ست عشرة وردة على قبر ربى الجمال
رجا سليم
الأربعاء 18 أغسطس 2021 م
من شاشة التلفزيون القديم في بيتي القديم، كانت تطل امرأة ساحرة. ساحرة بكل ما يحمله الوصف من جمال وسطوة. تتوسط المسرح خلف ميكروفون ثابت، ووراءها مجموعة من العازفين. قبل أن تلقي تعويذاتها، كانت ملامحها تمهّد لاحتلال الليلة: عينان مذيّلتان بكحل أسود يزيد من حدة نظراتهما، وخدّان بارزان كأنهما قطعة من منحوتة، ورقبتها فخارة يُعتّق فيها نبيذ، زرع عنبه نوح عند سفوح أرارات، وفاض صوتاً يُذهب العقل. تُغني، وتنظر إليّ، تُغنّي، وتخدّرني نظراتها. تغنّي ولا أفهم من غنائها سوى أنه يضيف إلى ضجري حزناً، وأتساءل لماذا؟ تصمت برهة، وتحدّق بي، تميل برأسها قليلاً إلى اليسار، وتواصل الغناء: "اسأل روحك".
لا أستحلي أن أستهل الحكاية بالتعريف بربى الجمال. فإما أن تعرف ربى الجمال، أو لا تعرفها. صوت جبار، وحضور فريد، وعصبية مفرطة، ومزاج متقلب، واكتئاب حاد، وموت مبكر. أوصاف كلها اقترنت بالحديث عن ربى الجمال، أما أنا فألّفت نسختي الخاصة من حكايتها، قبل أن أتعلم تهجئة أي من تلك الأوصاف. أحببت اسمها الحقيقي زوفينار خجادور قره بتيان، وأحببت صوتها، وأحببت وجهها. وددت أن أطبق أجفانها بأطراف أصابعي، كلما فتحت عينيها بعد مقطع سلطنة، وأحببتهما مغمضتين. كانت تبدو مرتاحة حين تطبق جفنيها. أحببت مسحة اللا مبالاة على وجهها. لم تكن تطبق شفتيها عندما تصمت. كانت تبقيهما مواربتين، لينبعث منهما نور شفيف يُحيل عينيّ فراشتين حول ثغرها. نور يعكس راحة على وجه زوفينار.
بطرفة عين، انقطع البث عن التلفزيون القديم، وضاقت جدران ذاك البيت. كبرت الطفلة، وسكت صوت الساحرة، وانطفأ نور ثغرها.
قبل أيام، استوقفني منشور باللغة الإنكليزية لمغنٍ شاب اسمه ريمي هلال، أرفقه بصورة له عندما كان طفلاً، وإلى جانبه امرأة تبدو كأنها أمه. بنظرة واحدة ألقيتها على الصورة، شعرت أن هذه السيدة تخصّني. توقفت، وقرأت (ترجمتي لنص ريمي):
"أشارككم هنا قصتي للمرة الأولى، آملاً أن تقرب بيننا، وتكون مصدر إلهام. امرأة سورية جميلة وموهوبة، من أصول أرمنية، وقعت في حب قائد فرقتها الموسيقية المصري، اسمها ربى، واسمه محمد. هو من عائلة مسلمة، وهي من عائلة مسيحية محافظة. كانت عائلتها معارضة بشدة لفنها، وزواجها. دام زواجها سنوات عدة، قبل أن ينتهي، وتقرر العودة من مصر إلى سوريا. وحين عودتها، اكتشفت أنها حامل بي. استقرت في سوريا، وبدأ يذيع صيتها فيها، وفي العالم العربي، كأهم الأصوات الغنائية العربية. إلى جانب فنها، كانت تقوم بتربيتي. لم يكن من السهل عليها تجاوز العقبات كلها التي وُضعت في طريقها، مهنياً واجتماعياً. فدخلت في حالة اكتئاب حاد، توقفت على إثره عن الغناء سنواتٍ. عادت بعدها لتغني من جديد؛ أحيت حفلة لم تكن على قدر توقعاتها، لتفارق الحياة بعدها بيومين. كان هذا في عام 2005، وكنت حينها في الـ15 من عمري. قررت بعدها بفترة متابعة دراستي، لاكتشف حينها أنني لست مسجلاً رسمياً لا في سوريا، ولا في مصر. كنت على علم أن عائلة أمي كانت رافضة لإضافتي إلى قيود العائلة، بسبب والدي المسلم".
إنه ابن ربى الجمال. لم أكن أعرف أن لربى الجمال امتداداً. كنت أتخيلها مقطوعةً من شجرة، شجرةٌ انتحرت جذورها حزناً على تربتها الأصلية. حتى القصة التي شاركها ريمي، لم تغير شيئاً من تخيلاتي عنها، بل وضعت نقاطاً على حروف كانت تقبل التأويل، وتترك الأبجدية مفتوحة على الاحتمالات والخيالات كلها.
"كانت عائلتها معارضة بشدة لفنها، ولزواجها"، قرأت هذه الجملة مراراً، كيف يجرؤون؟ أَوِصاية على فن ربى الجمال؟ أين يريدون لها أن تدفن هذا الصوت؟ تبقيه حبيس جسدها؟ سيفيض، ويغمر حنجرتها، ويخنقها. يريدون لها أن تتزوج بشخص يوافق هواهم، وعقيدتهم؟ وماذا عن الحب الذي لمحت شعلته تتقد في مصر، فمشت من حلب سائلةً ناره المقدّسة؟
غضبت ربى الجمال من العازفين في آخر حفلاتها، فهم لم يفهموا أن الست تريد أن تسلطن، وتتفرّد. عيونهم معلقة على المايسترو، بينما هي تحاول استمالة آلاتهم إلى وصلة من السلطنة. دعتهم لإهمال النوتة قليلاً، واللحاق بها، لكن يبدو أنها كانت في تلك اللحظة تلعب على السلم الموسيقي، فيما كانوا هم يتبعونه كصراط مستقيم، ويحاولون إلزامها به. كانوا يريدون لها أن تلتزم بالنص، علامة علامة. أوَليس الالتزام بالنص فرضاً على المرأة، كاتبة كانت، أم أماً، أم معلمة، أم عاملة، أم مغنية؟ على حدود النص، يقام مذبح الحياة والموت. لا هوامش آمنة على حدود النص. على بعد خطوة واحدة من حدود النص، تقع الهاوية.
حاولت ربى، ليلتها، الخروج عن النص، فخرجت وحدها، وعزفت الفرقة عن اللحاق بها. غردت خارج السرب، وشذّت عن الطريق، وبدت نشازاً: "ما خلّيتوني سلطن"، لامتهم، وغادرت المسرح ليلتها إلى الأبد. رحلت هي، وبقيت الحكاية مكتملة، وناقصة التفاصيل.
عرفت بعد أن جمعت بعض الفصول الناقصة من حكاية ربى، أن حبي لها، إلى جانب كونه ميلاً لا يحتاج إلى تفسير، ضاعفه إحساسي بقصتها، قبل اطلاعي على تفاصيلها. أحببتها لأنها لم تكن تشبه غيرها من نساء شاشة تلفزيوننا القديم، ولم ترسم ابتسامة زائفة على وجهها، ولم تغازل الجمهور بنظرات خجولة، ولم تكن أنثى على طريقتهن. كانت امرأة على طريقتها. امرأة جاهرت بما لا تحبه الشاشات، ولا ترغب به المسارح. امرأة جاهرت بالقسوة والأسى. امرأة تجرأت على ارتداء سواد عيشها، كحلاً كثيفاً ذرّته في عيون الناظرين.
أكد ريمي صحة ما رُوي عن آخر أيام ربى/ زوفينار. فقد أصيبت باكتئاب بعد الحفلة، ثم بنزيف دماغي فقدت صوتها على إثره. هل تسبب غضبها في الحفلة بموتها؟ اعتدت أن أختلق أجوبة على أسئلة دارت في رأسي حولها. أجيب عن هذا السؤال: الحفلة المذكورة لم تكن إلا مشهد الختام لحياة كليهما: زوفينار وربى، فكيف يمكن لحكاية عن امرأة تحمل إرث أرمينا، نبيذاً في حنجرتها، ودماء على طول خط سير قوافل أهلها، أن تنتهي؟ ما هي الخاتمة المثلى لروايةٍ، بطلتها أسطورة على المسرح اسمها ربى، وخارجه هي زوفينار المرأة الأرمنية السورية العاجزة حتى عن منح كنيتها لابنها. زوفينار التي ووري جسدها الثرى خارج مدافن العائلة. العائلة التي لم تقبلها حية، ولا ميتة. العائلة التي نبذت الشجرة، ورفضت فرعها؟
بعد قراءة كلام ريمي، تذكرت فيلم "What Happened Miss Simone?”، "ماذا حدث آنسة سيمون؟"، الذي يروي حياة نينا سيمون، ملكة الجاز الأمريكية. فنانة جبارة، وإحدى رموز نضال السود في أمريكا ضد العنصرية الممنهجة. كانت تغنّي بأبناء عرقها وبناته، وتبث الدم في عروقهم لمواصلة النضال. كانت بفنها تستفز السلطات الأمريكية، وتفضح جرائمهم بالأغنيات. أما نينا المرأة، فكانت تخلع اسمها الفني على باب بيتها، وتدخله كـ Eunice Kathleen يونيس كاثلين، زوجة تعيش مع زوج متسلط، معنَّفةً، لا تملك قرارها، وتكابد الكآبة الحادة، واضطراباً ثنائي القطب. على المسرح، تحررت ربى، ونينا، من سلطة الرجل، مستبداً، وعنصرياً، ومستعمراً، فتراهما نمرتين تجولان على حلبة الأداء. وحين ينتصف الليل، تعاد الأصفاد إلى معصميهما، وترجعان إلى البيت لملاقاة المروّض، شريكاً، والعائلة، والقوانين. تعودان، زوفينار ويونيس، صورتيْ غلاف لكتابين يحكيان سيراً ذاتية لشعوب اضطُهدت، ونساء قُمعن. "ما خليتوني سلطن"، قالتها ربى، وغادرت المسرح.
اليوم، وبعد ست عشرة سنة على رحيل ربى الجمال، أقول: لست "مايا أنجلو"، ولا هي نينا سيمون، لأسألها "ما الذي حدث؟". لا أرغب أصلاً بأن أقلق رقادها بالأسئلة. يكفي أن أكون امرأة، امرأة من بلدها الثاني. امرأة تحبّها، لأعرف الإجابة. لكني أستعير من فيلم نينا سيمون جملة جاءت على لسان إحدى صديقاتها، واستعملها بتصرف لاختتام هذا النص في حب ربى الجمال: ربى لم تكن على خلاف مع الزمن، كان الزمن مخاصماً لها.
رجا سليم
الأربعاء 18 أغسطس 2021 م
من شاشة التلفزيون القديم في بيتي القديم، كانت تطل امرأة ساحرة. ساحرة بكل ما يحمله الوصف من جمال وسطوة. تتوسط المسرح خلف ميكروفون ثابت، ووراءها مجموعة من العازفين. قبل أن تلقي تعويذاتها، كانت ملامحها تمهّد لاحتلال الليلة: عينان مذيّلتان بكحل أسود يزيد من حدة نظراتهما، وخدّان بارزان كأنهما قطعة من منحوتة، ورقبتها فخارة يُعتّق فيها نبيذ، زرع عنبه نوح عند سفوح أرارات، وفاض صوتاً يُذهب العقل. تُغني، وتنظر إليّ، تُغنّي، وتخدّرني نظراتها. تغنّي ولا أفهم من غنائها سوى أنه يضيف إلى ضجري حزناً، وأتساءل لماذا؟ تصمت برهة، وتحدّق بي، تميل برأسها قليلاً إلى اليسار، وتواصل الغناء: "اسأل روحك".
لا أستحلي أن أستهل الحكاية بالتعريف بربى الجمال. فإما أن تعرف ربى الجمال، أو لا تعرفها. صوت جبار، وحضور فريد، وعصبية مفرطة، ومزاج متقلب، واكتئاب حاد، وموت مبكر. أوصاف كلها اقترنت بالحديث عن ربى الجمال، أما أنا فألّفت نسختي الخاصة من حكايتها، قبل أن أتعلم تهجئة أي من تلك الأوصاف. أحببت اسمها الحقيقي زوفينار خجادور قره بتيان، وأحببت صوتها، وأحببت وجهها. وددت أن أطبق أجفانها بأطراف أصابعي، كلما فتحت عينيها بعد مقطع سلطنة، وأحببتهما مغمضتين. كانت تبدو مرتاحة حين تطبق جفنيها. أحببت مسحة اللا مبالاة على وجهها. لم تكن تطبق شفتيها عندما تصمت. كانت تبقيهما مواربتين، لينبعث منهما نور شفيف يُحيل عينيّ فراشتين حول ثغرها. نور يعكس راحة على وجه زوفينار.
بطرفة عين، انقطع البث عن التلفزيون القديم، وضاقت جدران ذاك البيت. كبرت الطفلة، وسكت صوت الساحرة، وانطفأ نور ثغرها.
دخلت في حالة اكتئاب حاد، توقفت على إثره عن الغناء سنواتٍ. عادت بعدها لتغني من جديد؛ أحيت حفلة لم تكن على قدر توقعاتها، لتفارق الحياة بعدها بيومين
قبل أيام، استوقفني منشور باللغة الإنكليزية لمغنٍ شاب اسمه ريمي هلال، أرفقه بصورة له عندما كان طفلاً، وإلى جانبه امرأة تبدو كأنها أمه. بنظرة واحدة ألقيتها على الصورة، شعرت أن هذه السيدة تخصّني. توقفت، وقرأت (ترجمتي لنص ريمي):
"أشارككم هنا قصتي للمرة الأولى، آملاً أن تقرب بيننا، وتكون مصدر إلهام. امرأة سورية جميلة وموهوبة، من أصول أرمنية، وقعت في حب قائد فرقتها الموسيقية المصري، اسمها ربى، واسمه محمد. هو من عائلة مسلمة، وهي من عائلة مسيحية محافظة. كانت عائلتها معارضة بشدة لفنها، وزواجها. دام زواجها سنوات عدة، قبل أن ينتهي، وتقرر العودة من مصر إلى سوريا. وحين عودتها، اكتشفت أنها حامل بي. استقرت في سوريا، وبدأ يذيع صيتها فيها، وفي العالم العربي، كأهم الأصوات الغنائية العربية. إلى جانب فنها، كانت تقوم بتربيتي. لم يكن من السهل عليها تجاوز العقبات كلها التي وُضعت في طريقها، مهنياً واجتماعياً. فدخلت في حالة اكتئاب حاد، توقفت على إثره عن الغناء سنواتٍ. عادت بعدها لتغني من جديد؛ أحيت حفلة لم تكن على قدر توقعاتها، لتفارق الحياة بعدها بيومين. كان هذا في عام 2005، وكنت حينها في الـ15 من عمري. قررت بعدها بفترة متابعة دراستي، لاكتشف حينها أنني لست مسجلاً رسمياً لا في سوريا، ولا في مصر. كنت على علم أن عائلة أمي كانت رافضة لإضافتي إلى قيود العائلة، بسبب والدي المسلم".
إنه ابن ربى الجمال. لم أكن أعرف أن لربى الجمال امتداداً. كنت أتخيلها مقطوعةً من شجرة، شجرةٌ انتحرت جذورها حزناً على تربتها الأصلية. حتى القصة التي شاركها ريمي، لم تغير شيئاً من تخيلاتي عنها، بل وضعت نقاطاً على حروف كانت تقبل التأويل، وتترك الأبجدية مفتوحة على الاحتمالات والخيالات كلها.
"كانت عائلتها معارضة بشدة لفنها، ولزواجها"، قرأت هذه الجملة مراراً، كيف يجرؤون؟ أَوِصاية على فن ربى الجمال؟ أين يريدون لها أن تدفن هذا الصوت؟ تبقيه حبيس جسدها؟ سيفيض، ويغمر حنجرتها، ويخنقها. يريدون لها أن تتزوج بشخص يوافق هواهم، وعقيدتهم؟ وماذا عن الحب الذي لمحت شعلته تتقد في مصر، فمشت من حلب سائلةً ناره المقدّسة؟
غضبت ربى الجمال من العازفين في آخر حفلاتها، فهم لم يفهموا أن الست تريد أن تسلطن، وتتفرّد. عيونهم معلقة على المايسترو، بينما هي تحاول استمالة آلاتهم إلى وصلة من السلطنة. دعتهم لإهمال النوتة قليلاً، واللحاق بها، لكن يبدو أنها كانت في تلك اللحظة تلعب على السلم الموسيقي، فيما كانوا هم يتبعونه كصراط مستقيم، ويحاولون إلزامها به. كانوا يريدون لها أن تلتزم بالنص، علامة علامة. أوَليس الالتزام بالنص فرضاً على المرأة، كاتبة كانت، أم أماً، أم معلمة، أم عاملة، أم مغنية؟ على حدود النص، يقام مذبح الحياة والموت. لا هوامش آمنة على حدود النص. على بعد خطوة واحدة من حدود النص، تقع الهاوية.
حاولت ربى، ليلتها، الخروج عن النص، فخرجت وحدها، وعزفت الفرقة عن اللحاق بها. غردت خارج السرب، وشذّت عن الطريق، وبدت نشازاً: "ما خلّيتوني سلطن"، لامتهم، وغادرت المسرح ليلتها إلى الأبد. رحلت هي، وبقيت الحكاية مكتملة، وناقصة التفاصيل.
عرفت بعد أن جمعت بعض الفصول الناقصة من حكاية ربى، أن حبي لها، إلى جانب كونه ميلاً لا يحتاج إلى تفسير، ضاعفه إحساسي بقصتها، قبل اطلاعي على تفاصيلها. أحببتها لأنها لم تكن تشبه غيرها من نساء شاشة تلفزيوننا القديم، ولم ترسم ابتسامة زائفة على وجهها، ولم تغازل الجمهور بنظرات خجولة، ولم تكن أنثى على طريقتهن. كانت امرأة على طريقتها. امرأة جاهرت بما لا تحبه الشاشات، ولا ترغب به المسارح. امرأة جاهرت بالقسوة والأسى. امرأة تجرأت على ارتداء سواد عيشها، كحلاً كثيفاً ذرّته في عيون الناظرين.
تحررت ربى، ونينا، من سلطة الرجل، مستبداً، وعنصرياً، ومستعمراً، فتراهما نمرتين تجولان على حلبة الأداء. وحين ينتصف الليل، تعاد الأصفاد إلى معصميهما، وترجعان إلى البيت لملاقاة المروّض، والعائلة، والقوانين
أكد ريمي صحة ما رُوي عن آخر أيام ربى/ زوفينار. فقد أصيبت باكتئاب بعد الحفلة، ثم بنزيف دماغي فقدت صوتها على إثره. هل تسبب غضبها في الحفلة بموتها؟ اعتدت أن أختلق أجوبة على أسئلة دارت في رأسي حولها. أجيب عن هذا السؤال: الحفلة المذكورة لم تكن إلا مشهد الختام لحياة كليهما: زوفينار وربى، فكيف يمكن لحكاية عن امرأة تحمل إرث أرمينا، نبيذاً في حنجرتها، ودماء على طول خط سير قوافل أهلها، أن تنتهي؟ ما هي الخاتمة المثلى لروايةٍ، بطلتها أسطورة على المسرح اسمها ربى، وخارجه هي زوفينار المرأة الأرمنية السورية العاجزة حتى عن منح كنيتها لابنها. زوفينار التي ووري جسدها الثرى خارج مدافن العائلة. العائلة التي لم تقبلها حية، ولا ميتة. العائلة التي نبذت الشجرة، ورفضت فرعها؟
بعد قراءة كلام ريمي، تذكرت فيلم "What Happened Miss Simone?”، "ماذا حدث آنسة سيمون؟"، الذي يروي حياة نينا سيمون، ملكة الجاز الأمريكية. فنانة جبارة، وإحدى رموز نضال السود في أمريكا ضد العنصرية الممنهجة. كانت تغنّي بأبناء عرقها وبناته، وتبث الدم في عروقهم لمواصلة النضال. كانت بفنها تستفز السلطات الأمريكية، وتفضح جرائمهم بالأغنيات. أما نينا المرأة، فكانت تخلع اسمها الفني على باب بيتها، وتدخله كـ Eunice Kathleen يونيس كاثلين، زوجة تعيش مع زوج متسلط، معنَّفةً، لا تملك قرارها، وتكابد الكآبة الحادة، واضطراباً ثنائي القطب. على المسرح، تحررت ربى، ونينا، من سلطة الرجل، مستبداً، وعنصرياً، ومستعمراً، فتراهما نمرتين تجولان على حلبة الأداء. وحين ينتصف الليل، تعاد الأصفاد إلى معصميهما، وترجعان إلى البيت لملاقاة المروّض، شريكاً، والعائلة، والقوانين. تعودان، زوفينار ويونيس، صورتيْ غلاف لكتابين يحكيان سيراً ذاتية لشعوب اضطُهدت، ونساء قُمعن. "ما خليتوني سلطن"، قالتها ربى، وغادرت المسرح.
اليوم، وبعد ست عشرة سنة على رحيل ربى الجمال، أقول: لست "مايا أنجلو"، ولا هي نينا سيمون، لأسألها "ما الذي حدث؟". لا أرغب أصلاً بأن أقلق رقادها بالأسئلة. يكفي أن أكون امرأة، امرأة من بلدها الثاني. امرأة تحبّها، لأعرف الإجابة. لكني أستعير من فيلم نينا سيمون جملة جاءت على لسان إحدى صديقاتها، واستعملها بتصرف لاختتام هذا النص في حب ربى الجمال: ربى لم تكن على خلاف مع الزمن، كان الزمن مخاصماً لها.