جماهير الفن صار لها استعداد لانهائي لكل شيء بمجرد النقر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • جماهير الفن صار لها استعداد لانهائي لكل شيء بمجرد النقر

    جماهير الفن صار لها استعداد لانهائي لكل شيء بمجرد النقر


    السينما الرقمية من أكثر الأشياء مأساوية وتفاهة.
    الخميس 2024/07/25
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    زمن الشاشة الشاملة

    تضاعفت الشاشات في كل مكان، بدءا بالكمبيوتر مرورا بالمحمول وآلة التصوير الرقمي، وانتهاء بكاميرات المراقبة وشاشات الشبكة العنكبوتية، شاشات الإعلانات، شاشات الفيديو والفيديو كليب والشاشات الرقمية ونظام تحديد المواقع العالمي وغيرها، ما خلق رهانات أخرى أمام الفنون ومنها السينما، وجعل من الحياة الفردية والجماعية تنقلب إلى داخل الشاشة بشكل شامل.

    يسعى كتاب “شاشة العالم.. ثقافة وسائل إعلام وسينما في عصر الحداثة الفائقة” لعالم الاجتماع جيل ليبوفيتسكي والكاتب المسرحي والأكاديمي جان سيرو، والذي ترجمته وقدمت له راوية صادق، وصدر عن المركز القومي للترجمة، للإجابة على العديد من التساؤلات منها: ما هي آثار هذا التكاثر للشاشات في مجال العلاقة بالعالم وبالآخرين، والعلاقة بالجسد والأحاسيس؟ أيّ شكل للحياة الثقافية والديمقراطية يعلنه انتصار الصورة الرقمية؟ أيّ مصير ينفتح على الفكر وعلى التعبير الفني؟ إلى أين تعاد هيكلة حياة المعاصر، عبر هذه الوفرة في الشاشات؟

    ويؤكد مؤلفا الكتاب أنه ينبغي ملاحظة أن ما يحدث مع عصر الشاشة الشاملة، هو بالفعل، تبدل ثقافي هائل يزداد تأثيره على مظاهر الإبداع وعلى الوجود نفسه.
    سينما شاملة


    يضيف المؤلفان أن ثمة سؤالا قاسيا ولا مفر منه: هل تعزف حضارة الشاشة موسيقى وفاة السينما؟ هل هي وفاتها المبرمجة، مثلما تنبأ الذين ـ بين غروب الأيديولوجيات ونهاية التاريخ ـ يحسبون حساب اختفاءات نهاية القرن؟ فخلال غليان الثمانينات، لم يكن عدد من المراقبين والسينمائيين واثقا من مستقبل السينما. والحق أنه مع انتشار البث التلفزيوني وظهور شرائط الفيديو، بدأنا نرى فراغ صالات العرض السينمائي وغلق المئات منها.



    لقد انهار إنتاج الأفلام الطويلة في ألمانيا وبريطانيا العظمى وإيطاليا. وأعيد شراء أستوديوهات هوليوود بواسطة مستثمرين أجانب وشركات متعددة القوميات، مصدر ربحها الأساسي من خارج السينما. وشهدت تلك الفترة اختفاء صالات الفن التجريبي وانتصار منطق شباك التذاكر وأفلام النجاح التجاري الساحق والصيغ المعيارية والآمنة (أفلام الحركة، والأفلام المسلسلة، والأفلام المعادة). والسؤال الحاسم يطرح نفسه: هل تستطيع السينما البقاء على قيد الحياة مع صعود صناعات برامج وإستراتيجيات الوسائط المتعددة؟ ماذا يتبقى من الفن السابع عندما تفوق الضرورات التجارية الاعتبارات الأخرى؟

    ويوضحان أن مؤلفهما هذا ضد الفكرة الحزينة عن “بعد السينما” التي ما تزال تغذي الخطاب النقدي. فالسينما الحقيقية ليست وراءنا؛ فهي لا تكف عن إعادة اختراع نفسها. فالسينما حتى وهي تواجه تحديات جديدة في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك تظل فنا ذا حيوية جبارة، فإبداعها لم ينضب معينه. وشاشة الكل ليست قبر السينما، فقد أثبتت ـ أكثر من أي وقت مضى ـ قدرتها على الإبداع، التنوع والحيوية.

    يشهد على ذلك أولا عدد الأفلام المعروضة، ففي عام 2005، فقط أنتجت أستوديوهات هوليوود 699 فيلما وفرنسا 240 فيلما، بينما إسبانيا تنتج 142 وإنجلترا 124 وألمانيا 103 وإيطاليا 98. فالانحسار لا يميزنا وإنما تكاثر الأعمال الجديدة، فقد أخرجت هوليوود منذ عام 1978، 138 فيلما فقط وخلال عامي 1988 ـ 1999 ارتفع متوسط عدد الأفلام الطويلة إلى 385 فيلما. زاد عدد الأفلام التي توزع في فرنسا خلال عامي 1996 ـ 2005، بنسبة 38 في المئة، بينما بلغت نسبة النسخ الموزعة 105 في المئة، والآن تطرح أستوديوهات فرنسا ضعف عدد الأفلام التي كانت تنتجها منذ عشر سنوات.

    ويلفت المؤلفان إلى أنه تحت وطأة مجتمع يتزايد تجزؤه أصبحت السينما تهتم من الآن فصاعدا بمشاكل وقضايا استبعدت في ما مضى أو تمت معالجتها في قوالب نمطية وتقليدية للغاية. وتزايدت معالجة الأفلام للأطفال والمراهقين والعجائز، والأزواج، والمطلقين والعزاب، والمثليين، والمثليات، والسود وذوي الإعاقات والمنحرفين وأكثر أنماط الحياة انحرافا تتم معالجتها لذاتها، بينما ازداد عدد الأفلام التي تخرجها النساء؛ فشهد النوع التسجيلي حياة ثانية، ولم تعد أفلام الرسوم المتحركة تكتفي بجمهور الصغار فأصبحت تتوجه إلى الكبار، وتقوض أفلام أساطير الأمة الكبرى، أساطير البيض وذوي البشرة الحمراء ورعاة البقر. ما يلوح هو سينما شاملة متشظية، متعددة الهوية ومتعددة الثقافات. والتأكيد على أن السينما يسودها امتثال موحد للأعراف هو إعلان لصيغة جاهزة، هي نفسها صيغة وممتثلة للأعراف.

    ويؤكدان أنه منذ الثمانينات بينما حيوية النزعة الفردية والعولمة تقلب نظام العالم، دخلت السينما مرحلة جديدة من مراحل تطورها نحن نسميها هنا حداثة فائقة، تردد صدى الحداثة الجديدة التي تتشكل. ويتميز التبادل فائق الحداثة بتأثيره، في حركة متزامنة وشاملة، على التكنولوجيات وعلى الاقتصاد والثقافة، على الاستهلاك والجماليات. وتتبع السينما نفس الفاعلية. ففي اللحظة التي تأكدت فيها الرأسمالية الفائقة والإعلام الفائق والاستهلاك الفائق المعولم بدأت السينما، على وجه التحديد، مهنتها باعتبارها شاشة شاملة ينبغي إدراكها بعدة معان تتداخل ـ فضلا عن ذلك ـ في عدة مظاهر.

    السينما تشير في معناها الأوسع إلى القوة العالمية الجديدة لمجال الشاشة، إلى الحالة المعممة الخاصة بالشاشة والممكنة بفضل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجديدة، ها هو زمن شاشة العالم ـ شاشة الكل ـ المعاصرة لشبكة الشبكات، لكن أيضا شاشات المراقبة، وشاشات المعلومات، الشاشة للمرح، شاشات خلفية. الفن (الفن الرقمي) والموسيقى (الموسيقى والفيديو)، والألعاب (لعبة فيديو)، الإعلان والحوار، التصوير الفوتوغرافي والمعرفة؛ لا شيء ينجو تماما من الشباك الرقمية لسيادة الشاشة الجديدة. الحياة كلها وعلاقتنا مع العالم ومع الآخرين يتزايد ارتباطها بوسائل الإعلام عبر واجهات عديدة لا تكف الشاشات من خلالها عن التلاقي والاتصال والتواصل.

    ويتابع ليبوفيتسكي وسيرو “لكن الشاشة الشاملة تعني أيضا حالة سينما العالم في ساعة العولمة الاقتصادية وتدويل الاستثمارات المالية. فرغم عدم جدة حركة رؤوس الأموال الأجنبية على الساحة الهوليوودية، فإن العصر الحالي يمثل نقطة تحول بسبب الكثافة الكبيرة للظاهرة. أولا أصبح عدد من الشركات الكبرى في هوليوود خلال العقدين الأخيرين تحت سيطرة جماعات أوروبية وأسترالية ويابانية ذات منحى عالمي. كما يتصاعد تمويل الأفلام الأميركية برؤوس أموال أجنبية، فتدفق الأموال على نحو متزايد من اليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا يمول هوليوود من خلال عقود الإنتاج المشترك. وفي هذا السياق الدولي لرؤوس الأموال يمثل تصدير الأفلام أكثر من نصف عائد الأستوديوهات الكبرى “هوليوود الشاملة”، شاشة عالمية.
    الفورية والتفاعلية



    جيل ليبوفيتسكي وجان سيرو ويوضحان أن مؤلفهما ضد الفكرة الحزينة عن "بعد السينما" التي ما تزال تغذي الخطاب النقدي


    يشير المؤلفان إلى أن السينما التي كانت دائما من إحدى تقنيات الإيهام، تتفرغ الآن لفجور هاوية الافتراضي، فمجالات الخيالي الشاسعة، المذهل، المتوحش، السحري تستثمرها أفلام تدفع دائما إلى الأبعد، زمن ومكان الخيال العلمي، رعب الوحوش السابقة لعهد الطوفان أو المستقبلية، ضخامة شيء من قبيل “هالك” (الرجل الأخضر) أو عمليات التجزئة المصغرة لكائنات الـ”مينيمويير”، فاللعب بالتكنولوجيات يتيح هنا تجسيد أكثر الأحلام جنونا، وأكثر التخيلات غير القابلة للتصديق، وأكثر الاختراعات هذيانا، والمؤثرات الخاصة التي تلعب دور المحفزات. نحن هنا في سينما تؤثر لا من خلال الأحداث التي تحكي وإنما من خلال تأثير الألوان والأصوات، الأشكال والإيقاعات التي تتوجه إلى من أطلق عليه اسم “متفرج جديد”.

    ويلاحظان أن الأشكال الفنية تنبني وتتحول على نحو متزايد وفقا للتقنيات الرقمية؛ فكل يوم يتم حشد الكمبيوتر وشاشته في أكثر مجالات الإبداع والاتصال والمعلومات تنوعا. ولأن الرقمي يستطيع محاكاة التصوير الزيتي، والتصوير الضوئي والسينما والفيديو والعمارة والصوت والموسيقى والرقص، ويمكنه تطبيقه على أغلب الأنشطة الإنسانية، فهو بالفعل التقنية الشاملة والعالمية لزمن الشاشة الشاملة.

    وفي هذا السياق يبحث فن الإنترنت عن طرق جديدة لخلق حوار جديد بين الكمبيوتر والجمهور، وصقل الأجهزة وتوريط جسد المتفرج نفسه. لكن لا ينبغي لهذه الأهداف التجريبية أن تخفي خضوع الفن الرقمي لمعدات تخلق مزيدا من التباعد والفتور وليس المشاركة الحساسة والخيالية. وأيا كانت النوايا الفنية المعلنة، فشاشة العرض الرقمي لمراكز الفن المعاصر تنقل مسعى تجريبيا أكثر من كونه تجربة حسية، نظام من اللامادية المجردة أكثر ملموسا وخيالية. نجد فيها ابتكارات تقنية عديدة، والقليل من قوة التوصيل العاطفي.

    ويرى ليبوفيتسكي وسيرو أن مسألة الإبداع الشخصي من خلال الشاشة، اتخذت بعدا غير مسبوق، لم تغب أهميته عن الجهات الفاعلة في عالم الفن والثقافة والإعلام والدعاية، الذين يشهدون صعود مبدعين يتمتعون من الآن بوسائل جديدة ليس للخلق فحسب، وإنما للتعارف أيضا، فالجيل الذي يتراوح عمره بين 15 ـ 30 عاما، المخلص للأداة الرقمية والكاميرا، يجد فيهما وسائل للتعبير تتناول كافة الأشكال الفنية: الموسيقى، الصورة، الجرافيك، الرسوم المصورة، الفيديو والسينما طبعا. إنه يلتفت ـ وقد تغذى هو نفسه بثقافة الصورة حيث تحتل السينما مكانا رئيسيا ـ إلى الشبكة ويهجر الأفلام القصيرة الكلاسيكية ـ السينما أو الفيديو ـ لصالح شبكة الكمبيوتر، بتكلفتها الأكثر تواضعا وقدرتها التي لا تقارن في الانتشار.
    الإبداع الشخصي من خلال الشاشة اتخذ بعدا غير مسبوق لم تغب أهميته عن الجهات الفاعلة في الفن والثقافة والإعلام

    بالإضافة إلى بعض العروض في القاعات أو المهرجانات؛ مئة مليون شخص يشاهدون فيديوهات يوتيوب و65000 فيديو جديد تتم إضافتها يوميا. أبدا لم يتم إنتاج وتوزيع مشاهد سينمائية، وأبدا لم يتم تسجيل كل هذا الكم من الفيديو “فن وتجريب”، وأبدا لم يكن جمهوره عالميا فورا إلى هذا الحد. ونشهد على نحو متواز مع هذا الهوس السينمائي الإبداعي، سينما ذات نزعة نرجسية وولع مرضي، تشهد على ذلك الاستخدامات المتطرفة لكاميرا الشبكة التي تصور وتنشر على الهواء، 24 ساعة على 24 ساعة، خصوصيات بعض الأفراد.

    عرض مفرط لحياة المرء في أدق تفاصيلها، “تسام” يومي في مشهد رائع؛ فشاشة الموبايل وخط الإنترنت تسمح بالمشاعر الاستعراضية والنرجسية الفائقة بالظهور على نطاق لم يكن معروفا حتى الآن. لكنها على نحو خاص نوع من السينما، رد الفعل الذي يسجل توسعا هائلا. ففي وقتنا الراهن لا يتوقف الناس عن تصوير بيئتهم؛ كل شيء، اليوم، يصبح موضوعا للسينما الرقمية، من أكثر الأشياء مأساوية إلى أكثرها تفاهة.

    ويعتقد ليبوفيتسكي وسيرو بأننا دخلنا الآن مع كمبيوتر الجمهور العريض، لحظة ثالثة. الفورية والتفاعلية، الاستعداد اللانهائي لكل شيء بمجرد النقر، مظاهر متعددة تولد إغراء جديدا، قوة جديدة للشاشة مشيدة على سطح معمم. وفي يوم من الأيام، ربما يفقد ما هو غير متاح على الشاشة أهميته ووجوده لجماعة كاملة من البشر، فكل شيء تقريبا سيتم البحث عنه على الشاشة وسيحيل إليها. أن تكون على الشاشة أو لا تكون.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    محمد الحمامصي
    كاتب مصري
يعمل...
X