البروفيسور و المجنون
The Professor And The Madman
ما أن صدرت رواية ( جرّاح كروثورن ـThe Surgeon of Crowthorne ) للكاتب البريطاني " سايمون ونشستر " عام 1998 ، حتى بادر الممثل و المخرج الأمريكي " مِل جبسون " الى شراء حقوقها . و ظلت الرواية تختمر لمدة عشرين عاماً حتى ظهرت كفيلم عام ( 2019 ) . و كان " جبسون " قد أحال الرواية الى مؤلفها نفسه " سايمون ونشستر " و الى " جون بورمان " لتحويلها الى سيناريو فيلم سينمائي ليظهر تحت عنوان ( البروفيسور و المجنون ـThe Professor And The Madman ) .
و كان التصوير قد بدأ عام 2016 ، ولكنه توقف بسبب مشاكل حصلت بين شركة الإنتاج ( Voltage Pictures ) و بين " مِل جبسون " صاحب المشروع ، و الذي جَسّد في الفيلم دورَ البروفيسور سير " جيمس موراي " ، محرر قاموس ( اكسفورد ) الإنجليزي الضخم الشهير . و سببُ هذه المشاكل ، حسبَما يرى " جبسون " ، هو تصرف الشركة ببعض جوانب الفيلم ، كما أن " جبسون " احتج على تصوير الفيلم في جامعة صغيرة في إيرلندا ، و كان يرى أنه يجب أن يتم ذلك في جامعة ( إكسفورد ) ذاتها ، في لندن ، ولكن مدير الشركة ردّ بأن ذلك سيكلف 2.5 مليون دولار زيادةً على الميزانية المقررة ، و التي تم تجاوزها أصلاً ، و وقف المخرج " فرهاد سافينا " الى جانب " مِل جبسون " الذي رفع دعوىً قضائية ضد الشركة في يوليو / تموز عام 2017 ، ولكن القاضية " روث كران " ، من المحكمة العليا في لوس أنجلس ، ردت الدعوى في 19 يونيو / حزيران من العام التالي ( 2018 ) . و كانت هذه بعضاً من المشاكل التي أخرت تصوير الفيلم . و في يناير / كانون الثاني 2019 حصلت شركة ( Vertical Entertainment ) على حقوق التوزيع ، فتم إطلاق الفيلم في الثالث من أبريل ، نيسان 2019 .
لقد مرت دراما الفيلم بثلاث مراحل حتى وصلت الينا :
1 ـ الواقع ، الذي حصلت فيه الأحداث الحقيقية . 2 ـ رواية ( جرّاح كروثورن ) التي نقلت هذه الأحداث بلغة أدبية . 3 ـ الفيلم الذي نقلها بلغة سينمائية على يد المخرج الأمريكي / الإيراني " فرهاد سافينيا " الذي أثبت أنه مخرجٌ هوليوودي بامتياز ، وهذا ثاني تعاون له مع " مِل جبسون " بعد فيلم ( آبوكاليتو ـ Apocalyto ) عام 2006 ، و الذي كتب السيناريو له . ولكن هذا هو الفيلم الأول الذي جمع بين النجمين السينمائيين القديرين " مِل جبسون " و " شون بن " الذي اضطلع بتجسيد شخصية الجرّاح " وليم تشستر ماينور " ، و كلاهما حاصلٌ على جائزة الأوسكار : " ميل جبسون " حصل عليها عام 1996 كأفضل مخرج عن فيلم ( قلبٌ شجاع ـ Braveheart ) ، و حصل عليها " شون بن " كأفضل ممثل رئيسي مرتين ، المرة الأولى عام 2003 عن دوره فيلم( نهرٌ غامض Mystic River ) و المرة الثانية عام 2008 عن دوره الجريء في فيلم ( ميلك Milk ) . و كان من المحتمل جداً ترشيحه أو فوزه بأوسكار 2020 عن دوره المميز في هذا الفيلم ( البروفيسور و المجنون ) ، فقد قدم أداءً باهراً يفوق الوصف ، و كانت فرصة " شون بن " أفضل من فرصة " مِل جبسون " بخصوص الترشيح أو الفوز بالأوسكار ، ذلك أن " بن " جسّد دوراً معقداً و صعباً و قدّم أداءً تعبيرياً عالياً ، فيما كان أداءُ " جبسون " تمثيلياً خالياً من التعبير ، لأن الشخصية التي جسدها في الفيلم كانت هكذا ، كما أن لديه متاعب مع أكاديمية الأوسكار ، و لديه مشاكل مع اليهود المهيمنين على هوليوود ، بسبب فيلم ( آلام المسيح ـThe Passion of the Christ ) الذي كتبه و أنتجه و أخرجه عام 2004 ، و الذي يعتبره اليهود معادياً للسامية ، و في عام 2006 كان " مِل جبسون " يقود سيارته مخموراً ، و عندما علم أن ضابط الشرطة الذي ألقى القبض عليه كان يهودياً أحتد و أطلق عبارة حادة عندما قال ( اليهود سببُ البلاء في العالم ، وسببُ كل الحروب ) ، و لعل " جبسون " يدرك أن الأوسكار باتت بعيدة عنه ، ولكنه ـ على الرغم من ذلك ـ يجتهد دائماً في تقديم أفلام تتفوق على سابقاتها ، تمثيلاً أو اخراجاً . و هكذا لم يترشح حتى لا فيلم ( البروفيسور و المجنون ) و لا " شون بن " و لا " مِلْ جبسون " .
يرتكز فيلم ( البروفيسور و المجنون ) على نقطتين غير ملموستين ، هما ( الذكرى ) و ( الكلمة ) ، فالمجنون ، دكتور " ماينور " تعذبه ذكرى طبعِهِ وَسماً بقطعة حديد ساخنة على الخد الأيسر لجندي إسمه " ديكلان رايلي " هاربٍ من الجيش أثناء الحرب الأهلية الأمريكية التي وقعت بين عامي 1861 و 1865 ، و التي كان " ماينور " طبيباً فيها برتبة نقيب ، و هو يتذكر إسم ذلك الجندي جيداً ، و يذكره أمام قاضي المحكمة ، و ذكرى هذا الوسم تطارده في هيأة تأنيب ضمير يدفعه الى الظن بأن الشاب الموسوم يلاحقه لينتقم منه ، لذلك هرب من الولايات المتحدة الى بريطانيا ، بعد أن تقاعد من الجيش .
تبدأ أحداث الفيلم في لندن عام 1872 ، باقتياد " ماينور " الى المحكمة ، بعد أن طارد شخصاً و قتله ، ثم تبين أنه ليس الشخص الذي تطارده ذكراه ، و لأن المحكمة تأكدت من أن القاتل شخصٌ مختل عقلياً ، أودعته الى مصحة عقلية في مستشفى (كروثورن ) ، و هي مصحّة عقلية خاصة بالمجانين الخطرين ، تقع في مدينة ( برودمور ) ، و تُعرف عادةً بإسم ( سجن برودمور ) ، ولكن " ماينور " يعلن في المحكمة أنه ليس مجنوناً .
فهل كان مجنوناً حقاً ؟ إذا كان مجنوناً ، كيف أقدم على إنجاز عملٍ معرفيٍ جبار طَوال عشرين عاماً و هو في المصحة ، فدخل إسمُه التاريخ ؟
التاريخ الشخصي للدكتور " ماينور " يذكر أنه ولد في العام 1834 في جزيرة ( سيلان ) ، التي هي ( سريلانكا ) اليوم ، حيث كان والدُه مُبشراً ، و عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره أرسله الى الولايات المتحدة لدراسة الطب في جامعة ( ييل ) الطبية ، فتخرج فيها عام 1863 ، و قد تخصص بالتشريح المقارن . و في تلك الفترة كانت الحربُ الأهلية الأمريكية في سنتها الثانية ، فالتحق في العام التالي بوحدة طبية في الجيش . ولكن لوحظت عليه كثرة التردد على دور البغاء و قضاء معظم وقته مع المومسات ، فتم نقله عام 1867 الى فلوريدا ، في مكان بعيد عن دور البغاء . و في العام التالي بدأ نوعٌ من الخلل يظهرفي تصرفاته ، ثم تحول سلوكُهُ نحو ما يشيرالى اضطرابٍ عقليٍ بَيّن ، فأرسله الجيشُ الى مستشفى ( سانت أليزابِث ) ، و بعد عام و نصف العام لم يظهر أي تقدم في علاجه ، و في عام 1871 وصل الى لندن هارباً من ذكرياته ، و طالباً اللجوء الى انكلترا ، بعد أن تقاعد من الجيش . و في لندن عاد الى عادته السابقة في ارتياد دور البغاء و صُحبة المومسات ، و بعد عام من وجوده في لندن ، و في إحدى نوباته ، راح يطارد شخصاً اسمه " جورج ميريت " ، فأرداه قتيلاً ، ظناً منه أنه الشاب الموسوم الذي يظن أنه يلاحقه . و من هذه الحادثة يبدأ فيلم ( البروفيسور و المجنون ) .
في الفترة إياها كان ثمة رجلٌ سكوتلاندي الأصل ، مثقف و متوازن و يرعى عائلته ، كان يعمل منذ سنوات في بحثِ معرفيِ حول ( الكلمة ) في اللغة الإنجليزية ، و هذه هي النقطة الثانية غير الملموسة التي يرتكز عليها الفيلم : ( الكلمة ) .
هذا الرجل إسمه " جيمس موراي " ، مصرفيٌ و باحث في اللغة ، إبنُ بائع أقمشة ، عصامي ، لا يمتلك مؤهلاً علمياً ، فقد ترك المدرسة في الرابعة عشرة من عمره ليعيل نفسه ، ولكنه علـّم نفسَه بنفسِهِ ، فكان ضليعاً في علم اللغة . تقدم الى جامعة ( اكسفورد ) العريقة ليضع قاموس اللغة الإنجليزية ، الذي عُرف فيما بعد بإسم ( قاموس اكسفورد ) ، غير أن المعنيين في الجامعة يخبرونه أن جيشاً من أساتذة الجامعة عملوا على هذا المشروع على مدى عشرين عاماً فلم يفلحوا ، فأخبرهم أن لديه خبرة كافية في هذا الميدان ، فهو يتكلم اللاتينية و اليونانية بطلاقة ، و لديه معرفة بلغات كثيرة يعددها أمام اللجنة ، منها العربية و العبرية .
كانت النقاط الأساسية التي تركز عليها جامعة اكسفورد تتلخص في أن اللغة تتطور أسرعَ من مستخدميها ، و أن الجانب المهم هو أن اللغة الإنجليزية تنتشر في جغرافيا واسعة مع توسع سيطرة بريطانيا العظمى على مستعمرات جديدة عبر البحار ، و حسب تعبير " فريدي " ، أحد موفدي الجامعة ـ مثل دوره " ستيف كوجان " ـ فإن اللغة الإنجليزية ( قد شهرت أسلحتها و شحذت حرابَها و أعلنت أنها لن تُروّض ) و أن جحفلَ الأكاديميين قد هُزم أمام اللغة ، لذلك فأنه يعلن أمام زملائه أن السيد " موراي " هو الحل و الخلاص . ولكنهم إذ تيقنوا أنهم أمام مجمع لغوي في هيأة رجل ، كان لابد لهم أن يجروا له اختباراً ، فسألوه عن بعض المفردات بطريقة عشوائية ، فأعطى معانيها المتعددة و أرجعها الى جذورها و أصولها .
و عندما سألوه عن الفترة الزمنية التي سيستغرقها عمله ، لم يعط جواباً قاطعاً ، ولكن السيد " جميس موراي " مات بعد عمله في القاموس لمدة عشرين عاماً .. و لم يكتمل هذا القاموس إلا بعد أن استغرق سبعين عاماً من العمل المتواصل.
اقترح السيد " موراي " إرسالَ رسائل الى كل من يتحدث الإنجليزية ، ليرسلوا اليه ما يجدون من مفردات تُستخدم في اللغة الإنجليزية ، في الكلام و في الكتابة ، مع جذورها و انشطاراتها و معانيها و استخداماتها ، و هكذا وصلت إحدى هذه الرسائل الى دكتور " ماينور " في سجنه . هنا بدا " ماينور " أنه يمتلك عقلاً نصفه مجنونٌ مُظلم و نصفه منيرٌ صاحٍ .. بل متوثب . فوجد في دعوة " موراي " فرصةً لتغليب النصفِ المنير على النصف المظلم . فعمل على تزويد " موراي " بعشرة آلاف مفردة ، مع جذورها و أصولها و تحولاتها و انشطاراتها و استخداماتها . في هذه الأثناء صحى ضميرُه المعذّب نحو عائلة ضحيته " جورج ميريت " ، فطلب من إدارة السجن أن يذهب قسمٌ من راتبه التقاعدي من الجيش الأمريكي الى السيدة " ميريت " ، أرملة ضحيته ، التي مثلت دورَها الممثلة البريطانية " ناتالي دورمر " ، التي اشتهرت في دور " كوين مارغري " في مسلسل ( صراع العروش ) الشهير . و خطوة " ماينور " هذه تقود الى علاقة بينهما ، ولكنه يشعر أنه ، بهذه العلاقة ، يكون قد قتل زوجها مرتين ، و هنا يعود الى الجانب المظلم من عقله حين يعمد الى قطع عضوه الذكري كتكفير عن ذنبه المُضاعَف ، و قد تكون هذه إضافات سينمائية خارج النص الروائي أو خارج الحدث الواقعي لإضفاء نكهة درامية على الفيلم .
الحقيقة ، إن مشروع القاموس لم يبدأ من جامعة اكسفورد ، و بدايته لم تكن على يد " جيمس موراي " ( 1837 ـ 1915 ) ، بل هو امتدادٌ لمشروعٍ اشتغل عليه ثلاثة مثقفين بريطانيين كانوا مهمومين بثراء اللغة الإنجليزية و الحفاظ عليه و تطويره ، و هم : " ريتشارد تشيفينيكس ترينش " ( 1807 ـ 1868 ) و " هربرت كوليرج " ( 1830 ـ 1861 ) و " فريدريك جيمس فيرنيفال " (1808 ـ 1864 ) و هذا الأخير هو الذي أحال القاموس الى " جيمس موراي " بعد الشعور بعدم قدرته على الوصول الى الكمال في هذا المشروع ، الذي هو في حقيقته مشروعٌ وطنيٌ يحفظ تلاحمَ الروح البريطانية من خلال اللغة .
هذا الفيلم (البروفيسور و المجنون ـThe Professor And The Madman ) يمثل تحفة من تُحف السينما ، يستحق أكثر من مشاهدة ، و يستحق الجوائز و التكريم ، و سيبقى راسخاً في ذاكرة السينما .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
The Professor And The Madman
ما أن صدرت رواية ( جرّاح كروثورن ـThe Surgeon of Crowthorne ) للكاتب البريطاني " سايمون ونشستر " عام 1998 ، حتى بادر الممثل و المخرج الأمريكي " مِل جبسون " الى شراء حقوقها . و ظلت الرواية تختمر لمدة عشرين عاماً حتى ظهرت كفيلم عام ( 2019 ) . و كان " جبسون " قد أحال الرواية الى مؤلفها نفسه " سايمون ونشستر " و الى " جون بورمان " لتحويلها الى سيناريو فيلم سينمائي ليظهر تحت عنوان ( البروفيسور و المجنون ـThe Professor And The Madman ) .
و كان التصوير قد بدأ عام 2016 ، ولكنه توقف بسبب مشاكل حصلت بين شركة الإنتاج ( Voltage Pictures ) و بين " مِل جبسون " صاحب المشروع ، و الذي جَسّد في الفيلم دورَ البروفيسور سير " جيمس موراي " ، محرر قاموس ( اكسفورد ) الإنجليزي الضخم الشهير . و سببُ هذه المشاكل ، حسبَما يرى " جبسون " ، هو تصرف الشركة ببعض جوانب الفيلم ، كما أن " جبسون " احتج على تصوير الفيلم في جامعة صغيرة في إيرلندا ، و كان يرى أنه يجب أن يتم ذلك في جامعة ( إكسفورد ) ذاتها ، في لندن ، ولكن مدير الشركة ردّ بأن ذلك سيكلف 2.5 مليون دولار زيادةً على الميزانية المقررة ، و التي تم تجاوزها أصلاً ، و وقف المخرج " فرهاد سافينا " الى جانب " مِل جبسون " الذي رفع دعوىً قضائية ضد الشركة في يوليو / تموز عام 2017 ، ولكن القاضية " روث كران " ، من المحكمة العليا في لوس أنجلس ، ردت الدعوى في 19 يونيو / حزيران من العام التالي ( 2018 ) . و كانت هذه بعضاً من المشاكل التي أخرت تصوير الفيلم . و في يناير / كانون الثاني 2019 حصلت شركة ( Vertical Entertainment ) على حقوق التوزيع ، فتم إطلاق الفيلم في الثالث من أبريل ، نيسان 2019 .
لقد مرت دراما الفيلم بثلاث مراحل حتى وصلت الينا :
1 ـ الواقع ، الذي حصلت فيه الأحداث الحقيقية . 2 ـ رواية ( جرّاح كروثورن ) التي نقلت هذه الأحداث بلغة أدبية . 3 ـ الفيلم الذي نقلها بلغة سينمائية على يد المخرج الأمريكي / الإيراني " فرهاد سافينيا " الذي أثبت أنه مخرجٌ هوليوودي بامتياز ، وهذا ثاني تعاون له مع " مِل جبسون " بعد فيلم ( آبوكاليتو ـ Apocalyto ) عام 2006 ، و الذي كتب السيناريو له . ولكن هذا هو الفيلم الأول الذي جمع بين النجمين السينمائيين القديرين " مِل جبسون " و " شون بن " الذي اضطلع بتجسيد شخصية الجرّاح " وليم تشستر ماينور " ، و كلاهما حاصلٌ على جائزة الأوسكار : " ميل جبسون " حصل عليها عام 1996 كأفضل مخرج عن فيلم ( قلبٌ شجاع ـ Braveheart ) ، و حصل عليها " شون بن " كأفضل ممثل رئيسي مرتين ، المرة الأولى عام 2003 عن دوره فيلم( نهرٌ غامض Mystic River ) و المرة الثانية عام 2008 عن دوره الجريء في فيلم ( ميلك Milk ) . و كان من المحتمل جداً ترشيحه أو فوزه بأوسكار 2020 عن دوره المميز في هذا الفيلم ( البروفيسور و المجنون ) ، فقد قدم أداءً باهراً يفوق الوصف ، و كانت فرصة " شون بن " أفضل من فرصة " مِل جبسون " بخصوص الترشيح أو الفوز بالأوسكار ، ذلك أن " بن " جسّد دوراً معقداً و صعباً و قدّم أداءً تعبيرياً عالياً ، فيما كان أداءُ " جبسون " تمثيلياً خالياً من التعبير ، لأن الشخصية التي جسدها في الفيلم كانت هكذا ، كما أن لديه متاعب مع أكاديمية الأوسكار ، و لديه مشاكل مع اليهود المهيمنين على هوليوود ، بسبب فيلم ( آلام المسيح ـThe Passion of the Christ ) الذي كتبه و أنتجه و أخرجه عام 2004 ، و الذي يعتبره اليهود معادياً للسامية ، و في عام 2006 كان " مِل جبسون " يقود سيارته مخموراً ، و عندما علم أن ضابط الشرطة الذي ألقى القبض عليه كان يهودياً أحتد و أطلق عبارة حادة عندما قال ( اليهود سببُ البلاء في العالم ، وسببُ كل الحروب ) ، و لعل " جبسون " يدرك أن الأوسكار باتت بعيدة عنه ، ولكنه ـ على الرغم من ذلك ـ يجتهد دائماً في تقديم أفلام تتفوق على سابقاتها ، تمثيلاً أو اخراجاً . و هكذا لم يترشح حتى لا فيلم ( البروفيسور و المجنون ) و لا " شون بن " و لا " مِلْ جبسون " .
يرتكز فيلم ( البروفيسور و المجنون ) على نقطتين غير ملموستين ، هما ( الذكرى ) و ( الكلمة ) ، فالمجنون ، دكتور " ماينور " تعذبه ذكرى طبعِهِ وَسماً بقطعة حديد ساخنة على الخد الأيسر لجندي إسمه " ديكلان رايلي " هاربٍ من الجيش أثناء الحرب الأهلية الأمريكية التي وقعت بين عامي 1861 و 1865 ، و التي كان " ماينور " طبيباً فيها برتبة نقيب ، و هو يتذكر إسم ذلك الجندي جيداً ، و يذكره أمام قاضي المحكمة ، و ذكرى هذا الوسم تطارده في هيأة تأنيب ضمير يدفعه الى الظن بأن الشاب الموسوم يلاحقه لينتقم منه ، لذلك هرب من الولايات المتحدة الى بريطانيا ، بعد أن تقاعد من الجيش .
تبدأ أحداث الفيلم في لندن عام 1872 ، باقتياد " ماينور " الى المحكمة ، بعد أن طارد شخصاً و قتله ، ثم تبين أنه ليس الشخص الذي تطارده ذكراه ، و لأن المحكمة تأكدت من أن القاتل شخصٌ مختل عقلياً ، أودعته الى مصحة عقلية في مستشفى (كروثورن ) ، و هي مصحّة عقلية خاصة بالمجانين الخطرين ، تقع في مدينة ( برودمور ) ، و تُعرف عادةً بإسم ( سجن برودمور ) ، ولكن " ماينور " يعلن في المحكمة أنه ليس مجنوناً .
فهل كان مجنوناً حقاً ؟ إذا كان مجنوناً ، كيف أقدم على إنجاز عملٍ معرفيٍ جبار طَوال عشرين عاماً و هو في المصحة ، فدخل إسمُه التاريخ ؟
التاريخ الشخصي للدكتور " ماينور " يذكر أنه ولد في العام 1834 في جزيرة ( سيلان ) ، التي هي ( سريلانكا ) اليوم ، حيث كان والدُه مُبشراً ، و عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره أرسله الى الولايات المتحدة لدراسة الطب في جامعة ( ييل ) الطبية ، فتخرج فيها عام 1863 ، و قد تخصص بالتشريح المقارن . و في تلك الفترة كانت الحربُ الأهلية الأمريكية في سنتها الثانية ، فالتحق في العام التالي بوحدة طبية في الجيش . ولكن لوحظت عليه كثرة التردد على دور البغاء و قضاء معظم وقته مع المومسات ، فتم نقله عام 1867 الى فلوريدا ، في مكان بعيد عن دور البغاء . و في العام التالي بدأ نوعٌ من الخلل يظهرفي تصرفاته ، ثم تحول سلوكُهُ نحو ما يشيرالى اضطرابٍ عقليٍ بَيّن ، فأرسله الجيشُ الى مستشفى ( سانت أليزابِث ) ، و بعد عام و نصف العام لم يظهر أي تقدم في علاجه ، و في عام 1871 وصل الى لندن هارباً من ذكرياته ، و طالباً اللجوء الى انكلترا ، بعد أن تقاعد من الجيش . و في لندن عاد الى عادته السابقة في ارتياد دور البغاء و صُحبة المومسات ، و بعد عام من وجوده في لندن ، و في إحدى نوباته ، راح يطارد شخصاً اسمه " جورج ميريت " ، فأرداه قتيلاً ، ظناً منه أنه الشاب الموسوم الذي يظن أنه يلاحقه . و من هذه الحادثة يبدأ فيلم ( البروفيسور و المجنون ) .
في الفترة إياها كان ثمة رجلٌ سكوتلاندي الأصل ، مثقف و متوازن و يرعى عائلته ، كان يعمل منذ سنوات في بحثِ معرفيِ حول ( الكلمة ) في اللغة الإنجليزية ، و هذه هي النقطة الثانية غير الملموسة التي يرتكز عليها الفيلم : ( الكلمة ) .
هذا الرجل إسمه " جيمس موراي " ، مصرفيٌ و باحث في اللغة ، إبنُ بائع أقمشة ، عصامي ، لا يمتلك مؤهلاً علمياً ، فقد ترك المدرسة في الرابعة عشرة من عمره ليعيل نفسه ، ولكنه علـّم نفسَه بنفسِهِ ، فكان ضليعاً في علم اللغة . تقدم الى جامعة ( اكسفورد ) العريقة ليضع قاموس اللغة الإنجليزية ، الذي عُرف فيما بعد بإسم ( قاموس اكسفورد ) ، غير أن المعنيين في الجامعة يخبرونه أن جيشاً من أساتذة الجامعة عملوا على هذا المشروع على مدى عشرين عاماً فلم يفلحوا ، فأخبرهم أن لديه خبرة كافية في هذا الميدان ، فهو يتكلم اللاتينية و اليونانية بطلاقة ، و لديه معرفة بلغات كثيرة يعددها أمام اللجنة ، منها العربية و العبرية .
كانت النقاط الأساسية التي تركز عليها جامعة اكسفورد تتلخص في أن اللغة تتطور أسرعَ من مستخدميها ، و أن الجانب المهم هو أن اللغة الإنجليزية تنتشر في جغرافيا واسعة مع توسع سيطرة بريطانيا العظمى على مستعمرات جديدة عبر البحار ، و حسب تعبير " فريدي " ، أحد موفدي الجامعة ـ مثل دوره " ستيف كوجان " ـ فإن اللغة الإنجليزية ( قد شهرت أسلحتها و شحذت حرابَها و أعلنت أنها لن تُروّض ) و أن جحفلَ الأكاديميين قد هُزم أمام اللغة ، لذلك فأنه يعلن أمام زملائه أن السيد " موراي " هو الحل و الخلاص . ولكنهم إذ تيقنوا أنهم أمام مجمع لغوي في هيأة رجل ، كان لابد لهم أن يجروا له اختباراً ، فسألوه عن بعض المفردات بطريقة عشوائية ، فأعطى معانيها المتعددة و أرجعها الى جذورها و أصولها .
و عندما سألوه عن الفترة الزمنية التي سيستغرقها عمله ، لم يعط جواباً قاطعاً ، ولكن السيد " جميس موراي " مات بعد عمله في القاموس لمدة عشرين عاماً .. و لم يكتمل هذا القاموس إلا بعد أن استغرق سبعين عاماً من العمل المتواصل.
اقترح السيد " موراي " إرسالَ رسائل الى كل من يتحدث الإنجليزية ، ليرسلوا اليه ما يجدون من مفردات تُستخدم في اللغة الإنجليزية ، في الكلام و في الكتابة ، مع جذورها و انشطاراتها و معانيها و استخداماتها ، و هكذا وصلت إحدى هذه الرسائل الى دكتور " ماينور " في سجنه . هنا بدا " ماينور " أنه يمتلك عقلاً نصفه مجنونٌ مُظلم و نصفه منيرٌ صاحٍ .. بل متوثب . فوجد في دعوة " موراي " فرصةً لتغليب النصفِ المنير على النصف المظلم . فعمل على تزويد " موراي " بعشرة آلاف مفردة ، مع جذورها و أصولها و تحولاتها و انشطاراتها و استخداماتها . في هذه الأثناء صحى ضميرُه المعذّب نحو عائلة ضحيته " جورج ميريت " ، فطلب من إدارة السجن أن يذهب قسمٌ من راتبه التقاعدي من الجيش الأمريكي الى السيدة " ميريت " ، أرملة ضحيته ، التي مثلت دورَها الممثلة البريطانية " ناتالي دورمر " ، التي اشتهرت في دور " كوين مارغري " في مسلسل ( صراع العروش ) الشهير . و خطوة " ماينور " هذه تقود الى علاقة بينهما ، ولكنه يشعر أنه ، بهذه العلاقة ، يكون قد قتل زوجها مرتين ، و هنا يعود الى الجانب المظلم من عقله حين يعمد الى قطع عضوه الذكري كتكفير عن ذنبه المُضاعَف ، و قد تكون هذه إضافات سينمائية خارج النص الروائي أو خارج الحدث الواقعي لإضفاء نكهة درامية على الفيلم .
الحقيقة ، إن مشروع القاموس لم يبدأ من جامعة اكسفورد ، و بدايته لم تكن على يد " جيمس موراي " ( 1837 ـ 1915 ) ، بل هو امتدادٌ لمشروعٍ اشتغل عليه ثلاثة مثقفين بريطانيين كانوا مهمومين بثراء اللغة الإنجليزية و الحفاظ عليه و تطويره ، و هم : " ريتشارد تشيفينيكس ترينش " ( 1807 ـ 1868 ) و " هربرت كوليرج " ( 1830 ـ 1861 ) و " فريدريك جيمس فيرنيفال " (1808 ـ 1864 ) و هذا الأخير هو الذي أحال القاموس الى " جيمس موراي " بعد الشعور بعدم قدرته على الوصول الى الكمال في هذا المشروع ، الذي هو في حقيقته مشروعٌ وطنيٌ يحفظ تلاحمَ الروح البريطانية من خلال اللغة .
هذا الفيلم (البروفيسور و المجنون ـThe Professor And The Madman ) يمثل تحفة من تُحف السينما ، يستحق أكثر من مشاهدة ، و يستحق الجوائز و التكريم ، و سيبقى راسخاً في ذاكرة السينما .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ