموهبة النقدية كما بيّنَها تعريف النقد الأدبي الحديث.[٣] واستقى العرب كثيرًا من المُصطلحات النقديّة المستخدَمة لدى الغرب، فقاموا بتعريبها أو ترجمتها أو الإبقاء عليها كما هي، وأخذ النقاد ينظرون في النصوص الأدبية نظرة كلية تشمل العمل الأدبي بكل ما فيه من عناصر أساسية كاللغة والأفكار والعاطفة والصورة الفنية، وعملوا على الكشف عن مزايا العمل الأدبي الدفينة وتفسير الانفعالات التي مر بها الأديب إثر إنتاجه لعمله الأدبي بوصفها العامل الأساسي لتكوينه، كما اختلفت النظرات النقدية وتعددت فظهر العديد من المناهج النقدية المختلفة التي تأثر بها الأدب والأدباء على حد سواء.
مناهج النقد السياقي: هي تلك الممارسة النقدية التي تقارب النص الإبداعي· معتمدة في ذلك على المؤثرات الخارجية (سو اء أكانت تاريخية، أو نفسية، أو ، واحتضنت 6 ميثيودينية، أو اجتماعية) والتي أحاطت بميلاد النص الشعري 7 تكونه، فكان لها التأثير المباشر أو غير المباشر .
بناء على ذلك، فالنقد السياقي إضاءة للنص الإبداعي من الخارج، وذلك باستثمار كل ما يحيط بالنص من سياقات تاريخية، واجتماعية، ونفسية، لما للنص من شبكة علاقات بينه وبين تلك السياقات، لأن النص مثلما يتولد من ذات مبدعه فإنه يخضع للمؤثرات الثقافية، والحضارية التي توجه رؤية المبدع، وبالتالي تكون تلك الموجهات الخارجية سبيلا لفهم النص الإبداعي والكشف عن أسراره، الأمر الذي يجعل الآليات المنهجية لمقاربة النص تختلف من منهج سياقي لمنهج آخر، غير أن الغاية من الدراسة ليست البحث في الآليات وإنما الكشف عن الأسس والخلفيات التي يستند إليها النقد السياقي.
الأسس الفلسفية للنقد السياقي: كل رؤية في الوجود إلا وتستند إلى خلفية فلسفية، تحدد مسارات التفكير، وتضبط مجالات الر ؤية وآفاقها، ومثلما تتعلق تلك الرؤية بالحياة وما يعتريها من تغيرات فإنها ترتبط بالفن والإبداع وما يتولد عنه من مواقف نقدية، إذ الفلسفة ثاوية في عمق كل تفكير إنساني، ولذلك فكل بناء معرفي يجب أن يستند إلى خلفية فلسفية، تحدد منطلقاته، وترسم أهدافه وغاياته، ومن تلك المعارف الإنسانية التي تستند في مقولاتها ومنظورها النقدي على جملة من الفلسفات تبرز المناهج النقدية التي سايرت الظاهرة الإبداعية وكانت معها في سجال دائم، ويمكن أن نؤسس لعلاقة المناهج النقدية بالأسس الفلسفية بهذه المقولة لــــ " لوسيان غولدمان »
يقول "لوسيان غولدمان": «إذا كانت الفلسفة أكثر من مجرد تعبير تصوري عن مختلف رؤيات العالم، وإذا كانت خارج خاصيتها الأيديولوجية، تحمل أيضا بعض الحقائق الجوهرية المتعلقة بعلاقات الإنسان مع الناس الآخرين، وعلاقة الناس مع الكون، فإن هذه ، الحقائق يجب أن توجد بالضبط في قاعدة العلوم الإنسانية وبالخصوص في مناهجها» وعليه تبرز العلاقة بين المناهج النقدية وخلفيتها الفلسفية، وذلك ما سنحاول الكشف عنه فيما يتعلق بالمناهج السياقية. إن أهم الخلفيات الفلسفية التي يستند إليها النقد السياقي تتمثل في:
1 /فلسفة العلوم التجريبية : هي الفلسفة التي تتخذ من الواقع الخارجي أساسا لبناء الأحكام، وتـ مستندة إلى التجربة العلمية في وضع مبادئها وإقامة تصوراا، وقد وضع مبادئ التجريبية كل من "دافيد هيوم" و "جون لوك" و "هوبز" و "ليسينج"، و«اعتمدت على الحواس في إيصال المعرفة، وبنت قضاياها على التجربة، فالحواس منافذ المعرفة وا نرى الأشياء، ونسمعها، ونشمها، ونذوقها، ونلمسها، فتنطبع صور المحسوسات في الذهن، وتتولد منها ، ذلك أن التجربة تستند إلى ما هو ملاحظ ومشاهد، وقابل للقياس، وهو المسعى الذي تجسد في منظور النقد السياقي.
عمل رواد النقد السياقي على تحويل الشروط التجريبية المتعلقة بعلوم المادة من فيزياء وكيمياء، ومن علم الأحياء إلى ميدان النقد الأدبي، وذلك باستثمار كل ما يمكن أن يفك لغز الأدب، وقابل لأن يكون عينة تجريبية، ومنه «كان السبب في ازدهار المناهج السياقية في ميدان النقد الأدبي، رغبة كثير من مفكري القرن التاسع عشر ونقاده في أن يجعلوا النقد علميا بمعنى الكلمة، وذلك لسببين: الأول أم كانوا معجبين بدقة العلوم الطبيعية ويقينها، وكانت النظرية المسماة بالوضعية تشيد بالعلم بصفته أعظم إنجازات العقل الإنساني، ، 15 وأكثرها اتساقا،
والثاني أم كانوا رافضين للأحكام المغرقة في الذاتية والانطباعية» وعليه فالنقد السياقي يفتح سجل حياة المؤلف، وظروف بيئته، وما فيها من تغيرات سياس
ية، وثقافية، واجتماعية ليقيم أحكامه النقدية، إذ يصبح ذلك السجل بمثابة عينة تجريبية قابلة للملاحظة، والقياس، وتسمح بإصدار الأحكام العلمية حولها، شأن التجربة العلمية مع ما بينهما من فروق تقرب الحكم النقدي من العلمية وتبعده عن الذاتية، لأن التجربة الإبداعية إنسانية بطبيعتها، ولن تسلم قيادها للشروط الصارمة للتجربة العلمية مهما حاول النقاد ذلك.
2 /الفلسفة الوضعية إن استناد المناهج السياقية إلى أصول المنهج التجريبي من وصف وملاحظة و استنتاج، ووضع قوانين رياضية تضبط الشروط التجريبية، وتعبر عن النتائج المتحققة، يؤكد الصلة الوثيقة بين هذه المناهج والوضعية الفلسفية. جاءت الوضعية معززة لما قامت عليه التجريبية، واستبعدت كل تفكير لا يستمد عناصره الأولى من الحس والتجربة، ولذلك فالأفكار في الوضعية لا تظل شتاتا مبعثرة في الذهن، بل ترتبط بقانون التداعي، الذي يعد معادلا في أهميته لقانون الجاذبية » تطور الفكر الإنساني من منظور "أوغست كونت" فيلسوف الوضعية من الطور اللاهوتي (حيث يرجع تغيير الظواهر إلى قوى خارقة وكائنات فوق الطبيعة) إلى الطور الميتافيزيقي (حيث استبدلت القوى الخارقة إلى قوى مجردة تقدر على صنع كل الظواهر)، ثم الطور الوضعي، حيث انصرف التفكير من المطلق إلى الانشغال بدراسة الظواهر والبحث عن القوانين التي تحكم تلك الظواهر، وتكون الملاحظة والاستدلال هما سبيل معرفة تلك القوانين.
أثرت الوضعية في الإبداع الأدبي ونتج عن ذلك المذهب الطبيعي مع "إيميل زولا" ومن نحا نحوه في مجال الرواية والمسرح، وقادت الشعر إلى"البرناسية" التي مهدت السبيل أمام الشعر الرمزي والشعر التصويري، وبالمقابل «أثرت في النقد وقادته إلى ، والتي تجعل العمل الأدبي واقعة يمكن تفسيرها من خلال 19 التاريخية أو الواقعية النقدية» ما يرتبط ا من بيئة، وجنس، وعصر.
وذلك ما جعل النقد السياقي يركز على ما ينطوي عليه النص من قيم جذورها ممتدة في الواقع الثقافي، والاجتماعي، والنفسي، حتى يتسنى له الإحاطة بالتجربة الإبداعية، لأا ليست فعلا معزولا عن السياقات المحيطة ا، ومنه توصل النقاد السياقيون إلى «تقطيع النص إلى شكل ومحتوى، ويصرفون النظر عن الشكل ويقلبون في المحتوى، بحثا هناك عن مواد اجتماعية، وتاريخية، ولغوية، ودينية، وسياسية، وأيديولوجية، ومأثورات شعبية» ، إذ الأدب من منظور الفلسفة الوضعية «ليس شيئا مستقلا، وإنما نتيجة 20 ، ولدراسته وإقامة الأحكام النقدية حوله يجب ربطه بعلم الاجتماع، 21 أسباب غير أدبية» وعلم وصف الأجناس البشرية، وعلم النفس والفيزياء، وحتى الميتافيزيقا، ولذلك يأتي الأدب في الفلسفة الوضعية محددا دائما من الخارج، وهو المرتكز النقدي الذي ينطلق منه الدارسون للأدب من منظور سياقي.
3 /الفلسفات الاجتماعية والنفسية من الفلسفات الحديثة التي كان لها الدور الأساس في بلورة المفاهيم التي تأسس عليها النقد السياقي تبرز الفلسفة الاجتماعية، وفلسفة التحليل النفسي، فمن التحليل النفسي استعار النقد السياقي الفروض الأساسية عن عمل اللاشعور، وكيف يعبر عن رغباته الكامنة بالتداعي، وعن عمل الأحلام استعار فكرة النماذج العليا، أو محتوى اللاشعور الجمعي، ومن علم النفس الجماعي عند الجشطالتيين أخذ فكرة الكليات، ومن علماء النفس التجريبيين استمد المقدمات التجريبية عن السلوك، ومن علم النفس الإكلينيكي استقى المعلومات المتعلقة بالتعبيرات المرضية للعقل الإنساني، ومن علم النفس الاجتماعي تعرف على طرق الكشف عن سلوك الإنسان في الجماعات والمجتمعات الكبرى، كما استفاد مما تقدمه العلوم النفسية والعصبية المتصلة بعلم الغدد الصم.
واستعار النقد الأدبي الحديث في صورته السياقية من الفلسفات الاجتماعية عند « دوركايم" و "أوغست كونت" نظريات ومقدمات عن طبيعة المجتمع، والتغير الاجتماعي، . والصراع الاجتماعي، وصلة هذه بالأدب والظواهر الثقافية الأخرى ومن الفلسفة الماركسية استقى العلاقة الجدلية بين البنيتين الفوقية والتحتية، وأن الأدب في حقيقته انعكاس ولا يمكن فهم إحدى البنيتين في غياب الأخرى ولذلك «أصبحت الماركسية منذ بداية القرن التاسع عشر تمثل الأساس الصلب للتصور التاريخي للأدب ، من منظور شيوعي على أقل تقدير.
» ومن الفلسفة الوجودية استمد فكرة الالتزام التي ترى أن الأدب التزام بقضايا المجتمع، وأن المبدع قائد فكري في مجتمعه، وبالتالي فهو ملزم بقضايا الصراع الداخلي في مجتمعه، أو الصراعات الخارجية التي تواجهه، وعليه«اعتبرت الوجودية أن المشتغل بالفكر الأدبي إبداعا ونقدا، لا يستطيع بحال أن يتخذ موقفا سلبيا منها (أي من تلك الصراعات)، ولا أن يهرب من أداء وظيفته، وتحمل مسؤوليته تجاهها» وذلك ما يؤهل إبداعه للتعبير عن تلك الصراعات، وما يمنح الناقد فرصة الإمساك من خلال إحاطته بالسياقات المولدة للإبداع وهو يحاكم النص، لأن علاقة الإبداع بالنقد في الفلسفة الوجودية محكومة بثنائية الحرية والمسؤولية، وذلك أساس الحكم على الأعمال الأد
بية، إذ «تتحدد أقدار الناس وقيمهم طبقا لمدى قدرتهم على صناعة مشروعاتهم في الحياة، وطبقا لنوعية المواقف التي يتخذونها أثناء صياغتهم لهذه المشروعات ، ومنه يكون الناقد الوجودي مرتبطا بقيم الحياة، ويكون نصه سجلا لتلك المواقف.