النحات السوري غازي عانا: أعشق التجريد لأنه مرتبط بالحرية التعبيرية وبصدق الأداء
15 نوفمبر 2023
حوار: بسام جميدة
أشار إلى نخبوية هذا الفن وصعوبة تلقّيه وضحالة الثقافة البصرية والتشكيلة لدى الغالبية
استمع
- لم تعد الأساليب والمفاهيم مقياس للعمل الجيد.
- يعود تعلّقي وهوسي بالنحت لصديق ورّطني في هذا التعب الممتع.
- غياب الدعم وعدم اقتناء الأعمال والبحث عن صالة للعرض أبرز الصعوبات.
للمرة الأولى في حياتي المهنية أحاور نحاتاً، كنت محتاراً كيف ومن أين أبدأ بالأسئلة مع الفنان السوري غازي عانا، فهذا النوع من الفن كان ولايزال محل جدل بين الكثيرين.
كنت أتابعه وأتابع ما تفعله أنامله وما يقدمه من رؤى فنية متنوعة، وبحكم جواري لسنوات طوال لصالة الشعب للفنون الجميلة وسط دمشق، كنت أحضر معارض كثيرة لنحاتين سوريين، كنت متفرجاً ولا أبدي رأياً، واستمتع أحيانا واستغرب في أحيان كثيرة من عدد من الأعمال كوني لا أجيد قراءة ما توحيه.
تابعت أيضا في أوقات كثيرة منحوتات عدة ومعارض أقيمت في الساحات العامة بدمشق، وحتى عملية نحت بعض الأشجار المتيبسة في الحدائق العامة وتحويلها لتحف فنية تسر الناظرين.
قرأت كثيرا وطويلا عن رحلة الفنان السوري غازي عانا الذي قدم منحوتات كثيرة وكانت محل تقدير ونقاش في الأوساط الثقافية، كما أن حياته الفنية لم تقتصر على النحت بل كانت تشمل الرسم التشكيلي، والعمل الإعلامي المتنوع ما بين الصحافة والتلفزيون.
أقام عدة معارض شخصية ومشتركة، وقدم الكثير من الأعمال في مجاله، ويتمتع برؤية خاصة حول فن النحت وأسلوب متفرد يعبر فيه عن ما يراوده من أفكار.
صحيفة "عُمان" أفردت له هذه المساحة وأجاب بكل شفافية على أسئلتنا:
- لماذا النحت في حياة الفنان غازي، وما الذي يعنيه له، وكيف كانت البدايات..؟
• لو لم يكن النحت اشتغالي اليوم، لكانت العمارة هي البديل أو فنّ التصميم والإعلان، وفي جميع الحالات لابدّ من الهروب باتجاه الرسم الذي هو العامل المشترك بينهم جميعاً، والنحت بالنتيجة أيضاً هو محصّلة لتلك الأشكال من التعبير بشكل أو بآخر، وهو الاجتماع المتناغم لها، النحت هو هكذا تحديداً بالنسبة لي، أمّا عن البدايات فكانت في المرحلة الإعدادية والثانوية من الدراسة والتي غالباً تبدأ بالاهتمام بالرسم وتحوّلت إلى النحت لتواجد أحجار كلسية سهلة التعامل في منطقتنا واهتمام زميل لي متفوّق بالدراسة بتنفيذ إطارات لصور من مجموعة متتالية من الورود المحفورة في الحجر بدقة وإبداع في تلوينها، ذلك الزميل "نبيه لحّود" الذي هو اليوم من الأطباء المبدعين يعيش ويعمل في أمريكا منذ خمسين عاماً، يعود تعلّقي وهوسي بالنحت لهذا الصديق الذي ورّطني بهذا التعب الممتع "النحت" الذي بقي أمانة، وما زلت أحاول منذ تلك الفترة إلى اليوم أن أحافظ على نقائها وطهرها.
- ما هو مفهوم النحت في فكر الفنان غازي، وتقديمه للقراء بشكله الموضوعي والمبسط..؟
• بكل الأحوال مهما كانت الإجابة مبسّطة فلابدّ من إشكالية تبدأ من نخبوية هذا الفن وصعوبة تلقّيه، بالإضافة إلى ضحالة الثقافة البصرية والتشكيلة بخاصة لدى العامة على اختلاف مستوى تعليمهم واهتماماتهم، وهذا للأسف يشمل عددا كبيرا من الفنانين الممارسين والمشتغلين بالفنون عامة.
النحت هذا التعب الممتع بالنسبة لي هو همّ جميل أن أحقـّق أميزَ حالاتِ ارتقاءِ الكتلةِ في الفراغ، من انسجامِ الصياغةِ مع نوعِ المادة وإمكاناتها في هذا الشكل من التعبير، لحجمٍ ينهضُ برشاقة متناغماً مع الفضاء الذي يحتويه بحب، ألا يكفي كل هذا لنحتفي بالنحت.!؟
- فلسفة النحت وقيمه الجمالية والأسلوب، ماذا تعني لك هذه المفاهيم عندما تبدأ في صياغة العمل؟ ولماذا المدرسة التجريدية، مع أن الواقعية أقرب للعين وأسهل للفهم؟
• في حضرة النحت، هناك وقت مضاف، حيث للبصر انشغال العين في متعة التأمّل، وللبصيرة اتساع المدى من نشوة الروح، لتتجلّى كل من الرؤية والرؤيا، فيما نراه حقيقة، وما يمكن أن نتخيّله.
بالنسبة للأسلوب أنا نحّات أعشق التجريد؛ لأنه مرتبط بالحرية التعبيرية وبصدق الأداء، وهو بالنتيجة رأي الفنان بما رأته عينه، وما يمكن أن يضيفه الخيال لذلك الواقع الذي يعجز أيّاً كان باستثناء الطبيعة أن يعيد تشكيله كما هو، فلماذا نتعب أنفسنا بإعادة تمثل الأشياء كما هي، هذا بالإضافة إلى كون التجريد يبقي الخلاصة، فكيف يمكن أن تعيد بناء الشكل الذي اخترته برأيك دون أن تعرف صياغته الواقعية؟
وعندما أحاكم عملاً فنياً لأي مبدع لا أهتم بالأسلوب ولا بالموضوع أبحث عن التشكيل، وماذا ترك الفنان من روحه فيه، هناك أعمال واقعية غاية في الروعة ولكنها مختلفة في القيمة التي أراها فيما أضافه الفنان إلى ذلك الواقع، وهذا ينطبق على كل المفاهيم والأساليب التي يشتغل عليها الفنانون اليوم، وقيمة العمل اليوم بمقدرة الفنان على تناغم أكثر من أسلوب وفهم في نفس العمل.
برأيي اليوم وصلنا إلى مرحلة لم تعد فيها الأساليب والمفاهيم معيارا أو مقياسا للعمل الجيد، فقيمته بما أضافه الفنان من روحه وعاطفته لما رآه ببصره وبصيرته.
- يقوم الشخص بإفراغ شحناته في العمل الذي يقوم به، وربما يجسد الصراعات التي تدور بداخله، هل الفنان غازي عانا يمر بهذه الحالة؟
• العمل الفني "الصادق والحقيقي"، هو بالتأكيد وباللّاوعي خلاصة فكر الفنان وبيئته وثقافته وما يحيط به من مؤثّرات وما أكثرها في هذه الظروف الاستثنائية التي نعيشها في سوريا منذ أكثر من 12 سنة.
- وجود المنحوتة في فراغ واسع، على خلاف اللوحة التي تعلق على الجدار، كيف تتغلب على وحشة الفراغ حول العمل، وكيف توجد هذا التناغم؟
• لكثير من الأعمال النحتية فراغين داخلي تحتضنه وخارجي يحضنها، والفراغ جزء أساسي من المنحوتة ولابدّ من تناغم هذين الفراغين مع الكتلة الأساسية المشكّلة للعمل الذي ينهض مراعياً تلك العناصر الأساسية مع بعضها، وهناك أهمية بالغة لكل من الفراغين الداخلي والخارجي في تحديد ورسم حدود المنحوتة من الداخل والخارج وهو نفسه الضوء الذي تغتسل فيه الكتلة فيعبر منها ويغلّفها بحميمية وتناغم.
وهنا لابدّ أن يراعي النحات مكان وجود العمل كفراغ وما يحيط به من عناصر لتتناغم هي أيضاً معه من حيث الحجم واللون والتشكيل، وهذه مشكلة من الضروري الانتباه له ليضيف كل منهما "الفراغ والعمل" إلى الآخر قيمة وأهمية، وبخاصة العمل الميداني أو الحدائقي، وبالتالي ليحقّق للمشاهد أو العابر المتعة والفائدة.
- دعني أفاتحك بسر غالبا ما يكون حديث الكثيرين، ومفاده الغموض الذي يكتنف الأعمال الفنية، مما يصعب وصوله للمتلقي، لماذا كل هذا التعقيد؟ ما الذي يريد أن يوصله الفنان من خلال عمل فني معقد لوحة أو منحوتة مثلا؟
• ربما لم أفهم قصدك بالعمل الفني المعقّد، أنا أعترف بأعمال قد يكتنفها الغموض كموضوع، ولكن من وجهة نظري أنا لا أهتم كثيراً بموضوع العمل ولا بتسميته حتى لا أقيّد أو أحدّ من حرية المتلقي في قراءة العمل أو التفاعل معه كما يريد هو، وهنا لا ننس مسألة ربما في غاية الأهمية، وكنت أشرت إليها سابقاً بسرعة وهي الثقافة البصرية التشكيلية الضعيفة لدى شريحة كبيرة حتى من المثقفين أو المتعلمين، وبما يخصّ العمل الفني هي ليست سهلة أو يمكن تحصيلها إلّا من خلال المتابعة الجادة ومنذ الصغر بدءاً من الاهتمام بحصّة الرسم في المدارس وزيارة المتاحف للتعرف على الإرث الفني البصري الغني والعظيم الموجود على كل الأراضي السورية، "سوريا مهد الحضارات الإنسانية".
- في لحظات من حياة الإنسان يبدو النحت عملا شاقا وخصوصا في الأعمال كبيرة الحجم أو التي تتطلب جهداً أو تثير الغبار مثلاً، كيف للنحات أن يستمر مع شغفه في كل مراحل حياته؟
• النحت يا صديقي هو متعب حقيقة، ولكنه في نفس الوقت هو ممتع أيضاً، والأعمال الكبيرة لا شكّ تتطلب جهداً إضافيا ووقتاً لإنجازها وصعوبة تنفيذها تعود لطبيعة التشكيل ونوع الحجر أو المادة.
والنحت من أصعب أشكال الفنون التشكيلية منذ ما قبل التنفيذ وحتى انتهاء العمل والتوقيع عليه، هذا الزمن وحتى الإنجاز هو مجموع مراحل عديدة يمرّ بها، وكل واحدة لها متاعبها، وعندما ينتهي العمل ويصبح جاهزاً للعرض تبدأ مرحلة جديدة من المتاعب التي لها علاقة برغبة الصالات بقبول عرضها للنحت، وصعوبة اقتنائه بالنسبة للوحة، هذا غير التكلفة الباهظة التي أصبحت عبئاً حقيقياً على النحات في ظلّ ضائقة اقتصادية خانقة وحالة ركود عامة في مسألة الاقتناء.
- لازالت هناك نظرة مريبة من المجتمع تجاه الأعمال النحتية والتماثيل مثلا، كم تعانون من هذه النظرة؟ وكيف السبيل لتبديد المخاوف المتعلقة بالمعتقدات الدينية مثلا بين الناس واعتبارها أعمالا فنية وجمالية ليس إلا؟
• هذه مشكلة يعاني منها معظم الفنانين في الوطن العربي وفي منطقتنا بشكل خاص وربما تعوّدنا عليها، وهي إلى اليوم مازالت قائمة وإن بنسب متفاوتة، فمثلاً أنا تخرجت من قسم النحت بكلية الفنون الجميلة العام 1979- 1980، وكان في الكلية أكثر من موديل عارٍ بينما اليوم ومنذ تلك الفترة ألغي الموديل العاري، وحتى الموديل العادي المحتشم أيضاً، هذا بالنسبة للأكاديمية التي تدرّس النحت، فما بالك من المجتمع ورأيه بالفنون والنحت على وجه الخصوص وقس على ذلك، هذا بعض من كلّ وفي التفاصيل يكمن الشيطان.
- تعاملت مع كثير من الأدوات حجر، ومعادن، وأخشاب، أيها أكثر قربا وسلاسة؟
• طبعاً تعاملت مع جميع تلك المواد ولي أعمال في كل منها، لكل من تلك المواد أدواتها وطريقة خاصة بالتعامل معها، وأنا في هذه المرحلة أفضل الصلصال الذي ينتهي غالباً إذا ما توفّرت السيولة المادية إلى مادة البرونز التي تحقّق حضوراً أنيقاً ولافتاً للعمل بشكل عام.
- ما هي أدوات النحات الأساسية ليصوغ عمله ويتحول من مجرد جماد إلى منحوتة معبرة ؟
• كل ما يخطر ببالك من معدات وأدوات، والأهم برأيي هي الأيدي الماهرة والأصابع التي تتحسّس السطح مراعية خصائص تلك المادة التي تحتضنها والتي تبدأ بالتحوّل تدريجياً في حوار غالباً لا يعرف الفنان إلى أين سيصل، وكيف سينتهي، الأجمل والأمتع عندما يفاجئك العمل في تحوّلاته بحالة لا تتوقعها من حسن التشكيل وغنج النهوض.
- بصراحة، هل تجد إقبالا على اقتناء ما تصنع؟ وهل يحقق لك المردود المادي كفنان؟ وهل تجدون كنحاتين الدعم المناسب من الجهات المعنية بالثقافة؟
• الإجابة على أسئلتك السابقة كانت كلّها بصراحة، وهنا لا أخفيك سرّاً عندما قلت بأن الفن التشكيلي كان وسيبقى نخبوياً وخاصة النحت الذي هو الأقل حظّاً بالاقتناء من اللوحة، وأنا نحّات أعشق التجريد ولا أراعي ذائقة أحد من المقتنين، المهم أن ترضيني وأحبّها أنا، وما يعجب الزملاء والمهتمين غالباً لا يكون التجريد فيه طاغياً "واقعي تعبيري، أو واقعي أكثر"، وبالتالي لا يمكن أن تعتمد على الفن والنحت بخاصة ليحقّق لك المردود المادي وبالأخصّ في هذه الظروف الاقتصادية والمعيشية الخانقة التي نعيشها هذه الأيام. أما بالنسبة للدعم، فحدّث ولا حرج، إذ إنه لا يوجد دعم من أي جهة سواء رسمية كانت أو خاصة. أنا أمارس هوايتي وأتمنى لو بقيت هاوياً، أذهب إلى مشغلي يومياً وما زلت استمتع بالعمل وهذه غاية لا يدركها سوى الفنان، عندما يدركني التعب من النحت أذهب إلى الرسم وإلى هوايات أخرى، المهم أن أمضي وقتاً مفيداً وممتعاً في مشغلي الفضاء الذي أنا جهّزته بما يرضي ذائقتي ورغبتي في ذلك الوقت الذي كان الزمن في آخر أيام عزّه وجماله. تحية إلى النحت الذي يتحمّل كل أخطائنا وشغبنا ومزاجنا ليفاجئنا في أكثر الأحيان بحالة جمالية تُروْحِنُ بصرنا وبصيرتنا وبعض حياتنا. تحية لك صديقي على اهتمامك بشؤون وشجون هذا الفن الذي لم تعد له أولوية بالنسبة لمعظم الناس والهيئات والمؤسّسات هذه الأيام.
- لديك تجارب في الصحافة وفي الإعلام المرئي وكلها تنصب في الفن بشكل عام، إلى أين أردت أن تصل؟ وما هي الرسالة والهدف؟
• بصراحة هذا السؤال لو أحلته للمهتمين أو الفنانين أنفسهم فهم الأجدر بالإجابة عليه، أنا عملت بالصحافة المقروءة منذ كنت طالباً في السنة الثالثة بكلية الفنون الجميلة 1978 كوظيفة بجريدة تشرين وكتبت في معظم الصحف والمجلّات السورية والعربية، وفي شعبة إعداد البرامج وأنجزت في وقتها مجموعة من الأفلام حول فنانين وروّاد معاصرين في وقتها وقدّمت من خلال برنامجي "رواق الفنون" حوالي 150 حلقة، وأعتقد أنا ومن حولي بأن ما قدّمته كان إنجازاً مميّزاً للفضائية السورية والذي للأسف لم تنتبه الإدارة إلى أهميته قبل أن تفوز إحدى حلقاته بالجائزة الثانية لمهرجان الخليج للإذاعة والتلفزيون في البحرين 2010.
هذا الموضوع بشؤونه وشجونه يؤرّقني حقيقة لكن كنت وما زلت مرتاحاً لما حقّقته من إنجاز للحركة الفنية والتشكيل السوري في تلك الفترة من الزمن الذي كان جميلاً.
- لك مشاركات وأعمال فنية كثيرة، حدثنا عن هذه المسيرة الفنية التي باتت مدرسة بحد ذاتها، وخرجت خارج الحدود السورية؟
• أنا من مواليد عام 1955 في طرطوس وخريج قسم النحت -كلية الفنون الجميلة- بجامعة دمشق 1980، شاركت في العديد من المعارض الجماعية الرسمية والخاصة داخل وخارج سوريا "المعرض السنوي العام"، وتظاهرة الفن في بيروت، وفي الإعداد والتنظيم لعدد من التظاهرات والمعارض الفنية والملتقيات النحتية، كما قمت بإعداد وسيناريو برنامج "رواق الفنون" على الفضائية السورية من عام 2008 ولغاية 2014، وكثير من أعمالي النحتية متموضعة كمنحوتات نُصبية جمالية في كل من دمشق وحلب واللاذقية والسويداء، وفي لبنان كذلك في منطقة "عالية"، ولدي منحوتة في مدينة فاس المغربية.
وكنت رئيس تحرير مجلة الفنون الجميلة منذ عام (2001-2010)، ومدير تحرير مجلة فنون التابعة للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون لمدة خمس سنوات، وأمين تحرير مجلّة الحياة التشكيلية لتسع سنوات متواصلة، وعضو مكتب تنفيذي في اتحاد الفنانين التشكيليين في سوريا، وكنت عضو لجنة تحكيم المعرض السنوي العام (الخريف، الربيع)، ومعارض ومهرجانات عديدة، ومحاضر في المعهد العالي للموسيقى بدمشق في (تاريخ الفن وعلم الجمال)، وها أنا متفرّغ للنحت في مشغلي الكائن بدمشق القديمة مستمتعاً بعملي وبوقتي رغم كل ما نعانيه من ضيق اقتصادي.
15 نوفمبر 2023
حوار: بسام جميدة
أشار إلى نخبوية هذا الفن وصعوبة تلقّيه وضحالة الثقافة البصرية والتشكيلة لدى الغالبية
استمع
- لم تعد الأساليب والمفاهيم مقياس للعمل الجيد.
- يعود تعلّقي وهوسي بالنحت لصديق ورّطني في هذا التعب الممتع.
- غياب الدعم وعدم اقتناء الأعمال والبحث عن صالة للعرض أبرز الصعوبات.
للمرة الأولى في حياتي المهنية أحاور نحاتاً، كنت محتاراً كيف ومن أين أبدأ بالأسئلة مع الفنان السوري غازي عانا، فهذا النوع من الفن كان ولايزال محل جدل بين الكثيرين.
كنت أتابعه وأتابع ما تفعله أنامله وما يقدمه من رؤى فنية متنوعة، وبحكم جواري لسنوات طوال لصالة الشعب للفنون الجميلة وسط دمشق، كنت أحضر معارض كثيرة لنحاتين سوريين، كنت متفرجاً ولا أبدي رأياً، واستمتع أحيانا واستغرب في أحيان كثيرة من عدد من الأعمال كوني لا أجيد قراءة ما توحيه.
تابعت أيضا في أوقات كثيرة منحوتات عدة ومعارض أقيمت في الساحات العامة بدمشق، وحتى عملية نحت بعض الأشجار المتيبسة في الحدائق العامة وتحويلها لتحف فنية تسر الناظرين.
قرأت كثيرا وطويلا عن رحلة الفنان السوري غازي عانا الذي قدم منحوتات كثيرة وكانت محل تقدير ونقاش في الأوساط الثقافية، كما أن حياته الفنية لم تقتصر على النحت بل كانت تشمل الرسم التشكيلي، والعمل الإعلامي المتنوع ما بين الصحافة والتلفزيون.
أقام عدة معارض شخصية ومشتركة، وقدم الكثير من الأعمال في مجاله، ويتمتع برؤية خاصة حول فن النحت وأسلوب متفرد يعبر فيه عن ما يراوده من أفكار.
صحيفة "عُمان" أفردت له هذه المساحة وأجاب بكل شفافية على أسئلتنا:
- لماذا النحت في حياة الفنان غازي، وما الذي يعنيه له، وكيف كانت البدايات..؟
• لو لم يكن النحت اشتغالي اليوم، لكانت العمارة هي البديل أو فنّ التصميم والإعلان، وفي جميع الحالات لابدّ من الهروب باتجاه الرسم الذي هو العامل المشترك بينهم جميعاً، والنحت بالنتيجة أيضاً هو محصّلة لتلك الأشكال من التعبير بشكل أو بآخر، وهو الاجتماع المتناغم لها، النحت هو هكذا تحديداً بالنسبة لي، أمّا عن البدايات فكانت في المرحلة الإعدادية والثانوية من الدراسة والتي غالباً تبدأ بالاهتمام بالرسم وتحوّلت إلى النحت لتواجد أحجار كلسية سهلة التعامل في منطقتنا واهتمام زميل لي متفوّق بالدراسة بتنفيذ إطارات لصور من مجموعة متتالية من الورود المحفورة في الحجر بدقة وإبداع في تلوينها، ذلك الزميل "نبيه لحّود" الذي هو اليوم من الأطباء المبدعين يعيش ويعمل في أمريكا منذ خمسين عاماً، يعود تعلّقي وهوسي بالنحت لهذا الصديق الذي ورّطني بهذا التعب الممتع "النحت" الذي بقي أمانة، وما زلت أحاول منذ تلك الفترة إلى اليوم أن أحافظ على نقائها وطهرها.
- ما هو مفهوم النحت في فكر الفنان غازي، وتقديمه للقراء بشكله الموضوعي والمبسط..؟
• بكل الأحوال مهما كانت الإجابة مبسّطة فلابدّ من إشكالية تبدأ من نخبوية هذا الفن وصعوبة تلقّيه، بالإضافة إلى ضحالة الثقافة البصرية والتشكيلة بخاصة لدى العامة على اختلاف مستوى تعليمهم واهتماماتهم، وهذا للأسف يشمل عددا كبيرا من الفنانين الممارسين والمشتغلين بالفنون عامة.
النحت هذا التعب الممتع بالنسبة لي هو همّ جميل أن أحقـّق أميزَ حالاتِ ارتقاءِ الكتلةِ في الفراغ، من انسجامِ الصياغةِ مع نوعِ المادة وإمكاناتها في هذا الشكل من التعبير، لحجمٍ ينهضُ برشاقة متناغماً مع الفضاء الذي يحتويه بحب، ألا يكفي كل هذا لنحتفي بالنحت.!؟
- فلسفة النحت وقيمه الجمالية والأسلوب، ماذا تعني لك هذه المفاهيم عندما تبدأ في صياغة العمل؟ ولماذا المدرسة التجريدية، مع أن الواقعية أقرب للعين وأسهل للفهم؟
• في حضرة النحت، هناك وقت مضاف، حيث للبصر انشغال العين في متعة التأمّل، وللبصيرة اتساع المدى من نشوة الروح، لتتجلّى كل من الرؤية والرؤيا، فيما نراه حقيقة، وما يمكن أن نتخيّله.
بالنسبة للأسلوب أنا نحّات أعشق التجريد؛ لأنه مرتبط بالحرية التعبيرية وبصدق الأداء، وهو بالنتيجة رأي الفنان بما رأته عينه، وما يمكن أن يضيفه الخيال لذلك الواقع الذي يعجز أيّاً كان باستثناء الطبيعة أن يعيد تشكيله كما هو، فلماذا نتعب أنفسنا بإعادة تمثل الأشياء كما هي، هذا بالإضافة إلى كون التجريد يبقي الخلاصة، فكيف يمكن أن تعيد بناء الشكل الذي اخترته برأيك دون أن تعرف صياغته الواقعية؟
وعندما أحاكم عملاً فنياً لأي مبدع لا أهتم بالأسلوب ولا بالموضوع أبحث عن التشكيل، وماذا ترك الفنان من روحه فيه، هناك أعمال واقعية غاية في الروعة ولكنها مختلفة في القيمة التي أراها فيما أضافه الفنان إلى ذلك الواقع، وهذا ينطبق على كل المفاهيم والأساليب التي يشتغل عليها الفنانون اليوم، وقيمة العمل اليوم بمقدرة الفنان على تناغم أكثر من أسلوب وفهم في نفس العمل.
برأيي اليوم وصلنا إلى مرحلة لم تعد فيها الأساليب والمفاهيم معيارا أو مقياسا للعمل الجيد، فقيمته بما أضافه الفنان من روحه وعاطفته لما رآه ببصره وبصيرته.
- يقوم الشخص بإفراغ شحناته في العمل الذي يقوم به، وربما يجسد الصراعات التي تدور بداخله، هل الفنان غازي عانا يمر بهذه الحالة؟
• العمل الفني "الصادق والحقيقي"، هو بالتأكيد وباللّاوعي خلاصة فكر الفنان وبيئته وثقافته وما يحيط به من مؤثّرات وما أكثرها في هذه الظروف الاستثنائية التي نعيشها في سوريا منذ أكثر من 12 سنة.
- وجود المنحوتة في فراغ واسع، على خلاف اللوحة التي تعلق على الجدار، كيف تتغلب على وحشة الفراغ حول العمل، وكيف توجد هذا التناغم؟
• لكثير من الأعمال النحتية فراغين داخلي تحتضنه وخارجي يحضنها، والفراغ جزء أساسي من المنحوتة ولابدّ من تناغم هذين الفراغين مع الكتلة الأساسية المشكّلة للعمل الذي ينهض مراعياً تلك العناصر الأساسية مع بعضها، وهناك أهمية بالغة لكل من الفراغين الداخلي والخارجي في تحديد ورسم حدود المنحوتة من الداخل والخارج وهو نفسه الضوء الذي تغتسل فيه الكتلة فيعبر منها ويغلّفها بحميمية وتناغم.
وهنا لابدّ أن يراعي النحات مكان وجود العمل كفراغ وما يحيط به من عناصر لتتناغم هي أيضاً معه من حيث الحجم واللون والتشكيل، وهذه مشكلة من الضروري الانتباه له ليضيف كل منهما "الفراغ والعمل" إلى الآخر قيمة وأهمية، وبخاصة العمل الميداني أو الحدائقي، وبالتالي ليحقّق للمشاهد أو العابر المتعة والفائدة.
- دعني أفاتحك بسر غالبا ما يكون حديث الكثيرين، ومفاده الغموض الذي يكتنف الأعمال الفنية، مما يصعب وصوله للمتلقي، لماذا كل هذا التعقيد؟ ما الذي يريد أن يوصله الفنان من خلال عمل فني معقد لوحة أو منحوتة مثلا؟
• ربما لم أفهم قصدك بالعمل الفني المعقّد، أنا أعترف بأعمال قد يكتنفها الغموض كموضوع، ولكن من وجهة نظري أنا لا أهتم كثيراً بموضوع العمل ولا بتسميته حتى لا أقيّد أو أحدّ من حرية المتلقي في قراءة العمل أو التفاعل معه كما يريد هو، وهنا لا ننس مسألة ربما في غاية الأهمية، وكنت أشرت إليها سابقاً بسرعة وهي الثقافة البصرية التشكيلية الضعيفة لدى شريحة كبيرة حتى من المثقفين أو المتعلمين، وبما يخصّ العمل الفني هي ليست سهلة أو يمكن تحصيلها إلّا من خلال المتابعة الجادة ومنذ الصغر بدءاً من الاهتمام بحصّة الرسم في المدارس وزيارة المتاحف للتعرف على الإرث الفني البصري الغني والعظيم الموجود على كل الأراضي السورية، "سوريا مهد الحضارات الإنسانية".
- في لحظات من حياة الإنسان يبدو النحت عملا شاقا وخصوصا في الأعمال كبيرة الحجم أو التي تتطلب جهداً أو تثير الغبار مثلاً، كيف للنحات أن يستمر مع شغفه في كل مراحل حياته؟
• النحت يا صديقي هو متعب حقيقة، ولكنه في نفس الوقت هو ممتع أيضاً، والأعمال الكبيرة لا شكّ تتطلب جهداً إضافيا ووقتاً لإنجازها وصعوبة تنفيذها تعود لطبيعة التشكيل ونوع الحجر أو المادة.
والنحت من أصعب أشكال الفنون التشكيلية منذ ما قبل التنفيذ وحتى انتهاء العمل والتوقيع عليه، هذا الزمن وحتى الإنجاز هو مجموع مراحل عديدة يمرّ بها، وكل واحدة لها متاعبها، وعندما ينتهي العمل ويصبح جاهزاً للعرض تبدأ مرحلة جديدة من المتاعب التي لها علاقة برغبة الصالات بقبول عرضها للنحت، وصعوبة اقتنائه بالنسبة للوحة، هذا غير التكلفة الباهظة التي أصبحت عبئاً حقيقياً على النحات في ظلّ ضائقة اقتصادية خانقة وحالة ركود عامة في مسألة الاقتناء.
- لازالت هناك نظرة مريبة من المجتمع تجاه الأعمال النحتية والتماثيل مثلا، كم تعانون من هذه النظرة؟ وكيف السبيل لتبديد المخاوف المتعلقة بالمعتقدات الدينية مثلا بين الناس واعتبارها أعمالا فنية وجمالية ليس إلا؟
• هذه مشكلة يعاني منها معظم الفنانين في الوطن العربي وفي منطقتنا بشكل خاص وربما تعوّدنا عليها، وهي إلى اليوم مازالت قائمة وإن بنسب متفاوتة، فمثلاً أنا تخرجت من قسم النحت بكلية الفنون الجميلة العام 1979- 1980، وكان في الكلية أكثر من موديل عارٍ بينما اليوم ومنذ تلك الفترة ألغي الموديل العاري، وحتى الموديل العادي المحتشم أيضاً، هذا بالنسبة للأكاديمية التي تدرّس النحت، فما بالك من المجتمع ورأيه بالفنون والنحت على وجه الخصوص وقس على ذلك، هذا بعض من كلّ وفي التفاصيل يكمن الشيطان.
- تعاملت مع كثير من الأدوات حجر، ومعادن، وأخشاب، أيها أكثر قربا وسلاسة؟
• طبعاً تعاملت مع جميع تلك المواد ولي أعمال في كل منها، لكل من تلك المواد أدواتها وطريقة خاصة بالتعامل معها، وأنا في هذه المرحلة أفضل الصلصال الذي ينتهي غالباً إذا ما توفّرت السيولة المادية إلى مادة البرونز التي تحقّق حضوراً أنيقاً ولافتاً للعمل بشكل عام.
- ما هي أدوات النحات الأساسية ليصوغ عمله ويتحول من مجرد جماد إلى منحوتة معبرة ؟
• كل ما يخطر ببالك من معدات وأدوات، والأهم برأيي هي الأيدي الماهرة والأصابع التي تتحسّس السطح مراعية خصائص تلك المادة التي تحتضنها والتي تبدأ بالتحوّل تدريجياً في حوار غالباً لا يعرف الفنان إلى أين سيصل، وكيف سينتهي، الأجمل والأمتع عندما يفاجئك العمل في تحوّلاته بحالة لا تتوقعها من حسن التشكيل وغنج النهوض.
- بصراحة، هل تجد إقبالا على اقتناء ما تصنع؟ وهل يحقق لك المردود المادي كفنان؟ وهل تجدون كنحاتين الدعم المناسب من الجهات المعنية بالثقافة؟
• الإجابة على أسئلتك السابقة كانت كلّها بصراحة، وهنا لا أخفيك سرّاً عندما قلت بأن الفن التشكيلي كان وسيبقى نخبوياً وخاصة النحت الذي هو الأقل حظّاً بالاقتناء من اللوحة، وأنا نحّات أعشق التجريد ولا أراعي ذائقة أحد من المقتنين، المهم أن ترضيني وأحبّها أنا، وما يعجب الزملاء والمهتمين غالباً لا يكون التجريد فيه طاغياً "واقعي تعبيري، أو واقعي أكثر"، وبالتالي لا يمكن أن تعتمد على الفن والنحت بخاصة ليحقّق لك المردود المادي وبالأخصّ في هذه الظروف الاقتصادية والمعيشية الخانقة التي نعيشها هذه الأيام. أما بالنسبة للدعم، فحدّث ولا حرج، إذ إنه لا يوجد دعم من أي جهة سواء رسمية كانت أو خاصة. أنا أمارس هوايتي وأتمنى لو بقيت هاوياً، أذهب إلى مشغلي يومياً وما زلت استمتع بالعمل وهذه غاية لا يدركها سوى الفنان، عندما يدركني التعب من النحت أذهب إلى الرسم وإلى هوايات أخرى، المهم أن أمضي وقتاً مفيداً وممتعاً في مشغلي الفضاء الذي أنا جهّزته بما يرضي ذائقتي ورغبتي في ذلك الوقت الذي كان الزمن في آخر أيام عزّه وجماله. تحية إلى النحت الذي يتحمّل كل أخطائنا وشغبنا ومزاجنا ليفاجئنا في أكثر الأحيان بحالة جمالية تُروْحِنُ بصرنا وبصيرتنا وبعض حياتنا. تحية لك صديقي على اهتمامك بشؤون وشجون هذا الفن الذي لم تعد له أولوية بالنسبة لمعظم الناس والهيئات والمؤسّسات هذه الأيام.
- لديك تجارب في الصحافة وفي الإعلام المرئي وكلها تنصب في الفن بشكل عام، إلى أين أردت أن تصل؟ وما هي الرسالة والهدف؟
• بصراحة هذا السؤال لو أحلته للمهتمين أو الفنانين أنفسهم فهم الأجدر بالإجابة عليه، أنا عملت بالصحافة المقروءة منذ كنت طالباً في السنة الثالثة بكلية الفنون الجميلة 1978 كوظيفة بجريدة تشرين وكتبت في معظم الصحف والمجلّات السورية والعربية، وفي شعبة إعداد البرامج وأنجزت في وقتها مجموعة من الأفلام حول فنانين وروّاد معاصرين في وقتها وقدّمت من خلال برنامجي "رواق الفنون" حوالي 150 حلقة، وأعتقد أنا ومن حولي بأن ما قدّمته كان إنجازاً مميّزاً للفضائية السورية والذي للأسف لم تنتبه الإدارة إلى أهميته قبل أن تفوز إحدى حلقاته بالجائزة الثانية لمهرجان الخليج للإذاعة والتلفزيون في البحرين 2010.
هذا الموضوع بشؤونه وشجونه يؤرّقني حقيقة لكن كنت وما زلت مرتاحاً لما حقّقته من إنجاز للحركة الفنية والتشكيل السوري في تلك الفترة من الزمن الذي كان جميلاً.
- لك مشاركات وأعمال فنية كثيرة، حدثنا عن هذه المسيرة الفنية التي باتت مدرسة بحد ذاتها، وخرجت خارج الحدود السورية؟
• أنا من مواليد عام 1955 في طرطوس وخريج قسم النحت -كلية الفنون الجميلة- بجامعة دمشق 1980، شاركت في العديد من المعارض الجماعية الرسمية والخاصة داخل وخارج سوريا "المعرض السنوي العام"، وتظاهرة الفن في بيروت، وفي الإعداد والتنظيم لعدد من التظاهرات والمعارض الفنية والملتقيات النحتية، كما قمت بإعداد وسيناريو برنامج "رواق الفنون" على الفضائية السورية من عام 2008 ولغاية 2014، وكثير من أعمالي النحتية متموضعة كمنحوتات نُصبية جمالية في كل من دمشق وحلب واللاذقية والسويداء، وفي لبنان كذلك في منطقة "عالية"، ولدي منحوتة في مدينة فاس المغربية.
وكنت رئيس تحرير مجلة الفنون الجميلة منذ عام (2001-2010)، ومدير تحرير مجلة فنون التابعة للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون لمدة خمس سنوات، وأمين تحرير مجلّة الحياة التشكيلية لتسع سنوات متواصلة، وعضو مكتب تنفيذي في اتحاد الفنانين التشكيليين في سوريا، وكنت عضو لجنة تحكيم المعرض السنوي العام (الخريف، الربيع)، ومعارض ومهرجانات عديدة، ومحاضر في المعهد العالي للموسيقى بدمشق في (تاريخ الفن وعلم الجمال)، وها أنا متفرّغ للنحت في مشغلي الكائن بدمشق القديمة مستمتعاً بعملي وبوقتي رغم كل ما نعانيه من ضيق اقتصادي.