"الحدود الخضراء".. فيلم يكشف نفاق المعايير الأوروبية مع اللاجئين
هاربون من الحروب والموت يجدون أنفسهم سجناء في غابة.
الأحد 2024/07/14
ShareWhatsAppTwitterFacebook
رسالة ضرورية حول نفاق الحكومات الأوروبية
صنعت الهجرات تاريخ العالم، ومع ذلك فالأمر تغير جذريا في العقود الأخيرة، ليتكثف في هذه السنوات ويتحول إلى عنصرية ما انفكت تنمو ضد الأجانب، وخاصة اللاجئين الفارين من أهوال الحروب والموت، ولكنهم يصطدمون بحكومات دول تدعي الإنسانية، بينما تتركهم لمصير الموت والضياع، وهذا ما يناقشه بدقة فيلم “الحدود الخضراء”.
شهدت أوروبا صعودا خطيرا للفاشية في السنوات الأخيرة، وقد سبقت هذه العودة للأفكار الفاشية سلسلة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ومن بينها أزمة اللاجئين في أوروبا، التي استخدمها السياسيون اليمينيون المتطرفون لتعزيز رسالة عنصرية ومناهضة للهجرة وألقوا باللوم في جميع مشاكل الغرب على آلاف الأشخاص الذين يفرون ببساطة من الحرب والبؤس. من بين كل هذا شخصية الاتحاد الأوروبي، الذي أظهر في مناسبات عديدة أنه لا يمتثل لمبادئه التأسيسية عندما يترك الآلاف من الناس يموتون في البحر الأبيض المتوسط.
فيلم “الحدود الخضراء” (2023) للمخرجة أجنيسكا هولاند يتناول قصة المهاجرين الذين يجدون أنفسهم في غابة على حدود بولندا وبيلاروسيا، وقد فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان البندقية السينمائي الأخير.
قسوة اللجوء
الفيلم عمل على إبراز جانب إنساني لجهة المهاجرين وجانب غير إنساني لجهة شرطة الحدود والجيشين البولندي والبيلاروسي
يشير عنوان الفيلم المثير للجدل للمخرجة البولندية أجنيسكا هولاند إلى الغابات التي تشكل الأرض الحرام بين بيلاروسيا وبولندا. من هناك يحاول اللاجئون الهاربون من الشرق الأوسط وأفريقيا يائسين الوصول إلى الاتحاد الأوروبي، ولكنهم يجدون أنفسهم محاصرين في تلك البقعة. يتم إغراء اللاجئين للقدوم إلى الحدود مع وعد بالمرور الآمن إلى الاتحاد الأوروبي. والحقيقة هي أنهم يصبحون بيادق سياسية في لعبة مزورة نظمها الدكتاتور البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو.
يُطرد اللاجئون بوحشية من الجانبين ويتلاعبان بهم مثل الكرة التي يتقاذفها كلا الفريقين. على مدار أربعة فصول: “العائلة”، “الحرس”، “النشطاء”، “جوليا” وخاتمة، تتشابك قصصهم مع قصة حارس الحدود البولندي الشاب يان (توماس فوسوك) والناشطة الطبيبة النفسية جوليا (مايا أوستازيوسكا).
تبدأ أحداث الفيلم في الأول من أكتوبر عام 2021 مع عائلة سورية مؤلّفة من بشير (جلال الطويل) وزوجته أمينة (داليا ناوس)، وأطفالهما الثلاثة، مع الجد والد بشير (محمد عبدالرحمن آل راشي)، يسافرون بالطائرة إلى بيلاروسيا، بهدف التوجّه برّا إلى السويد عبر بولندا، حيث ينتظرهم العم شقيق بشير. في الطائرة تلتقي العائلة ليلى (بيهي جاناتي أتاي) المرأة الأفغانية التي تُدرّس اللغة الإنجليزية وترغب في العيش في بولندا مع شقيقها المقيم هناك.
تهبط العائلة المتحمسة في بيلاروسيا بعد قضائهم سنوات في مخيم للاجئين بعد الفرار من بلدة حرستا السورية وبطش داعش وعلى أمل العبور إلى بولندا وفي نهاية المطاف السويد للحصول على اللجوء. لكن خططهم تخضع لاختبار قاس أثناء محاولتهم العبور إلى الأراضي البولندية عبر غابة، فقط لتتم إعادتهم إلى بيلاروسيا مع الطامحين الآخرين، ويحاولون المرور مرة أخرى ويواجهون رفضا من قبل حرس الحدود وجنود لوكاشينكو في حلقة مروّعة. يعمل النشطاء أيضا في المنطقة، في محاولة لتوفير الغذاء والدعم الطبي والقانوني لسجناء الغابة، لكن جهودهم مقيدة بالقانون البولندي والافتقار التام للإرادة السياسية.
تخصص المخرجة الفصل الثالث لتأمل الجانب الآخر، أي المنظمات الإنسانية البولندية وبعض النشطاء السياسيين اليساريين المناهضين للسياسة الرسمية، وكيف يتسللون سرا داخل المنطقة الحدودية، فيقدمون الأطعمة وبعض الملابس والأدوية للاجئين. يستمعون لقصصهم ومعاناتهم.
تتخذ المخرجة أجنيسكا هولاند نهجا حازما ليس فقط لإعلام المشاهدين بمحنة اللاجئين، ولكن أيضا بطرح أسئلة غير مريحة وضرورية حول التقاعس الجماعي لهم عندما يطلبون المساعدة، لكنهم يصطدمون بقسوة حراس الحدود ووحشيتهم، وحتى يكلفهم هذا السجن والمطاردة.
يستند فيلم “الحدود الخضراء”، الذي شارك في كتابته المخرجة هولاند مع غابرييلا لازاركيفيتش سيكزكو وماسيج بيسوك، إلى بحث دقيق، بما في ذلك مقابلات مع اللاجئين وحرس الحدود والناشطين. وهذا يعطي أصالة، إضافة إلى التصوير الفوتوغرافي الرائع بالأبيض والأسود لتوميك نوميوك.
زيف ادعاءات حقوق الإنسان
أزمة اللاجئين الإنسانية لا تتعلق فقط بالجزء الذي نعيش فيه من حدود الاتحاد الأوروبي، بل هي مشكلة عالمية. وهناك المئات من الذين يغرقون يوميا على متن القوارب بالقرب من سواحل اليونان. وهذا يطرح علينا سؤالا: ماذا بعد؟ وعلى الحدود البيلاروسية، يجري تنفيذ فكرة جيوسياسية هجينة عن لوكاشينكو، أو بالأحرى فلاديمير بوتين، ولكن لم يكن بوتين ولوكاشينكو هما من اخترع اللاجئين. هؤلاء الناس موجودون ومصممون على الفرار من حياة مستحيلة إلى مكان هو الجنة من منظورهم.
الأحداث السياسية، في أفريقيا، أو كارثة المناخ والحروب والأنظمة الدكتاتورية والاضطهاد هذه مجمل الأسباب لهروب هؤلاء الناس من أوطانهم واقتحامهم لأوروبا التي تحولت إلى قلعة محصنة وتلجأ في الوقت الحالي إلى أنصاف الحلول، مثل الصد أو عدم تقديم المساعدة للغرقى في البحر الأبيض المتوسط.
الناس مستعدون للمخاطرة بحياتهم وحياة أحبائهم للحصول على فرصة حياة آمنة. تبين أن فكرة السياج أو الجدار غير فعالة، سوف يمر الناس لأنهم يفضلون الموت على العيش في إذلال دون فرصة. وتظهر المعاملة اللاإنسانية من الحراس الذين تم تلقينهم بدقة، هكذا وصفت المخرجة هولاند تجربة اللجوء والتي سبق لها أن عاشتها بعد هروبها من بلدها.
ولا تستخف هولاند عندما يتعلق الأمر بانتقاد سياسات بولندا اللاإنسانية، وطرح أسئلة حيوية حول المسؤولية الجماعية والتقاعس عن العمل في المشهد الجيوسياسي الذي تجد أوروبا نفسها فيه كمجموعة، أما بالنسبة إلى خاتمة الفيلم – التي تدور أحداثها بعد عام في عام 2022 – فهي الطريقة المثلى لكشف النفاق الحكومي البولندي وعنصريتهم القبيحة، ويظهر في غضون دقائق أنه في أعقاب الحرب في أوكرانيا، مع نفس الحدود ونفس الضباط يقع الترحيب بالآلاف من اللاجئين الأوكرانيين ويستقبلون بالورود. نفس الألم، نفس الخسارة، نفس الدمار ولكن لون البشرة مختلف.
ضرب على وتر حساس
الفيلم يصور بشكل درامي أزمة الهجرة على الحدود بين بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي وقد أدانته بولندا وتعرض لهجوم عنيف
يسرد الفيلم الآثار المدمرة التي لا تعد ولا تحصى لأزمة الحدود بين بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي في عام 2021. ومن خلال رؤية بانورامية للأزمة، يركز الفيلم في البداية على مجموعة من اللاجئين الذين تمتد أصولهم إلى بلدان في الشرق الأوسط وأفريقيا. يتم إغراء المجموعة متعددة الجنسيات بعبور الحدود من خلال خطاب الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الذي يعد المهاجرين بسهولة الوصول إلى الاتحاد الأوروبي. يتم تحويل مجموعة اللاجئين إلى وسيلة لأهواء ومكائد بولندا وبيلاروسيا، حيث يقوم ضباط من كلا البلدين بقذفهم من حدود إلى أخرى.
في مشهد صادم يتم إلقاء امرأة من ذوي الأصول الأفريقية حامل من فوق السلك الشائك بين حدود البلدين، في مشهد آخر، تسقط المعلمة الأفغانية ليلى (بيهي جاناتي أتاي) أثناء سيرها عبر مستنقع. وكذلك تفقد الأسرة السورية ولدها نور، الفتى الرقيق الذي لم يشأ أن يترك المرأة الأفغانية التي صاحبتهم طوال الرحلة بمفردها، فما كان منه إلا أن لحق بها وانتهى أمره غرقاً في واحدة من مستنقعات الغابات الحدودية، التي لم تعد خضراء ” لقد رحل نور دون أن يتألم”، بهذه الكلمات ترثي المرأة الأفغانية الجسد الصغير الذي امتلأت رئته الغضة بالوحل.
مع تقدم الحدود الخضراء، فإنها تدمج العديد من التركيبات البولندية الأخرى في الحظيرة، بما في ذلك ضابط الحدود جان (توماس ووسوك) وعالمة النفس جوليا (ماجا أوستازيوسكا) التي يتورط قلبها النازف مع مجموعة صغيرة من العاملين في المجال الإنساني الذين يسعون إلى تقديم المساعدة للمهاجرين والمساعدة القانونية. ليس هناك الكثير مما يمكنهم القيام به من الناحية القانونية، وهو حاجز بيروقراطي محبط للأشخاص الذين يرغبون بشدة في المساعدة، وهي طبيبة نفسية وأرملة شابة تجد نفسها مرغمة للاستجابة للواجب الذي تفرضه عليها مهنتها، ويقضي به حسها الإنساني، فهي تشهد بعينيها غرق نادية في مستنقع لا قرار له، ومعها أحد أبناء العائلة السورية.
الفيلم يصور بشكل درامي أزمة الهجرة على الحدود بين بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي وقد أدانته بولندا وتعرض لهجوم عنيف
تحسم جوليا أمرها وتقرر اتخاذ موقف، وهو ما يعرضها للقبض عليها والتحقيق معها ودفعها إلى خلع ملابسها والوقوف عارية بغرض تفتيشها، ولم يطلق سراحها إلا بعد تدخل أحد أصدقائها، وهو محام معروف، ولكن بكفالة على ذمة القضية. تسلط المخرجة هولاند الضوء على العاملين في المجال الإنساني البولنديين وهم يسجلون مقاطع فيديو من قصص حياة اللاجئين. ويروي الرجل السوري بشير كيف أن داعش قامت بجلده بسبب تدخينه سيجارة خلال شهر رمضان.
ربما يكون فيلم “الحدود الخضراء” أكثر أفلام المخرجة هولاند إثارة للجدل حتى الآن. إنه يصور بشكل درامي أزمة الهجرة على الحدود بين بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي. أدانته الحكومة البولندية، وتعرض الفيلم لهجوم عنيف للغاية من قبل وزير العدل السابق زبيغنيو زيوبرو، الذي وصفه بأنه “دعاية نازية”، بينما دعا أندريه دودا الرئيس المعيّن من قبل حزب القانون والعدالة إلى مقاطعة الفيلم.
ضربت دراما اللاجئين على وتر حسّاس في المجتمع البولندي، الذي لم يعد يرغب في دعم المسار القومي الشعبوي لحكومة حزب القانون والعدالة. في سياق كهذا، يبدو مفهوماً اتهام الحكومة البولندية للمخرجة بأنها مناهضة لبولندا. رغم أن الأخيرة تؤكّد أن دافعها لإنجاز الفيلم كان حبّ بلدها الأصلي “كما أن هناك وجهين لأوروبا، هناك أيضاً وجهان لبولندا. أحدهما هو مبدأ ‘من أجل حريتنا وحريتكم‘، وهو تقليد الانفتاح والضيافة وحقوق الإنسان والثقافة الرفيعة. لكن هناك أيضاً وجه للقمع والقومية والعنصرية والمذابح. من الواضح أن حكومتنا تتعاطف مع هذا الأخير، ولهذا السبب صدمهم فيلمي بشدة”.
لدى سؤالها عن اعتقادها بأن فيلمها كان له تأثير في نتائج الانتخابات البرلمانية في أكتوبر الماضي، تجيب “من الصعب القول بشيء كهذا. أمر واحد أكيد أثاره الفيلم: فجأة بدأ الناس يتحدثون عن قضية اللاجئين. لكن ليست لديّ أيّ أوهام بأن شيئاً سيتغير بشكل جذري بعد تغيير الحكومة، وذلك فقط لأن المحافظين الليبراليين هم الذين وصلوا إلى السلطة الآن بدلاً من القوميين اليمينيين”.
وتضيف “السياسيون يقودون من خلال الخوف. والناس يتفاعلون مع هذا المناخ، ويشعرون أنهم يعيشون في مكان خطير للغاية. والسؤال هو: ما دور الفن والسينما في ذلك؟ مهمتنا هي خلق أعمال تنتقد ما يجري. لكن هذا ليس كافياً للأسف. مثلما ليس كافياً ما يقوم به الاتحاد الأوروبي. يُفترض به فرض عقوبات، لكنه لا يفعل. هناك حديث عن حقوق الإنسان، لكن بولندا مسموح لها أن تفعل ما تفعله. وكذلك في البحر الأبيض المتوسط. الوضع يزداد سوءا، والقسوة تستمر في التزايد. معظم الناس لا يستطيعون حتى تخيّل ما يحدث على الحدود. وهذا أحد الأسباب التي جعلتنا نصنع الفيلم”.
عمل الفيلم على إبراز جانب إنساني لجهة المهاجرين وجانب غير إنساني لجهة شرطة الحدود والجيشين البولندي والبيلاروسي. بالطبع هو حقيقي، الضرب والتعنيف وسرقة المال، أمور تقع بلا حساب، وغالباً على حدود دول أخرى أيضاً. جادلت هولاند بأن الفيلم لا يقدم أيّ تقييم جماعي للجيش البولندي أو الخدمات النظامية، وأنه لا يهدف إلى التشهير ببولندا. وأصدرت هي والمنتج مارسين فيرزكوسلاوسكي بيانا قالا فيه إن الفيلم يظهر أن جميع البشر، سواء كانوا ضباطا يرتدون الزي الرسمي أو لاجئين أو مساعدين، يمكن أن يتصرفوا بطرق مختلفة في مواقف مختلفة.
وقالوا إنه يتجنب “الدعاية السوداء والبيضاء” التي تحيط بالهجرة. كما أصدرت أكاديمية السينما الأوروبية بياناً لدعم المخرجة هولاند وذكرت في البيان “تتميز أفلام أجنيسكا هولاند بإنسانية واحترام عميقين، وبالتالي فهي تستحق أن تعامل باحترام وإنسانية. إنها سمة من سمات الفن المهم عندما تثير السينما آراء ومواقف مختلفة، عندما تخلق الحاجة إلى مناقشة الموضوعات المطروحة على المستوى الاجتماعي والخاص، في السياسة، في وسائل الإعلام”. الفيلم دعوة إيقاظ لدول الاتحاد الأوروبي وإدانة لتقاعسها في ما يتعلق بالأهوال على حافة أوروبا.
وتعدّ المخرجة البولندية أجنيسكا هولاند، أحد الأسماء المحافظة على سُمعة السينما البولندية. بعد عملها كمساعدة للمخرجين الرائدين كرزيستوف زانوسي وأندريه فايدا، اختطت لنفسها مساراً سينمائياً، أسهم في ترشّحها مرتين لجائزة الأوسكار (بفيلميها “حصاد مرير” 1985 و”أوروبا أوروبا” 1990). هولاند (76 عاماً) مخرجة وكاتبة سيناريو ولدت في وارسو عام 1948 وهي ابنة لصحافيَين، توفي والدها بعد 13 عاما في ظروف غامضة أثناء استجوابه من قبل الشرطة السرية. وقد شهدت ربيع براغ العام 1968 بنفسها.
وبسؤالها لماذا قررت إنجاز هذا الفيلم؟ تجيب المخرجة البولندية “قررت أن أفعل ذلك لأنه يحدث. إنه الوضع على الحدود البولندية – البيلاروسية، ولكنه يقع على جميع حدود العالم الغني. إنها واحدة من أهم قضايا العالم المعاصر والهجرة وكيف نستجيب لها. نحن نحول أوروبا إلى نوع من الحصن، ونعتقد أننا سنصل إلى الأمن إذا أنشأنا جدرانا حول عالمنا الآمن. لكننا في الوقت نفسه نرى أننا أصبحنا عرضة للابتزاز والاستفزاز القادم من الدكتاتوريين والأنظمة الخارجية. إننا ننسى الإنجازات التي تحققت في النصف الثاني من القرن العشرين عندما نعتقد أن الجرائم ضد الإنسانية والقومية والعنصرية تنتمي إلى الماضي، على الأقل في أوروبا”.
وتضيف “أنا مهتمة بالجانب الإنساني من ذلك. الخيارات التي يتعين على الناس اتخاذها. لهذا السبب قررت أن أظهر المنظور الثلاثي، اللاجئون، ولكن أيضا النشطاء والسكان المحليون وحرس الحدود الذين تلقوا الأمر بالتصرف بطريقة غير قانونية عمليا. لكنهم يعتقدون أنهم يخدمون بلدهم. عندها قررت صنع الفيلم، لأنني فهمت أن الحكومة تخاف من الصور وتؤمن بقوة الصور وقوتها، وأنا أؤمن بها أيضا. استندت الصور التي أنشأتها إلى جميع المصادر الوثائقية المتاحة. كنت أتحدث إلى العديد من النشطاء وذهب أحد كتاب السيناريو معهم لمدة أسبوعين إلى الأحداث في الغابة. تحدثت إلى العديد من اللاجئين، لكنني كنت أشاهد في الغالب الأشرطة التي سجلها النشطاء. تحدثت أيضا إلى بعض حرس الحدود، وكان ذلك هو الأصعب، بالطبع، لأنهم كانوا يخشون التحدث بسبب العواقب المحتملة”.
سياسة بشعة
يدين الفيلم الأطراف السياسية الرسمية سواء حكومة بيلاروسيا التي يقال صراحة على لسان أحد الشخصيات إن رئيسها يستدعى اللاجئين إلى بلده، بوعد أن يجعلهم يبلغون أوروبا عن طريق بولندا، لمجرد أن يضغط على حكومات الدول المجاورة ويؤرق نوم ساستها، أو الشرطة وحرس الحدود البولندي الذي يبدو أن المخرجة أجرت بحثاً ميدانياً واسعاً، وأتت بقصص حقيقية عن واقع اللاجئين وما يحدث لهم على الحدود الملوثة بالأغراض السياسية القبيحة.
“إن كل لاجئ هو عبارة عن رصاصة محتملة في صدرك” هكذا يلقن رئيس دورية الحرس جنوده قبل الانطلاق في تمشيط المناطق الحدودية. فيلم يحمل رسالة ضرورية: نفاق الحكومات الأوروبية التي تتحدث انطلاقا من المثل العليا التي لا تتبناها بينما تسمح للمثل اليمينية المتطرفة بالانتشار في جميع أنحاء القارة وموت الآلاف من الناس. وبهذا المعنى، يلاحظ نفاق الاتحاد الأوروبي عند مقارنة كيفية معاملة المهاجرين واللاجئين من الحروب العربية والأفريقية مقارنة بأولئك القادمين من أوكرانيا. وهذا يؤسس نظاما عنصريـاً يميز بين اللاجئين.
الموقف البائس لكل من الجنود البولنديين والبيلاروس. فساد مستشر يودي بحياة ضحاياه في عائلة سورية اعتقدت أن أوروبا ستمثل الحرية، جندي يبيع امرأة أفغانية زجاجة ماء مقابل 50 يورو. تفاصيل كثيرة يتأمل من خلالها الفيلم أزمة اللاجئين على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، يجدون أنفسهم غارقين مع عشرات العائلات الأخرى في منطقة مستنقعات، تحت رحمة الجنود يتعاملون معهم بأساليب عنيفة. شيئا فشيئا، يدركون أنهم رهائن.
الممثلان السوريان جلال الطويل الذي عاش تجربة اللجوء بعد هروبه من بلده سوريا، سبق وأن شارك في الكثير الأعمال الشامية مثل مسلسل “بيت جدي” وأعمال أخرى وكذلك الممثل محمد آل رشي إضافة إلى أطفال عاشوا تجربة عبور الحدود بين سوريا وتركيا، والفرنسية – الإيرانية بيهي جاناتي عطائي المولودة في طهران، التي هربت عائلتها من إيران بعد الثورة الإسلامية واللجوء إلى فرنسا. في فيلم “الحدود الخضراء” صورت المخرجة المظهر المادي لسياسة وطنية ومجتمعية بشعة، ليست مجرد حدود للدولة البولندية بل للاتحاد الأوروبي، كونه أحد أطرافه الشرقية، تمثل هذه الحدود وصمة عار على أوروبا والاتحاد الأوروبي مقارنة بالممر من أوكرانيا الذي تم فتحه بعد بضعة أشهر فقط من الأحداث المصورة في نهاية الفصل الأخير من الفيلم والترحيب باللاجئين الأوكرانيين، بالمقابل، إذلال وتعنيف ومطاردة اللاجئين من أفريقيا والشرق الأوسط.
الحدود الخضراء عمل سينمائي مؤثر وأساسي يفتح أعيننا على حقائق صادمة ويتحدث إلى القلب، ويتحدى المشاهدين للتفكير في الخيارات الأخلاقية التي تقع على عاتق الناس العاديين كل يوم. حين وجد الرجال والنساء والأطفال أنفسهم رهائن وألعوبة في جيوسياسية غير إنسانية. ونظرا إلى عدم قدرتهم على العبور إلى أوروبا وعدم قدرتهم على العودة، يجدون أنفسهم محاصرين. يستكشف هذا الفيلم المثير، الذي يصور أزمة المهاجرين بالأبيض والأسود الصارخ، القضية المستعصية من وجهات نظر متعددة: عائلة سورية هاربة من داعش عالقة بين حرس الحدود القاسي في كلا البلدين. تعليمات للحراس الشباب بمعاملة المهاجرين بوحشية ورفضهم؛ والنشطاء الذين يساعدون اللاجئين يعرضون أنفسهم لخطر كبير. تقدم المخرجة هولاند في فيلمها “الحدود الخضراء ” رسالة قوية عن الحرب وآثارها وأزمة اللاجئين الانسانية، وكذلك الحديث عن حقوق الإنسان التي تتكشف أمام الأسلاك الشائكة على الحدود الأوروبية، ومشاهد الحفاوة التي قابلوا بها لاجئي أوكرانيا تجسد نفاق المعايير الأوروبية.