1/7/2024
التاريخ بين صورتين!
رحلة حياة البشرية فيها قدر من التماسك المنطقي رغم اختزالها الشديد (وكالة الأناضول)
اعتلى الدكتور خليل بركتاي، رئيس قسم التاريخ في جامعة ابن خلدون، المنصة يومًا ليلقي علينا درس التحقيب التاريخي (periodization) ضمن مادة "البشرية والمجتمع".
عرض علينا قطعة صغيرة لا يمكن تمييزها من الرسم الشهير "بعد ظهر يوم أحد على جزيرة لاغراند جات"، للرسام جورج سورات؛ ثم سألنا: ما الذي ترونه على الصورة؟ ارتبكنا قليلًا، إذ لا يظهر لنا سوى انعكاس مشوه لا يُرى منه غير نقاط مفرقة، لا ترسم صورة ولا تحمل معنى! ثم عرض لنا صورة أخرى تشمل الجزء الذي لم نتعرف عليه، وضم إليه مشاهد أوسع، وسألنا مجددًا عما نراه في الصورة.. وهكذا حتى بدت الصورة أكثر وضوحًا، وأقدر على إعطاء معنى يفهمه المشاهد، وكانت الصورة كلما كبرت ضاعت فيها التفاصيل الصغيرة التي وقعت أعيننا عليها أول الأمر، لكن – في المقابل- صار لها معنى ندركه ونستطيع شرحه.
أراد بهذه الطريقة التعليمية أن يوضح أن تقطيع التاريخ إلى حقب زمانية، بمقدوره أن يمكّن الطالب من إدراك كنه التاريخ وحركته الكبيرة في الزمان، وأن من شأن هذه الصورة الكبيرة للتاريخ أن تضيّع التفاصيل الصغيرة المهمة، كما أنه لا يكون لهذه التفاصيل معنى ما لم توضع في سياق أكبر.
دعني أطرح سؤالًا من جنس سؤال الأستاذ: ما الذي يراه المؤرخ من الصورة الكبيرة التي يعيشها الإنسان؟
تتمخض سردية الكتابات التاريخية عن ميلاد البشرية وتطورها منذ خروج الإنسان الأول من أفريقيا، ومزاولة البشرية للصيد والجمع طريقةً في التعيُّش، ثم انحسار الجليد نتيجة ارتفاع معدلات الحرارة ليسمح لنوع آخر من أساليب العيش بالوجود، حيث اكتشف الإنسان الزراعة، واستطاع تأنيس الحيوان، فانتقل من حياة البدو الرحل إلى الحواضر المستقرة، فأنتج المدينة، وأسس الدولة، وظهرت الإمبراطوريات الكبيرة.
ونتيجة للتطور التقني المادي استطاع الإنسان أن يطوّع الحديد، ويستخرج الفحم، ويخترع الآلة البخارية، ثم كانت الثورة الصناعية عصرًا جديدًا مختلفًا عما سبقه، لكن سرعان ما غرقت البشرية في حروب مستمرة أسفرت عن تفكك الإمبراطوريات وظهور الدول القومية -العقارية بتعبير الشنقيطي-، ثم أفنى المتحاربون أنفسهم في حربين عالميتين كبيرتين، مات فيهما عشرات الملايين من البشر، وقضى آخرون نحبهم في المجاعات والأمراض التي خلفتها الحروب.
احتل المنتصرون الأراضي وأبادوا السكان الأصليين، ثم اختلفوا إلى نموذجين وقطبين؛ الاشتراكية والرأسمالية، أو الروس والأميركان، وخاضوا حربًا باردة (لا تلوث دم الرجل الأبيض النزيه، بل تجعل من دول العالم الثالث -حسب اصطلاحهم- أرضًا لمعركتهم)، انتهت بانتصار الأميركان والرأسمالية، ثم أُعلنت (نهاية التاريخ)، وهي لحظة مثالية يستمر فيها النموذج الديمقراطي الليبرالي الذي تديره أميركا إلى الأبد.
تبدو هذه الصورة كبيرة بالفعل، فهي تختصر رحلة حياة البشرية في جمل كبيرة، فيها قدر من التماسك المنطقي رغم اختزالها الشديد، لكن لا يهمني هنا مراجعة صحة هذه السردية من عدمها، ما يهمني هو وضع هذه الصورة (الكبيرة) المغرية لطالب في الصف الأول أمام صورة أخرى مغفلة، والمساءلة عن الحدود القصوى التي تُظهرها لنا هذه الصورة عن التاريخ! بمعنى آخر، إلى أي مدى هي كبيرة؟ فكر في السؤال وسأرجع إليه لاحقًا. لكن قبل ذلك، أريد أن أنتقل بك أخي الكريم إلى عالم مباين، ورواية للتاريخ مختلفة.
يرصد القرآن خمسة عوالم مختلفة يمر بها الإنسان، له في كل عالم أطوار وأغيار لا تكون في عداه، وله فيه نشأة مختلفة، وكل مرحلة تشكل لبنة مهمة في بناء ذاكرته التاريخية.. يحدثنا القرآن عن عالم الذر، وعالم الأجل والأمل، وعالم البرزخ، وعالم المحشر، وعالم الأبد والخلود. سأعلق باختصار على هذه العوالم حتى أضعها بعد ذلك في مقابلة مع ما تم ذكره سابقًا.
أو عالم الميثاق، وهي اللحظة التي سبقت ولادة الإنسان، وفيها أُخذ عليه العهد والإقرار بربوبية الله تعالى وتوحيده، قال تعالى: ﴿وإذ أخذ ربُّك من بني آدم من ظُهورهم ذُرِّيَّتهم وأشْهدَهم على أنفُسهم أَلَسْتُ بربِّكم قالوا بلى شهِدْنا أَن تقولوا يومَ القيامة إنَّا كنَّا عن هذا غافلين﴾ [الأعراف: 172]. يستصعب المرء تذكر هذه اللحظة ويغفل عنها، ولولا إخبار الله عنها لما تصورها، لكنها جزء أصيل من كينونة الإنسان، وهو عقد حقيقي بين العبد وربه وليس متخيلًا، ولأهميته التأسيسية جعل منه الدكتور طه عبدالرحمن منطلقًا معرفيًا في بناء فلسفته الائتمانية في كتابه "روح الدين".
عالم الأجل والأمل (الدنيا)
ثم يأتي على الإنسان عالم آخر يسمى بعالم الأجل والأمل، حياته في الدنيا من الولادة إلى الوفاة والوفادة، وهو عالم خاص بكل إنسان حطّ رحاله في هذه الدنيا، وعامّ لكل البشرية منذ خرج آدم عليه السلام إلى الدنيا إلى قيام الساعة. وقد تحدث القرآن كثيرًا عن هذه الفترة، بل تكاد تكون نصف القرآن، حيث تدخل فيها قصص الأنبياء وأنباء الأمم السابقة، وحوادث السيرة النبوية، وما ورد من قراءات استباقية لمستقبل الزمان، حتى لحظة النهاية التي يأذن الله فيها لإسرافيل بالنفخ في الصور.
وفي بيان طبيعة هذه المرحلة وما يعترضها من أهوال وأخطار، وأجل وأمل، رسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رسمة ورد ذكرها في صحيح البخاري، فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله – عنه قال: "خطَّ النبيّ – صلَّى الله عليه وسلّم – خطًّا مربّعا، وخَطَّ خَطًّا في الوسط خارجًا منه، وخَطَّ خُططًا صِغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان، وهذا أجَلُه مُحيط به -أو: قد أحاط به- وهذا الذي هو خارجٌ أمَلُه، وهذه الخُطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا".
عالم البرزخ
وهو العالم الثالث الذي يمر به كل إنسان، ويبدأ من حين خروجه من الدنيا بالموت إلى حين يبعث من قبره بعد النفخ في الصور. تؤكد هذه المرحلةُ حقيقتين اثنتين؛ أن الموت واقع بالإنسان لا محالة، وأن الحياة الدنيا ليست النهاية، قال تعالى: {حتَّىٰ إذا جاء أحدَهم الموت قال ربِّ ارْجِعونِ لعلِّي أعمل صالحًا فيما تركتُ ۚكلَّا إنَّها كلمةٌ هو قائلها ومِن ورائهم برزخٌ إلىٰ يوم يُبعثون} [المؤمنون:099- 100].
عالم المحشر
تعددت أسماء هذا اليوم الجلل في كتاب الله، فجاء كل اسم بصفة مختلفة لمشهد من مشاهد المحشر، منها: يوم الحساب، العرض، القيامة، التناد، الخروج، التغابن، التلاق، الطامة، الصاخة، القارعة، الآزفة، والحاقة. وإذا استطال الإنسان أن يعيش مئة سنة في دنياه (العالم الثاني) فإنه سيعيش خمسين ألف سنة يوم المحشر. يبدأ حشر الناس بقيامهم من قبورهم، وبعثهم بعد موتهم ﴿وأنَّ السَّاعة آتيةٌ لا ريب فيها وأنَّ اللَّه يبعث مَن في القبور﴾ [الحج: 7]. وتقدر بعض الأرقام أن إجمالي من ولد على مدى 200 ألف سنة إلى 2010 تقارب 62 مليار إنسان، وهو عدد كبير جدًا دون احتساب السنوات الأخيرة، والجان والحيوان، فكيف بك وهم مجتمعون حفاة عراة يرقبون إذن الله – تعالى – بالحساب.
عالم الأبد والخلود
وهي المحطة الأخيرة حيث "يؤتى بالموت كبشًا أغرّ فيوقف بين الجَنَّة والنار، فيُقال، يا أهل الجنة، فيَشْرئبُّون وينظرون، ويقال: يا أهل النار، فيَشْرئِبُّون وينظرون، ويرون أن قد جاء الفرج، فيُذبح، ويقال: خلود لا موت". فبعد أن يحاسب الإنسان على أعماله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، تأتي هذه المرحلة التي تدوم إلى أبد الآبدين، حيث لا نهاية ولا غاية. قال الله تعالى في الهالكين: {يُضاعَف له العذاب يوم القيامة ويَخلُد فيه مُهانًا} [الفرقان: 69].
دعني أرجع بك الآن إلى السؤال الذي عرّجت به؛ ما هي حدود الصورة الكبيرة التي يدعي المؤرخ رؤيتها؟
المنتبه للكتابات التاريخية يرى أنها غارقة في الحديث عن مرحلة واحدة فقط من أعمار متعددة يمر بها الإنسان، وهي المرحلة الثانية (الدنيا)، ثم ينقطع نَفَسُهم عن أن يرقبوا حركة المرء في العوالم السابقة واللاحقة عنها، ذلك أنها من أمر الغيب، ولا يمكن الاطلاع عليها إلا بالوحي، وطريق الوحي الخبر الصادق.
وهذا يرجعنا إلى مستوى أعمق متعلق بنظرية المعرفة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ومنها النظر التاريخي، إذ مدار هذه العلوم على أمرين؛ إما الاعتراف بالوجود المادي، أو الوجود الذهني، كما عليه الوضعيون والمثاليون، وحاولت مدارس اجتماعية أخرى المزاوجة بينهما، لكنها في أحسن الأحوال تحصر أدوات المعرفة في النظر العقلي والنظر الحسي، وللإسلام عليهما مزية مضاعفة، فهو يعترف بهذين المصدرين المعرفيين، ويزيد عليهما اعتبار الخبر الصادق. ومن ذلك تختلف تجليات المعرفة على الواقع بناء على البنية المعرفية الكامنة خلف النظرية.
اختزال الحياة الإنسانية في عالم واحد، لم يكن محض صدفة، بل نتيجة استبعاد الوحي، والاستغناء بالذات عقلًا وحسًا. وفي المقابل، اعتبار الوحي في النظر التاريخي ينقذ الإنسان من اختزال وجوده في بعد زماني واحد، ويمكّنه من إدراك حياته الطويلة جدًا مقارنة بعدد سني حياته في الدنيا، ولذلك بعد سلوكي؛ فمعرفة الإنسان بقصر حياته الدنيوية وطول آخرته، تجعله يعتني بمآله الأخروي، ووزن الأمور بما تستحق، إضافة إلى دفع الإنسان إلى فضائل الأخلاق، لعلمه بمآل فعله وخضوعه للحساب في الآخرة.
إذن، أي الصورتين أكبر؛ الذي لا يرى من التاريخ إلا عمرًا واحدًا، أمّن يجمع إليه أربعة أعمار أخرى؟.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
التاريخ بين صورتين!
رحلة حياة البشرية فيها قدر من التماسك المنطقي رغم اختزالها الشديد (وكالة الأناضول)
اعتلى الدكتور خليل بركتاي، رئيس قسم التاريخ في جامعة ابن خلدون، المنصة يومًا ليلقي علينا درس التحقيب التاريخي (periodization) ضمن مادة "البشرية والمجتمع".
عرض علينا قطعة صغيرة لا يمكن تمييزها من الرسم الشهير "بعد ظهر يوم أحد على جزيرة لاغراند جات"، للرسام جورج سورات؛ ثم سألنا: ما الذي ترونه على الصورة؟ ارتبكنا قليلًا، إذ لا يظهر لنا سوى انعكاس مشوه لا يُرى منه غير نقاط مفرقة، لا ترسم صورة ولا تحمل معنى! ثم عرض لنا صورة أخرى تشمل الجزء الذي لم نتعرف عليه، وضم إليه مشاهد أوسع، وسألنا مجددًا عما نراه في الصورة.. وهكذا حتى بدت الصورة أكثر وضوحًا، وأقدر على إعطاء معنى يفهمه المشاهد، وكانت الصورة كلما كبرت ضاعت فيها التفاصيل الصغيرة التي وقعت أعيننا عليها أول الأمر، لكن – في المقابل- صار لها معنى ندركه ونستطيع شرحه.
أراد بهذه الطريقة التعليمية أن يوضح أن تقطيع التاريخ إلى حقب زمانية، بمقدوره أن يمكّن الطالب من إدراك كنه التاريخ وحركته الكبيرة في الزمان، وأن من شأن هذه الصورة الكبيرة للتاريخ أن تضيّع التفاصيل الصغيرة المهمة، كما أنه لا يكون لهذه التفاصيل معنى ما لم توضع في سياق أكبر.
احتل المنتصرون الأراضي وأبادوا السكان الأصليين، ثم اختلفوا إلى نموذجين وقطبين؛ الاشتراكية والرأسمالية، أو الروس والأميركان، وخاضوا حربًا باردة (لا تلوث دم الرجل الأبيض النزيه، بل تجعل من دول العالم الثالث -حسب اصطلاحهم- أرضًا لمعركتهم)
دعني أطرح سؤالًا من جنس سؤال الأستاذ: ما الذي يراه المؤرخ من الصورة الكبيرة التي يعيشها الإنسان؟
تتمخض سردية الكتابات التاريخية عن ميلاد البشرية وتطورها منذ خروج الإنسان الأول من أفريقيا، ومزاولة البشرية للصيد والجمع طريقةً في التعيُّش، ثم انحسار الجليد نتيجة ارتفاع معدلات الحرارة ليسمح لنوع آخر من أساليب العيش بالوجود، حيث اكتشف الإنسان الزراعة، واستطاع تأنيس الحيوان، فانتقل من حياة البدو الرحل إلى الحواضر المستقرة، فأنتج المدينة، وأسس الدولة، وظهرت الإمبراطوريات الكبيرة.
ونتيجة للتطور التقني المادي استطاع الإنسان أن يطوّع الحديد، ويستخرج الفحم، ويخترع الآلة البخارية، ثم كانت الثورة الصناعية عصرًا جديدًا مختلفًا عما سبقه، لكن سرعان ما غرقت البشرية في حروب مستمرة أسفرت عن تفكك الإمبراطوريات وظهور الدول القومية -العقارية بتعبير الشنقيطي-، ثم أفنى المتحاربون أنفسهم في حربين عالميتين كبيرتين، مات فيهما عشرات الملايين من البشر، وقضى آخرون نحبهم في المجاعات والأمراض التي خلفتها الحروب.
احتل المنتصرون الأراضي وأبادوا السكان الأصليين، ثم اختلفوا إلى نموذجين وقطبين؛ الاشتراكية والرأسمالية، أو الروس والأميركان، وخاضوا حربًا باردة (لا تلوث دم الرجل الأبيض النزيه، بل تجعل من دول العالم الثالث -حسب اصطلاحهم- أرضًا لمعركتهم)، انتهت بانتصار الأميركان والرأسمالية، ثم أُعلنت (نهاية التاريخ)، وهي لحظة مثالية يستمر فيها النموذج الديمقراطي الليبرالي الذي تديره أميركا إلى الأبد.
تبدو هذه الصورة كبيرة بالفعل، فهي تختصر رحلة حياة البشرية في جمل كبيرة، فيها قدر من التماسك المنطقي رغم اختزالها الشديد، لكن لا يهمني هنا مراجعة صحة هذه السردية من عدمها، ما يهمني هو وضع هذه الصورة (الكبيرة) المغرية لطالب في الصف الأول أمام صورة أخرى مغفلة، والمساءلة عن الحدود القصوى التي تُظهرها لنا هذه الصورة عن التاريخ! بمعنى آخر، إلى أي مدى هي كبيرة؟ فكر في السؤال وسأرجع إليه لاحقًا. لكن قبل ذلك، أريد أن أنتقل بك أخي الكريم إلى عالم مباين، ورواية للتاريخ مختلفة.
يرصد القرآن خمسة عوالم مختلفة يمر بها الإنسان، له في كل عالم أطوار وأغيار لا تكون في عداه، وله فيه نشأة مختلفة، وكل مرحلة تشكل لبنة مهمة في بناء ذاكرته التاريخية.. يحدثنا القرآن عن عالم الذر، وعالم الأجل والأمل، وعالم البرزخ، وعالم المحشر، وعالم الأبد والخلود. سأعلق باختصار على هذه العوالم حتى أضعها بعد ذلك في مقابلة مع ما تم ذكره سابقًا.
يأتي على الإنسان عالم آخر يسمى بعالم الأجل والأمل، حياته في الدنيا من الولادة إلى الوفاة والوفادة، وهو عالم خاص بكل إنسان حطّ رحاله في هذه الدنيا، وعامّ لكل البشرية منذ خرج آدم عليه السلام إلى الدنيا إلى قيام الساعة
عالم الذرأو عالم الميثاق، وهي اللحظة التي سبقت ولادة الإنسان، وفيها أُخذ عليه العهد والإقرار بربوبية الله تعالى وتوحيده، قال تعالى: ﴿وإذ أخذ ربُّك من بني آدم من ظُهورهم ذُرِّيَّتهم وأشْهدَهم على أنفُسهم أَلَسْتُ بربِّكم قالوا بلى شهِدْنا أَن تقولوا يومَ القيامة إنَّا كنَّا عن هذا غافلين﴾ [الأعراف: 172]. يستصعب المرء تذكر هذه اللحظة ويغفل عنها، ولولا إخبار الله عنها لما تصورها، لكنها جزء أصيل من كينونة الإنسان، وهو عقد حقيقي بين العبد وربه وليس متخيلًا، ولأهميته التأسيسية جعل منه الدكتور طه عبدالرحمن منطلقًا معرفيًا في بناء فلسفته الائتمانية في كتابه "روح الدين".
عالم الأجل والأمل (الدنيا)
ثم يأتي على الإنسان عالم آخر يسمى بعالم الأجل والأمل، حياته في الدنيا من الولادة إلى الوفاة والوفادة، وهو عالم خاص بكل إنسان حطّ رحاله في هذه الدنيا، وعامّ لكل البشرية منذ خرج آدم عليه السلام إلى الدنيا إلى قيام الساعة. وقد تحدث القرآن كثيرًا عن هذه الفترة، بل تكاد تكون نصف القرآن، حيث تدخل فيها قصص الأنبياء وأنباء الأمم السابقة، وحوادث السيرة النبوية، وما ورد من قراءات استباقية لمستقبل الزمان، حتى لحظة النهاية التي يأذن الله فيها لإسرافيل بالنفخ في الصور.
وفي بيان طبيعة هذه المرحلة وما يعترضها من أهوال وأخطار، وأجل وأمل، رسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رسمة ورد ذكرها في صحيح البخاري، فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله – عنه قال: "خطَّ النبيّ – صلَّى الله عليه وسلّم – خطًّا مربّعا، وخَطَّ خَطًّا في الوسط خارجًا منه، وخَطَّ خُططًا صِغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان، وهذا أجَلُه مُحيط به -أو: قد أحاط به- وهذا الذي هو خارجٌ أمَلُه، وهذه الخُطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا".
عالم البرزخ
وهو العالم الثالث الذي يمر به كل إنسان، ويبدأ من حين خروجه من الدنيا بالموت إلى حين يبعث من قبره بعد النفخ في الصور. تؤكد هذه المرحلةُ حقيقتين اثنتين؛ أن الموت واقع بالإنسان لا محالة، وأن الحياة الدنيا ليست النهاية، قال تعالى: {حتَّىٰ إذا جاء أحدَهم الموت قال ربِّ ارْجِعونِ لعلِّي أعمل صالحًا فيما تركتُ ۚكلَّا إنَّها كلمةٌ هو قائلها ومِن ورائهم برزخٌ إلىٰ يوم يُبعثون} [المؤمنون:099- 100].
عالم المحشر
تعددت أسماء هذا اليوم الجلل في كتاب الله، فجاء كل اسم بصفة مختلفة لمشهد من مشاهد المحشر، منها: يوم الحساب، العرض، القيامة، التناد، الخروج، التغابن، التلاق، الطامة، الصاخة، القارعة، الآزفة، والحاقة. وإذا استطال الإنسان أن يعيش مئة سنة في دنياه (العالم الثاني) فإنه سيعيش خمسين ألف سنة يوم المحشر. يبدأ حشر الناس بقيامهم من قبورهم، وبعثهم بعد موتهم ﴿وأنَّ السَّاعة آتيةٌ لا ريب فيها وأنَّ اللَّه يبعث مَن في القبور﴾ [الحج: 7]. وتقدر بعض الأرقام أن إجمالي من ولد على مدى 200 ألف سنة إلى 2010 تقارب 62 مليار إنسان، وهو عدد كبير جدًا دون احتساب السنوات الأخيرة، والجان والحيوان، فكيف بك وهم مجتمعون حفاة عراة يرقبون إذن الله – تعالى – بالحساب.
عالم الأبد والخلود
وهي المحطة الأخيرة حيث "يؤتى بالموت كبشًا أغرّ فيوقف بين الجَنَّة والنار، فيُقال، يا أهل الجنة، فيَشْرئبُّون وينظرون، ويقال: يا أهل النار، فيَشْرئِبُّون وينظرون، ويرون أن قد جاء الفرج، فيُذبح، ويقال: خلود لا موت". فبعد أن يحاسب الإنسان على أعماله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، تأتي هذه المرحلة التي تدوم إلى أبد الآبدين، حيث لا نهاية ولا غاية. قال الله تعالى في الهالكين: {يُضاعَف له العذاب يوم القيامة ويَخلُد فيه مُهانًا} [الفرقان: 69].
معرفة الإنسان بقصر حياته الدنيوية وطول آخرته، تجعله يعتني بمآله الأخروي، ووزن الأمور بما تستحق، إضافة إلى دفع الإنسان إلى فضائل الأخلاق، لعلمه بمآل فعله وخضوعه للحساب في الآخرة
بين صورتيندعني أرجع بك الآن إلى السؤال الذي عرّجت به؛ ما هي حدود الصورة الكبيرة التي يدعي المؤرخ رؤيتها؟
المنتبه للكتابات التاريخية يرى أنها غارقة في الحديث عن مرحلة واحدة فقط من أعمار متعددة يمر بها الإنسان، وهي المرحلة الثانية (الدنيا)، ثم ينقطع نَفَسُهم عن أن يرقبوا حركة المرء في العوالم السابقة واللاحقة عنها، ذلك أنها من أمر الغيب، ولا يمكن الاطلاع عليها إلا بالوحي، وطريق الوحي الخبر الصادق.
وهذا يرجعنا إلى مستوى أعمق متعلق بنظرية المعرفة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ومنها النظر التاريخي، إذ مدار هذه العلوم على أمرين؛ إما الاعتراف بالوجود المادي، أو الوجود الذهني، كما عليه الوضعيون والمثاليون، وحاولت مدارس اجتماعية أخرى المزاوجة بينهما، لكنها في أحسن الأحوال تحصر أدوات المعرفة في النظر العقلي والنظر الحسي، وللإسلام عليهما مزية مضاعفة، فهو يعترف بهذين المصدرين المعرفيين، ويزيد عليهما اعتبار الخبر الصادق. ومن ذلك تختلف تجليات المعرفة على الواقع بناء على البنية المعرفية الكامنة خلف النظرية.
اختزال الحياة الإنسانية في عالم واحد، لم يكن محض صدفة، بل نتيجة استبعاد الوحي، والاستغناء بالذات عقلًا وحسًا. وفي المقابل، اعتبار الوحي في النظر التاريخي ينقذ الإنسان من اختزال وجوده في بعد زماني واحد، ويمكّنه من إدراك حياته الطويلة جدًا مقارنة بعدد سني حياته في الدنيا، ولذلك بعد سلوكي؛ فمعرفة الإنسان بقصر حياته الدنيوية وطول آخرته، تجعله يعتني بمآله الأخروي، ووزن الأمور بما تستحق، إضافة إلى دفع الإنسان إلى فضائل الأخلاق، لعلمه بمآل فعله وخضوعه للحساب في الآخرة.
إذن، أي الصورتين أكبر؛ الذي لا يرى من التاريخ إلا عمرًا واحدًا، أمّن يجمع إليه أربعة أعمار أخرى؟.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
حسين مديحج
باحث في العلوم الاجتماعية والثقافة الإسلامية