معرض بألمانيا للفنان الشاعر أحمد اسكندر سليمان
"على أخشاب من الشارع " ..
لوحات مدهشة ونصوص مُتعَبة من شقاوة ووجع الوحدة في الغربة
*
غازي عانا
نصوص بصرية منفلتة من جماليات الكون، متحرّرة إلى أبعد الحدود من القوالب والنُظم الأكاديمية لتبني لغتها الخاصة المدهشة والممتعة لكل من أشقاه ربي في هذه الحياة وأسعده الحلم الذي ربما لن يشاهده سوى في تلك الأعمال المختلفة حقيقة عن كل ما شاهدناه سابقاً باستثناء ما بقي على جدران الكهوف قبل ملايين السنين من صدق الأداء والتعبير عن الخوف من المجهول، أو حتى ما نشاهده هذه الأيام في الحالة التشكيلية الراهنة .
.....................................
حين سمعت بنيّته بإقامة معرض أخبرت الصديق أحمد اسكندر بأن يرسل لي ببعض الخواطر والأفكار حول المعرض، لكن هو ربما اكتفى بما أسرّ منها للوحاته وأعماله وأشعاره، فأرسل لي بعض السطور حول ما اشتغل عليه خلال فترة الإنجاز: ( اسم المعرض "على خشب الشوارع "، وذلك لان كل اللوحات من خشب الشوارع فعلا وهكذا فهو معرض رسم وإعادة تدوير بطريقة ما، نعم هي مأخوذة من الشارع.
حين أرى قطعة خشب يمكن الرسم عليها بين أثاث متروك وهذا يحدث كثيرا، حين ينتقل أحد ما من شقته يفرغها ويترك أغلب أثاثه في الشارع، وفي حال وفاة أحدهم أيضاً قد تجد أثاث بيت كامل في الشارع .
أنا مهتم بألواح الخشب التي يمكن الرسم عليها، هي تجربة أعتبرها بحكم المنتهية مع هذا المعرض الذي تحقق بتلك الطريقة .
سأعود للرسم على القماش لأنني قد احتاج لنقل بعض اللوحات معي حين أعود إلى البلد .) .
.............................................
الشاعر والتشكيلي أحمد اسكندر سليمان .. الذي التقيته مرة واحدة عندما فاجأني بزيارة إلى بيت أهلي بضهر صفرا قريتنا التي لم أعد أزورها إلا صدفة، وقد أصرّ يومها أن نلتقي مرّة ثانية في بلدته جبلة، لنيّته بالسفر قريباً، وللأسف لم تحصل، وكان برفقة الصديق النحات أكسم سلّوم، من بعدها بتنا وما زلنا نلتقي في هذا الفضاء الافتراضي من خلال صفحاته على facebook""،
(AhmadEskanderSulieman).
و(جابالا- (jabal.
و(الأيقونات السّورية (The Syrian Icons .
الفنان والشاعر المغمور بحبه للحياة، العاشق لكل ما يمت بصلة إلى جماليات الطبيعة البكر (الكلمة، اللون والحجر والشجر)، الذي لم يغادر سوريا بروحه بعد، يُشكّل منحوتاته ويصيغ لوحاته بأبسط ما يمكن أن تتصوّر، مثلها قصائده وتلك الخواطر التي يسردها على شكل بوح شجي بصياغات معاصرة وحديثة أقرب إلى القصيدة العمودية، أو الفكرة التي تتحول في مختبره التشكيلي بالأصل إلى ما يشبه اللوحة المدوّنة بلغة خاصة به، ومفردات تعودنا على متعتها في كتاباته المتنوّعة، كما في أعماله الفنية التي فاجأني هذه المرّة بغزارتها وفرادتها، تلك الخصوصية التي تفيض بالعفوية والعذوبة، هذا التدفّق الصادق بالمشاعر والإحساس بالأشياء الذي يظهر في أعماله كما السهل الممتنع بمعناه ومغناه تماماً، وأنا هنا بالمناسبة لا أبالغ في توصيف نتاجه فيما يخصّ التشكيل تحديداً، مع تقديري الكبير للغته الراقية في مخاطبة وجداننا وأحلامنا على طريقته في قول ما يريد ودائماً بصوت عال، حالة أحترمها واستمتع بقراءتها حتى النهايات التي غالباً ما تفاجئك بزمنها الذي يقطع عليك الانسجام وما كنت عليه من متعة التخيّل لنهايات مختلفة.
(مما على الفن أن يفعله هو جذب المشاهد بتلك الإشارات الوامضة بينه وبين خبايا اللوحة التي تقود إليها الرموز، ومن ثٓمَ تفتح دروبا توصل إلى أهدافها.).
الفنان أحمد اسكندر سليمان، لوحاتك يا صديقي غنية بالمؤثرات الحسية والأفكار المغرية للبحث عن متعة أكثر في مكان آخر من نفس الكادر، وما أغزرها رغم شدّة بساطتها، في اللون مثلا هناك تنقّل ساحر وغير مألوف بين الأحمر في لوحتك ومشتقاته التي لا تتقصد إخفاءها، ولا حتى تشعرنا بحرج تجاور متناقضاتها من تناغمها وتآلفها، هذا إضافة لاختزال الشكل واستقراره بلطف وغنج في مكانه، كما يلفتنا في تلك الصياغات كثير من المبالغات المدهشة في استطالة بعض الشكل لملأ الفراغ بما يناسب لجعله جزءً من العمل، وهكذا إلى أن ينتهي العزف قبل أن نصحو من الحلم.
هذا الحلم الذي يفسّره أحمد على شكل مقاطع بصرية غاية في الدهشة والتنوّع لذات المفردة التي لا يريد تكرارها بنفس التموضع أو الغاية التي تختلف فيها من كادر إلى آخر، التفاحة، الغراب، أو السمكة التي يكتفي بهيكلها العظمي في معظم الأحيان، والشجرة مثلاً بشكل خاص التي يبتكر لها صياغات وأشكال تخصّه دون غيره إلى درجة يصعب على المشاهد أحياناً التمييز بيت الشجر والبشر في لوحته، كما يكتفي بها عنصراً أساسيا في العمل كمشهد خلوي وهذا بحد ذاته يشكّل فلسفة تخصّ الفنان وطريقة فهمه للوحة التي قد تتبدّل من مشهد لآخر في بعض الأحيان.
....:..................................
وحول مشاركة نصوصه الأدبية في المعرض قال "سليمان": ( قرأت ثلاثة نصوص، اثنان منهما صدرا ضمن مجموعة نصوص باللغتين الألمانية والعربية منذ بضعة أعوام مع مجموعة كبيرة من شعراء العالم في ألمانيا.
النص الثالث من ترجمة ابنتي الكسندرا وهي من قرأت النصوص الثلاثة باللغة الألمانية ) .
...................................
بينما في النحت الذي لم يعرض منه الكثير، هناك مقام آخر ومادة مختلفة في أدائها وفيض تعبيرها الذي يبدو صادماً في كثير من الأحيان، والحالة هنا قد تصفعنا لا لكونها أكثر صدقاً بالبوح، ولكن ربما يكون حضورها أكثر مباشرة ومن مادة اكثر نبلاً تبوح بما في داخلها من ملايين السنين دفعة واحدة على شكل صرخة مثلاً، قد تذكّرنا في تأثيرها برأيي لوحة الصرخة للفنان "مونخ"، طبعاً هنا لا يمكن أن أستعرض كل أعمال احمد النحتية فهي وأن اختلفت في موضوعها لكنها تتقاطع بصياغاتها وطريقة تفكير النحات التي تجمعها برغبة المُحبّ والعارف ماذا يريد أن يقول من خلالها، طبعاً أنا هنا اطلقت بمعرفتي المتواضعة أسماء قد لا يعنيها صديقي ولا تهمّه أكثر من الذي حمّله لها من معنى وهمّ حياتي تستطيع من خلاله البوح ببعض سجاياه وغاياته أو قصده.
في أعمال أخرى مثل الأمومة، هنا الكتلة نلاحظ مدى التفافها على بعضها تحتضن أخرى صغيرة في حجمها ومبهمة في شكلها لا يختلف على فهمها إثنان، تبسيط شديد للغاية لا تشويش فيه على الفكرة التي وصلت طازجة، مثلها عمل الراقصة التي تؤّدي في الفراغ حركة فيها كثير من الإغراء رغم بدائيتها واختزال تفاصيلها تعكس تكثيفاً واعياً لجماليات الجسد الممتشق والملتوي في آن مؤدّياً الغايتين في نفس العمل، وهذا ما نلاحظه أيضاً في أكثر من عمل وخاصة البورتريه الذي يختزن كثير من مشاعر الضيق والإحباط رغم حيوية التشكيل ووضوح الشكل المختزل بالأصل إلى حدود التجريد أحياناً، والذي له فيه بعض المحاولات ولو خجولة لكنها تجارب تستحق العناية من غرائبيتها والتي تصبّ في نفس الفضاء من الغموض الذي يكتنف تلك التجربة الغنية بالعموم.
..........
حدثني مرّة : ( للأسف منعني الربو الحاد من متابعة العمل على البازلت القاسي الذي أحبه، توقفت عام ٢٠١٤ حين أتيت إلى ألمانيا، حيث اكتشفت أمراضي التي أخفاها العرق البلدي في سوريا " ههه " .. )
........................................
الأهم برأيي في المعرض كان وبدون مجاملة ذلك الكمًّ الهائل من الصدق، الذي فاض هناك في لوحات مدهشة عُلّقت على الجدار لمتعة البصر ونشوة البصيرة، ومنحوتة تعكس بعفوية أسرار وخبايا النفس البشرية، الصدق الذي غمر المشاهد وهو يسمع بصوت الفنان أحمد اسكندر سليمان وابنته الكسندرا كلمات طيّبة وموجعة .
تحية تقدير كبيرة لجهودك صديقي الغالي أحمد اسكندر سليمان وتحمّلك كل أمزجة المبدعين المنتشرين في كل أصقاع المعمورة لنشر نتاجاتهم على صفحاتك الممتعة والمفيدة، وليعمّ الجمال على هذه الأرض االطيّبة التي باتت أكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى السكينة والسلام .
مبارك معرضك وأمنيات بالصحة لسعادة بالنجاح الذي تستحقّه .