من «معلّقات» الشعر الحديث إلى «قصيدة البيت»
10 - مارس - 2024م
منصف الوهايبي
حضرت في يناير الماضي مهرجان الشعر بإمارة الشارقة، بصفتي «ناقدا» فاز بجائزة نقد الشعر؛ ولاحظت أنّ كلّ الذين أنشدوا شعرا، التزموا قصيدة الشطرين أي الصدر والعجز؛ وهي ليست «القصيدة العموديّة» وعمود الشعر هو نظريّة الشعر عند العرب، وما يفترض في القصيدة من إصابة في الوصف ومقاربة في التشبيه وما إليهما.
ولم أخف استغرابي، فالشعر العربي شهد منذ النصف الثاني من القرن الماضي نقلة نوعيّة مع شعراء من أمثال السيّاب والبيّاتي وأدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش وحجازي وصلاح عبد الصبور ويوسف الصايغ ومحمد عفيفي مطر وأمل دنقل ومحمد بنّيس وانسي الحاج… بل كانت لهذا الشعر معلّقاته مثل «أنشودة المطر» و«الجداريّة» و«لاعب النرد» و«الأخضر بن يوسف ومشاغله» و«انتظريني عند تخوم البحر» و«كائنات مملكة الليل» وغيرها.
أمّا هذه العودة إلى «قصيدة البيت» المعاصرة عند الشعراء الشباب، فتتكشّف عن منزعين يتحكّمان في انتحاء الذّات إلى الكلام مرّة وإلى الكلمة أخرى. وهو أمر ليس بالمستغرب في هذا «النصّ» الذي لم يقطع صلته بـ»البديع» كما تدلّ على ذلك لغته، على الرغم من التّطوّر اللاّفت معجما وسجلاّ عند بعضهم. و»شفهيّة» القديم لم تكن خالصة، ولا هو كان يجري على السّجيّة المحض، أو على الطّبع المبرّأ من مراسم الصّنعة والكتابة. بل ربّما كان على شفا النّقيض من ذلك، إذ يستعير بحكم إنشاده في جمهرة من الناس، حيله (بالمعنى الأسلوبيّ واللّعبي للكلمة) من سنن ومراسم ثقافيّة وخطابيّة، وينهض على خطّة محكمة في بناء القصيدة وأفانين التّخلّص فيها من مقدّمة إلى غرض، أو من موضوع إلى موضوع. وللعقل الواعي أثر مذكور واضح في خلقه، وهو النّص الذي يعتمد، إلى حدّ كبير، على تخيّر لغته وتدبّرها وإحكام تنسيقها.
فإذا كانت هذه «القصيدة» في عصرنا تراوح بين الكلام حينا والكلمة آنا، فمرّد ذلك في تقديرنا إلى ظاهرتين تتحكّمان فيه: ظاهرة الشفهيّة الرّاجعة في جانب منها إلى النّصّ الأنموذج، وإلى الإيقاع الوزنيّ والإنشاد تحديدا، من جهة، وظاهرة الكتابة من حيث هي أداء نوعيّ محكوم بقوانينه الخاصّة، من جهة أخرى. ولا يخفى أن أكثر الشعر، الذي استمعت إليه، «غنائي». أي إنّه يكتب لينشد. فلعلّ الشاعر الشاب وجد ضالتّه في هذا «التّهجين اللّغويّ» وما يتيحه له من أداء «معنى الصّنعة» أي بتكثيف الاستعارات والمحسّنات البديعيّة من طباق وجناس خاصّة. وهي حوامل صوتيّة إيقاعيّة تتيح للكلمة أن تستعيد أجراسها وأصواتها، التي طوت عليها الكتابة. وكأنّ الكلمة مكتوبة محاكاة جناسا للكلمة منطوقة. وهذه طريقة من بين طرائق شعريّة أخرى تجريها الكتابة لـ»تشفيه» خطابها، وجعله قابلا للإنشاد أو لأداء تخاطب أبعد أثرا في المتقبّل وأشّد تأثيرا.
والحقّ أنّه إذا كان النّصّ الأنموذج «قابلا للكتابة» فإنّ هذا النصّ المحدث «قابل للمشافهة». وليس أدلّ على ذلك من هذه الحوامل الصّوتيّة المكثّفة فيه. ومن المفارقة أن تكون أمارة على شفهيّته، على قدر ماهي أمارة على «كتابيّته». وفي هذا المستوى يمكن القول إنّ الخطاب «ذاتانيّ» أساسه انفعال ذاتيّ باللّغة؛ لكن من غير معرفة تصدر عن عارف منفعل بالمعروف انفعالا ذاتيّا. وقد ينمّ هذا الخطاب على وعي بقصور «المكتوب» أو بعدم كفايته، فينزع صاحبه إلى استجلاب خصائص الشّفهيّ أو إلى محاكاتها. ومن ثمّ يتأدّى الخطاب في سجلاّت لغويّة مختلفة أو متباينة.
هذا المزيج من المكتوب والشّفهيّ يفضي في هذا الشعر إلى لغة «ميّتة» قادحها تفاعل بين كلمات مختلفة أصلا وطبيعة وعلائق حواريّة بين خطابين متجاوزين، لكن من غير أن يغني كلّ منهما الآخر. ولعلّ هذا التّجميع، وهو أقرب ما يكون إلى» تهجين «لغويّ، هو الذي يجعل الخطاب عند الشباب مثار جدل وخلاف، خاصّة أنّه سمة مفارقة فيه، وأمارة على تفاوت إنشائيّته، بل على انقطاعه عن إيقاع العصر وحياة الشاعر نفسه.
صحيح أنّ «التّماثل الصّوتيّ» بين الكلمات سمة كامنة في أصل العربيّة، وفي نظامها الاشتقاقيّ؛ لكنّه كان فيما يبدو من شعرنا القديم ثمرة كتابيّة أو معجميّة. والمقصود بذلك أنّه قلّما كان لهذا التّماثل واقع في وعي الشّاعر القديم، أو ربّما هو كان على وعي بهذا الواقع اللـّغويّ، لكن دون أن يكون وعيه قائما على «التصنّع» أو النأي عن الحياة.
عدت من الشارقة بجملة استنتاجات تسوّغ كلـّها القول بأنّ الخطاب الشّعريّ عند شعراء المهرجان خطاب قلق لا يكاد يجري على وتيرة، حتّى يحرفها على أخرى. ومردّ قلقه إلى هذه الكتابة، التي تتناءى عن الشعر العربي الحديث، في النماذج التي أشرت سلفا إلى بعضها، على قدر ما تحاول دون جدوى، تتدانى منه، وتلحقه بالنصّ وتدمجه فيه، وهي تجترّه دونما انقطاع، وتضعه في مواضع متنوّعة جدّا، إذ لا يختصّ به موضوع دون آخر. لكنّها «تطعّمه» في الآن نفسه بالغريب الاستعاري، أو الفصيح المهجور، الذي لا سند له من النصّ أو من الحياة، أو من ذات الشاعر. بل لعلـّها أن تصطنع رواسمها الخاصّة كلّما تعلّق الأمر بإعادة استعمال كلمات وصيغ وتراكيب بعينها، أو بإطلاقها «رواسم» في فضاء الذ ّاكرة النصيّة، حتّى تبتعثها وتحمّلها ثانية سلطة جديدة.
إنّ هذا «الشعر» منشدّ إلى علائق لغويّة تضاديّة، لا يمكن إلاّ أن يكون لها أثرها في بناء القصيدة وإيقاعها وصورها، وفي اختلاف مواقف القرّاء منها. فمن السّائغ أن تذهب طائفة إلى أنّ استجلاب التعبير الاستعاري السائب، ينتزع من الخطاب المكتوب مزاياه الفنيّة، بسبب ما استقرّ في الشعريّة الحديثة من جماليّة مخصوصة هي جماليّة الكلمة الجملة، التي ينبغي أن تقع من الكلام موقعها، فلا تنبو ولا تشوبها شائبة حتّى لا يمجّها السّمع ولا يلفظها اللـّسان. وفي هذا ما يؤكّد أنّ اللـغة/الشّعر تقع في أفق أعمّ، هو أفق الحياة بشتّى تفاصيلها وشواردها.
وهذا «شعر» ينمّ عن ضياع الكلمة، وهي تتنكـّب مسارب الحياة، لتنخرط في رغد التّـقـليد «الوزني» والإطراب لا غير. وبضياعها يضيع عالم اليقين اللـّغويّ، وتجنح الدّلالة، التي تسكن إلى الدّال، وتأوي إلى مستقرّ نظامه، عن القصد، وخاصّة ما تعلّق منها بالصور الاستعاريّة المتصنّعة، وهي من «الكيتش» و«الأزهار البلاستيكيّة»؛ فهي تفقد دلالتها، وتخلّ بالانسجام اللـّغويّ، ما نقلت إلى سياق الشّعر. وكأنّ استبدال السّياق ضرب من المسخ، ينسخ تأثير الكلمة ويسلبها قوّتها الإيحائيّة ودلالتها الوجدانيّة أو الانفعاليّة.
ولعلّ في هذا ما يفسّر مظهرا آخر طال كثيرا من هذا الشعر، إذ يؤثر الشّاعر كلمة على «الكلمة/الأصل» على مقتضى رؤيته للشّيء المسمّى، والأثر الذي ينشده منه. وظاهرة التعبير الاستعاري المتصنّع تؤكّد في تقديرنا، هذه الدّلالة الانفعاليّة، إذ تزيح كلمة أخرى، أو هي تعود عليها، دون أن يكون لوقع كليهما في السّياق أثر متبادل. والاستعاري، بهذا المعنى أشبه ما يكون بنوع من «عدوى» الكلمات يقدحه «الكيتش» المكثّف لا غير. ونقدّر أنّه ما كان ليحدث على هذا النّحو المثير، لولا شيوع وسائل الاتصال الحديثة، وما تحفل به. ولها أثـّر بنسبة أو أخرى، في هذه الحفاوة اللاّفتة عند المحدثين، بظاهرة الاستعاري لا الكنائي الرمزي وهو «جوهر» الشعر. ونحن نعرف أنّ الاستعاري لا يجاذب الكنائي. فلعلّ هذا الوضع هو الحدث الحاسم في شيوعه عند الشباب، على نحو لم يكن معهودا في الشّعر السّابق عليهم، عند الشعراء الذين ذكرتهم، أو عند بعض أبناء جيلنا.
صحيح أنّ «التّماثل الصّوتيّ» بين الكلمات سمة كامنة في أصل العربيّة، وفي نظامها الاشتقاقيّ؛ لكنّه كان فيما يبدو من شعرنا القديم ثمرة كتابيّة أو معجميّة. والمقصود بذلك أنّه قلّما كان لهذا التّماثل واقع في وعي الشّاعر القديم، أو ربّما هو كان على وعي بهذا الواقع اللـّغويّ، لكن دون أن يكون وعيه قائما على «التصنّع» أو النأي عن الحياة.
ولعلّ ما يغفل عنه شعراء «قصيدة البيت» أن الخليل إنّما بنى معجمه «العين» على ذات النّظريّة، التي بنى عليها فكرة الدّوائر العروضيّة. وهي نظريّة التّباديل والتّوافيق في الرّياضيّات وفي الشعر، حيث ترد المادّة اللـّغويّة على صورة معيّنة، فإذا أعيد ترتيبها تولّدت منها صورة ثانية فثالثة وهكذا دواليك. وهو ما جاراه فيه ابن جنيّ في نظريّة الاشتقاق الأكبر، إذ يعقد المعنى الواحد على أصل من الأصول الثــّلاثيّة وعلى تقاليبه المستعملة، يجمع التّراكيب وما يتصرّف من كلّ واحد منها عليه. بيد أنّ ما يعنينا من هذا، أنّ العلائق اللـّغويّة الاستعاريّة التّضاديّة في هذا النمط من «الشعر» المتخلّف، لا تنطوي، بحكم الأساليب البديعيّة، التي تنتظمها، على أيّة «قابليّة تغيّر»؛ وهي لا تجعل الكلمة تنتقل إلى فعل تعبيريّ وتندمج مع رغبة الإنسان وانفعالاته؛ وتتحوّل من ذاكـرة إلى كتابة، ومن متخيّل «تصوّريّ» إلى متخيّل إبداعي، أو بعبارة أدقّ من كتابة «غير مرئيّة» متحرّرة من كلّ جسمانيّة، إلى كتابة مرئيّة قد يكون أساسها تصوّرا مختلفا للنّظر، جعل من العين شبه معدّل خطيّ للمرئيّ، يجسّ الأشياء ويضبط قياسها.
شاعر وناقد تونسي