شارع الحمرا في بيروت… معلم حضاري وشاهد تاريخي يروي حكايات زمان
13 - يوليو - 2024م
عبد معروف
يعد شارع الحمرا واحدا من أبرز المعالم الحضارية والاقتصادية والدبلوماسية في العاصمة اللبنانية بيروت. يوجد فيه العديد من المقاهي على الرصيف، وفيه المسارح اللبنانية المشهورة، وكان الشارع مركز النشاط الفكري في بيروت، ويوجد في الشارع العديد من الفنادق والشقق المفروشة والمكتبات ودور النشر والمؤسسات السياحية.
يعتبر شارع الحمرا من أشهر المعالم التي تميز بيروت وشاهدا تاريخيا يروي حكايات زمان مضى ويستمر اليوم وإن بصور وأشكال وحياة مختلفة، ليس لكون الشارع مركزا تجاريا فقط بل لإنه ملتقى للنخب الثقافية اللبنانية والعربية.
الشارع الذي يبلغ طوله 1300م، بدأ كزقاق عرف باسم «زقاق الحمرا» في العام 1898 بعد أن كان اسمه «خندق ديبو» ويسكنه مزارعون وصيادو أسماك، مكتسباً اسمه من عائلة الحمرا التي سكنت المنطقة منذ مطلع القرن الخامس عشر، ورفع بناء الجامعة الأمريكية عام 1866 من وتيرة نمو الشارع، وساهم في تغيير معالمه التي كانت وعرة ولا يسكنها أحد.
وعام 1933 قررت بلدية بيروت تزفيت الحمرا والشوارع المحيطة به، وبدأت البلدية وقتها تسمي الشوارع المحيطة بشارع الحمرا بأسماء العائلات التي كانت تسكن فيها بذلك الوقت، مثل عيتاني وربيز وصوراتي ودياب وفاخوري وحمندي، ومعظم هذه العائلات كانت تعمل في صيد الأسماك على شاطئ عين المريسة والروشة والمنارة في رأس بيروت.
يقطع شارع الحمرا، العاصمة اللبنانية من شرقها إلى غربها، وصولا لمنطقتي وسط ورأس بيروت، وهو أشهر شارع في أصغر بلد (هكذا أطلق عليه في الستينات من القرن الماضي) وأخذ الشارع في التحول من أرض موحشة إلى منطقة جميلة مزهوة.
والحمرا من أبرز شوارع لبنان منذ خمسينات القرن الماضي، وخلال ذروة الستينات والسبعينات كان الحمرا قلب أناقة عصر ما قبل الحرب اللبنانية، وكان يسمى «شانزليزيه بيروت». وكان السائحون العرب والأوروبيون والأمريكيون يتوافدون على متاجره ومطاعمه وحاناته الشهيرة.
أرقى المسارح ودور السينما:
كما كان في الحمرا أرقى المسارح ودور السينما، فعلى خشبة مسرح بيكاديللي غنت فيروز، وعرض زياد الرحباني مسرحياته، وكان بالامكان رؤية المغنية العالمية داليدا تتجول فيه قبل تقديم أحد عروضها، كذلك أقام نجوم عالميون حفلات في لبنان، منهم لويس أرمسترونغ وبول أنكا.
نسب بعض المصادر التاريخية اللبنانية، تسمية شارع الحمرا لمجموعة من الأشخاص الذين كانوا يتوافدون على الشارع من الأرياف لبيع منتجاتهم الزراعية يسمون بـ«آل الحمرا» وفي يوم من الأيام دخل آل الحمرا في صراع ومنافسة تجارية مع عائلة تدعي بنو تلحوق، وانتهى الصراع بمغادرة بنو تلحوق منازلهم في شارع الحمرا، ليستقر فيها آل الحمرا، وتم تسمية الشارع نسبة لهم.
وتقول مصادر تاريخية أخرى كما جاء في كتب تاريخ بيروت، أنه بالفعل تم تسمية ذلك الشارع بهذا الإسم نسبة لعائلة آل الحمرا ذاتها، ولكن لم تذكر صراعات ونزاعات مع عائلة أخرى كما ذكر في الرواية الأولى.
ويشير الباحث اللبناني في تاريخ بيروت طارق كوى: «كثيرة هي الحكايا التي يمكن أن نرويها ونحن نتحدث عن شارع الحمرا وهناك مصادر وروايات وقصص كثيرة، ولكن أفضل ما يمكن قوله هو العودة بالتاريخ لعام 1404. حيث سكن في المنطقة التي يطلق عليها اليوم شارع الحمرا، عائلة بنو تلحوق وكان يطلق على المنطقة كما تروي كتب التاريخ «جرن الدب» وكان يسكن فيها عائلة لبنانية يطلق عليها بني الحمرا، وكانت هذه العائلة تصل إلى جرن الدب لبيع المحاصيل الزراعية، ثم اندلعت خلافات وصراعات بين العائلتين بنو تلحوق والحمرا، بعدها غادر بنو تلحوق منطقة جرن الدب وسيطرت عليها عائلة الحمرا وأطلق على منطقة جرن الدب «كرم الحمرا» أو «بستان الحمرا».
هكذا فإن الشارع اليوم منسوب إلى بني الحمرا الذين تحدرت منهم عائلات بيروت: آل عيتاني، وآل اللبان، وآل شاتيلا، وبلعة.
واستنادا لما اطلع عليه طارق كوى تؤكد كتب تاريخ بيروت، أن أول عمارة تم بناؤها في شارع الحمرا هي بناية زيكو قرب سينما ستراند وسط الشارع، وسكن فيها حبيب أبو شهلا. وأشارت إلى أن افتتاح مكتب لشركة تابلاين النفطية عام 1933 في شارع الحمرا مقابل مقهى المودكا، كان البداية لتغيير هوية الشارع من سكني إلى شارع اقتصادي مميز.
بيت مئات الكتاب والشعراء:
وتحول شارع الحمرا في بيروت إلى بيت لمحمد الماغوط ومحمود درويش وعمر أبو ريشة وإنسي الحاج ومحمد الفيتوري ونزار قباني وبلند الحيدري، وغيرهم المئات من الكتاب والشعراء والأدباء اللبنانيين والعرب، أصبح أغنية «سياسية عاطفية» مشهورة غناها الفنان خالد الهبر، وأخرى أدتها المطربة صباح، وفي رحابه احتفت بيروت بمحمود درويش شاعرا للثورة والقضية الفلسطينية.
كان الشارع يمثل كل ما كان ساحرا في بيروت خلال حقبة الستينات والسبعينات: أشهر دور السينما والمسارح في لبنان، ومقاهِ يرتادها مثقفون وفنانون، ومتاجر فاخرة تعرض وتبيع أفضل ما يمكن اقتناؤه، مواكبا لأحدث ما في العالم.
فقد شهد الشارع انتعاشا في الماضي من خلال سلسلة متاجر دولية وحانات ومطاعم نابضة بالحياة.
أما الآن فقد تم إغلاق العديد من متاجره، وبات لاجئون سوريون ولبنانيون يتسولون على أرصفته، كما تتراكم القمامة على أركانه: فمثل بقية أنحاء لبنان، اجتاح الانهيار الاقتصادي الشارع كعاصفة مدمرة.
تحولات كبرى طرأت على شارع الحمرا الشهير في بيروت، غيرت من هويته، حيث أثرت تبعات الوضع الاقتصادي في لبنان بشكل كبير على المنطقة الشهيرة.
ولا يخفي كثر في لبنان أسفهم على ما آلت إليه أوضاع شارع الحمرا بعد جولات الحروب الدموية وسيطرة الميليشيات الطائفية والانهيار المالي والاقتصادي الذي أصاب البلاد، بعد أن كان لعقود قبل سنوات الحرب، منبعا للثقافة والفكر والفن.
كما أدت تبعات الأزمة الاقتصادية إلى حمل مظاهر الفوضى والبؤس والتسول، إلى شارع ارتاده كبار الفنانين العالميين في سنواته الذهبية، فتغيرت هويته وهجره رواده، وأقفلت معظم مسارح المدينة وسكنت الشارع ظلمة وفراغا بدلت من هويته التي قيل فيها يوما إنها منبع الثقافة في المنطقة.
واحتضار أو موت مقاهي المثقفين في شارع الحمرا البيروتي، لا يجد الشاعر اللبناني شوقي بزيع له وصفًا دقيقا، ويرى أن الشارع سيبقى – مهما تغير- عنصر جذب للمثقفين والصحافيين والكتاب والفنانين والناس بشكل عام.
ويقول بزيع إن شارع الحمرا قبل الحرب الأهلية (1975-1990) كان نخبوياً و«ذاكرة المدينة وخزانها وروحها» مبديا أسفه «لانتهاكه من المعادن غير الإنسانية». ويضيف أن المدينة «لم تعد تشبه نفسها، والشارع هو تعبير عن المدينة، وهذا الإناء ينضح بما فيه».
تغيرت أحواله:
انتهاك شارع الحمرا في بيروت لم يشمل فقط مقاهي الرصيف على جانبيه، بل أصاب أكشاك بائعي الصحف والكتب، فتراجع نشاط الباعة ونهم القراء. ويقول أبو نعيم الذي يبيع الصحف والكتب في الشارع منذ العام 1967 إن شارع الحمرا «سيبقى من أهم الشوارع مهما تغيرت أحواله».
ويضيف أن قيمة الشارع الذي اكتسب شهرته من مقاهيه التي كانت منتشرة على جانبيه وأعطته طابعه الخاص، «جاءت من تنوعه الهائل». ويردف «الشارع جزء من حياتي» معبرا عن حسرته «على أيام زمان، وطاولات الشعر وتحليل ما يدور في العالم من مشاكل وسياسات».
ويعرب أبو نعيم عن أسفه: «أقفلت المسارح وصالات السينما وتأثر الحمرا كثيرا بالاقتتال الأهلي وقتال الميليشيات خلال سنوات الحرب الطويلة، إضافة إلى الانقسامات السياسية التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة».
رواد شارع الحمرا اليوم قلة، معظمهم سياح أو فارون من بلادهم، سوريا، العراق، اليمن، الأثرياء منهم يجلس في المقاهي التي كانت يوما مقاعد للمفكرين والشعراء والكتاب وأهل الفن، وبعض آخر يجلس على أرصفة الشارع طلبا لـ«صدقة» وتمتلئ تلك الأرصفة بأجساد المشردين وأغراضهم البائسة، بينما انتشرت أصوات متسولين حيث باتت أعدادهم أكبر من قدرة الأجهزة الأمنية على معالجة ظاهرتهم.
أقفلت المقاهي التي شهدت طاولاتها جدالات فكرية وثقافية وشهادات نضال، وهجر روادها، مع تبدل وجهها السياسي، وحلت مكانها مقاه جديدة تلبي رغبات الأثرياء من السياح، تقدم بشكل كبير «النرجيلة» وأخرى تحولت إلى محلات لبيع ملابس وأحذية لماركات عالمية.
رجل في الثامنة والثمانين من عمره يتذكر الأوقات العصيبة خلال الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990 عندما شهد شارع الحمرا قتالا بين الميليشيات، واغتيالات في مقاهيه، واجتياح القوات الإسرائيلية، ويقول: «لم نشهد شيئا بهذا القدر من السوء كما نشهده الآن. لقد وصلنا اليوم إلى الحضيض». ويضيف «جاء الانهيار الاقتصادي في لبنان وانهيار العملية الوطنية، كإحدى تبعات حقبة ما بعد الحرب في البلاد. فقد أصبح قادة الميليشيات أبان الحرب هم القادة السياسيون، واستمروا في السلطة منذ ذلك الحين. وتمكنوا في بعض الأحيان من إدارة اقتصاد مزدهر، لكنه واقعيا كان مخططا استشرى فيه الفساد وسوء الإدارة».
يظهر أثر الأزمة في شارع الحمرا، فقد أغلقت العديد من المتاجر أبوابها؛ لأن أصحابها لم يعودوا قادرين على تحمل إيجارات مرتفعة وفواتير شهرية ضخمة لمولدات الكهرباء الخاصة. وفور حلول الظلام تغلق المتاجر، أو من ما زال يعمل منها. وكذلك أصبح العديد من مصابيح الشوارع لا يعمل بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
لذلك، الأضواء أصبحت خافتة ليلا ولم تعد تشع كما كانت في سبعينات القرن الماضي.
وجاء في كتاب «بيروت في التاريخ والحضارة للمؤرخ اللبناني طه الوالي «رغم حالة شارع الحمرا اليوم والتي تختلف كثيرا عما كانت عليه سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، إلا أنه ما زال ينبض بالحياة وإن كانت بألوان ووجوه مختلفة، فشارع الحمرا الشهير في بيروت يبقى هو شارع الألوان مهما كانت خافتة، شارع الجدة والطرافة، الطبيعة والغرابة والخفة، والالتزام والحرية، الغنى والفقر، النظام والفوضى، الهدوء والاضطراب، الجهل والعلم».
في هذا الشارع كان يلتقي الجميع وما زال يلتقي من خلال الجميع، رجل الأعمال، والمدير السابق، والموظف العامل، ونظيره المتقاعد، والصحافي الناجح، وزميله الفاشل، والفنان المبدع، والمتفنن المتسكع، والأديب المتفوق، والمتأدب المتشوق لصناعة الكلمة، والتاجر الباحث عن الربح، والصعلوك المتهالك على الثروة المستباحة، إنه شارع هؤلاء جميعا، الذين جاؤوا إليه من كل حدب وصوب، بعضهم من أبناء بيروت نفسها، وبعضهم من أطرافها وضواحيها، أو من الطارئين عليها من بقية المناطق اللبنانية الذين جذبتهم الأنوار الحمراء في الشارع.
انه معلم حضاري وشاهد تاريخي، وبين الثقافة والفن والحضارة والتجارة والتسوّل والماضي والحاضر، يعيش شارع الحمرا الذي يأبى أن يموت فيبقى منارة في دنيا اللبنانيين والعرب، يحيا دائمًا من الركود وينتفض على واقع مرير يمرّ بلبنان وبيروت، ليجتمع دائما الجميع في مقاهيه وحاناته ومتاجره، أمّا أجيال الماضي من اللبنانيين فقرروا توريث أولادهم وأحفادهم مجد هذا الشارع وذكرياته لتصبح زيارته شغفًا ممزوجًا بالحنين إلى ماضٍ جميل.