10/7/2024
قرض العرب الشعر على البحور الـ16 قبل أن يكتشفها الفراهيدي بمئات السنوات (شترستوك)
شغلني التكرار منذ حوالي 15 عامًا، ونسيت كيف خطر على بالي، وما الذي كان يشغلني فيه تحديدًا؛ لكنه ظل يعتمل في عقلي اللاواعي، كما اكتشفت لاحقًا.
فكرت في مرحلة لاحقة في السر الكامن وراء حب الناس للموسيقى.. لماذا نحب الموسيقى؟ ما الفرق بين الموسيقى والكلام العادي؟ فقلت إن الفارق هو الإيقاع، أي تكرار ذات الإيقاع.. مثل الرقصات الأفريقية على إيقاع الطبول، أو حرف الروي في القصيدة التقليدية العربية.
يبدو أن التكرار إذًا يفيد التحفيز.. ولكن، لماذا نحب الإيقاع؟ خطر على بالي قبل أشهر قليلة أن الإيقاع يؤدي إلى أثر تراكمي عند التكرار؛ فالوحدة الأساسية ليست بالضرورة هي التي تستثير السعادة، وإنما تكرارها.. تخيل مثلًا ضربة طبل واحدة أو قصيدة شعرية من بيت واحد! لن تشعر بالفرحة فيها لانعدام الإيقاع. وهنا أخذت أبحث في عقلي الواعي تارة واللاواعي تارة أخرى عن تفسير السعادة عند الإيقاع، فوجدت عملية شبيهة في الجسم -وفي الأعصاب تحديدًا- وهي تراكم الجهد الكهربائي العصبي؛ أي أن تكرار إيقاع الطبل لعله يحقق تأثيره؛ بسبب التأثير التراكمي للجهد العصبي في القنوات الخلوية.
نموذج يوضح الأثر التراكمي على الأعصاب، وفيه يظهر أن الجهد العصبي يتراكم إلى أن يتجاوز عتبة معينة، فتنطلق الإشارة الكهربائية، ولعل هذا الأمر هو ما يفسر الشعور بالانفصال التام عن العالم الخارجي بعد الدخول في حالة من التأمل.
ولكن التكرار يثير التثبيط، فمع أن التكرار يعمق المعرفة، فإنه يبث مشاعر الملل.. غِبْ وَزُرْ غِبًّا تَزِدْ حُبًّا فَمَنْ.. أَكْثَرَ التَّرْدَادَ أَضْنَاهُ المَلَل (لامية ابن الوردي).
قبل أيام قليلة فسر أحد الصحفيين الفلسطينيين في أميركا سبب استخدام القرآن صيغة "استطاعوا" في الآية: {فما اسْطاعوا أَن يظْهروه وما استطاعوا له نقبًا} [الكهف: 97] بدلًا من تكرار صيغة "اسطاعوا" بأن العرب لا تحب التكرار في الكلام، ولكن العرب تحب التكرار في حرف الرويّ، ولكن – من ناحية أخرى- العرب لا تحب الإيطاء، أي تكرار كلمة حرف الروي نفسها.
أأزعمُ أني هائمٌ ذو صبابة لسعدى.. ولا أبكي وتبكي الحمائمُ
كَذِبْتُ وبيتِ اللهِ لو كنتُ عاشقًا.. لما سبقتني بالبكاءِ الحمائمُ
وهنا برقت الفكرة التالية في هذا العصف الذهني منذ سنوات: التكرار يسبب التثبيط، أي تقليل التأثير عند تكرار المحفز.. هذه الفكرة أعرفها من مجال آخر، وهو المجال نفسه الذي فسّر أثر الإيقاع على زيادة الفرحة؛ الأعصاب. حيث تقوم الأعصاب بتثبيط الإشارة عند تكرارها؛ لأنها تحتاج إلى وقت لاستعادة سيولتها العصبية إلى داخل الأعصاب ما قبل العقدة.
ثمة توجهان متعارضان مع تكرار المحفز: زيادة التأثير، وضمور التأثير.
وبعدما كنت أقارن التكرار بين الملل في مجال والإثارة في مجال آخر، وقف شطرا التكرار وجهًا لوجه على أحرف القصيد، الأمر الذي سهّل المقارنة، والخطو خطوة واحدة إلى الأمام..
ما السبب في أن الإيقاع يثير الأعصاب، والتكرار في الوقت نفسه يثبط الأعصاب؟ ما الفرق بين حرف الروي والإيطاء؟
هنا قلت في نفسي إن حرف الروي له بُعد سماعيّ، أما الإيطاء فله بُعد معنويّ.. إننا نحب الفِكَر الجديدة في قالب سمعي مكرر يسهل حفظه، وهذه هي القصيدة العربية، ومن هنا قفزت الفكرة الرائعة، وهي الهدف من هذه التدوينة..
إن قنوات المستقبلات التي يثيرها الإيقاع وحرف الروي، والتي تقع على المسار العصبي السمعي، هي قنوات تعمل بالقنوات التي يزيد فيها الجهد الكهربي للعصب مع التكرار؛ أما قنوات المستقبلات التي تثبط الإثارة عند تكرار المعاني، فهي قنوات تقع على المسار العصبي الخاص بالتفكير المنطقي في الدماغ.
وهنا انطلقت الفِكَر من عقالها كخيول جامحة
لقد قرض العرب الشعر على البحور الـ16 قبل أن يكتشفها الفراهيدي بمئات السنوات.. ألا يبدو هذا أمرًا غريبًا؟ ألا ترى أنه من الغرابة التزام مئات وآلاف الشعراء بقوانين لا يعرفونها ولا يدركون وجودها أصلًا؟! فيبدو أن ثمة 16 مسارًا عصبيًا في الدماغ، تتبادل فيها القنوات التي تُستثار وتثبط بالتكرار (وربما بأبعاد أخرى) أدوارها.
لعلها تعوض النقص في إثارة الأعصاب السماعية بإثارة أعصاب المعنى.
على ما يبدو، أن ثمة مسارات عصبية محددة في الدماغ البشري، وفيها تتحدد قواعد اللغات في العالم أجمع.
شغلني التكرار منذ حوالي 15 عاما، ونسيت كيف خطر على بالي، وما الذي كان يشغلني فيه تحديدا؛ لكنه ظل يعتمل في عقلي اللاواعي، كما اكتشفت لاحقا.
فكرت في مرحلة لاحقة في السر الكامن وراء حب الناس للموسيقا.. لماذا نحب الموسيقا؟ ما الفرق بين الموسيقا والكلام العادي؟ فقلت إن الفارق هو الإيقاع، أي تكرار ذات الإيقاع.. مثل الرقصات الأفريقية على إيقاع الطبول، أو حرف الروي في القصيدة التقليدية العربية.
يبدو أن التكرار إذًا يفيد التحفيز.. ولكن، لماذا نحب الإيقاع؟ خطر على بالي قبل أشهر قليلة أن الإيقاع يؤدي إلى أثر تراكمي عند التكرار؛ فالوحدة الأساسية ليست بالضرورة هي التي تستثير السعادة، وإنما تكرارها.. تخيل مثلا ضربة طبل واحدة أو قصيدة شعرية من بيت واحد! لن تشعر بالفرحة فيها لانعدام الإيقاع.
وهنا أخذت أبحث في عقلي الواعي تارة واللاواعي تارة أخرى عن تفسير السعادة عند الإيقاع، فوجدت عملية شبيهة في الجسم -وفي الأعصاب تحديدا- وهي تراكم الجهد الكهربائي العصبي؛ أي أن تكرار إيقاع الطبل لعله يحقق تأثيره بسبب التأثير التراكمي للجهد العصبي في القنوات الخلوية.
نموذج يوضح الأثر التراكمي على الأعصاب، وفيه يظهر أن الجهد العصبي يتراكم إلى أن يتجاوز عتبة معينة، فتنطلق الإشارة الكهربائية، ولعل هذا الأمر هو ما يفسر النيرفانا.
ولكن التكرار يثير التثبيط، فمع أن التكرار يعلم الحمار، فإن التكرار يبث مشاعر الملل.. غِب وزُر غِبا، فمَن أكثر الترداد أضناه الملل (لامية ابن الوردي).
قبل أيام قليلة فسر أحد الصحفيين الفلسطينيين في أميركا سبب تغيير الله كلمة "استطاعوا" في الآية: {فما اسْطاعوا أَن يظْهروه وما استطاعوا له نقبًا} [الكهف: 97] إلى كلمة "اسطاعوا".. فسرها بأن العرب لا تحب التكرار بالكلام لكنهم يفضلونه في حروف الرويّ، ومن ناحية أخرى العرب لا يحبون الإيطاء، أي تكرار كلمة حرف الروي نفسها.
أأزعمُ أني هائمٌ ذو صبابة لسعدى ولا أبكي وتبكي الحمائمُ
كَذِبْتُ وبيتِ اللهِ لو كنتُ عاشقا لما سبقتني بالبكاءِ الحمائمُ
وهنا برقت الفكرة التالية في هذا العصف الذهني منذ سنوات: التكرار يسبب التثبيط، أي تقليل التأثير عند تكرار المحفز.. هذه الفكرة أعرفها من مجال آخر، وهو المجال نفسه الذي فسّر أثر الإيقاع على زيادة الفرحة؛ الأعصاب. حيث تقوم الأعصاب بتثبيط الإشارة عند تكرارها لأنها تحتاج الى وقت لاستعادة سيولتها العصبية الى داخل الاعصاب ما قبل العقدة.
ثمة توجهان متعارضان مع تكرار المحفز:
وبعدما كنت أقارن التكرار بين الملل في مجال والإثارة في مجال آخر، وقف شطرا التكرار وجها لوجه على أحرف القصيد، الأمر الذي سهّل المقارنة، والخطو خطوة واحدة إلى الأمام..
ما السبب في أن الإيقاع يثير الأعصاب، والإيطاء في الوقت نفس تثبيط الأعصاب؟ ما الفرق بين حرف الروي والإيطاء؟
هنا قلت في نفسي إن حرف الروي له بُعد سماعيّ، أما الإيطاء فله بُعد معنويّ.. إننا نحب الفِكَر الجديدة في قالب سمعي مكرر يسهل حفظه، وهذه هي القصيدة العربية، ومن هنا قفزت الفكرة الرائعة، وهي الهدف من هذه التدوينة..
إن قنوات المستقبلات التي يثيرها الإيقاع وحرف الروي، والتي تقع على المسار العصبي السمعي، هي قنوات تعمل بالقنوات التي يزيد فيها الجهد الكهربي للعصب مع التكرار؛ أما قنوات المستقبلات التي تثبط الإثارة عند تكرار المعاني، فهي قنوات تقع على المسار العصبي الخاص بالتفكير المنطقي في الدماغ.
وهنا انطلقت الفِكَر من عقالها كخيول جامحة
لقد قرض العرب الشعر على البحور الـ16 قبل أن يكتشفها الفراهيدي بمئات السنوات.. ألا يبدو هذا أمرا غريبا؟ ألا ترى أنه من الغرابة التزام مئات وآلاف الشعراء بقوانين لا يعرفونها ولا يدركون وجودها أصلا؟! فيبدو أن ثمة 16 مسارا عصبيا في الدماغ، تتبادل فيها القنوات التي تُستثار وتثبط بالتكرار (وربما بأبعاد أخرى) أدوارها.
لعلها تعوض النقص في إثارة الأعصاب السماعية بإثارة أعصاب المعنى.
النظرية التوليدية لنعوم تشومسكي الذي حضرت محاضرة له في مدينة ماينز الألمانية أيام دراستي، وفيها تحدث عن نظرية الأنفة، وقال فيها إن القواعد اللغوية تكمن في الجينات.. ها! كيف ذلك؟! فأين نجد نظريات الفاعل؟ على أي جين؟! وهل قواعد اللغات متشابهة أصلا؟.
على ما يبدو، إن ثمة مسارات عصبية محددة في الدماغ البشري، وفيها تتحدد قواعد اللغات في العالم أجمع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
قرض العرب الشعر على البحور الـ16 قبل أن يكتشفها الفراهيدي بمئات السنوات (شترستوك)
شغلني التكرار منذ حوالي 15 عامًا، ونسيت كيف خطر على بالي، وما الذي كان يشغلني فيه تحديدًا؛ لكنه ظل يعتمل في عقلي اللاواعي، كما اكتشفت لاحقًا.
فكرت في مرحلة لاحقة في السر الكامن وراء حب الناس للموسيقى.. لماذا نحب الموسيقى؟ ما الفرق بين الموسيقى والكلام العادي؟ فقلت إن الفارق هو الإيقاع، أي تكرار ذات الإيقاع.. مثل الرقصات الأفريقية على إيقاع الطبول، أو حرف الروي في القصيدة التقليدية العربية.
يبدو أن التكرار إذًا يفيد التحفيز.. ولكن، لماذا نحب الإيقاع؟ خطر على بالي قبل أشهر قليلة أن الإيقاع يؤدي إلى أثر تراكمي عند التكرار؛ فالوحدة الأساسية ليست بالضرورة هي التي تستثير السعادة، وإنما تكرارها.. تخيل مثلًا ضربة طبل واحدة أو قصيدة شعرية من بيت واحد! لن تشعر بالفرحة فيها لانعدام الإيقاع. وهنا أخذت أبحث في عقلي الواعي تارة واللاواعي تارة أخرى عن تفسير السعادة عند الإيقاع، فوجدت عملية شبيهة في الجسم -وفي الأعصاب تحديدًا- وهي تراكم الجهد الكهربائي العصبي؛ أي أن تكرار إيقاع الطبل لعله يحقق تأثيره؛ بسبب التأثير التراكمي للجهد العصبي في القنوات الخلوية.
ما السبب في أن الإيقاع يثير الأعصاب، والتكرار في الوقت نفسه يثبط الأعصاب؟ ما الفرق بين حرف الروي والإيطاء؟
نموذج يوضح الأثر التراكمي على الأعصاب، وفيه يظهر أن الجهد العصبي يتراكم إلى أن يتجاوز عتبة معينة، فتنطلق الإشارة الكهربائية، ولعل هذا الأمر هو ما يفسر الشعور بالانفصال التام عن العالم الخارجي بعد الدخول في حالة من التأمل.
ولكن التكرار يثير التثبيط، فمع أن التكرار يعمق المعرفة، فإنه يبث مشاعر الملل.. غِبْ وَزُرْ غِبًّا تَزِدْ حُبًّا فَمَنْ.. أَكْثَرَ التَّرْدَادَ أَضْنَاهُ المَلَل (لامية ابن الوردي).
- والسؤال هنا: ما الفرق بين نوعي التكرار هذا؟ متى يكون التكرار مملًا؟ ومتى يزيد من شعورنا بالفرحة؟. ظل هذا السؤال يجول في الأجواء كطائر السنونو!
قبل أيام قليلة فسر أحد الصحفيين الفلسطينيين في أميركا سبب استخدام القرآن صيغة "استطاعوا" في الآية: {فما اسْطاعوا أَن يظْهروه وما استطاعوا له نقبًا} [الكهف: 97] بدلًا من تكرار صيغة "اسطاعوا" بأن العرب لا تحب التكرار في الكلام، ولكن العرب تحب التكرار في حرف الرويّ، ولكن – من ناحية أخرى- العرب لا تحب الإيطاء، أي تكرار كلمة حرف الروي نفسها.
أأزعمُ أني هائمٌ ذو صبابة لسعدى.. ولا أبكي وتبكي الحمائمُ
كَذِبْتُ وبيتِ اللهِ لو كنتُ عاشقًا.. لما سبقتني بالبكاءِ الحمائمُ
وهنا برقت الفكرة التالية في هذا العصف الذهني منذ سنوات: التكرار يسبب التثبيط، أي تقليل التأثير عند تكرار المحفز.. هذه الفكرة أعرفها من مجال آخر، وهو المجال نفسه الذي فسّر أثر الإيقاع على زيادة الفرحة؛ الأعصاب. حيث تقوم الأعصاب بتثبيط الإشارة عند تكرارها؛ لأنها تحتاج إلى وقت لاستعادة سيولتها العصبية إلى داخل الأعصاب ما قبل العقدة.
ثمة توجهان متعارضان مع تكرار المحفز: زيادة التأثير، وضمور التأثير.
وبعدما كنت أقارن التكرار بين الملل في مجال والإثارة في مجال آخر، وقف شطرا التكرار وجهًا لوجه على أحرف القصيد، الأمر الذي سهّل المقارنة، والخطو خطوة واحدة إلى الأمام..
ما السبب في أن الإيقاع يثير الأعصاب، والتكرار في الوقت نفسه يثبط الأعصاب؟ ما الفرق بين حرف الروي والإيطاء؟
هنا قلت في نفسي إن حرف الروي له بُعد سماعيّ، أما الإيطاء فله بُعد معنويّ.. إننا نحب الفِكَر الجديدة في قالب سمعي مكرر يسهل حفظه، وهذه هي القصيدة العربية، ومن هنا قفزت الفكرة الرائعة، وهي الهدف من هذه التدوينة..
إن قنوات المستقبلات التي يثيرها الإيقاع وحرف الروي، والتي تقع على المسار العصبي السمعي، هي قنوات تعمل بالقنوات التي يزيد فيها الجهد الكهربي للعصب مع التكرار؛ أما قنوات المستقبلات التي تثبط الإثارة عند تكرار المعاني، فهي قنوات تقع على المسار العصبي الخاص بالتفكير المنطقي في الدماغ.
وهنا انطلقت الفِكَر من عقالها كخيول جامحة
- ما التفسير العلمي لبحور الشعر الـ 16؟
لقد قرض العرب الشعر على البحور الـ16 قبل أن يكتشفها الفراهيدي بمئات السنوات.. ألا يبدو هذا أمرًا غريبًا؟ ألا ترى أنه من الغرابة التزام مئات وآلاف الشعراء بقوانين لا يعرفونها ولا يدركون وجودها أصلًا؟! فيبدو أن ثمة 16 مسارًا عصبيًا في الدماغ، تتبادل فيها القنوات التي تُستثار وتثبط بالتكرار (وربما بأبعاد أخرى) أدوارها.
- ماذا عن القصائد العمودية؟
لعلها تعوض النقص في إثارة الأعصاب السماعية بإثارة أعصاب المعنى.
- ومن هنا ننتقل إلى النظرية التوليدية لنعوم تشومسكي، الذي حضرت محاضرة له في مدينة ماينز الألمانية أيام دراستي، وفيها تحدث عن نظرية الأنفة، وقال فيها إن القواعد اللغوية تكمن في الجينات.. ها! كيف ذلك؟! فأين نجد نظريات الفاعل؟ على أي جين؟! وهل قواعد اللغات متشابهة أصلًا؟.
على ما يبدو، أن ثمة مسارات عصبية محددة في الدماغ البشري، وفيها تتحدد قواعد اللغات في العالم أجمع.
شغلني التكرار منذ حوالي 15 عاما، ونسيت كيف خطر على بالي، وما الذي كان يشغلني فيه تحديدا؛ لكنه ظل يعتمل في عقلي اللاواعي، كما اكتشفت لاحقا.
فكرت في مرحلة لاحقة في السر الكامن وراء حب الناس للموسيقا.. لماذا نحب الموسيقا؟ ما الفرق بين الموسيقا والكلام العادي؟ فقلت إن الفارق هو الإيقاع، أي تكرار ذات الإيقاع.. مثل الرقصات الأفريقية على إيقاع الطبول، أو حرف الروي في القصيدة التقليدية العربية.
العرب لا تحب التكرار بالكلام لكنهم يفضلونه في حروف الرويّ
يبدو أن التكرار إذًا يفيد التحفيز.. ولكن، لماذا نحب الإيقاع؟ خطر على بالي قبل أشهر قليلة أن الإيقاع يؤدي إلى أثر تراكمي عند التكرار؛ فالوحدة الأساسية ليست بالضرورة هي التي تستثير السعادة، وإنما تكرارها.. تخيل مثلا ضربة طبل واحدة أو قصيدة شعرية من بيت واحد! لن تشعر بالفرحة فيها لانعدام الإيقاع.
وهنا أخذت أبحث في عقلي الواعي تارة واللاواعي تارة أخرى عن تفسير السعادة عند الإيقاع، فوجدت عملية شبيهة في الجسم -وفي الأعصاب تحديدا- وهي تراكم الجهد الكهربائي العصبي؛ أي أن تكرار إيقاع الطبل لعله يحقق تأثيره بسبب التأثير التراكمي للجهد العصبي في القنوات الخلوية.
نموذج يوضح الأثر التراكمي على الأعصاب، وفيه يظهر أن الجهد العصبي يتراكم إلى أن يتجاوز عتبة معينة، فتنطلق الإشارة الكهربائية، ولعل هذا الأمر هو ما يفسر النيرفانا.
ولكن التكرار يثير التثبيط، فمع أن التكرار يعلم الحمار، فإن التكرار يبث مشاعر الملل.. غِب وزُر غِبا، فمَن أكثر الترداد أضناه الملل (لامية ابن الوردي).
- والسؤال هنا: ما الفرق بين نوعي التكرار هذا؟ متى يكون التكرار مملا؟ ومتى يزيد من شعورنا بالفرحة؟. ظل هذا السؤال يجول في الأجواء كطائر السنونو!
قبل أيام قليلة فسر أحد الصحفيين الفلسطينيين في أميركا سبب تغيير الله كلمة "استطاعوا" في الآية: {فما اسْطاعوا أَن يظْهروه وما استطاعوا له نقبًا} [الكهف: 97] إلى كلمة "اسطاعوا".. فسرها بأن العرب لا تحب التكرار بالكلام لكنهم يفضلونه في حروف الرويّ، ومن ناحية أخرى العرب لا يحبون الإيطاء، أي تكرار كلمة حرف الروي نفسها.
أأزعمُ أني هائمٌ ذو صبابة لسعدى ولا أبكي وتبكي الحمائمُ
كَذِبْتُ وبيتِ اللهِ لو كنتُ عاشقا لما سبقتني بالبكاءِ الحمائمُ
إننا نحب الفِكَر الجديدة في قالب سمعي مكرر يسهل حفظه، وهذه هي القصيدة العربية
وهنا برقت الفكرة التالية في هذا العصف الذهني منذ سنوات: التكرار يسبب التثبيط، أي تقليل التأثير عند تكرار المحفز.. هذه الفكرة أعرفها من مجال آخر، وهو المجال نفسه الذي فسّر أثر الإيقاع على زيادة الفرحة؛ الأعصاب. حيث تقوم الأعصاب بتثبيط الإشارة عند تكرارها لأنها تحتاج الى وقت لاستعادة سيولتها العصبية الى داخل الاعصاب ما قبل العقدة.
ثمة توجهان متعارضان مع تكرار المحفز:
- زيادة التأثير.
- ضمور التأثير.
وبعدما كنت أقارن التكرار بين الملل في مجال والإثارة في مجال آخر، وقف شطرا التكرار وجها لوجه على أحرف القصيد، الأمر الذي سهّل المقارنة، والخطو خطوة واحدة إلى الأمام..
ما السبب في أن الإيقاع يثير الأعصاب، والإيطاء في الوقت نفس تثبيط الأعصاب؟ ما الفرق بين حرف الروي والإيطاء؟
هنا قلت في نفسي إن حرف الروي له بُعد سماعيّ، أما الإيطاء فله بُعد معنويّ.. إننا نحب الفِكَر الجديدة في قالب سمعي مكرر يسهل حفظه، وهذه هي القصيدة العربية، ومن هنا قفزت الفكرة الرائعة، وهي الهدف من هذه التدوينة..
إن قنوات المستقبلات التي يثيرها الإيقاع وحرف الروي، والتي تقع على المسار العصبي السمعي، هي قنوات تعمل بالقنوات التي يزيد فيها الجهد الكهربي للعصب مع التكرار؛ أما قنوات المستقبلات التي تثبط الإثارة عند تكرار المعاني، فهي قنوات تقع على المسار العصبي الخاص بالتفكير المنطقي في الدماغ.
ثمة مسارات عصبية محددة في الدماغ البشري، وفيها تتحدد قواعد اللغات في العالم أجمع
وهنا انطلقت الفِكَر من عقالها كخيول جامحة
- ما التفسير العلمي لبحور الشعر الـ 16؟
لقد قرض العرب الشعر على البحور الـ16 قبل أن يكتشفها الفراهيدي بمئات السنوات.. ألا يبدو هذا أمرا غريبا؟ ألا ترى أنه من الغرابة التزام مئات وآلاف الشعراء بقوانين لا يعرفونها ولا يدركون وجودها أصلا؟! فيبدو أن ثمة 16 مسارا عصبيا في الدماغ، تتبادل فيها القنوات التي تُستثار وتثبط بالتكرار (وربما بأبعاد أخرى) أدوارها.
- ماذا عن القصائد العمودية؟
لعلها تعوض النقص في إثارة الأعصاب السماعية بإثارة أعصاب المعنى.
- ومن هنا ننتقل إلى النظرية التوليدية لنعوم تشومسكي
النظرية التوليدية لنعوم تشومسكي الذي حضرت محاضرة له في مدينة ماينز الألمانية أيام دراستي، وفيها تحدث عن نظرية الأنفة، وقال فيها إن القواعد اللغوية تكمن في الجينات.. ها! كيف ذلك؟! فأين نجد نظريات الفاعل؟ على أي جين؟! وهل قواعد اللغات متشابهة أصلا؟.
على ما يبدو، إن ثمة مسارات عصبية محددة في الدماغ البشري، وفيها تتحدد قواعد اللغات في العالم أجمع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
-
صوفيا خوجاباشي
كاتبة