تمثال ابن بطوطة في المتحف الصيني (الصحافة الصينية)
محمد شعبان أيوب
27/7/2024
ابن بطوطة في الصين.. انتبه للقبضة الأمنية ورأى أول عُملة ورقية في العالم
في السنوات الأخيرة أصبح حضور الصين في الشرق الأوسط والمنطقة العربية متناميًا لأسباب كثيرة، منها التوسع الاقتصادي وفائض الإنتاج الهائل الذي أصبحت الصين تتمتع به داخليا، وحاجتها المستمرة إلى أسواق جديدة لبضائعها، فضلا عن حاجتها المتزايدة إلى مصادر الطاقة التقليدية مثل النفط والغاز، وهي المصادر التي تمتاز بها دول الخليج وإيران؛ ولهذا السبب -مثلا- رأينا رعاية الصين لاتفاق تقارب ومصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران؛ على اعتبار أنه سيسهم في إيجاد بيئة هادئة في المنطقة تحتاج إليها الصين بشدة لاستمرار تدفقات الطاقة، كما أنه يعد مؤشرا على رغبة بكين في زيادة دورها السياسي خارج حدودها، وهو ما جعل الولايات المتحدة الأميركية ترى الصين المهدد الرئيسي للنظام العالمي بصيغته الحالية.
والأمر الآخر أن الوجود الصيني في المنطقة يتم من بوابة الشراكة الاقتصادية المتنامية، وانخراطها في مشاريع البنية التحتية وإدارة الموانئ، واستهدافها لمنطقة الشرق الأوسط بوصفها جزءا أساسيا ومحوريا من مشروعها "الحزام والطريق" الذي يعمل على إيجاد شراكة اقتصادية ضخمة بين الشرق الآسيوي وقلبه الصين وبين العالم الغربي وفي الطريق الواصل بينهما الشرق الأوسط؛ لذا تعتبر المنطقة العربية في الخليج والعراق وبلاد الشام ومصر جزءًا من هذه الإستراتيجية الصينية الطويلة الأمد.
اقرأ أيضا
list of 2 itemslist 1 of 2هل ما تزال أميركا "أعظم قوّة على وجه الأرض"؟
list 2 of 2هل تُسقط ثورة طلاب بنغلاديش عرش المرأة الحديدية؟
end of list
العلاقات العربية المبكرة مع الصين
رغم وجود الصين في أقصى الشرق بعيدا عن العالم العربي؛ فإن ثمة علاقات تاريخية ممتدة بينها وبين المنطقة العربية تعود إلى ألفي عام تقريبًا؛ فقد كتب عنها المؤرخون والرحالة المسلمون منذ فترة مبكرة، بل ورد في أقوالهم المشهورة في الحثّ على طلب العلم: "اطلبُوا العلم ولو في الصين". وذِكر الصين في التاريخ العربي القديم متواتر معروف، فالعلاقات العربية بالصين قديمة قبل مجيء الإسلام بِعدة قرون، فمنذ أن ظهر طريق الحرير قبل ألفي عام كانت البضائع الصينية مثل الحرير والخزف والمفروشات وغيرها تعرف طريقها إلى المناطق العربية.
كتاب "مروج الذهب" للمؤرخ الجغرافي العربي "أبو الحسن المسعودي" (الجزيرة)
وقبل أكثر من 1200 عام، وصل البحارة العربي أبو عبيد إلى مدينة قوانغتشو على متن سفينة انطلقت من ميناء صُحار العُماني؛ مما ترك أقدم سجل للملاحة من شبه الجزيرة العربية إلى الصين. هذا وقد سجّل المؤرخ الجغرافي العربي أبو الحسن المسعودي مشاهد التواصل البحري بين الصين والأقطار العربية في كتابه "مروج الذهب"، وكان مما قاله عن مدينة خانقوا أو الخنساء كما أطلقت عليها المصادر العربية، وهي التي تُعرف اليوم بـ"هانغتشو" عاصمة مقاطعة جيجيانغ القريبة من بحر جنوب الصين، مما قاله عنها: "مدينة خانقوا، وهي مدينة عظيمة على نَهر عظيم أكبر مِن دجلة يصبُّ إلى بحر الصين، وبين هذه المدينة وبين البحر مسيرة ستة أيام أو سبعة، تدخلُ هذا النهر سُفن التجار الواردة من بلاد البصرة وسيراف (جنوب إيران) وعُمان ومدن الهند… وغيرها من الممالك بالأمتعة والجهاز، وتقرُب إلى مدينة خانقوا، وفيها خلائق من الناس مسلمون ونصارى ويهود ومجوس، وغير ذلك من أهل الصين".
ووفقًا لهذا النص التاريخي الذي يعود إلى أكثر من ألف ومئة عام فقد وُجد المسلمون في الصين تجارًا وأهالي منذ العصر العباسي المبكر، وربما سبق وجودهم هذا النص التاريخي بفترة تعود إلى العصر الأموي؛ ولا سيما أن اللقاء الصيني العربي انبثق منذ أن استولى المسلمون على مدينة كاشغر على حدود الصين الغربية على يد قتيبة بن مسلم الباهلي عام 96هـ/715م.
وهناك ثلاث رحلات عربية مبكرة للصين في تاريخ الأدب الإسلامي في القرنين الثالث والرابع الهجريين قام بها كل من أبي زيد السيرافي سنة 237هـ/851م، وابن وهب القرشي بعد عام 270هـ/883م، وأبي دلف مسعر بن مهلهل سنة 331هـ/942م. ورحلتان من هذه الرحلات تؤكدان الوجود الإسلامي في جنوب وجنوب شرقي الصين بسبب كثافة التجار المسلمين القادمين من الجزيرة العربية وإيران والهند، ووجود جوامع وقضاة وأسواق عامرة، وعلاقات جيدة مع ملوك الصين.
الغرائب الصينية في رحلة ابن بطوطة
من أهم ما لفت نظر ابن بطوطة في الصين وجعله يبدأ بها حديثه؛ صناعة الخزف أو "فخار" الصيني وإعجابه الشديد به (شترستوك)
يُعد الرحالة الأشهر ابن بطوطة محمد بن عبد الله الطنجي من أهم من زاروا الصين وكتبوا عنها معلومات على قدر كبير من الأهمية؛ إذ كان قد زارها في القرن الرابع عشر الميلادي، وتناول أوضاعها السياسية والاقتصادية، حين قدم سفيرًا من لدن ملك الهند، يقول: "وإقليم الصين متسع كثير الخيرات والفواكه والزرع والذهب والفضة، لا يُضاهيه في ذلك إقليم من أقاليم الأرض، ويخترقه النهر المعروف بآب حياة معنى ذلك ماء الحياة، ويُسمّى أيضًا نهر السِّبر (السرو)، ومنبعه من جبل بقرب مدينة خان بالق (بكين)… ويمر في وسط الصين مسيرة ستة أشهر إلى أن ينتهي إلى صين الصين (كانتون)، تكتنفه القُرى والبساتين والأسواق كنيل مصر، إلا أن هذا أكثر عمارة، وعليه النواعير الكثيرة".
اشترك في
النشرة البريدية الأسبوعية: سياسة
حصاد سياسي من الجزيرة نت لأهم ملفات المنطقة والعالم.
اشترك الآن
عند قيامكم بالتسجيل، فهذا يعني موافقتكم على سياسة الخصوصية للشبكة
محمي بخدمة reCAPTCHA
ووفقًا للمؤرخ البريطاني "هاملتون جب" فنهر الحياة الذي ذكره ابن بطوطة كان في جزئه الأول القناة الكبيرة التي كانت تجري بين بكين ونهر اليانج تسي، وقد كان تُجّار الساحل يعرفون بصورة يشوبها الإبهام الشبكة المائية التي كانت تصل بين هانج تشاو واليانج تسي بالنهر الغربي وكانتون في جنوب الصين.
ومن أهم ما لفت نظر ابن بطوطة في الصين وجعله يبدأ بها حديثه؛ صناعة الخزف أو الفخار الصيني وإعجابه الشديد به، وهو الذي نسميه اليوم في منطقتنا العربية "الصيني"، فيقول إنه لا يُصنع إلا في مدينة الزيتون وهي "تسوان تشاو فو" إلى الشمال قليلا من فوتشو الحالية، ويُصنع أيضًا في مدينة صين كلان التي تُعرف اليوم بـ"الصين الجنوبية"، ويقرر ابن بطوطة أن هذا الفخار الصيني "يُحملُ إلى الهند وسائر الإقليم حتى يصل إلى بلادنا بالمغرب، وهو أبدعُ أنواع الفخّار". ومن عجائب الصين التي لفتت انتباه ابن بطوطة ضخامة بعض طيورها مثل الدجاج والديوك، حتى يقول: "لقد اشترينا دجاجة وأردنا طبخها فلم يسع لحمها في بُرمة واحدة، فجعلناه في برمتين".
وقد انتبه ابن بطوطة إلى أن الأسرة التي كانت تحكم الصين وقتها كانت أحد أفرع بيت جنكيز خان بعد استيلائه على الصين قبل قرن من مجيء ابن بطوطة إليها، وهم كما يصف: "كفار يعبدون الأصنام، ويحرقون موتاهم كما تفعل الهنود، وملك الصين تتريّ من ذُرية جنكيز خان، وفي كل مدينة من مدن الصين مدينة للمسلمين ينفردون بسكناهم، ولهم فيها المساجد لإقامة الجمعات وسواها، وهم مُنظّمون محترمون".
وقد رأينا أن الوجود الإسلامي في الصين قديم يعود إلى زمن الأمويين والعباسيين؛ ولا سيما من خلال التجار المسلمين الذين كانوا يفدون إليها ببضائعهم من البصرة وعُمان وإيران وغيرها، واستمرت هذه الوفود إلى الأزمنة اللاحقة، فقد ذكر ياقوت الحموي في موسوعته "معجم البلدان" أن بعض العلماء وتجار المسلمين الأندلسيين والمغاربة كانوا يصفون أنفسهم بـ"الصيني"؛ لأنهم سافروا إليها، واستقروا بها بعض الزمن للتجارة واللقاء بالجالية المسلمة بها، والتعرف على أحوالها، ومنهم "سعد الخير بن محمد بن سهل بن سعد الأنصاري الأندلسي (ت 541هـ)، كان يكتبُ لنفسه: الصيني؛ لأنّه كان قد سافر من المغرب إلى الصين، وكان فقيهًا صالحا كثير المال". ومثله: " حميد بن محمد بن علي أبو عمرو الشيباني يعرف بحميد الصيني، سمع السريّ بن خزيمة وأقرانه (من علماء الحديث في القرن الثالث الهجري)".
ومن أكثر ما لفت نظر ابن بطوطة أن أهل الصين كانوا من أوائل الأمم التي تعاملت بالعُملات الورقية متخلين عن الدينار الذهبي والدرهم الفضي، فهو يقول: "وأهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم، وجميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قطعًا، وإنما بيعهم وشراؤهم بقطع كاغدٍ (ورق)، كل قطعة منه بقدر الكفّ مطبوعة بطابع السُّلطان، وتُسمّى الخمس والعشرون قطعة منها بَالِشت وهي بمعنى الدينار عندنا، وإذا تمزّقت تلك الكواغد في يد إنسان حملها إلى دارٍ كدارِ السِّكّة (دار مصلحة العُملة) عندنا، فأخذَ عوضها جُددا، ووضع تلك، ولا يُعطي على ذلك أُجرة ولا سواها".
ويعلق المؤرخ حسين مؤنس على هذا الأمر بأن ذيوع العُملة الورقية دليل على الانحدار الاقتصادي، إذ تسرّبَ الذهب والفضة إلى الخارج، وفي أوقات الاضطراب والتدهور يُؤثر الناس الاحتفاظ بما لديهم من ذهب وفضّة، وقد أشار ابن بطوطة صراحة إلى ذلك عندما قال: "وجميعُ ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قِطعًا كما ذكرناه".
ويبدو أن الانحدار الاقتصادي الذي كانت تُعاني منه الصين وقتئذ استمرّ حتى فقدت العُملة الورقية قيمتها تمامًا وأوقف طباعتها سنة 1368م حين انتهى حكم المغول، وقام بعدهم حُكم أسرة مينغ، وهي أسرة صينية استمرت حتى عام 1644م، وفي عهد هذه الأسرة الصينية اضطُهد المسلمون، وتضاءل شأنهم بسبب استبداد أباطرة أسرة مينغ، وتعصبهم المطلق ضد الإسلام.
القبضة الأمنية الصينية وأحوال المسلمين بها
لفت انتباه ابن بطوطة حرص الصينيين على سلامة التجار الأجانب وأموالهم، وهو يُثني ثناء عظيما على الأمن في البلاد وحرص الحكومة على سلامة المسافرين في الطرقات (شترستوك)
ومن حُسن حظنا أن ابن بطوطة كان من أواخر الرحالة المسلمين الذين زاروا الصين في ذروة تسامحها مع المسلمين أيام أسرة يوان المغولية، وانتبه إلى الكثير من عاداتهم في الطعام والشراب والملبس؛ فهم "يأكلون لحوم الخنازير والكلاب ويبيعونها في أسواقهم، وهم أهل رفاهية وسعة عيش إلا أنهم لا يحتفلون في مطعم ولا ملبس، وترى التاجر الكبير منهم الذي لا تُحصى أمواله كثرة وعليه جبة قطن خشنة".
ومِن أبرز المهارات التي امتاز بها أصل الصين وفاقوا فيها العالم أجمع كما يقول ابن بطوطة أنهم رسّامون محترفون لا يضاهيهم في رسومهم أحد مثلهم، حتى إن أهل الصين رسموا ابن بطوطة وأصحابه من العرب ممن كانوا يلبسون ملابس أهل العراق يوم زاروا الصين وقد اندهش من سرعة رسمهم ودقتهم، يقول:
"وأهل الصين أعظم الأمم إحكاما للصناعات، وأشدهم إتقانا فيها، وذلك مشهور من حالهم، قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه، وأما التصوير فلا يُجاريهم أحد في إحكامه من الروم ولا من سواهم. فإن لهم فيه اقتدارًا عظيمًا، ومِن عَجيب ما شاهدتُ لهم مِن ذلك أنّي ما دخلتُ قطُّ مدينة مِن مُدنهم ثم عدتُ إليها إلا ورأيتُ صورتي وصُور أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد، موضوعة في الأسواق".
وقد رأى صورته حتى في قصر أحد حكّام المدن التي مرّ بها، وقد أخبره حين التقاه أنه هو الذي أمر الرسامين برسمه أثناء حضوره بين يديه. وقد انتبه ابن بطوطة للبُعد الأمني في رسم الصينيين للغُرباء الطارئين على بلدهم، يقول: "وتلك عادة لهم في تصوير كل مَن يمر بهم، وتنتهي حالهم في ذلك إلى أن الغريب إذا فعلَ ما يُوجب فراره عنهم بعثوا صورته إلى البلاد، وبُحث عنه فحيثما وُجد شَبه تلك الصورة أُخذ".
فهذا البُعد الأمني الدقيق والصارم عند الصينيين منذ أكثر من ثمانمئة عام يذكرنا اليوم بصرامة البُعد الأمني عند أحفادهم؛ فقد كانت ولا تزال الصين من أوائل الدول التي تنتشر فيها كاميرات المراقبة في كل زاوية وبناء في طول البلاد وعرضها، وتُعد الصين اليوم رائدة من رواد العالم في "المراقبة الجماعية" لسكانها والغرباء القادمين إليها من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتعرف على الوجوه، ومن ثم عرض سجلات المواطنين "الصالحين" منهم و"غير الصالحين"، وهذا ما انتبه إليه الرحالة الأكبر ابن بطوطة منذ قرون طويلة.
وامتدت الإجراءات الأمنية عند الصينيين في تلك الأزمنة إلى تسجيل أسماء القادمين والمغادرين بل وخُول لصاحب البحر أو رئيس "ديوان السفن والموانئ" مسؤولية رجوع المغادرين من الصينيين إلى الخارج، والتفتيش الدقيق للبضائع والتصريح بها، وإن ثبت أن مركبا "جنك" أخفى بضاعة واحدة، صودر المركب بما فيه من حمولة للحكومة الصينية التي يسميها ابن بطوطة "المخزن"، وهو الاسم الذي لا يزال يُطلق حتى يومنا هذا على القصر الملكي في المغرب.
كما لفت انتباهه حرص الصينيين على سلامة التجار الأجانب وأموالهم سواء أنزلوا ضيوفًا على تجّار من أصحابهم أم نزلوا في الفنادق، وهو يُثني ثناء عظيما على الأمن في البلاد وحرص الحكومة على سلامة المسافرين في الطرقات، قائلا: "وبلاد الصين آمنُ البلاد وأحسنها حالا للمسافر، فإن الإنسان يسافرُ منفردا مسيرة تسعة أشهر وتكون معه الأموال الطائلة فلا يخاف عليها، وترتيب ذلك أن لهم في كل منزل (كل مسافة معلومة) ببلادهم فندقا عليه حاكم يسكن به في جماعة من الفرسان والرجال، فإذا كان بعد المغرب أو العشاء الآخرة جاء الحاكم إلى الفندق ومعه كاتبه فكتب أسماء جميع من يبيتُ به من المسلمين وختم عليها، وأقفلَ باب الفندق عليهم فإذا كان بعد الصبح، جاء ومعه كاتبه فدعا كل إنسان باسمه، وكتب بها تفسيرًا (محضر أو وثيقة رسمية)، وبعث معهم من يوصّلهم إلى المنزل الثاني له ويأتيه ببراءة من حاكمه أن الجميع قد وصلوا إليه".
وحين نزل ابن بطوطة في مدينة كانتون بجنوب الصين وجد بها بلدة كاملة للمسلمين "ولهم بها المسجد الجامع والزاوية والسوق، ولهم قاض وشيخ، ولا بد في كل بلد من بلاد الإسلام من شيخ إسلام تكون أمور المسلمين كلها راجعة إليه، وقاض يقضي بينهم"، وقد استضافه كبار أعيان المسلمين في المدينة استضافة حافلة مدة 14 يومًا كاملة، ويبدو أن المسلمين في كل مدن الصين وقتئذ كانوا من أمم شتّى، لأن مستضيفه كان اسمه أوحد الدين السنجاري، وسنجار بلدة في أقصى شمال العراق، وسنرى غيره من القادمين من المغرب ووسط آسيا في تلك الرحلة.
وحين دخل ابن بطوطة مدينة قنجنفو وهو في طريقه إلى "خان بالق" وهي بكين عاصمة الصين والإمبراطورية الصينية القديمة، استقبله أيضا المسلمون فيها استقبالا حافلا ضخمًا، حيث خرج لاستقباله القاضي وشيخ الإسلام والتجار ومعهم الأعلام والطبول والأبواق والأنفار وأهل الطرب "أتونا بالخيل وركبنا ومشوا بين أيدينا"، ولا غرابة في ذلك فابن بطوطة كان سفيرا لملك الهند قادما لتأدية رسالة لخان الصين.
وفي مدينة قنجنفو التقى مواطنًا من أبناء بلده المغرب يُسمى قوام الدين السّبتي، ففرح به ابن بطوطة فرحًا هائلا حتى بكى؛ لأنه ذكره بموطنه وخلانه وأهله، في نهاية المطاف دخل ابن بطوطة بكين التي يسميها "خان بالق" وهي كما يقول: "من أعظم مدن الدنيا، وليست على ترتيب بلاد الصين في كون البساتين داخلها، وإنما هي كسائر البلدان والبساتين بخارجها، ومدينة السلطان بوسطها كالقصبة (كالقلعة)".
وكان ملك الصين حينئذ هو توجون تيمور (ت 1371م) وهو آخر أباطرة أسرة يوان المغولية، وخلفتها أسرة مينغ كما ذكرنا، وقد وقف ابن بطوطة مليا مع قصر ملك الصين واندهش من اتساعه وكثرة جنوده وموظفيه وفرسانه، فسلّم رسالة ملك الهند ثم عاد من حيث أتى، وتُعد هذه الرحلة واحدة من أهم وأدق المعلومات التاريخية التي قدمها الرحالة العربي الأشهر عن الصين بعيون عربية قبل ثمانمئة عام تقريبا، وهي تُجسّد عُمق العلاقات العربية الإسلامية بالصين منذ مئات السنين.
المصدر : الجزيرة