للأماكن رائحة، فما بالك إن كانت حمص
محمد النجار
الجمعة 9 يونيو 2017 م
لكل مكان تألفه العين رائحة تعلق في الذاكرة. ولحمص، واسطة العقد السوري، رائحة وطعم يشعرانك بالألفة. سنحاول أن نذهب معاً لنتذكر طعم الأكل في حمص ونشم رائحته.العطارون يداوون بالتي كانت هي الداءُ
حين تزور حمص لا بد أن تزور أسواقها التي تعبق برائحة التوابل، ومواد العطارة. تعرّج على سوق العطارين، الذي يعود بناؤه للعهد العثماني، ويبدأ من طلعة سوق النحاسين، ويمتد إلى مسافة 80 متراً باتجاه الشرق، ويتقاطع مع أسواق القيسرية والعبي والخياطين. هناك، ستكون لرائحة التوابل المعروضة جنباً إلى جنب في الدكاكين، وهي تتفاعل مع بعضها البعض، فعل السحر عليك. مهنة العطارة من المهن التراثية الشعبية التي توارثها الأبناء عن الأجداد، وتشتهر محالّ العطارة ببيع الكثير من النباتات الطبيعية كالبابونج والكمون والكزبرة وحبة البركة والزيزفون والورد الجوري والبنفسج، والعديد من أنواع الأعشاب، والتوابل والزيوت والعطورات. يلجئ الكثيرون إلى العطارين بحثاً عن العلاج: نبات الشيح ذو الطعم المر والذي تحوي أزهاره زيتاً طيّاراً يستعمل كمشروب يزيل الحرارة ويعالج الروماتيزم، أو الخلة التي تُغلى ثِمارها ويُشرب ماؤها لدرّ البول، وتسكين آلام المغص الكلوي. تحتاج مهنة العطارة إلى خبرة واسعة وتجربة عميقة، وما زال في المدينة عدد من المحالّ الشهيرة والقديمة جداً، التي حافظت على هذا التقليد، كعطارة الأتاسي، وطليمات، والطرشة وعيون السود، وغيرها. يتميز سوق العطارة أيضاً بواجهات من الحجر الأسود، نُحتت على بعض أجزائها أشكال هندسية. أرضيته مرصوفة بالحجر الأسود القديم. السوق مغطى بسقف مصنوع من حجارة الكلس والقنّب، على شكل قباب متداخلة، يتخللها فتحات تهوئة مقابل كل محل تسمح بمرور أشعة الشمس إلى داخله. وتزينه ثريات وفوانيس مزخرفة، على الطراز الشرقي القديم. ويعود بناء هذا السوق تحديداً إلى عهد أسعد باشا العظم، الذي حكم من 1743 إلى 1756.في الفطور الحُمصي، الفتّة هي الملك
يعدّ طبق الفتة سيد الأطباق الصباحية في حمص، فغالباً ما تفوح في البيوت عند الصباح رائحة الحمّص المسلوق والخبز المقلي على النار ورائحة الطحينة واللبن. يتطلب طبق الفتة مهارة في كيفية تحضير التتبيلة الخاصة، المكونة من الملح والكمون والثوم. ويرافق طبق الفتة الذي يتصدر وسط المائدة، طبق الشنكليش، الذي يعتبر من أهم الأطباق الشائعة في البيت الحمصي. يصنع الشنكليش على شكل أقراص من قريشة اللبن، بعد سحب دسمها، ويُدهن بالتوابل، ويُترك تحت الشمس حتى يجفّ. وبعد تجفيفه يترك حتى يتخمّر، لذلك يتميز برائحته العفنة وطعمه اللّاذع. يتم تناوله مع الشاي الساخن، ويمكن أن يقدم على شكل سلطة بعد إضافة البندورة والبصل والفليفلة والخيار والنعناع وزيت الزيتون. وهو من الأكلات التي يتم تموينها وتخزينها في المنازل ليكون حاضراً على الدوام. لا بد أن أيضاً يحضر طبق المكدوس، وهو باذنجان صغير الحجم، يتم سلقه وتنشيفه وحشوه بالجوز والثوم والفلفل الأحمر، ثم طمره في كمية مناسبة من زيت الزيتون. [caption id="attachment_61819" align="alignnone" width="700"] الشنكليش والمكدوس[/caption]الكُبة الحمصية: طقوس متكاملة على شكل وجبة
أشهى الروائح التي تنتشر في وقت الغداء في حمص، رائحة الكبة بكل أنواعها، مقلية أو مشوية أو مطهوة في الفرن. والكبة في حمص ليست مجرد وجبة طعام، بل هي طقس كامل في شكل وجبة. يتغنى أهالي حمص بأنواع الكبب التي يصنعونها، والتي تُسمى في حمص (كُبي). وهي عبارة عن برغل معجون باللحم الأحمر، محشو باللحم المفروم الناعم مع البصل والمكسرات، كالجوز والفستق الحلبي والصنوبر. وتقدم الكبة بأكثر من شكل، فإمّا أن تكون مشوية ويضاف إليها المزيد من الدهن والشحم، أو تقدم مقلية. يمكن أيضاً أن تمدّ على صينية وتخبز بالفرن. من الأكلات المعروفة هي الكبة مع اللبن، التي يصبح اسمها كبة لبنية، وهناك أكثر من عشرة أنواع أخرى للكبة، ولكن هذين النوعين هما الأكثر تداولاً. ولا بد أن يكون الطبق الآخر المرافق للكبة، الشيشبرك. تطبخ من لبن الغنم مع عجينة خاصة، تتكون من الطحين والملح والماء، محشوة باللحمة الناعمة والبصل الناعم، وبعض الزيت والملح، وبعض البهارات. الشيشبرك من الأكلات الشرقية القديمة الموجودة غالباً على المائدة الحمصية. يشتهر الحماصنة أيضاً بصنع المحاشي المختلفة، لكنهم يتميزون عن غيرهم من مطابخ المدن السورية، بصنع محشي البطاطا، التي تحشى عادة باللحم والصنوبر ودبس الرمان. تشتهر المدينة أيضاً بطبق البامية بزيت الزيتون، وبابا غنوج المصنوع من اللبن والثوم بدلاً من الطحينة كما في حلب.البصما والشعيبيات والفواشات للتحلية
يبدع أهل حمص بصنع العديد من الحلويات. لا يمكن أن يخلو أي منزل في أي وقت من الأوقات من طبق أو أكثر، من أصناف الحلويات. تختلف أنواع الحلويات من الشعبية الشهيرة، التي تحضرها سيدات البيوت في حمص، وهي الفطاير، أو "الشعيبيات"، وهي رقائق من العجين تُحشى إما بالقشدة أو بالجوز والسكر. إلى الفواشات التي يتم تناولها مع القطر، والكنافة التي تُحضّر في المنازل أيضاً ولها أنواع مثل "البصما" أو "الإسطنبولية"، والقطائف، التي تصنع من الدقيق والسميد وتُحشى بالجبنة الحلوة أو بالقشدة أو المكسرات من جوز ولوز وفستق.حمص وحماة تتنافسان على أفضل حلاوة الجبن
من الحلويات المشهورة في حمص، حلاوة الجبن، التي عرف بها العديد من محالّ حمص المختصة بصناعة الحلويات، كمحل أبو اللبن وسلسلة محالّ السواس، والناطور وغيرها. تعتبر حلاوة الجبن أكلة مشتركة بين حماة وحمص، وتتنافس المدينتان في تبني ابتكار هذه الأكلة وتطويرها. يعتقد الحمويون أن عائلة سلورة هي من ابتكرت هذه المادة قبل الحماصنة منذ عشرات السنين. يتم تحضير حلاوة الجبن من الماء والسكر والسميد، وهناك أيضاً النوع الآخر والأغلى ثمناً، الذي يطلق عليه حلاوة الجبن المحشوة. وهناك أنواع من الحلويات لا يمكن أن تراها إلا في حمص، مثل البشمينا، وهي من الحلويات الشعبية التي اشتهرت واختصت بها مدينة حمص. تحضّر من الدقيق، ويتم غليَها بقطر السكر وتوضع على حجر من الرخام ويُرش فوقها الطحين. من ثم تطوى بطريقة فنية ويتم لفها عدة مرات مع إضافة الدقيق الناعم المحمص بواسطة ماكينة تحميص خاصة تشبه محمصة الفستق، حتى تصبح على شكل طبقات، وكلما طويَت تُكبس حتى تعود للتمدد ومن ثم ترش بالدقيق وتقطع وتعتبر ذات مذاق رائع ويكثر بيعها أثناء خميس الحلاوة في حمص. مثلها المغطوطة، وهي أكلة موسمية، يكثر بيعها في فصل الشتاء، يتم تحضيرها بصب الحليب البارد غير المغلي، في صوانٍ كبيرة الحجم، ويترك 8 ساعات حتى تظهر طبقة تسمى "الأيما" أي وجه الحليب. ثم يوضع خبز التنّور على وجه الصواني، حتى يتشرّب "الأيما" ويقطع ويضاف إليه السكر أو القطر، علماً أن الأيما ليست قشطة، بل أكثر دسماً منها."أكلة وانحسبت عليك كُولْ وبحلق عينيك"
في حمص، كما في كل سوريا، تكثر الأمثال التي تتحدث عن الطعام. فالنصيحة التي تقدم للمتزوجات حديثاً: "إذا بدك تملكيه بالأكل دلّليه"، وهو يشبه المثل القائل: "أقرب طريق إلى قلب الرجل معدته". ويقال "فلان عينو شبعانة"، أي أنه ليس دنيء النفس، وحين يخجل أحد على الطعام، يقال له: "أكلة وانحسبت عليك كُولْ وبحلق عينيك". ويقال: "بيناتنا خبز وملح"، بمعنى أن الإنسان الذي يأكل من بيتك أو تأكل من بيته، تأمن غدره وخيانته والأمر متبادل. والأمثلة كثيرة وعديدة يذكرها جورج فارس رباحية في كتاب "أمثال حمص الشعبية" كقولهم: "كثرة الطباخين حرقت الطبخة!" و"لا تحط خبزك بجيب غيرك وتاكلوا بالمنية" و"أكل الرجال على قد فعالها" و"طعمي التم بتستحي العين" و"لاقيلي ولا تطعميني" و"شو ما طبخت العمشى جوزها بيتعشى". في حمص أيضاً مجموعة من المطاعم الفاخرة، لعل أبرزها مطاعم فندق السفير ومطعم جوليا دومنا، ومطعم بيت الآغا الذي يعود لعصر المماليك. وهناك المطاعم الشعبية التي تقدم المأكولات الشعبية مثل الفتة والفول، ومطاعم الوجبات السريعة التي تقدّم الوجبات السريعة العالمية، إلى جانب الشاورما والدجاج المشوي. في حمص القديمة، جميع المطاعم متجاورة، قرب شارع شكري القوتلي. يذكر أن هذه المعالم والمظاهر الحمصية، اختفت منذ بداية الأزمة السورية في ربيع 2011. أصبحت المدينة مهددة بتغيير وجهها التاريخي والحضاري، بعد الدمار الكبير الذي لحق بها. أخذ الحمصيون معهم أكلاتهم وحلوياتهم أينما ذهبوا، ليبقوا أوفياء لتراث مدينتهم.